مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

نص الدرس الافتتاحي للدروس الحسنية الرمضانية الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد التوفيق في موضوع: “إسهام النساء في بناء ثقافة الإسلام الروحية” بين يدي أمير المؤمنين 03 رمضان 1437هـ الموافق 09 يونيو 2016م

الأستاذ أحمد التوفيق
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحابته الأكرمين مولاي أمير المؤمنين

لقد تفضل جنابكم الشريف بالإذن لخديمكم هذا بالكلام حول روحانية المرأة في الإسلام، ويشهد الناس أمام الله أن تكريمكم للمرأة بالاعتبار والحقوق والتمكين في جميع الميادين وفي مقدمتها تأطير الدين هو المظهر الأسمى لرعاية هذه الروحانية التي هي إرث من إرث جدكم المصطفى عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.

مولاي أمير المؤمنين

يذكر مؤرخو السيرة النبوية، أن بعض نساء رسول الله صلى عليه وسلم، ولعلها أم سلمة، حسب رواية النسائي وأحمد، قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: “ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟” وكان من التصور أن يجيبها صلى الله عليه وسلم بأن الخطاب القرآني كله، ما لم يخصص، موجه إلى الرجال والنساء على السواء، غير أن الجواب عن السيدة السائلة جاء من السماء، إذ نزل قوله تعالى من سورة الأحزاب: ﴿إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمومنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ [سورة الأحزاب، الآية 35].

إن هذه الآية حكم بالمساواة في التأهيل الإلهي الروحاني للرجال والنساء، مساواة في التعبد، أعمالا وأحوالا، وفي ثمرة التعبد، وهي المغفرة والأجر العظيم.

وبهذا الحكم لا تحتاج نساء الإسلام إلى من يتكلف الدفاع عنهن في باب المساواة المعيارية، أما الواقع التاريخي الذي عاشته النساء فمسئوليته على البشر الفاعلين في التاريخ، وكل نقص أو تنقيص فيه مرده إما إلى القصور في الاستماع للوحي، وإما إلى التعسف في تأويله.

وسنبسط هذا الدرس في مقدمتين وأربعة محاور، المقدمة الأولى في شرح المقصود بروحانية الإسلام، والمقدمة الثانية في بيان الشروط التي هيأ بها الإسلام لإمكان تحقق النساء بروحانيتهن، والمحور الأول في حضور النساء في عهد التأسيس، والمحور الثاني في إسهام النساء في عهد التخصيص، والمحور الثالث في مآل روحانية النساء في عهد التكريس، والمحور الرابع في معنى الحديث عن روحانية النساء في الوقت الراهن.

المقدمة الأولى: في شرح المقصود بروحانية الإسلام

لم ترد في القرآن كلمة “روحانية”، إنما وردت كلمة “دين”، غير أن للروحانية مفردات كثيرة في كتاب الله تدور على الخوف والرجاء وعلى الصلاة والذكر والتدبر والدعاء، ولكن الآيات القرآنية التي تشرح من الدين ما يتعلق بالغرض الذي من أجله خلق الإنسان وبعث الرسل عليهم السلام، تبين أن الروحانية هي آفاق التحقق بالدين، تحققا تؤهل له الفرائض وتقرب منه النوافل وسائر الخيرات. إن كلمة ” روحانية” في عصرنا تترجم عادة كلمة” spirituality ” كما تستعمل عند أهل الأديان الأخرى، غير أنها في الإسلام هي في نفس الوقت أصل جوهري وأفق اكتمالي، وليست مسارا مستقلا أو بديلا. ولتوضيح ذلك نبدأ بقراءة قوله تعالى:

﴿هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ [سورة الجمعة، الآية 02].

ونفهم منه أن الحاجة إلى بعثة الرسُل تكون بعد وقوع الفساد، الأمر الذي يجعل المبعوث في موقف طبيب يشخص المرض ويصف الدواء، وإذا كان الدواء أربعة أصناف مثلما جاء في الآية، أي تلاوة الآيات والتزكية وتعلم الكتاب والحكمة، فإن الوصول إلى الصحة الروحانية لا يكون إلا بهذا الدواء متكاملا، ولكن العنصر المركزي في الدواء هنا هو “التزكية” وهي التمرين على الاستعداد الباطني للاستماع للآيات وتعلم الكتاب والحكمة، وكلما نقص هذا التمرين كانت النتيجة هي ما نراه من التناقض بين الانتماء وقلة الحمل، وقد وصف أقوام في التاريخ بأنهم: ﴿حملوا التوراة ثم لم يحملوها﴾ [سورة الجمعة، الآية 05].

ثم نقف على قوله تعالى: ﴿قد اَفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى، بل توثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى، إن هذا لفي الصحف الاولى صحف إبراهيم وموسى﴾ [سورة الأعلى، من الآية 15 إلى الآية 19].

