مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

التصوف السني في إفريقيا – معالم وأعلام

الشيخ إسماعيل إبراهيم كروما
رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بسيراليون

التصوف السني في إفريقيا – معالم وأعلام

الحمد لله رب العالمين على نعمه الظاهرة والباطنة، كما يليق بجلاله وجنابه، وصلاة وسلام على رسوله خير النبيين وأشرف المرسلين، ومن تمسك بسنته وعض عليها بالنواجذ واهتدى بهديه من أصحابه وأهل بيته وأتباعه إلى يوم الدين.

وبعد: فإن الإسلام دين البساطة، لأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أنزله الله على قلب سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشر، قال تعالى: {هو ا۬لذےٓ أرْسل رسولهۥ بالْهد۪يٰ ودين الْحقّ ليظْهرهۥ علي ا۬لدّين كلّه ولوْ كره ا۬لْمشْركون} [سورة التوبة/ الآية (33)].

فالإسلام يعبر عن التمسك بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهى الله عنه، والسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم، واختيار الطرق التي اختارها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها لنا أتباعهم.

قال تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللهّ ورسوله ولا تولوّْا عنْه وأنْتمْ تسْمعون} [سورة الأنفال/ الآية (20)]، وقال تعالى: {وما آتاكم الرسّول فخذوه وما نهاكمْ عنْه فانْتهوا واتّقوا اللهّ إنّ اللهّ شديد الْعقاب} [سورة الحشر/الآية (7)] والله المستعان ومنه نطلب العون.

فهذا بحث مختصر لبيان دور التصوف السني في إفريقيا، وجهود علمائه في الحفاظ على دين الله فيها، ومواجهة أهل التبشير والتنصير والتصدي لهم رغم الصعوبات التي يواجهونها.

وهو إسهام ودعم منا للمجهودات المباركة التي تقوم بها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، واستمداد من التوجيهات المباركة لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورعاه.

وهو أيضا توجيهات سامية لنفع الإسلام والمسلمين، خصوصا في بلاد إفريقيا، وذلك لشدة احتياجها لهذا الدور العظيم المبارك.

وقد اقتضت طبيعة هذا البحث أن يكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة:

الفصل الأول: تعريف التصوف والسنة وبيان المقصود من الأعلام والمعالم.

الفصل الثاني: نشأة التصوف الإسلامي ومراحل تطوره.

الفصل الثالث: مصادر التصوف.

الفصل الرابع: بيان دور المذهب الأشعري والفقه المالكي في نشر التصوف الإسلامي.

الفصل الخامس: الدول التي احتوت التصوف السني في إفريقيا ودور شيوخ التصوف فيها.

الخاتمة: وفيها ملخص الموضوع.

والله وحده المستعان، وهو من وراء القصد والهادي إلى سواء الصراط.

الفصل الأول: تعريف التصوف والسنة وبيان المقصود من الأعلام والمعالم

أولا: معنى التصوف لغة واصطلاحا

المفهوم اللغوي لكلمة: تصوف

جاءت كلمة (تصوف) من مادة (صوف)، ولها معان عدة، منها:

  • – الصوف، المعروف من شعر الحيوانات، قال تعالى: {ومنْ أصْوافها وأوبْارها وأشْعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ} [سورة النحل/ الآية (80)].
  • – الصوف، وهو اللباس المصنوع من الصوف، وهو لباس الأنبياء عليهم السلام والصديقين والزاهدين، وهو دليل على التقشف والخشونة والزهد في ترف الدنيا.3
  • – التصوف بالنسبة إلى صفاء السريرة وشرح الصدور، وهو حال الصوفية، وهم سموا بذلك لصفاء سرائرهم، فهم أكثر الناس صفاء.
  • – ونسبة لأهل الصفة، الذين نزلوا بمسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الرعيل الأول في التصوف والزهد.

المفهوم الاصطلاحي لكلمة (تصوف)

وهو مفهوم متعدد، بحسب وجهة نظر كل واحد قام بتعريفه.

  • – قال الإمام الجرجاني: هو علم القلوب الذي يبحث في أحوال النفوس الباطنة، ويسعى إلى تصفية القلوب والطهر والتجرد، ويؤدي إلى الاتصال بالعالم العلوي.
  • – قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: هو طرح النفس في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشريعة.
  • – قال ابن خلدون رحمه الله: هو العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة.
  • – قال الجنيد رحمه الله: التصوف هو استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني.

ثانيا: بيان معنى السنة لغة واصطلاحا

السنة في اللغة:

السنة لغة: هي الطريقة؛ أي الطريقة المتبعة، والسيرة المستمرة، سواء كانت حسنة أو سيئة؛ وقد استخدمت بهذا المعنى في القرآن الكريم، قال تعالى: {سنّة منْ قدْ أرسْلْنا قبْلك منْ رسلنا ولن تجد لسنّتنا تحْويلًا} [سورة الإسراء/ الآية (77)].

وجاءت بهذا المعنى أيضا، في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا).

