أمير المؤمنين يترأس الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لعام 1440 هـ – 2019 م
ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، اليوم الإثنين بالقصر الملكي بمدينة الدار البيضاء، الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وألقى درس اليوم بين يدي جلالة الملك، الأستاذ محمد لعروسي، رئيس قسم جراحة القلب بمستشفى ابن سينا بالرباط، متناولا بالدرس والتحليل موضوع : “أسرار القلب بين الإشارات الدينية والمتغيرات العلمية”، انطلاقا من قول الله تعالى في سورة الحج ” أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
وتناول الأستاذ المحاضر هذا الموضوع، من خلال أربعة محاور هي “تعريف القلب من خلال الاكتشافات العلمية”، و”القلب في القرآن الكريم والسنة النبوية بين الحقيقة والتأويل”، و”المتغيرات العلمية الحديثة في علم القلب”، و”معجزات القرآن في علم القلب”.
وأكد السيد لعروسي، في مستهل الدرس، “أنني لا أقول بإخضاع الدين للعلم الذي تتغير نتائجه باستمرار ولا بحصر فهم الدين على نتائج علمية مؤقتة، فالدين جاء بالهداية واستعمل لها اللغة المناسبة لتبليغها، وإن ما أردت أن أقوله هو أن العلم الطبي في السنوات الأخيرة قد اكتشف عجائب تتعلق بالقلب ووظائفه، فلا بأس أن يطلع عليها الناس وهم يستحضرون ما ورد عن القلب في القرآن من إشارات”.
وقال إن الدرس سيكون مناسبة لاستعراض بعض ما أنجز من دراسات حول قضية علمية ما فتئت تطرح مجموعة من التساؤلات وتفتح أبوابا للتأمل والتفكر. ويتعلق الأمر بخفايا علم القلب بين الاكتشافات العلمية الجارية وبين الإشارات الدينية التي طرحها القرآن الكريم بهذا الخصوص.
وأبرز أن الدراسات والأبحاث العلمية السابقة حول القلب لم تكن تتطرق لأهميته في التفكير والإدراك والإحساس والعاطفة وغير ذلك، بل أعتبر القلب مجرد عضو فيزيولوجي أو عضلة مضخة للدم في جسم الإنسان له تركيب معقد، إلا أن التطور العلمي الحالي والنقلة النوعية التي عرفتها جراحة القلب عبر العالم، وبالخصوص زراعة القلب جعلت هذه الحقيقة تتأرجح بين الثابت والمتغير.
وتابع المحاضر أن القلب، تلك الذرة الربانية التي تخشع وتعقل، مصدر الإيمان مركز الروحانيات أبعد من أن تكون مجرد آلة معقدة تقوم بميكانيزم خاص بضخ الدم في الجسم، مشيرا إلى أن العلماء توصلوا في هذا المجال مع بداية القرن الواحد والعشرين، بل لاحظوا وسجلوا حقائق جديدة مثيرة للتفكير والتساؤل خصوصا بعد إجراء عمليات زرع القلب، ومارافقها من تغييرات وتقلبات نفسية جذرية بل جد عميقة تخللت في أغلب الحالات جانب الثوابت الروحانية والمعتقدات عند المريض.
وسجل أن هذه الحقيقة الجديدة وما رافقها من بحث علمي واستخلاص لنتائج مذهلة جديدة بل وغريبة، فتح الباب أمام البحث العلمي لطرح السؤال من جديد وتغيير الفكرة المتعارف عليها، عند تعريف القلب علميا وطبيا.
وأوضح أن السؤال المطروح هو: هل القلب مجرد آلة تتحكم فيها ميكانيزمات كمية؟ أم أن القلب يتعدى هذه الحقيقة ليدخل في مجال أعمق عرفه القرآن الكريم عبر آياته الكريمة، حيث ذكر مائة واثنتين وثلاثين مرة، وهل حركة القلب ونبضاته تتعدى مجرد كونها دقات عادية ؟ أم هي مسلك يغذي العقل ويمده بالمعلومات ويوجهه نحو الفهم والإدراك؟.
ففي المحور الأول، تطرق السيد لعروسي لتعريف القلب من خلال الاكتشافات العلمية، مشيرا إلى أن القلب هو ذلك العضو العضلي، الكتلة أو المضغة الساكنة في الجهة اليسرى لصدر الإنسان، والذي لا يتجاوز وزنه ثلث كيلوغرام أو قبضة اليد ويحمل من عجائب التصميم ما لا يدركه عقل الإنسان ويخطر على التفكير.