فنجد “التزكية” مرتبطة بكلمة مركزية أخرى هي “الفلاح”، ومعناه في تعبير وقتنا “النجاح”، كما يظهر في هذا القول الإلهي ارتباط هذه الحياة الأولى بالحياة الآخرة بعد الموت، إذ تتدخل الآخرة في الأولى، لا لنفيها وتبخيسها، ولكن لتقيم ميزان الاعتدال، نظرا لما خلق في الإنسان من الميل لكسر هذا الميزان. ولابد من التوقف عند صيغة الفعل “تزكى”، لأنها تقرر مسئولية الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، في القيام بهذا المجهود الذي وصف في التراث الإسلامي ب “الجهاد الأكبر “والذي به يتحقق السلم بين الإنسان ونفسه وبينه وبين غيره، وهي حقيقة سبق تقرير مضمونها في صحف إبراهيم وموسى.

والسؤال المترتب عن هذا التقرير هو الآتي: من أي شيء يا ترى تنبغي التزكية أي التطهر؟ وأين يكمن هذا الشيء المراد التحرر منه؟ نجد الجواب في قول الله تعالى:

﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ [سورة التغابن، الآية 16].

فنعلم أن هذه الآلية التحويلية وهي التزكية تشتغل على النفس لتخلصها من الشح، والنفس فضاء باطني في الإنسان، ولما كان الشح ضد العطاء فإن الفلاح يكون بالتحلي بالعطاء، والإنسان بصفة عامة واع بوجود هذا الميل في نفسه، لذلك نسمع من الناس العاديين في وقتنا من يستعمل عبارة “التهذيب الذاتي “le travail sur soi، وهذا التهذيب يستنفر الشعور الذي به يخرج التدين من طقس D’une mécanique à une thérapeutique،، إلى سيرورة استشفاء

ولقد درس صاحب كتاب “الاهتمام بالذات “Le souci de Soi، فكرة محاسبة النفس في فكر الإغريق والرومان، وما لها من مظاهر قانونية وطبية وتدبيرية، وهو اهتمام يدور على ضبط مد النزوات والاكتفاء بالقليل. أما محاسبة النفس في الإسلام فهي في مقام الجهاد الأكبر، ففي قوله تعالى: ﴿فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾ [سورة النازعات، من الآية 36 إلى الآية 40].

بيان ما هو أعظم من مجرد النزوات، وهو مرض القلب بالطغيان الذي هو من مظاهر الشح الكبرى، وهو حالة لا يداويها العقل المجرد إذا لم يصاحبه الخوف من مقام الله بنهي النفس عن الهوى، إنها الخشية المرتبطة بتوحيد الله في الضمير والتي بها يتم التحرر الحق من جميع المخاوف الأخرى.

وفي قوله تعالى: ﴿أرايت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا﴾ [سورة الفرقان، الآية 43]. يظهر خطر الهوى في التشويش على جوهر الدين وهو التوحيد، لأن الضغط أو الجاذبية التي تمارسها النفس على الإنسان تجعل التعلقات ومنها التملكات والأغيار بجميع أنواعها تنتصب آلهة في حياة الإنسان من دون الله. وهكذا نخلص إلى القول بأن روحانية الإسلام هي التحقق بالتوحيد بإعمال التزكية لتطهير النفس من الهوى من أجل التحلي بخلق العطاء.

المقدمة الثانية: في الشروط التي مهد بها الإسلام للنساء للتحقق بروحانيتهن.

لا شك أن الكلام عن النساء في وقتنا الحاضر يدور حول الحقوق، فما هي العلاقة يا ترى بين الحقوق وروحانية الإسلام؟

يشترك الرجال والنساء في التكريم الإلهي الأصلي وفي التأهيل للمقامات الروحانية كما رأينا، ولكن نظر الرجل إلى المرأة كان يصوغه عاملان: ثقافة البيئة من جهة، وتصورات تسربت إلى المسلمين من ثقافة الحضارات القديمة من جهة أخرى، فمن هذه التصورات أن المرأة أداة لتضليل الصالحين في ارتباط بالغريزة الجنسية، وترتب عن هذا الاعتقاد على حد قول الدكتور هيثم الخياط ترحيل المرأة من عالم الخير إلى عالم الشر، والزعم أن ذلك بدأ بإضلال الإنسان الأول، ومعلوم أن الإسلام لا يُحَمل المرأة مسئولية ذلك الهبوط، وإن كنا إلى اليوم نرى في جدران بعض المحلات رسوما تمثل آدم وتمثل حواء وهي تتمنطق بأفعى تحت شجرة التفاح. إن هذا الفهم قد تسلل حتى إلى عقلية بعض الفقهاء فوجدوا له مصطلح “الفتنة”، بمعنى تحريف الإنسان عن الطريق السوي.

أما ما قرره الإسلام واجتهد فيه فيقوم على أن العلاقة بين الزوجين تنطلق من المحبة بين الله والناس والمحبة بين الناس فيما بينهم، ضمن مساواة في أصل الخلقة، فقوله تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء﴾ [سورة النساء، الآية 01]. ورد له تفسيران: الأول أن آدم خلق من حواء، ويستشهد له بالحديث، والثاني أن حواء قد خلقت من نفس جنس آدم، وليست مخلوقة من آدم.