وإذا أطلقت كلمة (السنة) مفردة ومعرفة بالألف واللام في لغة الصحابة والسلف، فالمراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي الطريقة التي انتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ دين الله عز وجل.

السنة في الاصطلاح:

لكل طائفة من العلماء في تعريف (السنة) تعريفهم الخاص بهم، كل على حسب اختصاصه:

-فأهل الحديث يعرفونها: بأنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخلقية وسائر أخباره.

-والأصوليون يعرفونها: بأنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي يستدل بها على الأحكام الشرعية بصفتها مصدراً للتشريع.

-والفقهاء يعرفونها: بأنها هي ما ثبت طلبه بدليل شرعي من غير افتراض ولا وجوب، مثل تقديم اليمنى على اليسرى في الطهارة.

ثالثا: بيان المراد بكلمة معالم

معالم: جمع معلم. ومعالم المكان: هو ما يستدل به عليه من آثار ونحوها، فهي معالم أثرية. ومعالم الطريق: العلامات التي تدل عليها. ومعالم المدينة: الأبنية ونحوها التي تشتهر بها، وتميزها عن غيرها من المدن. والمعالم التاريخية: الأحداث التي تمثل نقطة تحول في التاريخ والأحداث.

والمراد بكلمة (المعالم) في هذا البحث، بلاد إفريقيا التي تبنت التصوف السني بها؛ والمراد بها أيضا: البلاد التي اشتهر فيها التصوف السني.

وكما قيل: (أشهر من نار على علم)، مثال لمن صار مشهورا، أو ذائع الصيت.

رابعا: بيان المراد بكلمة أعلام

أعلام: جمع علم، أي سيد في القوم، وسيد في مجاله، وسيد في تخصصه.

والمراد بها هنا: الرجال الذين تبنوا نشر التصوف السني في إفريقيا؛ لأن رجال العلم، هم الذين لهم حق نشر العلم، واتباع الناس لهم. والأعلام: هم السادة في التصوف، والبارزون في قارة إفريقيا.

الفصل الثاني: نشأة التصوف الإسلامي ومراحل تطوره

أولا: نشأة التصوف الإسلامي

نشأ التصوف الإسلامي عن الزهد؛ فالزهد إسلامي النشأة، وقد حثنا الله في كتابه على الزهد وترك شهوات الدنيا، ليكون حسن المآب جزاء الزاهدين، قال تعالى: {زيّن للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والْبنين والْقناطير الْمقنْطرة من الذّهب والْفضّة والْخيْل الْمسومّة والْأنْعام والْحرث ذٰلك متاع الْحياة الدّنْيا واللهّ عنْده حسْن الْمآب} [سورة آل عمران/ الآية (14)].

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الزهد في حياته كلها، وهو منهجه صلى الله عليه وسلم في مأكله ومشربه وملبسه، قال تعالى: {لقدْ كان لكمْ في رسول الله أسْوةٌ حسنةٌ لمنْ كان يرجْو اللهّ والْيوْم الْخر وذكر اللهّ كثيرًا} [سورة الأحزاب/ الآية (21)].

فالزهد، وحياة الزاهدين هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

أما اسم (الصوفي)، فلم يعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أتباعه هم الصحابة، وشرف الصحبة لا يدانيه أي شرف؛ والنبي صلى الله عليه وسلم هو من أطلق على أتباعه اسم الصحابة.

وعرف هذا الاسم -أي الزهد -بعد القرن الأول، ويدلّ على ذلك ظهور جماعات من الزهاد من التابعين، على رأسهم الحسن البصري (المتوفى سنة 110 هـ)، وقد أدرك بعض الصحابة؛ ومالك بن دينار (المتوفى سنة 131 هـ)، وإبراهيم بن أدهم (المتوفى سنة 161 هـ)، وغيرهم. وهذا دليل على امتداد الزهد من عهد الصحابة إلى عهد التابعين رضوان الله عليهم أجمعين.

وبعد ذلك ظهرت طائفة تسمى ب (البكائين)، لفرط بكائهم تحسرا وندما على ما اقترفوه من الذنوب ولو كانت يسيرة، رجاء المغفرة والعون من الله سبحانه وتعالى.

وكان أول ظهور للتصوف في البصرة، وهذا ما أكده الإمام ابن تيمية، حيث قال: «فإنه أول ما ظهرت الصوفية في البصرة.»

واختص أهل البصرة عن أهل الكوفة بالتزام السلوك القويم في عبادتهم، والانعزال عن الدنيا وشهواتها، بسبب انغماس الناس في ملذات الدنيا بعد كثرة الفتوحات الإسلامية.

فاعتزل كثير من الناس هذه الملذات، وظهر المتصوفة الذين آثروا العزلة على الانغماس في ملذات الدنيا، والمشاركة في إراقة دماء المسلمين.

ثانيا: المراحل التي مر بها التصوف السني

مر التصوف الإسلامي السني بمراحل تاريخية، وكان لكل مرحلة دور يناسبها.

