مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

المذهب الأشعري والماتريدي والمذاهب الفقهية الأربعة والطرق الصوفية سبب التعايش والتسامح في إفريقيا

الأستاذ شعيب أحمد
جنوب أفريقيا

المذهب الأشعري والماتريدي والمذاهب الفقهية الأربعة والطرق الصوفية سبب التعايش والتسامح في إفريقيا

هذه الورقات تتحدث عن أثر مذاهب أهل السنة والجماعة في تعزيز مبدأ التسامح والتعايش في إفريقيا عموما، وفي جنوب إفريقيا خصوصا.

من المعلوم أن قارة إفريقيا كبيرة ذات دول كثيرة وشعوب مختلفة ولكثير منها تاريخ مجيد، ودخول الإسلام في كل دولة له قصته التي تختلف عن الأخرى، وسأتحدث في هذه الورقات على دور المذهب الأشعري والماتريدي والمذاهب الفقهية الأربعة والطرق الصوفية ودورها في نشر قيم التعايش والتسامح في إفريقيا عموما وفي جنوب إفريقيا على وجه الخصوص بحكم الانتماء.

ويشتمل البحث على المحاور الآتية:

  1. دخول الإسلام إلى إفريقيا
  2. المذاهب الفقهية في إفريقيا
  3. المذاهب العقدية في إفريقيا
  4. الطرق الصوفية في إفريقيا
  5. دخول الإسلام إلى جنوب إفريقيا
  6. صلة المتأخرين بمنهج الأوائل وعدم تمييزهم بين الإصلاح وآراء المخالفين
  7. الخاتمة

دخول الإسلام إلى إفريقيا وأساس التسامح

يرجع أصل الإسلام في قارة إفريقيا إلى زمن سيدنا ونبينا محمد ﷺ وذلك حينما كان المسلمون يعانون من الضغط والتعذيب على أيدي مشركي مكة. عندئذ أذن الرسول ﷺ لمجموعة من أصحابه رضي الله عنهم بالهجرة إلى الحبشة وكان من بين أولئك ابن عم الرسول جعفر ابن أبي طالب وبنت الرسول رقية وزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنهم.[1] بل قال لهم رسول الله: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه،»[2] فالرسول أشار إلى ما امتاز به البلد وهو عدم الظلم وكونه أرض صدق وهما من دوافع التسامح والتعايش. وتقع الحبشة اليوم ما بين إثيوبيا والسودان. [3]

فالفترة التي قضاها المسلمون مع النجاشي كانت في جو من التعايش والتسامح حيث لم يجبرهم النجاشي على ترك دينهم ولم يأمروه بترك دينه. لكن أسلم النجاشي فيما بعد وصلى عليه الرسول ﷺ عندما بلغه خبر وفاته[5]. فقد استقبل النجاشي المسلمين وكان نصرانيا وأعطاهم الأمان رغم محاولات قريش لإقناعه بعدم فعل ذلك.[4]

فأساس الإسلام في إفريقيا مبني على التسامح والتعايش بين أصحاب الأديان المختلفة فضلا عن العلاقة بين المسلمين أنفسهم. وقبل وجود المذاهب العقدية تلت هذه الهجرة الأولى فتح مصر على أيدي الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في سنة 21هـ. إذ إن المسلمين فتحوا البلاد ولم يأمروا أهل مصر بترك دينهم.[6] بل قد روي عن الرسول ﷺ أنه قال: «إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لكم فيها ذمة ورحما».[7] والرحم إشارة إلى أم إسماعيل عليه السلام هاجر المصرية. وفي رواية: «فإن لكم فيها ذمة وصهرا» إشارة إلى مارية القبطية. [8]

وقد انتشر الإسلام في إفريقيا على أيدي القادة أمثال عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقتيبة بن مسلم وعقبة بن نافع حيث إنهم وصلوا إلى تونس والمغرب وهناك من وصل إلى موريتانيا.[9]

المذاهب الفقهية في إفريقيا

بعد عصر الصحابة والتابعين انتشر الإسلام في بلدان أخرى خارج الجزيرة العربية حتى جاء عصر المجتهدين، فتكونت مجموعة من المذاهب الفقهية لكن شاء الله أن ينقرض أغلبها وبقيت المذاهب السنية الأربعة. هذه المذاهب الأربعة تنتمي إلى أئمتها وهم الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد ابن حنبل.