وتابع المحاضر بالقول إن كمية الدم التي يضخها القلب في الحالة الطبيعية تبلغ حوالي خمسة لترات في الدقيقة، أي بمعدل سبعة آلاف وخمسمائة لتر في اليوم بين حركة انقباض وانبساط، فهو يدق في اليوم أكثر من مائة ألف مرة، وعندما يصبح عمر الإنسان فوق السبعين يكون قلبه قد نبض .مليارين ونصف مليار مرة وضخ مئتين وخمسين مليون لتر خلال هذه الفترة الحياتية
وأشار إلى أن القلب يضخ الدم عبر شبكة الأوعية والشرايين التي يبلغ طولها مائة ألف كيلومتر عبر الجسم، وهذا الرقم يوازي محيط الكرة الأرضية مرتين ونصف، مما يؤكد الحقيقة العلمية السائدة التي بنى عليها العلماء تعريفهم للقلب، هذا الأخير الذي يتمثل دوره في توصيل الأوكسجين والمواد الغذائية والمواد الواقية للجسم إلى جميع الخلايا لتقوم بوظيفتها، مما يؤكد أن القلب هو المصدر الأساسي للحركة في الجسم، بل هو المسيطر على عملها بالكامل.
ولفت إلى أن نتائج الأبحاث العلمية التي أجريت على المجال الكهربائي للقلب أوضحت أنه يبث مجالا كهربائيا هو الأقوى بين أعضاء الجسم كله، فالمجال الكهربائي للقلب يفوق المجال الكهربائي للدماغ بستين مرة. كما أن المجال الكهرومغناطيسي للقلب يفوق المجال الكهرومغناطيسي للدماغ بخمسة آلاف مرة.
وقال إن العلماء اكتشفوا، أيضا، في معهد رياضيات القلب بالولايات المتحدة الأمريكية أن دقات القلب تؤثر على الموجات التي يبثها الدماغ، وأنه كلما زاد عدد ضرباته زادت الترددات التي يبثها الدماغ، مما يدل على أن نشاطهما يتزامنان طبيعيا مع بعضهما البعض. كما أنه توجد أبحاث حديثة تعتقد أن القلب هو الذي يوجه الدماغ في عمله، بل هو ثابت في الاتصال معه من خلال شبكة معقدة من الأعصاب مما يتيح تكوين الرسائل المشتركة بينهما عبر إشارات كهربائية وكهرومغناطيسية.
أما المحور الثاني، المتعلق بـ “القلب في القرآن الكريم والسنة النبوية بين الحقيقة والتأويل”، فأشار فيه المحاضر إلى أن للقرآن الكريم نظرة شاملة إلى القلب ومترادفاته، وهنا يطرح سؤال، وهو هل أن المقصود من القلب في هذه النصوص هو القلب الموجود في الصدر أم الغرض منه هو الدماغ، واستعمال لفظ القلب هو استعمال مجازي. ففي البداية ومع تقدم العلوم الطبية، وبسبب تأكيد الأطباء على أن العقل محله الدماغ، وأن وظيفة القلب تنحصر بضخ الدم إلى جميع أعضاء الجسد، بدأ بعض المفسرين تحت تأثير هذا التوجه الطبي يؤولون لفظ القلب الذي ورد في القرآن والسنة بأنه العقل.
وقال إنه عند التأمل في آيات الله تعالى، والتدبر فيها يلاحظ أن القلب قد ورد باللفظ الصريح وأيضا بالمعنى مثل الفؤاد. كما جاءت الإشارة إلى القلب في القرآن الكريم بالإفراد والجمع، ومع عدد من الضمائر المختلفة في حوالي ستين سورة، أي أكثر من نصف عدد سور القرآن الكريم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية البالغة لهذا العضو، مع العلم أن القرآن الكريم قد نزل من قبل ألف وأربعمائة سنة وأكد على أن للقلب وظائف أخرى منها أنه هو الذي يكسب الأعمال خيرها وشرها، وهو مكان الاطمئنان والأمن، ومحل المحبة والرحمة، ومحل غير ذلك من الصفات التي تشكل شخصية الإنسان.
وتابع أن في القرآن الكريم كذلك صفات كثيرة ذكرت للقلب، من أفعال يقوم بها، وخصائص تجعل منه عالما قائما بذاته، واتسعت معانيه وتعددت جوانبه، حتى لم يعد بإمكاننا حصره في المعاني العاطفية وحدها، أو في المعاني العقلية، بل إنه يتجاوز هذا، فمن بين هذه الصفات نجد الهداية والعقل والتدبر والاطمئنان والسكينة والخشوع. كما أن لفظ القلب ذكر عدة مرات في السنة النبوية، ولقد سبق النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام العلم في عصرنا إلى الحديث عن دور القلب وأهميته في صلاح النفس، بل إنه جعل للقلب دورا مركزيا.
وبخصوص المحور الثالث الذي يتعلق بـ “المتغيرات العلمية الحديثة في علم القلب”، فأبرز المحاضر أن البحث العلمي شكل في القرن الواحد والعشرين بالنسبة للعلماء والمهتمين في مجال القلب نقلة نوعية بارزة تلخصت خطوطها العريضة في عمل القلب والدماغ بتناسق وتناغم عجيب، وحدوث تنافر واضطراب على الفور في حال وجود خلل في هذه العلاقة، مما وجه العلماء إلى تسطير ملاحظات غريبة، خصوصا بعد عمليات زرع القلب ووضع القلب الجديد في صدر المريض، حيث يبدأ هذا الأخير بالنبض على الفور دون أن ينتظر إشارة من الدماغ وعليه خلص بهم الأمر إلى القول باستقلال عمل القلب عن هذا الأخير، وتوجيهه والتحكم في عمله، واعترفوا أخيرا أنهم لم يدرسوا القلب من الناحية النفسية، وكانوا مقصرين في دراسة هذا الجزء الهام وعليه طرحت العديد من الأسئلة من قبيل: هل القلب يفكر؟ هل ما نتخذه من قرارات في الحياة ينبع من العقل أو من القلب؟ ما مدى تأثير العقل والقلب في تأثير مساراتنا في الحياة ؟.