  • المرحلة الأولى: وهي مرحلة الزهد وكانت في القرنين الأول والثاني الهجريين

وسبب ظهور هذه المرحلة، هو التمسك بتعاليم الإسلام المستمدة من القرآن والسنة، والتي تدعو إلى الزهد، والإقبال على العبادة والتبتل وقيام الليل.

وساعد على ظهور هذه المرحلة أيضا، أتباع الدولة الإسلامية، بسبب كثرة الفتوحات، وتسبب هذا الانفتاح في الاختلاط بين المسلمين القدامى والمسلمين الجدد، وانتقلت حياة الترف والبذخ من أهل الانفتاح إلى بلاد المسلمين.

وأيضا بسبب اختلاف ثقافات الشعوب الأخرى، فأثار ذلك حفيظة بعض المسلمين، فاعتزلوا هذه الحياة وما فيها من سياسة وقتل وإراقة للدماء بسبب النزاع على السلطة، ونتج عن هذا النزاع مقتل بعض الصحابة، مثل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم.

فتعفف هؤلاء عن المشاركة في هذه الأحداث، واتجهوا إلى القرآن والسنة، فظهر الزهاد، والحسن البصري خير مثال على ذلك.

  • المرحلة الثانية: بدأت في القرنين الثالث والرابع الهجريين

في هذه المرحلة تطور الزهد ولم يعد فرديا، بل أصبح حركة منتظمة يطلق عليها التصوف.

واتجهت جماعة إلى التمسك بالكتاب والسنة، وهؤلاء هم أهل التصوف السني؛ الذي مصدره الكتاب والسنة.

وهذه الجماعة نأت بنفسها عن طريق الشطحات الصوفية والكرامات الخارقة، وهذا هو التصوف المقبول الممدوح.

واستمر التصوف السني المعتدل حتى القرن الخامس الهجري، ويمثله أبو حامد الغزالي؛ الذي حاول جاهدا إعادة التصوف إلى مسلكه الصحيح، وإلى مصدره الإسلامي السني المعتدل؛ وقد أصبح كتابه (إحياء علوم الدين) مصدرا للتصوف السني من غير جدال، وكذلك كتابه (المنقذ من الضلال).

المرحلة الثالثة: مرحلة القرنين السادس والسابع الهجريين

وفي هذه المرحلة ظهر التصوف الفلسفي متأثرا بالعوامل الخارجية، كفلسفة اليونان وبلاد فارس والهند. كما تأثر بالمسيحية واليهودية؛ ومن أصحاب هذا المذهب الفلسفي السهروردي، الذي تأثر بابن سينا؛ وأيضا محي الدين ابن عربي. وقد حاولوا جميعا التوفيق بين نصوص الشرع المنزل، والأفكار الفلسفية المستمدة من دوائر الفكر الأجنبي. وبسبب شطحات هؤلاء وآرائهم، بدأ اضطهاد التصوف.

الفصل الثالث: مصادر التصوف الإسلامي

لقد أثرت بعض المصادر وشكلت طبيعة هذا التصوف، وذلك لأن منبع التصوف الإسلامي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فهما مدرستان عمليتان لتطبيق العقيدة والشريعة وسلوك الصحابة والتابعين. وهذا تطبيق عملي لأحكام الشريعة، فانظر -مثلا -إلى قول الله تعالى: {وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهْدين} [سورة الصافات /الآية (99)].

المصدر الأول: القرآن الكريم

وهو المصدر الإسلامي الأول -وقبل أي شيء آخر -الذي ينسب للتصوف، ونجده يتضمن كثيرا من الآيات التي تحث على الإعراض عن الدنيا والتمسك بالآخرة.

قال تعال: {اعْلموا أنّما الْحياة الدّنْيا لعبٌ ولهْوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بيْنكمْ وتكاثرٌ في الْأمْوال والْأولْد كمثل غيْثٍ أعْجب الْكفاّر نباته ثمّ يهيج فتراه مصْفرًّا ثمّ يكون حطامًا وفي الْآخرة عذابٌ شديدٌ ومغْفرةٌ من الله ورضوانٌ وما الْحياة الدّنْيا إلّا متاع الْغرور} [سورة الحديد/ الآية (20)]، وقال تعالى: { يا أيّها الذين آمنوا لا تلْهكمْ أمْوالكمْ ولا أولادكمْ عنْ ذكْر الله ومنْ يفْعلْ ذلك فأولئك هم الْخاسرون } [سورة المنافقون/ الآية (9)].

فهذه الآيات تحذر من الحياة الدنيا، وأنها فانية وزائلة، والبقاء للآخرة. وهناك آيات أخرى تشير إلى أنّ الأحوال والمقامات لمن أراد أن يرتقي بنفسه مع الله تعالى:

{ قل متاع الدنيا قليل، والخرة خير لمن اتقى، ول تظلمون فتيلا } [سورة النساء/ الآية (77)]؛ وآيات تشير إلى التوكل على الله عز وجل، قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [سورة التوبة/ الآية (51)]؛ وآيات تشير إلى الرضا، قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [سورة التوبة/ الآية (100)]؛ وآيات تشير إلى ذهاب الحزن، قال تعالى: { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } [سورة فاطر/ الآية (34)]، أي الدنيا، لأنها دار الحزن؛ وآيات تشير إلى الخوف من الله عز وجل، قال تعالى: {يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون} [سورة السجدة (16)]؛ وآيات تشير إلى الذكر والإكثار منه، قال تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} [سورة الأحزاب/ الآية (41)]؛ وآيات تشير إلى الدعاء، قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [سورة غافر/ الآية (60)].