أما وجوه المساواة في أمور الحياة فتتجلى في المسئولية، وفي الولاية العامة، وفي ممارسة العمل المهني، وفي الأجر، وفي حق طلب العلم، وفي الأهلية القانونية، وفي الشهادة، وفي اختيار الزوج، وفي العمل المنزلي، وفي المشاركة في المناسبات العامة، أما بالنسبة للإرث ففيه عشرون حالة، أربع حالات ترث فيها المرأة أقل من الرجل، وسبع حالات ترث فيها مثل ما يرث، وترث أكثر من الرجل في عشر حالات، وترث في أربع حالات لا يرث فيها الرجل قط.

بعد تعريف الروحانية وشروط التمهيد لروحانية النساء، نذكر أن المقصود بإسهامهن في البناء هو الإسهام مثل الرجال تلقيا وفهما وتحليا وتعبيرا وإعطاء النماذج للآخرين، لأن الرجال والنساء على السواء تحلو بالروحانية بقدر تحيرهم أمام آيات الله في جلاله وجماله على منوال قول القائل:

زدني بفرط الحب فيك تحيرا   وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

بعد هذا نأتي إلى المحور الأول في روحانية النساء في عهد التأسيس، وينطبق على العصر النبوي، ويتميز بنزول الوحي وتحقيق مضمونه بالتزكية بفضل الحضور النوراني لسيد الورى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وفكرة المحبين أنه صلى الله عليه وسلم نموذج الإنسان الكامل، فلا سبيل لملامسة روحانية الإسلام لمن لم يعظم صاحب الخلق العظيم، فتأثيره تربوي نوراني لأنه لم يكن يخاطب العقل وحده، فقد جعله الله أسوة وجعل اتباعه شرطا في محبة الله حتى لا ينجرف الناس في روحانية جوفاء أو في أحوال جذب بعيدة عن رصانة السالكين.

وقبل ذكر حضور النساء في هذا المشهد لابد من أن نشير إلى أن الإسلام مشروع شامل كوني أبدي للسلم، فإبراهيم هو الذي وفقه الله لتسمية المنخرطين في هذا المشروع بالمسلمين، ولذلك فالنساء المذكورات في القرآن مع الأنبياء منذ عهد إبراهيم أسهمن في هذه الروحانية بعطائهن. فهؤلاء صنف ممن سنذكرهن، والنساء من أهل البيت صنف، والصحابيات صنف ثالث.

فمن الصنف الأول سارة زوجة إبراهيم الأولى، أول من آمن بشريعته. قاومت إغراء ملك مصر، رزقت بإسحاق معجزة وهي طاعنة السن. هكذا ارتبطت بمصير نبوي وبتصرف رباني على درب المعجزات.

ثم هاجر زوجته الثانية، ارتبطت بمصير روحاني لما صارت أما لإسماعيل، فقد ألهمت سعيا يشكل إلى اليوم أحد مشاعر الحج والعمرة، وبتضرعها نبع ماء زمزم، وصبرت لحكم الله لما كاد أن يذبح الصبي.

ثم ليا بنت النبي شعيب، التي تزوجها موسى، بصرت بنوره ومصيره وطلبت من أبيها خطبته، وقبل موسى مهرا لها أن يخدم أباها عشر سنين، وهاجرت معه، وكانت قريبة من الجبل والنار والتجلي.

ثم بلقيس ملكة اليمن، صاحبة مشاريع العمران وأول من أقام البرلمان، وصل خبرها إلى معاصرها النبي الملك سليمان، فوفدت عليه، ولما كانت منصفة عادلة قالت إني أسلمت مع سليمان لرب العالمين. فتبين بمثالها أن الروحانية بعمل الخير واتباع الحق وليست بمجرد التعبد في الصوامع.

ثم زليخا امرأة ملك مصر المعروف بالعزيز، تبنى زوجها يوسف عليه السلام، وقد عاشت روحانية المرأة الشديدة الإحساس بالجمال، سيما إذا كان مثل نور يوسف، وليس لها يد لا في خلقه ولا في تأثيره.

ثم مريم بنت عمران، أم عيسى كلمة الله. حملت به في أكبر المعجزات، فكل نطفة تحمل بها امرأة عادية إلا وتلبس في طور من الحمل روحا هي من الله أصلا من ذلك النفخ الأول، ولكن حمل مريم ليس من نطفة رجل، إنما تسامتها النساء في أهلية حمل الروح والروحانية.

إن قصص هؤلاء النساء لها حضور في الأدبيات الروحانية على نطاق شعبي واسع، لاسيما في المجال الممتد بين البلقان والبنغال، وذلك لما لها من رمزية وما فيها من عبر أخلاقية وقيم جمالية.

