مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

الأدوار المجتمعية للمرأة الصحراوية الحسانية المغربية وامتداداتها إفريقيا: الأسئلة العالقة والتحديات المحدقة

الدكتورة ماجدة كريمي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس-سايس

تقديم

رغم يقيننا بأن قضايا المرأة نالت نصيبا وافرا من الاهتمام في العقود الأخيرة، وأن المنتظم الدولي جعل من موضوعها أبرز انشغالاته من خلال الدعوة إلى النهوض بأوضاعها وضمان حقوقها، إذ أبرمت العديد من الاتفاقيات الدولية التي تهم “حقوق المرأة”، إلا أن واقعها في المجتمعات الإسلامية -بشكل عام- ما يزال رهين رؤى ضيقة إن لم نقل متحجرة.

إنها رؤى لم تنفذ إلى عمق تفكير المرأة ولم ترق إلى مستوى تجاوز حَصْرِ محورية دورها في المنظومة الأسرية. ولعل هذا ما يثير في العقول تساؤلات كثيرة تخص حقيقة وضعيتها داخل المجتمع، وواقع استفادتها من فرص التكريم التي وفرها لها الدين الإسلامي لتخوض معركة التحديات المحدقة بها.

انطلاقا من هذا الواقع، وحيث إن إنصاف المرأة بخلفيتها القيمة بات مطلبا استراتيجيا في المسار التنموي للمجتمعات، أثرنا الحديث عن المرأة الصحراوية الحسانية المغربية وما تتقاسمه مع شقيقاتها من النساء في بعض دول غرب إفريقيا. هذا وقد تركنا المجال الزمني مفتوحا، قصد الوقوف على سيرورة واقع إسهاماتها المتنوعة والبحث في أدوارها المجتمعية بين الأمس واليوم.

وعليه، يغطي موضوع هذا المقال المنطقة الجغرافية الممتدة من وادي نون شمالا إلى وادي الذهب جنوبا، والتي تكون المجال الترابي للجهات الجنوبية المغربية الثلاث: جهة كلميم وادي نون، وجهة العيون الساقية الحمراء، وجهة الداخلة وادي الذهب.

هذا وقد تجاوزنا هذه المنطقة إلى اعتماد مجال أوسع، منطلقين من مبدأ أن الحدود الثقافية والمذهبية وغيرها من التمظهرات المجتمعية لمنطقة الصحراء المغربية تمتد إلى منطقة الغرب الإفريقي مشكلة مجالا تتقاطع عناصره ومكوناته في العديد من المشتركات التي تراكمت على مدى تاريخ طويل.

أولا: النساء الصحراويات الحسانيات: حضور وازن في الحياة المجتمعية

رغم كل ما قيل عن سيطرة الرجال على مفاصل الشؤون المجتمعية بمجال البيضان، فالنساء الحسانيات كان لهن- ولا يزال- حضور وازن في الحياة المجتمعية، ولعل الأمثال الحسانية خير دليل على مدى إدراك قيمة المرأة في الثقافة الشعبية، وهنا نستحضر بعضها.

  • “اللي امْعَاهْ مْرَ مْعَاه مُلاَهْ” (من معه امرأة فالله معه).
  • “أمّْ لَجْوَادْ اعْروُصْ” (المرأة كالعروس في أعين الجميع).
  • “لْوَصَّاكْ عَلَ أمَّكْ حَكْرَكْ” (من أوصاك على أمك احتقرك لأن مكانة المرأة الأم مكانة متميزة لا تحتاج إلى توصية)..
  • لمْرَ مَكْنُونَة للْحَوْظْ، والراجَلْ مكنون لدَّلْو “(دور المرأة في ترشيد ما يأتي به الرجل إلى بيته من متاع ونفقات).
  • “اللي مَاتْ بُوهْ يَتْوَسد الرّكْبَة، واللى مَاتَتْ امُّو يَتْوَسدْ العَتْبة “(يقال هذا المثل في منزلة الأم وتأثير رحيلها على حياة أفراد الأسرة).