ثم إن الإمام مالكا صنف كتابه الموطأ واختار ما صح من حديث أهل الحجاز وبوبه على أبواب الفقه فكان كتابا حديثيا فقهيا، ويعتبر أول تدوين في هذا الشأن. ومذهبه انتشر في إفريقيا عن طريق طلابه. والعالم الفقيه سحنون له الفضل في نشر المذهب في المغرب والأندلس وكان قاضيا لفترة. ومع مرور الزمن أصبح مذهب الإمام مالك المذهب الرئيسي في كثير من الدول الإفريقية مثل المغرب وتونس والسودان والسنغال ونيجيريا وموريتانيا.[10] وقد عانى أهل المذهب من الضغط ومحاولات القضاء عليه وذلك من الشيعة في مصر وكذلك من الموحدين في المغرب لكن فشلت تلك المحاولات؛ لأن الجمهور من أهل البلاد رفضوا التسليم لهذا الأمر[11].

أما المذهب الآخر الذي وجد قبولا في إفريقيا هو المذهب الشافعي؛ إذ إن الإمام الشافعي قد استقر في آخر عمره في مصر وبها توفي. ومذهبه قد وصل إلى زنجبار والصومال.[12]

أما المذهب الحنفي فقد وصل إلى إفريقيا عن طريق جهود القاضي أبي يوسف حيث كانت تسمية القضاة راجعة إليه من خراسان إلى إفريقيا وهو قد صنف كتبا في المذهب ونشر علمه في جميع الأقطار. ويعتبر من أبرز تلاميذ الإمام أبي حنيفة. وفي القرون الأخيرة زادت شوكة هذا المذهب بسبب الدولة العثمانية.[13]

هذه المذاهب الفقهية مبنية على العلم الصحيح والفهم والفقه لأصول الشريعة. لذا فكل منها يساند ويقف مع التسامح والتعايش، والدليل على ذلك أنه قد روي عنهم أقوال مثل: «اختلاف أمتي رحمة»[14] ويظهر أدبهم مع بعضهم رغم الاختلاف في المسائل الفقهية. ومن الأمثلة على ذلك الرسائل المتبادلة بين الإمام مالك والإمام الليث بن سعد وأقوال الإمام الشافعي عن الإمام مالك وعن القاضي أبي يوسف وعن الإمام أحمد.[15]

المذاهب العقدية في إفريقيا

مع انتشار الإسلام في البلاد غير العربية صار هناك كثير من أصحاب الأديان الأخرى وأصحاب الفلسفات الأخرى ممن اعتنقوا الإسلام. فكثيرا ما خلطوا بين أفكارهم ومعتقداتهم الأولى وبين التعاليم الإسلامية. فوجدت المعتزلة الذين قالوا بأن الفاسق بالمنزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر والخوارج الذين كفروا صاحب الكبيرة.[16]

فتصدى لهؤلاء مجموعة من الأعلام من علماء المسلمين ومن بينهم الإمام أبو الحسن الأشعري والإمام أبو منصور الماتريدي.[17] فأصبح هذان المذهبان المنتسبان إليهما هما أساس أهل السنة والجماعة والطريق الوسط المعتدل بين المعتزلة والخوارج. حيث إن مذهب أهل السنة والجماعة هو عدم إخراج أحد من الملة بذنب ارتكبه وكذا عدم إخراجه من الإسلام إلا بإنكار أو جحود ما أدخله فيه.[18]

أخذ أبو الحسن الأشعري علم الكلام من زوج أمه وهو أبو علي الجبائي الذي كان من كبار علماء المعتزلة. وتبحر في مذهب الاعتزال ثم تركه. وقد رد قواعد الاعتزال بالبراهين العقلية وضمها إلى نصوص الشريعة وبه اضمحلت شبه المعتزلة. وبعض ممن ترجموا له ذكر أنه كان يتبع مذهب الإمام مالك في الفقه وهناك من يقول إنه كان على المذهب الشافعي.[19] وقد أخذ عن أبي الحسن تلميذه أبو عبد الله ابن مجاهد الطائي البصري (تـ.  370هـ) وهو من أئمة المالكية وقد أخذ عنه القاضي أبو بكر الباقلاني (تـ. 402هـ).[20]