أما نساء بيت النبوة فنذكر منهن خمسا:

  • – والدته آمنة بنت وهب، عرف عنها ترددها في الصغر مع أبيها على الحرم بمكة، ورصدتها الفراسة في علاقة بالنذير المرتقب، ولا تغيب عن الاعتبار ملابسات زواجها المحمود بعبد الله المتوسم نور صلبه، ولم يقض الزوج مع آمنة العروس سوى أيام معدودة حملت أثناءها بمحمد، ثم سافر في ركب من التجار بعيدا في رحلة لم يأت منها سوى خبر وفاته. فكل حدث في هذا المصير ينطق ببعده الروحاني البليغ.
  • – خديجة بنت خويلد، ذات العفة والمال والأعمال، خادمة القدر المقدر في مرحلة بعثة نبي ينتظره الزمان، فقد رغبت في محمد على أساس أمانته، وكانت تكبره في السن. ولد له منها وسمعت بشائره، وحضرت نزول الوحي عليه برجفته وهيبته، عزرته وكانت أول من آمن به، وثبتته وثوقا بروحانيته وهي تقول: “والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.”
  • – عائشة بنت أبي بكر، أصغر من تزوج، وأعز من أحب، تعرضت للمحنة ونزل فيها القرآن، واسته في هجرته، روي عنها الكثير من هدي الدين وأحكامه، ولا أعظم ملمحا لروحانيتها من تحققها من حقيقته بقولها: “كان خلقه القرآن.”
  • – زينب بنت جحش، بنت عمة الرسول صلى الله عليه السلام، تزوجها بأمر السماء في الخبر المعروف. كانت قوة شخصيتها مقترنة بعمق روحانيتها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: “لم أر امرأة أكثر خيرا وأكبر صدقة وأوصل للرحم وأبذل لنفسها في كل شيء يتقرب به إلى الله تعالى من زينب.”

5 – فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. شملتها الآيات التي نزلت في آل البيت المطهرين. تزوجها علي ولم يكن يملك شيئا من متاع الحياة، وشاءت حكمة الله أن تكون الأصل المباشر في الحبل الذي امتد من النسب الشريف بين الناس، وكفاها ذلك روحانية وتشريفا. وقد أفعم مثالها السني جو المسلمين بعبق الروحانية عبر العصور.

أما الصحابيات فنكتفي بذكر خمس منهن تجمع بينهن مسائل تتعلق بالحقوق:

  • – أسماء بنت أبي بكر: اشتكت شدة الرجل فنصحت بالصبر، وكانت تقول لبناتها:

“أنفقن ولا تنتظرن الفضل”، وكانت تقول لولدها المضطهد عبد الله: “عش كريما ومت كريما.”

  • – خولة بنت مالك: اشتكت إلى الرسول ظلم زوج طلقها بظهار الجاهلية الذي يحرمها الحقوق، فنزل فيها قوله تعالى: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي﴾ [المجادلة/ الآية 1].

فكانت شكواها سببا في إلغاء ذلك النوع من الطلاق.

  • – حبيبة بنت زيد: حاول الرجال غمطها حقها فنزلت في قضيتها أحكام الإرث.
  • – أمة عبد الله بن رواحة: كانت سوداء فأمر رسول الله سيدها بعتقها والتزوج منها، فقال ناس من المسلمين: نكح أَمَة، فنزل: ﴿ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم [البقرة/ الآية 219]. وفي الآية إشادة بجمال الروح.
  • – الرميصاء أم سليم: أسلمت، ولما أراد أبو طلحة أن يتزوجها اشترطت عليه الإسلام، فكان ذلك مهرها. فأي روحانية أبلغ من هذه.

وبعد عهد التأسيس هذا ننتقل إلى المحور الثاني المتعلق بعهد التخصيص، ونقول: لقد تحققت التزكية كما بشر بها الوحي مقرونة بالتبليغ، فتحول بها الصحابة من أخلاق الجاهلية إلى مكارم الإسلام، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقع تبدل في أحوال المسلمين المادية والاجتماعية لم تواكبه طاقة مناسبة في التزكية، فظهرت تحديات من أعظمها إغراءات الإثراء وغياب التضامن المناسب، وبرزت الأنانية التي حذر منها الشرع وسماها ب “الهوى المطاع والشح المتبع. “وهذا لا يعني أن الأمة كانت كلها عاجزة عن فهم ما وقع، بل إن التعبير على ذلك الفهم جاء رد فعل في الصميم وهو رد حركة التزهد، ولكن الفضاء المتاح لتلك الحركة كان هو الهامش، وبدل أن تصبح الروحانية، أي كبح جماح الأنانية، هي مدار دين الأمة توقف الاهتمام في الأغلب عند العبادات في مظاهرها. ودخلت الروحانية في ما يمكن أن نسميه بعهد التخصيص، والتسمية يشفع لها كلام ابن خلدون حين يقول: “لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية.”