1. قراءة في الكتابات المحلية حول المرأة الصحراوية الحسانية

تظل الإشارات الواردة بالكتابات المحلية تتصف بالقصور اللهم إذا استثنينا بعض الجهود المحدودة مثل كتابات كل من:

  • الشيخ محمد المامي: أورد في حديثه عن الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي بأرض البيضان، كلاما عن بعض العادات والقضايا التي تهم المرأة الحسانية كعادات التجميل المتمثلة في ظاهرتي التْبْلاح وثقب الأذنين إذ اعتبرهما “أمرا مهما في إصلاح الأبدان وتهيئتها تهيئة لائقة”[1].
  • محمد بن المختار الكنتي: توج مؤلفه بخاتمة عرض فيها حديثا مطولا عن كرامات والدته الجليلة [2].
  • محمد فال بن عبد اللطيف: محقق كتاب أحمد سالم بن سيدي محمد: خص تراجم هامة لبعض الأسماء المذكورة في متن نظم العلامة بما فيهم النساء[3]. وهي التفاتة تميز بها هذا الباحث في تناوله الحديث عن مكانة المرأة في المجتمع الصحراوي وبعض تفاصيل حياتها العلمية والأدبية والدينية… وغيرها.
  • الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين: تحدث عن نساء فئة حسان والزوايا واللحمة مشيدا بالدور التعليمي للبعض منهن حيث يقول: “وتمتاز نساء الزوايا بالقراءة فهن يشاركن الرجال في العلم والاشتغال بسائر العلوم مع الصيانة وعدم التبذل”[4].
  • الخليل النحوي: عرض هذا الباحث المقتدر بعض ملامح الحياة العلمية والإشعاع الثقافي والجهادي والديني لبلاد البيضان من خلال الجامعات البدوية المتنقلة المعروفة محليا “بالمحضرة”، وذلك من خلال التركيز على الجانب التعليمي للمرأة الصحراوية الحسانية ودورها في التربية والتنشئة حيث يقول في هذا السياق:

“وقد كان من نتائج هذا الاهتمام بتعليم المرأة أن لعبت دور المدرسة الأولى لتربية النشء فتلقن الطفل دروسه الأولى من تعلم الحروف الهجائية إلى تلقين القصص التاريخية، والقاعدة العامة أن وراء كل رجل عالم امرأة مهدت له السبيل للالتحاق بالمحضرة في مرحلتها المتوسطة”[5]. مشيرا في ذات السياق إلى بعض النساء اللواتي سطع نجمهن في مجال التدريس بالمحضرة مثل خديجة بنت محمد العاقل “وهي عالمة جليلة وشيخة محضرة أخذت عن والدها وأخذ عنها علماء أجلاء”[6].

  • محمد المختار ولد السعد: أثار الباحث في حديثه عن بعض عادات المرأة الصحراوية الحسانية: “الملحفة تعتبر لباس المرأة الحسانية الوحيد التي تتباين نوعيتها حسب المنزلة الاجتماعية، في حين ترتدي الفتاة الصغيرة الدراعة أو إزارا أو شيئا من هذا القبيل دون الملحفة”[7].

2 – قراءة في الكتابات الأجنبية حول المرأة الصحراوية

حظيت المرأة الصحراوية الحسانية في ثنايا الأبحاث الكولونيالية بالتفاتة دراسية ملحوظة تباين حجمها من باحث لآخر، ولعل من أبرز الدراسات التي تضمنت بعض الإشارات حولها دراسة الباحثة الأنثروبولوجية الفرنسية صوفي كراتيني Sophie Caratini التي خصت قبيلة الرقيبات بمجموعة من الدراسات تضمنت في متنها حديثا عن حياة المرأة وتربيتها بهذه القبيلة حيث تقول في هذا الباب: “في تراب الرقيبات تتجول النساء بين العشائر والبطون من أرض مفضلة إلى أخرى (…) فالنساء ينتقلن من نسل الأبناء الصغار، نحو نسل الأبناء الكبار الذين آثروا التحالف معهم (…) إن كل امرأة تتطلع إلى أن يتزوجها ابن عم كبير، لأن أبناءها سيحتلون مرتبة أفضل من تلك التي يخولها لها زواجها من ابن عم صغير. وفي الواقع فإن معظم الزيجات تتم مع ابنة خال أو ابنة عم حسب التصنيف لأن الجد المرجعي واحد بالنسبة للجميع”[8].