فأول من أدخل الأشعرية إلى الحجاز هو الفقيه المالكي أبو ذر الهروي (تـ. 435هـ).[21] وأول من أدخل الأشعرية إلى المغرب والأندلس هم تلاميذ أبي ذر الهروي وعلى رأسهم القاضي أبو الوليد الباجي (تـ. 474هـ) وأبو بكر بن العربي (تـ. 543هـ). وهما قد أخذا عن أبي ذر الهروي أولا ثم نشرا المذهب في المغرب. وفي القيروان كان هناك عدد من تلاميذ أبي بكر الباقلاني.[22] ثم إن صلاح الدين الأيوبي ممن نشر المذهب الأشعري في مصر حينما حكمها.[23]

فهكذا وصل المذهب الأشعري إلى إفريقيا والأندلس لكنه انتشر بدعم السلاطين وذلك بعد دولة المرابطين وسيطرة دولة ابن تومرت أو الموحدين. وابن تومرت هو من تلاميذ الإمام أبي حامد الغزالي (تـ 505هـ).[24] والإمام الغزالي من كبار أئمة الأشاعرة ومن علماء التصوف والفقه الشافعي.[25]

ثم جاء نظام الملك (تـ 485هـ) وزير السلطان ألب أرسلان ونصر الأشعرية وبنى المدرسة النظامية. فوجد أن غالبية أئمة الحديث والأثر من أتباع المذهب الشافعي في الفقه.[26] وفي مصر نشر المذهب الأشعري صلاح الدين الأيوبي بعد أن قضى على الدولة العبيدية.[27]

الطرق الصوفية في إفريقيا

التصوف في الأصل فلسفة كمالية لعلمي التوحيد والفقه فهو عملي رياضي أكثر منه علمي. والأساس فيه هو حديث جبريل الذي فيه وجه جبريل عدة أسئلة إلى الرسول ﷺ ومنها سؤاله إياه عن الاحسان. وقد أجابه الرسول ﷺ بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».[28] ثم إن الغاية من التصوف هي التخلية والتحلية؛ أي أن يتخلى الإنسان عن الأخلاق الرذيلة وأن يتزود الإنسان بالأخلاق الحميدة.[29] ثم دون العلماء كتبا في هذا العلم مثل “الرسالة” للإمام القشيري، و”إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي، وكتب الشيخ عبد القادر الجيلاني وغيرها. وقد تأثر الإمام أبو الحسن الأشعري بالإمام أبي عبد الله الحارث المحاسبي وبه جمع بين العقيدة والتصوف.[30]

فجميع الطرق الصوفية الموجودة راجعة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني أو إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي أو إلى الشيخ بهاء الدين نقشبند وكتب الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري والشيخ أحمد زروق.[31]

وقد حذر كثير من علماء التصوف من أن يصبح التصوف مجرد نسبة إلى طريقة ما مع التزام لباس خاص. لذا قال أبو مدين:

واعلم بـأن طريق القوم دراسـة *** وحال من يدعيها اليوم كيف ترى[32]

التزم المسلمون في غرب إفريقيا بالمذهب الأشعري والمذهب المالكي ثم دخلت الطرق الصوفية إلى هذه المنطقة في القرن الخامس عشر الميلادي على أيدي رجال من توات الذين استقروا في تنبوكتو (مالي)، ومن أشهر الرجال جبريل بن عمرو الذي تتلمذ عليه عثمان ابن فوديو مؤسس الدولة الإسلامية في نيجيريا.[33] قال الشيخ أحمد سكيرج عن الطرق الصوفية:[34]

لو لم تكن طرق الأذكار منتشرة *** لعمر الكفر بالتبشير أوطانا

ولا يزال بها الإسلام منتشرة *** بالحق منتصرا قد فاق أديانا

وإن أعانت ذوي التبشير شرذمة ***  قد صيروها لهدم الدين أعوانا

رامت قضاء على الطرق التي نصرت ***  ليخلو الجو للتبشير إعلانا

وأغلب المسلمين في غرب إفريقيا يلتزمون بإحدى الطرق الصوفية وعلى رأس هذه الطرق القادرية والتيجانية والسنوسية.[35] وقد تأثر كثير من مسلمي إفريقيا بتصوف أهل المغرب وخاصة الشيخ عبد السلام بن مشيش والشيخ أبا الحسن الشاذلي.[36] فتوحد المسلمون في العقيدة والمذهب الفقهي والطريقة الصوفية. ثم إن هؤلاء المربون من الصوفية هم الذين واجهوا وقاوموا حملات الاستعمار. وقد انتشر الإسلام على أيدي الدعاة من الصوفية الذين كانوا يجوبون بلاد إفريقيا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.[37]