يمكن أن نستدل على إسهام النساء في روحانية هذا العصر بملاحظات على تراجم الزاهدات الواردة في آخر كتاب “طبقات الصوفية” لأبي عبد الرحمن السلمي المتوفى عام 412هـ. وعددهن 84، وإطارها الزمني هو القرون الأربعة الأولى، والسمات الروحانية الغالبة عليهن هي:

  • – المجاهدة في العبادة؛
  • – الزهد في الدنيا؛
  • – التجرد من الحظوظ حتى بالنسبة للآخرة؛
  • – تربية النفس؛
  • – خدمة الخلق وتعظيم حقوقهم؛
  • – الحرص على الكسب الحلال؛
  • – شكر النعمة سبيلا للمحبة؛
  • – الإنفاق؛
  • – الحكمة المتصلة بالذوق في المعرفة؛
  • – انتقاد المظاهر بما فيها مظاهر العلم وفصاحة الكلام.

ومن أقوال هؤلاء الصالحات، مما يزيد به هذا المجلس مسكا وعطرا، قول رابعة العدوية الشهيرة: “الباب مفتوح ولكن الشأن فيمن يريد أن يدخله”. ولا يتسع الوقت للكلام عن تأثير رابعة في روحانية الغرب، ونكتفي بالإشارة إلى أن رجل الدين والكاتب الفرنسي الشهير بوصويي كان يوجه تلميذه الأمير لوي دو فرانس ابن لويس الرابع عشر للتأمل في حكمة رابعة العدوية على غرار ما كان يفعله جده سانت لويس. وبعد رابعة ننقل عن مؤمنة بنت بهلول قولها: “استفدت أحوالي من اتباع أمر الله وسنة رسوله وتعظيم حقوق المسلمين والقيام بخدمة الصالحين”. وقول لبابة العابدة وهي من أهل الشام: “معرفة الله تورث المحبة، والمحبة تورث الشوق، والشوق يورث الأنس، والأنس يورث المداومة على خدمته وموافقته”. وعن أنيسة بنت عمر: “العمل يجب أن يكون معه ثلاثة أشياء: الإخلاص والصواب والسنة”. وعن أم الفضل الوهيطية: “العمل بالعلم في إخلاص العمل لله لا كثرة العبادات”. وعن أم علي بن حمشاذ: “الأكوان كلها أسباب لقطع العبيد عن مكونها”. ومن طريف الحكمة النسوية عند هؤلاء النساء ما حكي عن إحدى العابدات وكانت تسمى ذكارة أنها رأت يوم العيد رجلا يأكل الحلوى المسماة بالفالوذج، وهي مثل الشباكية عندنا، فقالت له: هل أصف لك نوعا من الفالوذج؟ خذ سكر العطاء ونشا الصفاء وماء الحياء وسمن المراقبة وزعفران الجزاء، وصف كل ذلك بمناخل الخوف والرجاء، وانصب تحته أفران الحزن وركب طناجير الكمد واعقده بأقفال الاعتبار وأوقد تحته نيران الزفير وأبسطه على الحذر حتى يضربه نسيم هواء التهجد، فإذا أكلت منه لقمة تصير من الأكياس، وتبرأ من الوسواس وحببك إلى صدور الناس.

وقد بهرت روحانية هؤلاء النساء أساتيذ العصر في الرقائق، فقد كان سفيان الثوري يسمي رابعة بالمؤدبة، وكان ذو النون المصري يقول عن فاطمة النيسابورية إنها أستاذته، وكان أبو سليمان الداراني يقول عن أم هارون الدمشقية: ما كنت أرى أن يكون بالشام مثل أم هارون. وأودع أبو سعيد الخراز أمة الحميد بن القاسم وصاياه، وأثنى الجنيد والنوري على فاطمة الملقبة بزيتونة، وقال أحمد بن حنبل: من أحب أن يعرف بعده عن سبيل الورعين فليدخل على زبدة ومضغة أختي بشر الحافي ويسمع من مسائلهما ويبصر طريقتهما.

وبعد تيار التخصص الزهدي تكرس استمرار روحانية الإسلام في أصناف من أهل الورع اشتهر من بينهم تيار التصوف، وهو موضوع المحور الثالث في الدرس، لم يتوقف هذا التيار عند المجاهدة بل سعى إلى التحقق والمشاهدة، ومع توالي القرون صار له إشعاع غامر على عموم الأمة حتى نالت ثقافته أطيافا من الجمهور الواسع، وقد تميز بالصرامة في الاستمداد من القرآن الكريم ومن مثال الكمال النبوي الظاهر والباطن، وجاءت التعابير عن تجربته بأذواق تجاوبت معها الأمة على قدر ما يناسب الأفراد والجماعات.

والذي لا جدال فيه هو أن الصوفية أقاموا دعوتهم على العنصرين اللذين انبنى عليهما تعريفنا للروحانية وهما:

  • التوحيد مع التحلي بأخلاقه؛
  • والتزكية التي تعتمد الترويض، ولاسيما عن طريق الذكر الذي يثمر اليقظة والشعور والمحاسبة.