وهناك آيات بها إشارات واضحة، تدعو إلى الزهد والانصراف عن ملذات الدنيا

الفانية، قال تعالى: {التّائبون الْعابدون الْحامدون السّائحون الرّاكعون السّاجدون الْآمرون بالْمعْروف والنّاهون عن الْمنْكر والْحافظون لحدود الله وبشّر الْمؤمنين} [سورة التوبة/ الآية (112)]، وقال تعالى: {عسى ربّه إنْ طلقّكنّ أنْ يبْدله أزوْاجًا خيْرًا منْكنّ مسْلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحاتٍ ثيّباتٍ وأبْكاراً} [سورة التحريم/ الآية (5)]. وكل ذلك دعوة لتطهير القلب، عن طريق التعبد والتنسك والزهد.

المصدر الثاني: السنة النبوية المطهرة

وهي المصدر الثاني للدين الإسلامي، وهي تطبيق عملي لما جاء في كتاب الله عز وجل

وتفسير له؛ قال تعالى: {بالْبيّنات والزبّر وأنْزلْنا إليْك الذّكْر لتبيّن للنّاس ما نزلّ إليْهمْ ولعلهّمْ يتفكّرون} [سورة النحل/ الآية (44)]، وقال تعالى: {قدْ كان لكمْ في رسول الله أسْوةٌ حسنةٌ لمنْ كان يرجْو اللهّ والْيوْم الْخر وذكر اللهّ كثيرًا} [سورة الأحزاب/ الآية (21)].

وكان صلى الله عليه وسلم زاهدا في الحياة الدنيا وزخرفها حتى قبل نزول الوحي وقبل البعثة، ولا يخفى على أحد تعبده وخلواته في غار حراء، زاهدا متأملا في الكون وما يدور فيه. فكان صلى الله عليه وسلم عابدا زاهدا، هو وأهل بيته، زوجاته أمهات المؤمنين. وهذا خطاب الله تعالى لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أيّها النّبيّ قل لأزوْاجك إنْ كنْتنّ تردن الْحياة الدّنْيا وزينتها فتعاليْن أمتّعْكنّ وأسرحّْكنّ سراحًا جميلًا، وإنْ كنْتنّ تردن اللهّ ورسوله والدّار الْخرة فإنّ اللهّ أعدّ للْمحْسنات منْكنّ أجْرًا عظيمًا} [سورة الأحزاب/ الآيتان (28-29)].

والصوفية لهم استمداد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمضي أتيته هرولة) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه مسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم معتدلا في زهده، ولم يكن مبالغا فيه؛ لأنه كان يحب التوسط في كل شيء، ويكره المغالاة. وكان صلى الله عليه وسلم زاهدا، لكنه يعمل ويكسب قوت يومه؛ ويجاهد في سبيل الله، ويتزوج ويصلي ويقوم الليل. وخير مثال على ذلك، ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.

وقد سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج القويم، وقاموا بتعريف المسلمين به. وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتبع منهج أصحابه رضي الله عنهم، ولا نحيد عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)؛ وقال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحابة خيرا؛ لأنهم الناقلون لسنته، فقال: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه).

فكانت حياة الصحابة والخلفاء الراشدين مصدرا للزهد، ومن ثم التصوف المعتدل، القائم على الكتاب والسنة.

وقد أجمل الطوسي رحمه الله في الحديث عنهم في (كتابه اللمع)، فقال: «فمن ترك الدنيا كلها وخرج من جميع ما يملك، فجلس على بساط الفقر والتجرد بلا علاقة، فإمامه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ ومن أخرج بعضها وترك البعض لعياله ولصلة الرحم وأداء الحقوق، فإمامه فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ومن جمع لله ومنع لله وأعطى لله وأنفق لله، فإمامه فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ ومن لم يحم حول الدنيا وإن جمعت عليه من غير طلب، رفضها وهرب منها، فإمامه في ذلك علي رضي الله عنه.»

هذه هي القدوة التي زهدت وتصوفت قبل أن يعرف التصوف، إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فهم خير مثال للزهد والتصوف.

الفصل الرابع: بيان دور المذهب الأشعري والفقه المالكي في نشر التصوف الإسلامي

التزم المذهب الأشعري العقدي في أصوله وجوهره بمذهب أهل السنة والجماعة، القائم على البراهين والأدلة من القرآن والسنة؛ لذلك حظي بالقبول في بلاد غرب إفريقيا، وصار أصلا ورسما لأهل هذه البلاد، بداية من القرن الرابع أو الخامس الهجري إلى يومنا هذا؛ وهو ما ساعده على النمو الطبيعي، حتى أصبح أساسيا في الغرب الإسلامي.