إن حديث الباحثة عن وضعية المرأة بقبيلة الرقيبات -ومن خلالها باقي القبائل الصحراوية- تقوم على معالجة دقيقة تحاول البحث في كيفية إنتاج التحالف وتمتين أواصر القرابة القبلية انطلاقا من عنصر المرأة في ضوء عرف الزواج، حيث تقول في هذا الصدد: “إن هناك زواجا لحميا يسير إيديولوجية الإخوة، انطلاقا من التضامن والتماسك القبلي، يبدأ من الصغار نحو الكبار، وهذا الزواج يساعد عكس الأول على إعادة إنتاج التراتبية الداخلية”[9].

هذا وهناك دراسات أخرى همت بعض الجوانب من حياة المرأة الحسانية على الرغم مما يعتريها من أحكام ومحدودية في رصد المعلومات، نذكر منها أبحاث الفرنسي بريزون (perysone) وجواشيم كاتيل (joishime) ودوفورس (defurst)، إلا أن دراسة الجغرافي الفرنسي كاميي دولز (camille douls) تبقى أهمها لما تضمنته من إشارات هامة عن واقع المرأة عند الرحل في المجتمع الحساني حيث يقول: “إن الرُّحل رغم قسوتهم ينقلون داخل خيامهم قلوبا مفعمة بالرحمة تجاه المرأة والأولاد، وهم ضد التعدد، والمرأة عندهم تتمتع بقدر كبير من الحرية، ولأنهم يعيشون في فضاء واحد (يقصد الرجل والمرأة) فإنهم يتقاسمون الحياة بمتاعبها وأعمالها وبينهم وحدة، وكذلك فالمرأة تتمتع بنفس الامتيازات التي يستفيد منها الرجل وهي مساوية له وتقوم مقامه في حالة غيابه، وتسير شؤون خيمتها (أولاد وخدم ومتاع)، وعندهم ميزة تعليم الإناث منذ الصغر مثل الذكور…”[10].

فالتفاتة كامبي دولز هاتهتبرز بقوة مكانة المرأة الصحراوية الحسانية داخل النظام الأسري باعتبارها مسؤولة عن تدبير خيمتها وتقاسم زوجها بعض الأدوار داخل وخارج الخيمة بنوع من الانسجام والاحترام المتبادل.

ثانيا: الإسهامات المتعددة للمرأة الصحراوية المغربية

1 – المساهمة الاقتصادية

  • الذمة المالية للمرأة الصحراوية المغربية وفق المذهب المالكي

يعتبر الإسلام أول من أقر للمرأة أهلية التملك الشخصي، وذلك بأن شرع لها نصيبها من الإرث ليصبح جزءا من مالها الخاص ليس للزوج أو الأخ حق التصرف فيه. هذا وقد متعها بحق الذمة المالية[11] بالتصرف في أملاكها بالبيع والشراء والرهن وإبرام العقود دون أي تدخل من أي رجل كيفما كانت قرابته شريطة توفر أمرين أساسيين: الرشد (البلوغ) والأهلية.

سبق أن ذكرنا أن اختيار المذهب المالكي – وهو مذهب مرن يبتعد عن التشدد في الأحكام الدينية- نابع من قناعة توصل إليها أهل الصحراء بعدما تعاملوا مع مذهب الخوارج والمعتزلة والشيعة، ففضلوه على كل المذاهب، وذلك لأنه يتماشى وفطرة الحياة بالصحراء[12]. وعليه فالمرأة الصحراوية المغربية غرفت من هذه المرونة بخصوص حق التصرف المطلق في مالها، تبرعا أو معاوضة، ما لم يقم بها مانع من جنون أو سفه أو حكم حاكم بإفلاس، ولا سلطان لأحد على مالها إلا ما كان من باب التياسر والتطاوع والمعاشرة بالحسنى[13].

  • الذمة المالية للمرأة الصحراوية المغربية وفق العادات والأعراف

إذا كان الإسلام يمكن المرأة من الحقوق التي ذكرناها سابقا والفقه المالكي يشرعها، فالأعراف تزكيها ولكن مع تحديد أشكال ممارساتها العملية، وذلك أنها تجيز أحقيتها في ممارسة عمل خارج بيتها بما يتناسب مع طبيعتها بشرط الالتزام بالأحكام الدينية، والآداب الشرعية، ومراعاة مسؤولياتها الأساسية والمتمثلة في رعاية الأسرة وتربية النشء.

وفي هذا الباب تحتفظ الذاكرة الصحراوية بالعديد من النساء الصحراويات اللواتي كفلن أيتامهن، ونَمين قطعانهن بعد وفاة الأزواج.