دخول الإسلام إلى جنوب إفريقيا

أما دولة جنوب إفريقيا فقد دخل الإسلام إليها متأخرا عن دخوله إلى شمال وغرب إفريقيا، والسبب أن دولة هولاندا قد استعمرت إندونيسيا وهي دولة أغلب سكانها مسلمون. ومسلمو إندونيسيا على المذهب الأشعري في العقيدة ويتبعون المذهب الشافعي في الفقه ولهم صلة قوية بالتصوف وخاصة الطريقة با علوية على منهج أهل حضرموت في اليمن.[38] وقد وصل الإسلام إلى إندونيسيا عن طريق التجار والصوفية وكان ذلك سلما بدون قتال. لذلك فإن أول تجربة أهل البلد مع الإسلام والمسلمين هو التعايش.[39]

وقد قام المسلمون بمواجهة ومقاومة هذا الاستعمار، ومن بين هؤلاء عدد من العلماء وعلى رأسهم الشيخ يوسف المقاصري الخلوتي الذي ولد في 1626م في سولاويسي في إندونيسيا.4 أما الشيخ يوسف فقد درس في إندونيسيا حيث إنه تلقى العلم والتصوف من السيد با علوي بن عبد الله ومن جلال الدين عيديد. ثم تابع مساره العلمي ونهل من المعين الصافي؛ إذ إنه سافر إلى بلاد الحرمين وأخذ عن كبار العلماء هناك. وفي المدينة المنورة أخذ عن الشيخ إبراهيم الكوراني الكردي وأحمد القشاشي وغيرهما. فهناك ترسخت العقيدة الأشعرية والتوجه الصوفي في نفسه حيث إنه أخذ الطريقة الشطارية من الشيخ الكوراني. ثم إنه تجول في البلاد وأخذ الطريقة النقشبندية من أحد علماء زبيد، والطريقة آل باعلوية من السيد علي في اليمن والطريقة الخلوتية من الشيخ أيوب بن أحمد الدمشقي وهو الذي لقب الشيخ يوسف بالتاج الخلوتي. ويذكر البعض أنه لقي الشيخ الصوفي نور الدين بن الحسن الرنيري في مدينة كجرات في الهند وأخذ عنه. ويذكر المترجمون له أنه تجول في البلاد ما بين 20 و26 سنة.[40] ومن المعلوم أن معظم هؤلاء العلماء من الأشاعرة أو الماتريدية وهم أتباع أحد المذاهب الفقهية الأربعة ومن الصوفية.

عاد الشيخ يوسف إلى بلده واستمر في نشر العلم والتصوف وفي مواجهة الاحتلال والاستعمار إلى أن قبضت عليه السلطات الهولاندية في 1686م واعتقلوه في جزيرة سري لانكا لمدة عشر سنوات. وهناك ألف كثيرا من كتبه وأكثرها في التصوف. وبعض عناوينها هي: الفوائد اليوسوفية في بيان تحقيق الصوفية، وكتاب: مطالب السالكين، وكتاب: تاج الأسرار، وغيرها. وقد بلغت ما بين 17 و 23 مؤلفا.[41] وبعد فترة هناك نفته هولاندا مع مجموعة من أفراد أسرته وبعض أهل العلم إلى رأس الرجاء الصالح في مدينة كيب تاون في جنوب إفريقيا. فهكذا وصل إلى البلد أول عالم مسلم معتقلا في 1689م.[42] والجدير بالذكر أن الشيخ يوسف قد ألف عدة كتب قبل وصوله إلى جنوب إفريقيا وقد ألفها باللغة العربية ولغة بهاسا ملايو واللغة البغيسية.[43] لكن عندما وصل البلد وجد أن البيئة غير صالحة فقام بدعوة الناس إلى الإسلام وحثهم على الأذكار والأوراد عن طريق الأنغام.