وهذا ما عبر عنه عبد الواحد بن عاشر (تـ 1040هـ) في كتابه (المرشد المعين)، وهو يتكلم عن هوية المغرب العقدية والفقهية، بقوله:

في عقد الأشعري وفقه مالك     وفي طريقة الجنيد السالك

إن المتتبع لتاريخ تأثير العقيدة الأشعرية في بلاد المغرب، يقودنا إلى فحص الواقع العقدي والمذهبي في المرحلة الممتدة ما بين الفتح الإسلامي وقيام دولة المرابطين في القرن الرابع الهجري -العاشر الميلادي.

وهذا ما جعل أهل الغرب وإخوانهم في باقي بلاد إفريقيا ملتزمين بالعقيدة الأشعرية، وذلك لما وجدوا فيها من الحفاظ على لب العقيدة وجوهرها، ورفض التشبيه، وترسيخ الوسطية القائمة على الربط بين النص والعقل، والدعوة إلى التأويل المعتدل؛ بجانب إشاعة روح التسامح والتضامن والتآخي، ونشر ثقافة الحوار، والاعتراف بالحق، وأداء الواجبات، وبناء قيم السلام والتعايش بين الثقافات والأديان؛ وهذا أصل الزهد والتصوف.

فالعقيدة الأشعرية هي العقيدة الرسمية في الغرب الإسلامي كله، وهي التي ساهمت في ترسيخ الزهد في قلوب التابعين لها، ونتج عن ذلك تصوف ملتزم بالكتاب والسنة، واتباع لآثار الصحابة الزاهدين.

وقد قال -ابن عاشر -منذ القرن العاشر -مبينا أسس منظومته المشهورة، المبنية على ثوابت الأمة المغربية:

وبعد فالعون من الله المجيد    *** في نظم أبيات للأمي تفيد

في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك

ولا شك أن أهل القارة السمراء في تدينهم، وخصوصا أهل الغرب الإفريقي، يحملون طابعا يتميز بالتوجه الصوفي الروحي، المترابط والمتناسق مع وحدة العقيدة الأشعرية، وكذلك الأخذ بمذهب الإمام مالك في الأحكام الشرعية الفقهية، حيث الأخلاق الناتجة عن هذه التربية الأشعرية، والتي تجسد التربية الصوفية السنية لأهل إفريقيا، وتظهر مدى الترابط العميق بين المغرب وإفريقيا؛ ويعود هذا الترابط والتناغم العميق بين المغرب وبلاد إفريقيا في التصوف السني، الناتج عن التزام المذهب الأشعري، إلى تلاميذ الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش، والشيخ أبي الحسن الشاذلي. فأقيمت الزوايا والرباطات لاجتماع المريدين، وكان ذلك في زيادة وكثرة الأتباع للطرق الصوفية في بلاد غرب إفريقيا، مثل الجزائر وتونس والسنغال وليبيا ومالي ونيجيريا وإثيوبيا والسودان، وغيرهم كثير، وبفضل جهود أهل الطرق الصوفية التابعة لمذهب أهل السنة والجماعة. فقد قامت هذه الطرق بسد الفراغ المهول، الذي ورثه الناس عن اتباع الطرق الوثنية، والقوى السحرية الخارقة. فجاء أهل الطرق الصوفية الأشعرية السنية بمثابة الدواء الشافي والعلاج الصحي، لإنقاذ الناس في هذه البلاد من تفشي الوثنية والسحر والجهل، فأخذوا بأيدي الناس إلى اتباع دين الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك توحدت القارة الإفريقية عن طريق التصوف السني، كما توحدت على العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي.

فأغلب سكان دول إفريقيا صوفية، كما أن أغلبهم مالكيون فقها وأشعريون عقيدة. ويرجع هذا الفضل في التوحد والاجتماع على المذهب الأشعري والتزام الطرق الصوفية إلى جهود الشيوخ المربين، الذين نشروا الإسلام فقها وسلوكا وعقيدة. ومن هذه الطرق، الطريقة القادرية والطريقة التيجانية والطريقة الشاذلية والطريقة الرفاعية والطريقة البرهامية، وغيرها كثير. أما شيوخ التصوف السني في إفريقيا، فنذكر منهم على سبيل المثال: أحمد البكاء الكنتي الذي أخذ عن الشيخ عبد الكريم المغيلي، والشيخ أحمد التيجاني الذي له دور كبير في نشر الطريقة التيجانية المشهورة.

ولا ننكر جهود الشيخ عمر الفوتي تال التكروري (المتوفى سنة 1864م)، الذي أخذ عن الشيخ مولود فال وعن الشيخ عبد الكريم بفوتا جالون.

الإمام الجنيد وطريقته في التصوف السني أنموذج يحتذى به

إن الامام أبا القاسم الجنيد عليه رحمة الله، هو واحد من الذين لهم أثر كبير واضح في الحقل الصوفي، وله بصمات لا تخفى على ذي لب، وذلك بسيرته الحميدة، ومنهجه السلوكي التربوي، الذي جمع فيه بين العلم والعمل به، وبسلوكه طريق الرياضة ومجاهدة النفس، من أجل بلوغ مرتبة الإحسان، والتحقق بأعلى الكمالات الخلقية.