هذا وقد تم احتضان أبناء النساء اللواتي تزوجن بعد طلاقهن أو بعد أن أصبحن أرملات من طرف الأخوال أو الأجداد للأم مما يعطيهن فسحة في علاقتهن بأزواجهن وعائلاتهن.

وبهذا تبوأت المرأة مكانة رفيعة داخل مجتمعها القبلي، فالمرأة عند الصحراويين ليست سيدة البيت ومربية الأولاد فقط، بل هي العنصر المحوري في كيان الأسرة اقتصاديا واجتماعيا، إذ لها مكانة متميزة في تدبير شؤون الحياة في الخيمة وداخل لفريك (مجموعة من الخيام).

وهي تتمتع بحق الدفاع عن ممتلكاتها وغيرها من حقوقها المادية (مترتبة عن زواج أو طلاق…) قضائيا، بدليل وجود العديد من الأحكام القضائية التي تكون المرأة طرفا فيها. وفي هذا الشأن يقدم الباحث داداي بيبوط في أطروحته وثائق تنشر لأول مرة تؤكد حق الهبة التي تتمتع بها المرأة الصحراوية المغربية وممارسته بنفسها كما يتضح من خلال مضمون الوثيقة التالية[14].

هذا وقد مارست حقها في التقاضي دون وسيط أو كفيل، إذ يتم لقاؤها بالقضاة بطرق سلسة حيث كانت تعرض قضاياها عليهم أثناء حلول هؤلاء بالفريك أثناء مواسم عقد الزيجات أو قسمة التركات أو المواسم التجارية وغيرها من المناسبات. فقد كانت تعرض على القضاة أو العدول أو الفقهاء قضيتها لأخذ قول الشرع فيها، وهي غالبا تقبل بالرضى بهدف إبراء الذمم كما يتضح من الوثيقة التالية[15].

2 – المرأة المغربية الصحراوية في رحاب التصوف

أ. تصوف المرأة في الشرق والغرب الإسلامي

تميزت الرؤية الصوفية للمرأة في الفضاء الإسلامي بالتعامل معها من حيث حقيقتها التي ذكرت في القرآن وعززتها السنة النبوية الشريفة. حقا كان التقدير للمرأة ممن انتسبوا إلى حقل التصوف لاسيما أقطابه ورموزه، فلم تكن غائبة عن حقل القداسة والتصوف، فهي بطبيعتها ظلتجوهرة الممارسة الدينية الصوفية [16].

فلا أحد ينكر مشاركة سيدات زاهدات منذ القرون الأولى من تاريخ الأمة الإسلامي في عالم التصوف، وخير دليل على ذلك السيدة رابعة العدوية التي ضرب بها المثل في محبة الإله والتضرع إليه.

ولعل ابن عربي- وهو يعد أحد أكبر أقطاب الصوفية- قد أحدث ثورة مفاهيمية غير من خلالها الموقف السائد تجاه المرأة حينما أكد التساوي بينها وبين الرجل في بلوغ الكمالات من مراتب الإحسان والولاية والصلاح[17].

حقا لقد خاضت المرأة تجربة التصوف[18] ووصلت إلى مقامات معرفية عليا فكانت العابدة، الزاهدة، الصالحة، العارفة. وعليه، يجب الاعتراف بأن المرأة قد سلكت هذا الطريق بكل تميز حتى إنها كانت رائدة في بعض الجماعات الصوفية في المشرق كما في المغرب.

فمنذ القرنين السادس والسابع الهجريين وبالذات في ظل الصراع المرابطي- الموحدي على الحكم، تغلغل التصوف في حياة الناس فشاركهم آلامهم وآمالهم وهيمن على وجدانهم فساهم ذلك في انضمام الرجال والنساء إلى التصوف إذ شكل محضنا أساسيا للتعبد والصلاح، فحققت المرأة في ظل ذلك الوضع نتائج مشهودة في هذا الباب.

وهكذا واكبت ظاهرة التصوف النسويفي الغرب الإسلامي حركة التصوف في الشق الشرقي من العالم الإسلامي وحظي المغرب بعدد وفير منهن بدليل ذكر أسمائهن في أشهر الكتب المناقبية، وحتى من لم تدون أسماؤهن بتلك الكتب فقد ظلت الذاكرة الشعبية تحفظهن ولايزال الناس يتبركون بهن إلى اليوم.