وإذا كانت الرقابة والثقافة الغالبة ظلت تحد من مشاركة النساء في هذه الروحانية المكرسة، فإن رحاب التصوف مثلت مع ذلك الفضاء الأوسع لبروز النساء في الاندماج الروحي بجميع تجلياته. ولحضور النساء في هذه المرحلة ثلاثة مظاهر، مظهر عرفاني، ومظهر سلوكي ميداني، ومظهر جمالي وجداني.

أما المظهر العرفاني فيتمثل في نظر بعض العارفين في مقام المرأة في الوجود، ونقف عند بعض ما ذكره بهذا الصدد الشيخ الأندلسي محيي الدين بن عربي، وهو مغربي أيضا لأنه أقام بفاس ولقي أكابرها في عصره ولا سيما في مسجد عين الخيل الذي رمم أخيرا، وفي سفره إلى مراكش جاءه الفتح في الموقع المسمى بكيسر جنوبي مدينة سطات، إنه الشخصية العرفانية الأكثر شهرة في عصرنا هذا، وخلافا للاتهامات الموجهة إليه فإنه كان لا يرى انفصالا للحقيقة عن الشريعة، ولم يستعمل قط مصطلح “وحدة الوجود” الذي يشنع عليه.

يذكر ابن عربي المرأة بصدد شرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“حبب إلى من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة”، فيقول:

“فإنما حبب إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه… ولهذا قال

(حُبب…) ولم يقل: (أحببت)، لتعلق حبه بربه حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقا إلهيا.”

فشهود الرجل للحق في المرأة أتم وأكمل… لهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن… فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي، ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية فقد نقصه علم هذه الشهوة فكان صورة بلا روح عنده، وغاب عنه روح المسألة…فما أعلمه صلى الله عليه وسلم بالحقائق وما أشد رعايته للحقوق.

فمن عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن، فإنه ميراث نبوي وحب إلهي… فلما كانت الإنسانية حقيقة جامعة للرجل والمرأة لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانية… ففضل الرجل بالأكملية، لا بالكمالية.

فمنزلة المرأة من الرجل في أصل الإيجاد منزلة الرحم من الرحمان، والرحمة المجعولة هو ما يجده كل واحد من الزوجين من الحنان إلى صاحبه فيحن إليه ويسكن.

هذا نموذج من الحضور الروحاني للمرأة في نظر عرفان الإسلام، أما حضورها السلوكي الميداني فنذكر فيه ثلاثة أصناف هن الملهمات والمتصدقات والمبجلات.

فمن الصنف الأول نذكر بصفة عامة أن الكناية عن المعرفة أو الحقيقة الملهمة للطلب والشوق تكون باسم امرأة كما في قول القائل:

بها قيس لبنى هام بل كل عاشق      كمجنون ليلى أو كثير عزة

ثم نذكر ملهمتين حقيقيتين هما ابنة زاهر الإصبهاني واسمها النظام، وهي التي ألهمت ابن عربي ديوانه ترجمان الأشواق في مكة، وقد شرحه شرحا عرفانيا حتى لا يتهم بدون ما قصد إليه، وملهمة الجزولي “دلائل الخيرات” وهي امرأة من فاس عرف أنها بلغت مقامها الروحي بالإكثار من الصلاة على النبي المختار عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ونكتفي في ذكر المتصدقات بالإشارة إلى أميرات المغرب الواردة أسماؤهن في التاريخ على توالي العصور وما قمن به من بناء المرافق والجوامع والمدارس وما وقفنه من الأوقاف على مختلف الأغراض الروحانية النافعة.

أما المبجلات فنجد المئات من النساء اللائي عرف المغاربة لهن قدرا في الروحانية فبنوا على قبورهن قباب المزارات. فمن بين الأضرحة الموجودة في المغرب وعددها أزيد من خمسة آلاف، ما يقرب من مائة وخمسين ضريحا للنساء، ولو وقع البحث عن مثيلاتهن في العقود الأخيرة على غرار ما فعل الأستاذ المرحوم الحسن العبادي بالنسبة لسوس لتحصل من البحث أسماء الآلاف ممن حفظتهن الذاكرة القريبة.

إن شح المصادر في مادة الإخبار عن النساء يرجع كما بينا إلى نظرة معينة للمرأة ابتداء من القرن الرابع الهجري، ولكن ذلك التحجير ليس سواء في كل المجتمعات الإسلامية، والتخوف الحالي هو من انتقال التشدد لاسيما عند الفئات الاجتماعية البسيطة تحت ضغوط الصدمة من السلوك في البيئة المحيطة أو الحيرة في النموذج، إلى أطراف كانت فيها المرأة تنعم بروحانيتها في إطار ثقافتها المحلية.