ومن أقواله في التزامه بالكتاب والسنة – والتصوف السني-: «الطرق كلها مسدودة عن الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، والتزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه.»

وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «كل الطرق إلى الجنة مسدودة، إلا الطريق الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم.»

وقال الجنيد رحمه الله تعالى: «يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك.»

وقوله عليه رحمة الله: «علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به.»

لماذا؟ لأن التصوف عند الجنيد ليس مأخوذا من القيل والقال والمراء والجدال، وإنما مأخوذ من الجهد والسهر وملازمة الأعمال التي هي جوهر الكتاب والسنة: الصلاة، والصيام، والقيام، والذكر.

وقد تأثر الجنيد بشيخه الحارث المحاسبي، صحبه وتتلمذ على يديه؛ تدل على ذلك الروايات الكثيرة المنسوبة إلى الجنيد، والتي يذكر فيها أقوال المحاسبي. وقد روى عنه صاحب (حلية الأولياء) أكثر من أربع عشرة رواية توضح تأثر الجنيد بشيخه المحاسبي تأثرا شديدا، فقد كانت بينهما ألفة ومودة – بين التلميذ والأستاذ أو بين المريد والشيخ أو بين القدوة الحسنة والمربي الفاضل وهذا يدل على الحب الذي كان بينهما، المصحوب بالرفق واللين.

وكان الجنيد يخشى أن يكون الاختلاط بالناس ورؤيتهم ممزقا للأنس بالخلوة والوحشة من غيرها؛ لأنه يجد في الأنس حلاوة وعذوبة ولقاء مع الله، لا يقارنه الاجتماع ولا يقاربه الاختلاط؛ ولأنه كان يرى أن الأنس الحقيقي يكون بالحق في التفرد والخلوة.

وقد حكي أن إبراهيم بن أدهم نزل من الجبل، فقيل له: من أين أقبلت؟ فقال: من الأنس بالله؛ وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله، فيكون كل ما يعيق عن الخلوة من أثقل الأشياء على القلب.

وقد كان طريق الجنيد موثوقا بوثاق العلم ورباط الفهم والبيان، إذ يقول: «ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه، لا يقتدى به.»

فطريق الإمام الجنيد يجتمع فيه نظام الشريعة مع نور الحقيقة، ويظهر فيه اعتدال المنهج الذي سلكه، وصواب التوثيق لكل منهجه؛ إذ ليس بعد الاهتداء بالكتاب والسنة توثيقا أصوب من هذا التوثيق.

وهذا التوجه الشرعي من الإمام الجنيد، هو الذي جعل الفقهاء والصوفية -على سواء -يتقبلون ويستحسنون منهجه، ولم ينكروا عليه شيئا من مسلكه وطريقته، فهو واضح كالشمس وضحاها– الكتاب والسنة طريقه – لذلك ساروا على هذا الطريق، والتزم به كثير من الفقهاء، وأكثر الصوفية المعتدلين، الذين ينتهجون التصوف السني الإسلامي.

ولذلك اشتهرت طريقة الجنيد الصوفية السنية في المشرق والمغرب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الفصل الخامس: الدول التي احتوت التصوف السني ودور شيوخ التصوف فيها

من المعلوم أن الفتح الإسلامي قد وصل إفريقيا في القرن السابع الميلادي، انطلاقا من مصر، ثم دول شمال إفريقيا، كتونس والمغرب، حيث حدث انسجام بين العرب والأفارقة بفضل الديانة الإسلامية.

وساعد على انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، قيام بعض المعلمين واستقرارهم في مراكز للتعليم، في شنقيط وتمبكت والسنغال ونيجيريا والكاميرون، وغيرها؛ وكان ذلك نتيجة انتشار هذه المراكز.

وبرز في الميدان شيوخ من المتصوفة، قاموا بإنشاء مراكز للتربية والتعليم، وهي مراكز معروفة في دول المغرب العربي والجزائر والسنغال ونيجيريا وموريتانيا ومالي وغينيا، جمعوا فيها التلاميذ من مختلف القبائل والمناطق. وكان خريجو هذه المراكز يقومون في أوطانهم بإنشاء مراكز أخرى بعد عودتهم إليها، فتعددت المدارس، وقامت بين روادها علاقات روحية واجتماعية أدت إلى نشأة جبهة دينية تطورت لتصبح مجتمعا إسلاميا، ومن هنا انتشر التصوف الإسلامي السني في بلاد إفريقيا.

بعد ذلك أصبح التصوف الإسلامي السني له مؤسسة قائمة على أصول وضوابط، تنظم العمل في هذه المراكز المنتشرة في بلاد إفريقيا؛ لأنه مر بتجارب متعددة ومتنوعة، فأصبح واجهة دينية واجتماعية وسياسية، وامتدت جذوره في غرب إفريقيا.

وأصبح التصوف الإسلامي بشيوخه ومريديه له دور فعال وحيوي في بناء المجتمعات الإنسانية، روحيا وثقافيا، قديما وحديثا.