لهذا أدرك العلماء الآن، يقول السيد لعروسي، أن العلاقة بين القلب والدماغ هي علاقة ديناميكية ثنائية الاتجاه وأن كليهما يؤثر في الآخر، مشيرا إلى أن الباحثين ذكروا أربع وسائل يؤثر القلب بها على الدماغ: عصبيا من خلال النبضات العصبية، وبيوكيميائيا بواسطة الهرمونات والناقلات العصبية، وبيوفيزيائيا بموجات الضغط، وكهرومغناطيسيا بواسطة الطاقة التي في القلب.
وأبرز أن بعض العلماء يقومون اليوم بدراسة العلاقة بين القلب والدماغ وعلاقة القلب بالعمليات النفسية والإدراكية، مضيفا أن هذا ما أدى بالأوساط العلمية إلى الالتفات إلى ما يدعى بالذاكرة الخلوية التي تم اكتشافها من طرف الدكتورة بيرت كانديس عالمة مختصة في علم الصيدلة وعلم الأعصاب بنيويورك، والتي خلصت إلى القول أن الخلايا في أجسامنا تحتوي على معلومات عن شخصياتنا، أذواقنا، أنماط حياتنا، بل وحتى تاريخنا. والدليل على هذه الظاهرة وبكل بساطة هو تغير شخصيات من خضعوا لعمليات زراعة القلب.
وفي ما يتعلق بالمحور الرابع “معجزات القرآن الكريم في علم القلب” ، أبرز السيد لعروسي أن الحقائق العلمية التي تطلبت سنوات من البحث وأنفق عليها مليارات من الدولارات وشغلت أفكار علماء أفنوا مراحل من عمرهم في البحث ليثبتوها في عصرنا الحالي سبق القرآن الكريم إلى إثباتها والحديث عنها بأسلوب علمي دقيق قبل أربعة عشر قرنا، وذلك في كل المجالات مثل البحار والجبال والطب والنفس، مما يؤكد مرة أخرى إعجاز هذا الكتاب العظيم ويدحض مزاعم المتشككين.
وأضاف أن تكرار ذكر القلب في نصوص عديدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، جعلت الشريعة الإسلامية صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة صلاحا مرهونا بصلاح قلبه. إن ما توصل إليه العلماء من تطبيقات علمية مذهلة تجعلهم في بحث دائم عن سر أسرار هذا الكون في كل جوانبه. كما لا تزال أمامهم تحديات كبرى للوصول لفك أسرار القوانين والبحث عن أصلها وسرها ومآلها، وبالتالي بقي هناك الكثير جدا أمام الإنسان ليكتشفه ويجد إجابة له.
وخلص المحاضر إلى أن جل الدراسات المتعلقة بعلم القلب أفضت إلى أن هذا العضو له مدلول وفهم آخر غير ذلك الذي اتفق عليه العلماء قبل، فهو أكبر من أن يكون مجرد كثلة لحمية رابضة في القفص الصدري مهمتها ضخ الدم لأعضاء الجسم، بل هو يغذي الجسم أيضا بالمعلومات مع كل دقة من دقاته. إن ما حمله القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا حول القلب لا يمكن أن يكون مجرد معلومات شرحت ظواهر علمية حديثة، بل إنها عبرة لكل مؤمن ليزداد إيمانه بالله ويعرف أهمية هذا العضو في الحياة الدنيا والآخرة.
وفي ختام هذا الدرس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، تقدم للسلام على أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، كل من الأساتذة هارون ها شولين، نائب أمين عام الجمعية الإسلامية الصينية، وأماني برهان الدين لوبيس، رئيسة مجلس العلماء الإندونيسي لشؤون المرأة والشباب والأسرة، وحاجي نور علي زم بن الحاج علي الأكبر، مدير معهد العلوم الأساسية بسلطنة بروناي، ومحمد أكرم الندوي، أستاذ بمعهد السلام أوكسفورد ببريطانيا، ومحمد مختار المفتي الحسني، أستاذ جامعي والأمين العام المساعد للسادة الأشراف بالأردن، وعمار جمعي الطالبي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعبد العزيز بن محمد بن صالح العوضي، مستشار بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان.
كما تقدم للسلام على جلالته الأساتذة مظهر محمد الحموي، عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في لبنان، ومحمود عبده الزبير، رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بمالي، محمد غزالي عمر جكني، عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بغينيا كوناكري، والشريف إبراهيم عبد الله، عضو فرع بمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالصومال، وموديبو بشير وليديو، عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بإفريقيا الوسطى، والشيخ نافع بريز أوريلا أستاذ بالجامعة الإسلامية في مكسيكو بالمكسيك.