وهنا نمر إلى المحور الأخير حول مدى أهمية الكلام عن روحانية النساء في وقتنا الحاضر، فنجمل سمات هذا الوقت من جهة الروحانية فيما يلي:

أولا: غلبة الانشغال بمشاكل العيش والتعايش دون استحضار الهدف والمعنى؛

ثانيا: التوجه إلى تهميش الدين في زاوية الحياة الفردية؛

ثالثا: ضعف حصيلة التقدم بالنسبة لأمن الإنسان وسلمه وسعادته؛

رابعا: ارتفاع الأصوات بضرورة مراجعة نظام العيش السائد؛

خامسا: حيرة المسلمين في ذيل النظام المذكور بين فقر فكري عاجز عن استيعاب العصر وبين مقتضيات الانتماء إلى منظومة الإسلام المتكاملة؛

سادسا: انبعاث متطرفين في بلاد المسلمين جلبوا النظر إلى الدين بفهم مقلوب، فبدل أن يكون إيثار الآخرة مقترنا بالاعتدال في الأولى صار مرتبطا عند هؤلاء بصناعة الانتحار.

هذا في جانب الروحانية، أما في جانب حياة النساء فإن العصر يتميز بالسمات التالية:

أولا: مشاركة النساء على نطاق واسع في الفضاء العام؛

ثانيا: محافظة معظمهن على الأدوار السابقة إلى جانب الأدوار الجديدة؛

ثالثا: إرهاق النساء بمتطلبات مادية مظهرية بعيدة عن الروحانية تشجعها التجارة؛

رابعا: قيام حركات حقوقية يذهب غلاتها إلى حد ربط الحرية بنكران الاختلاف في وظائف الجنسين؛

خامسا: حيرة المرأة بين مرجعيات تأصيلية وبين فهوم للدين يتحكم في بعضها الخوفان القديمان، الخوف من المجاز والخوف من المرأة، مع اتخاذها عنوانا لمحافظة سطحية قد ترغم فيها على مظهر كئيب.

بالرغم من الرصد السلبي المذكور، يلوح في الأفق توجه إلى القيم الروحانية في العالم، ونقتصر في هذا الشأن على الإشارات السريعة الآتية:

  • – بدء الكلام منذ ستينات القرن الماضي عن سلم حاجات الإنسان الأساسية ووجوب إدراج حاجات روحانية ضمنها، ومن المنظرين لهذا التوجه خبير المناجمنت الشهير أبراهام ماصلو؛
  • – ظهور حركات مسيحية لاسيما بعد فاتيكان 2 تركز على روحانية النضال اليومي بجوانبه الاجتماعية؛
  • – الاهتمام الغربي المتزايد بالديانات الأسيوية المبنية على تمارين الاسترخاء والتأمل مثل اليوكا؛
  • – الكلام لاسيما في شمالي أمريكا عن روحانية نسائية، بعضها مقطوع عن الدين وبعضها موصول به؛
  • – ترويج بعض الجهات لإمكانية الاستعاضة عن طقوس الأديان التقليدية بروحانية مفتوحة؛
  • – الاهتمام بالغيرية Atruisme والتضامن في المبادرة الإنسانية، بعد أن كان كتاب أين راند Ayn Rand “فضيلة الأنانية”، “The Virtue of Selfishness”، هو إنجيل الليبيرالية في النصف الثاني من القرن الماضي.

أمام هذا كله تبدو روحانية الإسلام بتفعيل العطاء ومنهج التزكية والاستنباط من التوحيد صالحة للاقتراح على العالم حتى في غياب تطبيق مقنع لها في أوساط المسلمين، ولعل أفق إسهام النساء في هذا الاقتراح يستند إلى عدد من العناصر الموضوعية منها: الدور الروحاني الأساسي المتمثل في الأمومة وهي العطاء الأكبر، عطاء الحياة والذي وإن اشتركت فيه جميع الإناث فإنه يختلف إذا استند إلى الأمانة التي حملها الإنسان، ومن هنا نجده مقترنا ببعده الروحي في قول الرسول:

“الجنة تحت أقدام الأمهات.”

1 – الدور الأساسي للأمهات في التنشئة على الممارسة الذاتية للتزكية، أي على محاسبة النفس، ممزوجة بالحنو الذي يتسرب إلى الفطرة ويصوغ الوجدان؛

2 – دور المرأة ومسئوليتها في تصور جهاز معيشة مبنية على الرفق بدل الإرهاق والتكلف، لأن الإنسان لم يولد مستهلكا وإنما ولد محتاجا إلى الأمن والجمال، وبهذا الصدد نذكر عن إحدى عارفات القرن الرابع واسمها نسيبة بنت سليمانأنها قالت لزوجها: “إن الله سائلك عني، لا تطعمني إلا حلالا، ولا تمد يدك إلى ما فيه شبهة بسببي”؛

  • – دور النساء في حماية الجمال الروحي المستدام الذي يتطلب التحرر من منافسة جهنمية في المظاهر يسعرها الإشهار؛
  • – دور النساء المطلوب في ابتكار أنواع من المتعة بالطيبات.