ب. تصوف المرأة المغربية بالأقاليم الصحراوية

لقد أبانت المرأة الصحراوية عن مساهمة فعالة في مجال التصوف إذ اعتبر الباحث رحال بوبريك خصوصية مساهمتها مرتبطة بتكوينها العاطفي الذي يجعل من تجربتها الصوفية أكثر عمقا وحساسية ورهافة[19]، مضيفا أن هذه الخصوصية تبرز بوجودها في هذا المجال بعدد أكبر من الرجل “أمام إقصائها من الوظائف الدينية الرسمية التي احتكرها الرجل، فاختارت سبيلا آخر هو التواصل المباشر مع الله من خلال التجربة الفردية الخالصة والبعيدة عن حراس التقليد الإسلامي الرسمي”[20].

وكيف لا والفتاة تتعلم القرآن والحروف الأبجدية منذ سن الخامسة جنبا إلى جنب مع الذكور، ولا تصل سن السابعة حتى تكون قد تحصلت على ما يكفيها منه لصلاتها وتعبدها. وفي بعض” أسر الزوايا” يستمر الأمر حتى حفظ المصحف كاملا وتحصيل العديد من العلوم الإسلامية[21].

ومن أمثلة النساء اللواتي بلغ صيتهن مبلغا في هذا الباب نذكر العالمة مريم بنت محمد سالم بن عبد الله بن أحمدو من قبيلة آل محمد سالم، وكانت زوج محمد سالم بن عبد الفتاح العلوي إذ قال عنها: “هذه السيدة العالمة حين نزلت الييغ مع زوجها تعلم بنات الحاج صالح في دار الأستاذ سيدي المدني بن علي، وكان لها في تلاوة كتاب الله العجب العجاب بغنتها الصحراوية الحلوة”[22].

كما ذكر في السياق ذاته السيدة ماحا والدة الشيخ النعمة ابن الشيخ ماء العينين واصفا إياها بقوله: “عالمة كبيرة محصلة، مشاركة مشهورة بالتفنن، اتصلت بمريم فربتها وعلمتها فأخذت عنها حسن السمت والأخلاق الطيبة “[23].

ثالثا: المرأة الصحراوية المغربية والمرأة السنغالية: نقط الالتقاء في المجال الصوفي

لا تزيغ بلدان غرب إفريقيا عن ثقافة التصوف[24] ولا عن إسهام المرأة في هذا المجال، والتراث الثقافي السنغالي غني بإشارات عدة للمرأة الصالحة مما يؤكد امتدادات الصفات التي تميزت بها المرأة الصحراوية المغربية على المستوى الإفريقي.

1. المكانة المتميزة للمرأة السنغالية في مجال التصوف ودورها في تكوين أعلام الصوفية

تجلت المكانة الرفيعة للمرأة السنغالية بقوة، حتى إن الرجال الذين ينحدرون من الأنساب التي تعرف بالعلم والاستقامة لا يكنون بآبائهم ولا أبنائهم، وإنما يكنون: ابن سيدة شريفة زكية وهو “دوم سلخنة “(Doomi Solkhna) بالولفية المحلية، وهذه الكنية تنبيه منهم على أنه مهما أعجبك علم رجل أو صلاحه فلا يحجبن ذلك عنك أن وراءه امرأة شريفة طاهرة ذات مروءة ودين وعفة[25].

وبالسنغال برزت إحدى النساء اللواتي بقين إلى يومنا هذا مضرب المثال في شدة حزمها وعزمها وتخلقها بأخلاق السادة الربانيين، فقد كانت تتعمم وتلبس الجلابيب لتقدر على القيام بمهمة تلقين القرآن الكريم للأطفال في مجلسها، إنها السيدة عائشة البكية والدة السيدة مريم بص.

هذا وقد طبعت هذه الرؤية الاجتماعية الثقافية تصرفات النساء، حيث كن يستحضرنها في تعاملاتهن ومواقفهن، إذ يذكر أن سيدة من سيدات قرية كُكّ (KOKKI) التي عرفت منذ القدم باهتمام أهلها بالدين أبت أن تلبي دعوة ساخور

(Sakhéwar) (أحد أفراد الأسرة الحاكمة آنذاك في مملكة من ممالك السنغال وهي مملكة كجور) الذي دعا أبناء السيدة المذكورة الذين كانوا من أسر دون سخن إلى مساندته في غزو أمير مملكة كجور، فأجابته السيدة قائلة: “إن أبناءنا من أنساب دوم سخن. وعليه، فمهمتهم ليس حمل السلاح، وإن كانت القوة ورباطة الجأش لا تنفعهم، وإنما صرفوا عنايتهم في سبيل الله”. وهذا الإعلان يستشف منه حرصهن على حماية العشيرة من كل ما من شأنه أن يصرفهم عن الانكباب على الدين، وتكليل مآثر الأسرة وتراثها”[26].