هكذا حافظ المسلمون الأوائل على الدين الإسلامي إذ إن ممارسته كانت ممنوعة ثم رفع الحظر عن ممارسة الإسلام لكن تمسك المسلمون في المنطقة بهذه الأوراد إلى يومنا هذا حيث يجتمعون في المساجد والبيوت ويرددون تلك الأوراد. ومن أشهر هذه الأوراد ما يعرف براتب الإمام الحداد الذي كان من اليمن.[44]

وهكذا فإن أصل الإسلام في جنوب إفريقيا مبني على العقيدة الأشعرية والمذهب الشافعي والطريقة الصوفية.

صلة المتأخرين من المسلمين بمنهج الأوائل وعدم التمييز بين الإصلاح وآراء المخالفين

عندما ازداد عدد المسلمين وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف في عام 1699م قدموا طلبا إلى رئيس بلدية مدينة كيب تاون وطلبوا منه أن يطلب من الدولة العثمانية أن تبعث إلى كيب تاون من يعلمهم أمور دينهم. فقد تم بعث الشيخ أبي بكر أفندي في 1862م الذي كان على مذهب أهل السنة في الاعتقاد وكان عالما بالمذهبين الحنفي والشافعي. وقد أسس مدرسة التوحيد العثمانية في كيب تاون. وألف كتابا مهما بعنوان: «بيان الدين» الذي كان مقررا تدريسه وكان في الفقه الحنفي.[45]

ثم وجدنا من الذين اعتنقوا الإسلام من كان حريصا على تعليم أبنائهم. ومن بين هؤلاء محمد صالح هندركس الذي سافر في 1888م إلى مكة المكرمة لدراسة العلوم الإسلامية. وفي ذلك الوقت كانت مكة تحت العثمانيين وكان التصوف غالبا فيها. فقد أخذ محمد صالح العلم والتصوف من أعلام أمثال الشيخ أبي بكر شطا والشيخ عمر باجنيد وغيرهم. وكان على الطريقة الباعلوية وتكونت علاقة إيمانية علمية روحية بينه وبين أسرة الشيخ محمد علوي المالكي المتوفى في 2005م. وهذه العلاقة استمرت إلى يومنا هذا مع أحفاده أمثال الشيخ سراج هندركس الذي توفي في 2020م. وبعدما رجع الشيخ محمد صالح إلى كيب تاون بدأ يعلم الناس أمور دينهم ويعقد مجالس الذكر حيث أقرأ إحياء علوم الدين ومولد البرزنجي والتفسير وغيرها.2 هكذا استمر اعتقاد أهل السنة والمذاهب الفقهية والتصوف شعار المسلمين في جنوب إفريقيا.

وبعد وصول المسلمين الأوائل من إندونيسيا بأكثر من مئة عام وصل المسلمون من الهند.[46] ومن المعلوم أن الإسلام قد وصل إلى الهند قديما حيث بدأ الفتح الإسلامي في هذه المنطقة في زمن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك في عام 636م الموافق 15ه.[47] وأما من حيث المذاهب فإن مسلمي الهند على مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد ومن أتباع المذهبين الحنفي والشافعي وكثير منهم ممن سلكوا الطريقة القادرية أو الجشتية أو النقشبندية.[48] فلهذا كان التسامح والتعايش ميزتهم كذلك إلى أن ظهر متحمسون تأثروا ببعض آراء المخالفين وأرادوا أن يصلحوا بعض المخالفات في نظرهم فصار البعض يكفر أو يفسق الآخر. وعندما هاجر الهنود إلى جنوب إفريقيا حملوا معهم هذه الخلافات. ومن ثم فهي دخيلة وغريبة على أساس الإسلام في البلد وتمثلها المدرستان الديوبندية والبريلوية.[49]

ودولة بريطانيا كانت قد سيطرت على الهند وجاءت بالهنود في عام 1860م من أجل أن يعملوا في مزارع قصب السكر في منطقة دربن على الساحل الشرقي من جنوب إفريقيا.[50] فهؤلاء الذين وصلوا من الهند من المسلمين كان فيهم من تمسك بمنهج سلفهم في الاعتقاد والتصوف ومنهم من شذ عن الجماعة. وكانت هناك هجرات أخرى من شعوب من أصول أفريقية ومن بين هؤلاء مجموعة من زنجبار الذين وصلوا البلد في 1837م.[51]

ثم إن أغلب سكان دولة جنوب إفريقيا عانوا من التمييز العنصري لسنوات عديدة وقد ألغي هذا النظام في 1991م.