وتجدر الإشارة إلى أن أغلب علماء الدين الذين قاموا بإنشاء المدارس العربية الإسلامية الأهلية ينتمون إلى إحدى الطرق الصوفية؛ ولذلك أصبحت هذه الطرق ظاهرة دينية بارزة في تاريخ المجتمعات الإسلامية، لأنها نشأت في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، وظلت طوال القرون الماضية تنتشر وتتوسع داخل بلاد الإسلام في إفريقيا، ويتعاظم تأثيرها الديني ونفوذها الاجتماعي. وقد تمركزت وظهرت هذه الطرق في الغرب الإفريقي، وقام أتباعها بالتصدي والمقاومة للفكر الغربي الأجنبي والغزو المعتدي على بلادهم وثرواتهم، وقاد بعض زعمائها جبهات عسكرية لصد الغزو الأجنبي المستعمر، الذي اجتاح هذه البلاد في أواخر القرن التاسع عشر، واستعمر معظم دولها، ونهب الكثير من خيراتها، وعاث فيها فسادا، واتخذ الكثير من أبنائها رقيقا يباع ويشترى.

كما أن الطرق الصوفية قد سبقت نشأة الدول الحديثة، وواكبتها بعد ولادتها.

ومن أشهر الطرق الصوفية التي قامت في إفريقيا:

  • – الطريقة القادرية: وهي من أقدم الطرق وأوسعها انتشارا في العالم الإسلامي وصولا إلى غرب إفريقيا وتتفرع عن هذه الطريقة طرق أخرى؛ منها البكائية نسبة إلى الشيخ سيدي أحمد البكائي الكنتي (تـ 1514م)، وكانت في منطقة أزواد بمالي والشرق الموريتاني، وانتشرت في نيجيريا عن طريق الشيخ عثمان دان فوديو (تـ 1817 م)، وهو من تلاميذ الشيخ الكنتي.
  • – الطريقة التيجانية: ويعتبر الشمال الإفريقي هو المنشأ الأول لهذه الطريقة، وقد وصلت إلى غرب إفريقيا عن طريق الشيوخ، ومن أبرزهم الشيخ محمد الحافظ بن حبيب الله العلوي الشنقيطي (تـ 1831م)، وقد كان مكلفا بنشرها بإذن من الشيخ سيدي أحمد التيجاني (تـ 1815م) في الغرب الإفريقي. ومن رموز هذه الطريقة: الشيخ أحمد عمر الفوتي (تـ 1864م)، وشيخه مولود فال اليعقوبي (تـ 1851م)؛ ثم بلغت التيجانية أوج انتشارها مع الشيخ إبراهيم انياسي (المتوفى سنة 1975م).
  • – الطريقة الشاذلية: وهي تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي، ولها وجود في المغرب العربي وليبيا والسودان، ومصر أيضا، وهي مدرسة تربوية تدعو إلى تزكية النفس، وإلى الزهد في الدنيا والعمل الصالح، ولها فروع كثيرة.
  • -الطريقة المعينية: نسبة إلى الشيخ ماء العينين (تـ 1910م)؛ وهي طريقة صوفية منتشرة في المغرب وموريتانيا والسنغال والسودان، ولها دور كبير في نشر الإسلام في ربوع إفريقيا، والوقوف أمام المد الفرنسي والإسباني بالمغرب وموريتانيا، حيث دعا الشيخ ماء العينين الناس للجهاد ضد المستعمر.
  • -الطريقة الركينية: أسسها الشيخ محمد أحمد الركين (تـ 1902م)، وهي طريقة قرآنية سنية محمدية، تأسست في رمضان سنة 1336 هـ على الكتاب والسنة.

مشربها نبوي، وانتشرت في السودان وفي نيجيريا وإثيوبيا ومصر وإندونيسيا.

ومن أعلام التصوف في إفريقيا:

  • – المجاهد الحاج عمر تال الفوني (تـ 1864م)، أحد أبرز شيوخ الطريقة التيجانية في السنغال، في منطقة فوتا. قاد هذا المجاهد الفوتيين لإقامة دولة إسلامية في إفريقيا الغربية. ومن أقواله التي يوضح فيها هدفه: «قتال الكفار أمر لا أنفك عنه، حتى يمحق الله الكفر بدولة الإسلام.»
  • – الشيخ عثمان دان فودي (تـ 1817م)، الذي قام بدور كبير في نيجيريا. وقد كان مالكي المذهب أشعري العقيدة، متصوفا على الطريقة القادرية، وكانت دعوته

تنفيذا لأمر الله تعالى في قوله: {ولْتكنْ منْكمْ أمّةٌ يدْعون إلى الْخيْر ويأمْرون بالْمعْروف وينْهوْن عن الْمنْكر وأولئك هم الْمفْلحون} سورة آل عمران/ الآية (104)، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان(. كما قام بمواجهة الفساد في مجتمعه -مجتمع الهوسا -وبمحاربة الجهل الذي ساد فيه، وبالإصلاح عن طريق إرشاد الناس إلى صحيح العقيدة وتعاليم الدين الصحيح.