وللإشارة فمن مناهج النساء السنغاليات في تربية وتهذيب خلق الإنسان، استخدام حكايات أسطورية تتضمن عبرا تعلم المرء الطريقة المثلى التي يتبعها في عيشه الدنيوي، وكانت النساء المتصوفات يستبدلن تلك الحكايات الأسطورية برواية سير الصالحين، وقد برز أثر ذلك في العديد من الأعلام المشاهير مثل: أحمد بمب الخديم والحاج أحمد دم السوكوني والشيخ الحاج مالك سه[27].

خاتمة

ليس سرا أن البحث في المواضيع المرتبطة بتاريخ المجتمع تعترضها معيقات؛ تتمثل أساسا في ندرة الوثائق وصعوبة الحصول على المتوفر منها خاصة عندما يتعلق الأمر بفئات معينة مثل المرأة، أضف إلى ذلك اختلاف تقييم الناس لبعض المعاملات التي ميزت المرأة خلال مختلف المراحل التاريخية.

وعليه، حاولنا في هذا المقال، المساهمة في تكوين رصيد معرفي عن دور المرأة في الحياة المجتمعية في الصحراء المغربية، وممارستها الشعائر التعبدية والمعاملات وفق المذهب المالكي، ومن تم تسليط الضوء على الجوانب المشرقة في تاريخ إسهاماتها واستقصاء مجالات عطائها ورصد نقط الالتقاء مع غيرها من نساء دولة السنغال الشقيقة.

وربطا للماضي بالحاضر من واجبنا طرح السؤال التالي: ماذا عن إفادة المرأة الصحراوية الحسانية المغربية من المكتسبات التي تحدثنا عنها في متن هذا المقال، لتوظيفها في المسار التنموي الوطني خلال الفترة الراهنة؟ وكيف تتقاسم هذه المسؤولية مع شقيقاتها الإفريقيات؟

الحق أن تجربة التنمية التي دشنها المغرب خلال السنوات الأخيرة من الألفية الماضية، وما صاحبها من استراتيجيات وتخطيطات متعددة قد شكلت حافزا هاما شجع المرأة على المشاركة والانخراط فيها بكل فاعلية، فاستطاعت بذلك أن تتبوأ مكانة رائدة في مختلف مستويات التنمية المحلية.

والحديث عن التطلعات والانتظارات المتوخاة من مساهمة المرأة الصحراوية في تحقيقها وإنجازها، يمكن تلخيصها في النقط التالية:

  • وعيها بحقوقها وواجباتها

لقد أدركت أنها تماثل الرجل تماما في الحقوق والواجبات، ومن ثمة يتعين أن تتمتع بحقوقها كاملة بما يحفظ لها كرامتها، وأن تضطلع بواجباتها على الوجه الصحيح دون أي تهاون إذ لم تبق واجبات المرأة محصورة في أشغال المنزل أو البيت فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى المشاركة في العمل العام بكل ميادينه وفي مختلف القطاعات الحكومية والشبه حكومية، وبذلك نزعت الاعتراف بها كشريك أساسي في كل معادلة تبتغي التنمية بالأقاليم الجنوبية.

وعلاوة على ذلك استطاعت أن ترفع من سقف وعيها العلمي والأكاديمي فسجلت حضورها ليس فقط على المستوى الثانوي وإنما كذلك الجامعي.

  • تغير نظرة المجتمع للمرأة

تمكنت المرأة أن تشكل لنفسها صورة جديدة، إذ أضحت اليوم تمارس مختلف الأعمال بشكل طبيعي دون أن تواجه أي صعوبات وتلقى تشجيعا من طرف الجميع مما يحفزها على مواصلة العطاء، وبذل المزيد من العمل فباتت شريكا أساسيا في اتخاذ القرارات والتمكن من آليات التخطيط.