فلم يكن للمسلمين عاصم من هذا الواقع الاجتماعي فتمزقوا في كل نواحي البلاد حسب النظام. لكن رغم ذلك استطاع المسلمون التعايش السلمي مع بني عرقيتهم واستمرت روح التعايش إلى الوقت الحاضر. رغم هذا الماضي الأليم بقي التسامح والتعايش سمة لأكثر المسلمين في البلد.[52]

الخاتمة

اتفق المسلمون في قارة إفريقيا عموما على المذهب الأشعري وأحد المذاهب الفقهية المعتبرة وإحدى الطرق الصوفية، وفي جنوب إفريقيا على الخصوص اتفقوا على المذهبين الأشعري والماتريدي، والمذهب الحنفي والشافعي في الفقه وإحدى الطرق الصوفية. وينبغي أن نحافظ على هذه الروابط والثوابت التي تجمعنا وبها نستمد العون من الله تعالى كما ورد في الحديث أن رسول الله قال: «يد الله مع الجماعة»[53] وبالتالي نتغلب على الفرقة والخلاف الذي يريد أن يزيل التسامح الذي صار شعارا لنا في قارتنا ويهز كيان الإسلام.

الهوامش

[1] – فقه السيرة، ص.125.

[2] – السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص.197.

[3] – أطلس السيرة، ص.62.

[4] السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص. 207.

[5] صحيح مسلم، رقم الحديث 951.

[6] الموسوعة في التاريخ الاسلامي1 /101 – 102.

[7] – المستدرك، رقم الحديث 4032.

[8] – ابن عساكر والموسوعة 1 /102.

[9] – الموسوعة 1/ 209.

[10] – المذاهب الفقهية، ص. 99 – 103، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/ 98.

[11] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2 /71.

[12] – المذاهب الفقهية، ص. 129.

[13] – الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2 /433.

[14] المقاصد الحسنة، ص. 46، وأدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ص. 115.

[15] والانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص. 73,136,23 نماذج من رسائل الأئمة، ص. 33.

[16] الأساس في السنة، ص. 415 – 417.

[17] – الفرق والمذاهب، ص.67.

[18] – شرح العقيدة الطحاوية، ص. 106.

[19] – الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/501- 107.

[20] – سير أعلام النبلاء، 16/ 305.

[21] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/ 208.

[22] المصدر السابق، 2/ 208.

[23] المواعظ والاعتبار، 2 /358.

[24] – تاريخ ابن خلدون، 3/ 468.

[25] – المواعظ والاعتبار، 2 /358.

[26] – المواعظ والاعتبار، 4 /166 – 167.

[27] – الوسائل إلى مسامرة الأوائل، ص.15.

[28] صحيح مسلم، رقم الحديث 36.

[29] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2 /58، ورسالة المسترشدين، ص. 24.

[30] المذهب الأشعري: أساسياته ومقاصده، ص. 2

[31] – المصدر السابق، 2 /59.

[32] – المصدر السابق، 2 /63.

[33] – التصوف الاسلامي في غرب إفريقيا، ص.22.

[34] المصدر السابق، ص.23.

[35] المصدر السابق، ص.23.

[36] المصدر السابق، ص. 23.

[37] – المصدر السابق، ص. 26.

[38] حاضر العالم الاسلامي، 1 /343.

[39] A critical biography of Sh. Yusuf p. 2. 25. المصدر السابق، ص4

[40] Al-Makassari’s thought on al-Insan al-Kamil p. 12-15 –

[41]. A critical biography of Sh. Yusuf p. 30, 59 & al-Makassari’s thought on al-Insan al-Kamil p. 15-18 –

[42] – المصدر السابق، ص.30 – 35.

[43] – المصدر السابق، ص. 18.

[44] Shaykh Yusuf of Macassar; Scholar, Sufi, National Hero: p. 169-170 –

[45] Pages from Cape Muslim History p. 81-102 -.113 – 103، المصدر السابق2

[46] الاسلام والمسلمون في جنوب افريقيا، ص. 2.

[47] – اسهامات علماء حضرموت في نشر الاسلام وعلومه في الهند، ص.32.

[48] – المصدر السابق، ص. 37 – 41.

[49] – الاسلام والمسلمون في جنوب افريقيا، ص. 8.

[50] – الاسلام والمسلمون في جنوب افريقيا، ص. 2.