ويمكن أن نعطي لكل ما ذكر عنوانا عاما هو الدور المطلوب من المرأة في تنمية الصحة الروحية للعالم، ومن خلال هذه التنمية تحرير نفسها وتحرير الرجل بالتبعية، ومع هذا التحرر بالتوحيد يصبح للإشكاليات الحالية سواء ما يتعلق منها بالحرية أو بالهوية أو بالحقوق مقاربة أخرى لمكامن الظلم وموارد التظلم. فالذي جرى عليه اهتمام الناس لحد الآن هو الصحة البدنية والصحة العقلية، أما الصحة النفسية أي القوة المسماة بالنفس في القرآن فلها ثلاثة تجليات، فهي إما أمارة بالسوء، وهذه حالة المرض، وإما لوامة، وهذه حالة تشخيص الداء والشروع في الدواء، وإما مطمئنة، وهذه هي حالة الصحة المرتجاة، وبقدر ما تؤدي التزكية إلى تحرر النفس من المؤثرات الخارجية أي الأغيار والتعلقات المادية بما فيها طغيان الرئاسة، بقدر ما تتأهل هذه الإنسانية لاستشراف الصحة الروحانية المطلوبة.

إن الظروف مناسبة للتبشير بهذه الصحة الروحية على أيدي النساء لتدارك ارتباك الرجال في تحقيق حياة سلم للعالم، والاستثمار في هذه الصحة الروحية مربح لما ينتظر منها من الوقاية من نسبة كبيرة من الأمراض الكبرى المتمثلة في الحروب والأزمات والتوترات، ومن الأمراض الشخصية في الأبدان والعقول والسلوك، وبتوسيع اتقاء شح النفوس على صعيد الفرد والجماعة تتحقق دمقرطة هذه الصحة الروحية، ومن شروطها تحرير مفهوم التوحيد من فهم الحرفيين الذي يقصرونهعلى الأقوال ليتهموا به الأمة بالشرك ويهدموا المزارات، والحالة أن مفهوم التوحيد ينبغي أن يترسخ في الأذهان مقترنا بأمر أساسي هو الحرية إزاء ثلاث سلط، سلطة النفس وسلطة الآخر إذا كان ظالما، وسلطة التملكات إذا وقع نسيان المنعم بها.

مولاي أمير المؤمنين

إن الصحة الروحية بالمفهوم الذي تصورناه تتوقف عليها سعادة النساء والرجال على السواء، وللرجال فيها لحد الآن مسئولية كبرى لما غمطوا من حقوق النساء وعدم تيسير سبيل الفلاح أمامهن، وإن تصحيح هذا التوجه بالسرعة والقدر الممكنين يتوقف على ثلاثة أمور:

أولها: ما أنتم بصدده يا مولاي من التزكية عن طريق المؤسسات، أي الإصلاح السياسي، لأن إعطاء كل ذي حق حقه وتعبئة المؤسسات الساهرة على التخليق ومحاربة الفساد بكل مظاهره أمور تدخل في باب التطهير الذي هو مرادف للتزكية؛

ثانيها: ما توجهون إليه العلماء والعالمات في المجلس الأعلى الذي يشرف برئاستكم السامية من عناية بمكارم الأخلاق والأبعاد الروحية كقيامهم على شئون فقه العبادات والمعاملات، وذلك ببلورة برنامج للوقاية والتنمية الروحيتين يكون للنساء دور مركزي فيهما؛

ثالثا: ما وجهتم إليه من الإصلاح في ميدان التعليم الديني، وهو إصلاح من شأنه أن يسهم في دمقرطة هذه الصحة الروحانية إذا انتظمت عناصره حول مفهوم التوحيد بأبعاده التزكوية التي رعاها الصالحون من هذه الأمة.

وكخلاصة، فإن الله تعالى يتجلى على العالم باسمه السلام، وهو سبحانه الذي ارتضى لعباده دين الإسلام، وروحانية هذا الدين هي السلم الذي له تفعيل أساسي هو العطاء بلا مقابل أو العطاء بالمقابل العادل، وضده الشح الذي تترجمه في وقتنا شتى مظاهر الأنانية، أي الأخذ بلا عطاء، أو الأخذ مقابل عطاء مجحف، وهذا السلوك هو الأصل في جميع الحروب، وقد أسهمت النساء في أمة الإسلام بالعطاء الأكبر كأمهات، وكمدبرات للحياة المادية والعاطفية والروحية للأسر كما أسهمن في كل المجالات المتاحة لهن سواء وصل إلينا الخبر بها أو لم يصل، وأمام مشاكل الحاضر ينتظر منهن الاستمرار في تضحيتهن، وأن يعملن بمرجعية التزكية وعدم إيثار الدنيا على الآخرة من أجل إسعاد أنفسهن وإسعاد الرجال وإنقاذ العالم الذي توقد نار حروبه ولا سيما من لدن من يستعملون المرأة في الفتنة والإغواء ويحاولون دفعها إلى أنانية ليست من طبيعتها التي هي في الأصل طبيعة سلم وعطاء. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى﴾ [سورة الليل، من الآية 05 إلى الآية 10].

والختم من مولانا أمير المؤمنين.

 

تحميل المقال بصيغة PDF