فهل النماذج الحية على أرض الواقع والتي تبرز النضج الذي أصبحت تتميز به المرأة الصحراوية المغربية- والذي انعكس إيجابا على نفسيتها وتكوين شخصيتها تكوينا سليما تجاوزت من خلاله كل الدعوات التي كانت تقف حجر عثرة أمام انخراطها في التأسيس لتنمية محلية مستدامة- نجد لها مثيلا في الدول الإفريقية الشقيقة؟ الحق أنه لا محالة أن استحضار تطلعات المرأة بشكل عام، وكذا إرادتها وعزيمتها اللتان شكلتا على الدوام الدافع نحو ضرورة انخراطها الإيجابي في التنمية الشاملة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بات لها حافزا قويا لتحقيق ذلك، وبالتالي نستشرف جميعا تمكن المرأة في المغرب وغيره من الدول الإفريقية الشقيقة من المساهمة الفعالة في الإقلاع التنموي للبلاد.

كما وقفنا على أدوارها الرائدة –إلى جانب الرجل- في تحقيق تنمية البلاد حيث انخرطت في مختلف الأنشطة المنتجة والمدرة للدخل، وبذلك أسست المرأة الصحراوية الحسانية المغربية لنفسها -إلى جانب شقيقاتها الإفريقيات– مكانة في الهرم الاجتماعي.

لقد كانت –على طول الفترات التاريخية السابقة– فاعلة محورية في بلورة الواقع المجتمعي وتنميته.

فهل كانت ولا تزال، ذلك الشريك للرجل الذي لا مناص من مساهماته؟ وما هي مستقبليات أدوارها الرائدة -على مختلف المستويات– في ضوء كل التحديات المحدقة بها؟

الهوامش

[1] -الشيخ محمد المامي، “كتاب البادية”، مخطوط في ملكية الطالبة الغالية بلعمش، ص:81.

[2] — “الطرائف والتلائد من كرامات الشيخين الوالدة والوالد”، تحقيق: عابدين بن باب أحمد بن حم الأمين، المعهد الموريتاني للبحث العلمي، نواكشوط، 1992 – 1993م، ص:12.

[3] -“كتاب أنساب بني اعمر ايديقب”، ج:1، تحقيق: محمد فال بن عبد اللطيف، الطبعة الأولى، بيروت، 2001م. ص:4.

[4] -“الجأش الربيط في النضال عن مغربية شنقيط وعربية المغاربة في مركب وبسيط”، ص:37.

[5] -النحوي الخليل: “بلاد شنقيط، المنارة والرباط”، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1987م، ص:289.

[6] -نفسه، ص:512.

[7] -“إمارة الترارزة وعلاقاتها التجارية والسياسية مع الفرنسيين من 1703 إلى 1860م”، ج:1، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، سلسلة بحوث ودراسات (11)، الرباط، 2002م، ص:215.

[8] -صوفي كراتيني، “توزيع المجال والترابية لدى الرقيبات “(بحث مترجم عن الفرنسية)، في كتاب: المكونات الثقافية للصحراء المغربية، تأليف جماعة من الباحثين، منشورات رابطة أدباء المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، الرباط، 2001م، ص:194.

[9] -صوفي كراتيني: “توزيع المجال والترابية لدى الرقيبات”، مرجع سابق، ص:194.

[10] -ماء العينين العالية، “الإبداع النسائي في الأدب الحساني” “التبراع” نموذجا”، مقال في كتاب: “الثقافة الحسانية، “منشورات معهد الدراسات الإفريقية، ط: 1، الرباط، 2003م، ص:46.

[11] -مفهوم الذمة: إن الذمة تطلق عند علماء اللغة على معان عدة منها: العهد، الحرمة، الضمان والكفالة.

– ابن منظور، “لسان العرب” ج:12، دار صادر، بيروت، ط:7، 1997م، ص:221.

– الفيروز آبادي، “القاموس المحيط”، توثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، 2005م، ص:1001.

[12] -ماجدة كريمي، “عبد الله بن ياسين والحفاظ على الأمن العام بالصحراء: حفر في ذاكرة المنطقة”، أعمال الندوة الدولية:

“دور المذهب المالكي في تجربة الوحدة المرابطية لدول الغرب الإسلامي الكبير”، ج:2، مطبعة البلابل، فاس،2011م، ص:10.