  • -الأمير عبد القادر الجزائري (تـ 1883م): وهو من المجاهدين ضد الفرنسيين، حتى انتهى الأمر به إلى نفيه. وقد حاول ابنه محيي الدين استئناف الجهاد بعده.
  • -الشاب بمباهج أفوت (تـ 1867م)، الذي قاد الأهالي في المنطقة المتاخمة للحدود السنغالية الغامبية بتأثير من الحاج عمر سعيد الفوتي، وذلك لتأسيس دولة خاصة بهم بعد طغيان وظلم الوثنيين.
  • -شيخو أحمد (دولة ماسينيا الإسلامية في شرق السودان -مالي حاليا)، جاهد وأقام الدولة وحكمها نجله من بعده أحمد الثاني، لتنتهي مع حفيده أحمد الثالث. وهذه الدولة قامت بالنفوذ الروحي للسيد المختار الكنتي مؤسس الطريقة القادرية في إفريقيا.

ثم هناك شخصيتان لهما دور مهم في تأسيس مسار التصوف في إفريقيا، هما:

  • -الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي (تـ 909 هـ/1504م.)

وهو الذي قام بغرس التصوف الإفريقي، وختمه بخاتم إصلاحي شديد الفاعلية، وقام بتقوية سلطان الإسلام في بلاد النيجر ونيجيريا ومالي، وترك أثرا إسلاميا كبيرا، وقام بتصحيح مفاهيم كثيرة مغلوطة في أذهان الناس العوام. وقد نشر طريقته على أبعاد أربعة، هي: العلم، والتربية، والوعي السياسي، والفعل الثوري.

  • -الشيخ سيدي عمر الكنتي (تـ 960 هـ/1552م.)

وينسب إليه الفضل في تأسيس التصوف السني في غرب إفريقيا بتجديد أفكاره الدينية، وقد أكمل رسالته، كما كان له دور بارز في نشر الطريقة القادرية ببلاد تكرور، التي كانت تهدف إلى تثبيت الدين الإسلامي.

الخاتمة

وفي الختام نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا البحث، بعد جولة سريعة ممتعة عن التصوف السني في إفريقيا -معالم وأعلام.

وقد حرصت على أن أوفر للقارئ من خلال هذا البحث، أهم المعلومات والبيانات عن التصوف الإسلامي بالمصادر الموثوقة.

ثم إن هذا البحث ما هو إلا نقطة بداية لكل من يرغب في أن يستزيد من العلم عن هذا الموضوع، الماتع الشيق، الذي يشغل تفكير فئة كبيرة من المسلمين في العصر الحالي.

والله تعالى أسأل أن يكون هذا البحث قد وصل بنا إلى الاستدلال على سنية التصوف الإسلامي. وقد تم بتوفيقه عز وجل، ثمّ بتوجيهات رشيدة من الرئاسة العليا لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، المتمثلة في أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس –أيده الله بنصره– وجهود مخلصة من الرئاسة المنتدبة والأمانة العامة والموظفين بالمؤسسة سدد الله خطاهم.

وأخيرا أقول: فما كان بهذا العمل من توفيق وسداد فمن الله، وما كان به من نقص وإخفاق فمني ومن الشيطان،(والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل).

المصادر والمراجع

  • – القرآن الكريم.
  • – السنة النبوية المطهرة.
  • – كتاب الصوفية في الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة.
  • – التصوف المعتدل والآثار السلبية لظاهرة الشطح، كتاب التصوف السني للدكتور مجدي عمر إبراهيم.
  • – تصوف الغزالي بين النظر والكشف.
  • – طبقات الصوفية، تأليف أبي عبد الرحمن السلمي، دار الكتب العلمية ببيروت.
  • – لمحة تاريخية عن التصوف بتونس، ابن عربي للدراسات العرفانية والصوفية.
  • شرح أصول الطريقة، السادة الباعلوي -حضر موت – دار العلوم والدعوة – زين بن إبراهيم بن سميط.
  • – أحكام القرآن الكريم، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي، المتوفى عام 543 هـ.
  • – مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، المتوفى عام 751 هـ.
  • – موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.
  • – كتاب قواعد وفوائد في تزكية النفس، سلطان بن عبد الله العمري.
  • – كتاب الزهد، للإمام هناد بن السري الكوفي.
  • – تزكية النفوس، لابن تيمية (نسخة pdf).
  • – إحياء علوم الدين، للإمام أبي حامد الغزالي.
  • – الجانب العاطفي من الإسلام، الدكتور محمد الغزالي.
  • – البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، لابن عجيبة الشريف الأندلسي الحسني.
  • – الحكم العطائية، ابن عطاء الله السكندري.
  • – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر، الإمام عبد القادر الجيلاني.
  • – الأنوار المقدسية في معرفة قواعد الصوفية، عبد الوهاب الشعراني.
  • – الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري.
  • – الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، أنا ماري شيمل، منشورات الجمل.

تحميل المقال بصيغة PDF