[51] – الأقلية المسلمة في دول جنوب إفريقيا.

[52] الاسلام والمسلمون في جنوب افريقيا، ص. 4.

[53] تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي حديث 2255

المراجع العربية:

  • أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين: محمد عوامة – دار المنهاج – جدة – 2009م.
  • الأساس في السنة وفقهها: سعيد حوى – دار السلام للطباعة والنشر – القاهرة – 1992م.
  • الإسلام والمسلمون في جنوب إفريقيا: عادل جعفر، مجلة قراءات إفريقية، العدد 34، محرم – ربيع الأول 1439 هـ/ أكتوبر- ديسمبر 2017م.
  • إسهامات علماء حضرموت في نشر الإسلام وعلومه في الهند: محمد أبو بكر باذيب – دار الفتح – الأردن – 2014م.
  • أطلس السيرة النبوية: شوقي أبو خليل – دار الفكر – دمشق – 2003م.
  • الأقلية المسلمة في دول جنوب إفريقيا: أحمد الخاني – 2014م
  • الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: أبو عمر يوسف ابن عبد البر القرطبي – دار الكتب العلمية – بيروت.
  • تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي: محمد عبد الرحمن المباركفوري – دار الكتب العلمية – بيروت.
  • التصوف الإسلامي في غرب إفريقيا: موسى عبد السلام أبيكن – جامعة مستغانم مجلة حوليات التراث – الجزائر- 2013م.
  • حاضر العالم الإسلامي: شكيب أرسلان – دار الفكر – بيروت – 1972م.
  • خمس رسائل في الفرق والمذاهب: شمس الدين ابن كمال باشا – دار السلام للطباعة والنشر- مصر – 2005م.
  • رسالة المسترشدين: الحارث المحاسبي، مع تحقيق عبد الفتاح أبوغدة – دار البشائر الإسلامية – بيروت – 2005م.
  • السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: مهدي رزق الله أحمد – مركز الملك فيصل للبحوث – الرياض – 1992م.
  • شرح العقيدة الطحاوية: عبد الغني الغنيمي الميداني – دار الفكر- دمشق – 1992م.
  • صحيح مسلم: يحيى ابن شرف النووي – دار القلم – بيروت.
  • الطبقات الكبرى: محمد بن سعد – دار الكتب العلمية – بيروت – 1990م.
  • فقه السيرة: محمد سعيد رمضان البوطي – دار الفكر – بيروت – 1990م.
  • الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد بن الحسن الحجوي الفاسي – المكتبة العلمية – المدينة المنورة – 1977م.
  • المذاهب الفقهية، تعريف موجز بالمذاهب الفقهية الأربعة وبغيرها من المذاهب: محمد فوزي فيض الله – دار القلم – دمشق – 2001م.
  • المذهب الأشعري: أساسياته ومقاصده: عبد القادر بطار، منشور بموقع محمد السادس للعلماء الأفارقة.
  • المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري – دار الكتب العلمية – بيروت – 2002م.
  • المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: محمد عبد الرحمن السخاوي – دار الكتاب العربي – بيروت – 1994م.
  • المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: المقريزي – مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة – 1987م.
  • الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي: راغب السرجاني – مؤسسة اقرأ – القاهرة – 2007م.
  • نماذج من رسائل أئمة السلف وأدبهم العلمي: عبد الفتاح أبو غدة – دار البشائر الإسلامية – بيروت – 1999م.
  • الوسائل إلى مسامرة الأوائل: جلال الدين السيوطي – دار الكتب العلمية – بيروت – 1986م.

الإنجليزية:

  1. A critical biography of Shaykh Yusuf: Suleman Dangor, University of Durban-Westville, 1981. (submitted for MA in Islamic Studies)
  2. Al-Makassari’s thought on al-Insan al-Kamil: Abdul Kun Ali, Universiti Teknologi Malaysia, 2016. (submitted for MA in Philosophy)
  3. Pages from Cape Muslim History: Yusuf da Costa & Achmat Davids – Naqshbandi-Muhammadi South Africa, Gatesville, 2005
  4. Shaykh Yusuf of Macassar; Scholar, Sufi, National Hero: Towards constructing local identity and history at the Cape: Armien Cassiem, Kawalu: Journal of Local Culture, vol. 1, no. 2 (July-December 2014)

 

تحميل المقال بصيغة PDF