[13] -أحمد الإدريسي، “عمل المرأة وذمتها المالية في الفقه الإسلامي”، إصدارات مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات، عدد: “المرأة في الغرب الإسلامي، الصفحات المشرقة والتحديات المحدقة والأسئلة العالقة”، إفريقيا الشرق 2016م، صص:82 – 83.

[14] -داداي بيبوط، “جوانب من دور الشريعة والعرف في الحياة الاجتماعية للصحراء المغربية خلال الفترة الممتدة من ق ه إلى أواخر ق 13ه / من ق 17م الى ق 19م”، أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب سايس – فاس، 2019 – 2020م، ص:182.

[15] -نفسه، ص:183.

[16] -درقام نادية، “المرأة في رحاب التصوف: التصوف النسوي المغاربي نموذجا”، إصدارات مركز فاطمة الفهرية، مرجع سابق، ص:155.

[17] -ابن العربي محيي الدين، “الفتوحات المكية”، دار صادر، بيروت، ج: 1، ص:447، دون تاريخ.

[18] -“يلتزم أهل التصوف بالشريعة والطريقة والحقيقة كركائز للتحقق بالتصوف، لا يمكن لأي واحدة أن تنفك عن الأخرى؛ لأن الشريعة تعبر عن درجة الإسلام، والطريقة تعبر عن درجة الإيمان، والحقيقة تعبر عن درجة الإحسان، وإذا كان الصوفي ينشد الوصول إلى درجة الإحسان؛ فهذا لن يكون إلا بالالتزام بالشريعة لضبط كل ما له علاقة بالظاهر، واتباع الطريقة التي ما هي إلا نهج تربوي يضبط مسألة السير والسلوك ويسهلها، وحقيقة السير إلى الله أو سلوك الطريق هو سير القلب، وليس بيننا وبين الله مسافات تقطع، وإنما السلوك هو تحقيق، والتحقق بها، وقطع عوائق وعلائق، وعلامات السير الحقيقي في الراحة بعد التعب والصفا بعد التخبط والمعرفة بعد الإنكار.”

– ماضي جمال، “فقه السالكين”، دار التوزيع والنشر الإسلامي، القاهرة، مصر، ط: 1، 2006م، ص:6.

[19] -رحال بوبريك، “بركة النساء بصيغة المؤنث”، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب 2010، ص:15.

[20] -نفسه، ص:98.

[21] -محمد الغربي، “الساقية الحمراء ووادي الذهب”، ج.1، دار الكتاب، البيضاء، ص:153.

[22] -المختار السوسي، “المعسول”، ج:3، مطبعة الشمال الإفريقي، الرباط، 1961، ص:57.

[23] -المختار السوسي، “المعسول”، ج:3، مطبعة الشمال الإفريقي، الرباط، 1961، ص:57.

[24] -محمد بمب درامي، “بصمات نسوية في تكوين الأعلام الصوفية السنغالية خلال القرنين 19 و20م”، منشورات مركز فاطمة الفهرية، مرجع سابق، ص:177.

فمن المعلوم تاريخيا أن نور الإسلام سطع بهذه المناطق مبكرا لذا تحدث المؤرخون والرحالة المسلمون في كتبهم عن ذلك منذ القرن 5هـ/ ق 11م خاصة وهم يتحدثون عن ملك بلاد تكرور وعن إسلام البعض من رعيته.

– أبو عبيد الله البكري، “المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب”، نشر دوسلان (De Salane) (الطبعة الثانية، الجزائر 1991 م، ص:173.

بل وقد أشار إلى ذلك ألفيز كادا موستو (Alvise cada mosto) في رحلته إلى السنغال سنة 1455م، إذ ذكر أن الدين الذي وجدهم عليه هو الإسلام، وإن كان قد أشار إلى أن إسلامهم يختلف عن إسلام العرب وصنهاجة من حيث العزيمة، اللهم إلا ما كان من قبائل التكرور في الشمال لقربهم من بلاد شنقيط.

De ceda mosto Alvise, »Relation des voyages à la côte occidentale D’Afrique 1455«, Edition Eresnt Leroux, Paris, 1895, p: 79

[25] -الحالة الأميسية هذه أشار إليها ابن بطوطة حينما تحدث عن تبعية أبناء الرجل لأخوالهم، والإرث الذي كان يتم من جهة الأم.

[26] -محمد بمب درامي، م س، ص:182.

[27] -نفسه، ص:186 – 188.

تحميل المقال بصيغة PDF