التصوف في إفريقيا: المفهوم والأصول والتاريخ
مداخلة بعنوان “التصوف في إفريقيا: المفهوم، والأصول ،والتاريخ” للأستاذ محمد المختار ولد اباه رئيس جامعة شنقيط العصرية بنواكشوط وعضو المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439هـ الموافق لـ 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبيه الكريم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فهذا عرض موجز نروم في ثناياه مقاربة التصوف على الظاهر من علم المعاملة؛ لأن الباطن من علم المكاشفة لا ينبغي أن يتحدث عنه إلا أهله. كما سنقتصر في هذا العرض على الحديث عن التصوف في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء، وهي تشمل منطقتين؛ إحداهما: تعرف قديما ببلاد التكرور؛ وهي التي تلي حوض البحر المتوسط. والثانية: تقع فيما وراء النهرين؛ نهر النيجر ونهر السنغال.
فالمنطقة الأولى دخلها الإسلام في القرن الثاني الهجري حيث تردد فيها صدى فتوحات عقبة بن نافع، وشق الطريق نحوها حفيده عبد الرحمن بن حبيب، وقامت فيها حركة المرابطين على يد عبد الله بن ياسين، لكنها ظلت طيلة عدة قرون لا تمارس من التصوف إلاّ ما يتصل بتعليم الإسلام كترسيخ الإيمان مصداقاً لقوله تعالى:﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَالْكِتَٰبِ اِ۬لذِے نَزَّلَ عَلَيٰ رَسُولِهِ﴾[1]، والالتزام بأوامر الإسلام التي تعبد الله بها نبيه الأكرم عَليه الصلاة والسلام، وما يتعلق بالإكثار من ّالذكر والتبتل، وتدبر القرآن وتلاوته والتسبيح والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماد شعار المرابطين، أن لا يحل لأحد أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه، كان هذا تصوفا عمليا، قبل التصوف النظري، وهو الذي ظهر مع وصول الطرق الصوفية إلى إفريقيا، وعندها يميز مفهوم التصوف وتتضح أصوله.
مفهوم التصوف عند الأفارقة
لقد رأيت أن أعتمد في تناول مفهوم التصوف على كتاب «شرح خاتمة التصوف» للشيخ محمد اليدالي، ولعله من أقدم ما كتب عن التصوف في إفريقيا، وقد اعتبر هذا الشرح مرجعا عند المتصوفة الأفارقة. ومؤلفه عالم فذ رائد في العلوم الإسلامية في بلاد شنقيط، وله فيها عدة مصنفات؛ منها: في التفسير كتاب «الذهب الإبريز»، وفي أصول الدين كتاب «فرائد الفوائد»، وقد ذيّله بهذه الخاتمة، وشرحها شرحا إضافيا تناول فيه مباحث التصوف المعروفة، معتمدا أساسا على كتب الشيخ أحمد زروق، وعلى موروث الناصرية الذي كان ينتمي إليها.
والملاحظ أنه لم يشر مباشرة إلى مصادر التصوف القديمة مثل «رسالة» القُشيري أو «حِلية» أبي نُعيم، ولذلك فإنه لم يذكر تعريفاتهم الكثيرة، ولم نر عنده ما نُسب إلى الجُنيد: «إن التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع»، وهو «أن يكون مع الله بلا علاقة». أو أنه «عنوة بلا صلح»، وبأن «يميتك الحق عنك ويحييك به». وإنما اكتفى بما نقل عن أئمة الشاذلية، وبالخصوص ما رواه عن الإمام زروق، إذ قال عن مفهومه: «إن التصوف هو النظر في أحوال القلب، وتطهيره من الأوصاف المذمومة وتصحيح الأحوال، والتحرج من الخلق». وسنرى أن العزلة عنده من أركان التصوف، لأن الخلق هو أعظم حجاب بين العبد وربه.
ثم قال: «إن التصوف وعظ وتذكير، وتنبيه وتبصير، وتحلية وتخلية، ومسلك توحيدي لا يسع لأحد إنكاره، ولا الطعن فيه». وهو عنده يختلف عن جانب آخر من التصوف، وصفه اليدالي- ولعله ناقلا عن الإمام زروق – بأنه معدن غرور الجهال، ومزلة أقدام الرجال. وإنما اختار الجانب الذي لا تحير فيه الأوهام ولا يتحفظ من إلقائه للعوام.
ثم ذكر أن الخلاف بين الأئمة حول بذل ما يبحث فيه عن تحقيق الأحوال وأحكام الأذواق، فأورد أن الجنيد قال: إنه يبذل للعوام، وعندما قيل له: هل تنادي على الله بين يدي العامة؟ فأجاب: إني أنادي العامة بين يدي الله.
ومما ذكره الشيخ اليدالي أن الحسن البصري والسّري السّقطي ومعروف الكرخي والجنيد كانوا لا يتحدثون عن العلم بالله إلا بعد غلق الأبواب خوف إفشاء الأسرار المحجوبة. وعزى الشيخ اليدالي لزروق قوله:
- إن ما كان وعظا وتذكيرا فهو للعامة والخاصة،
- وما كان بيانا وتقريرا فهو للخاصة من المحبين،
- وما كان من الأحوال والمنازعات فللمريدين السالكين،
- وما كان من الحقائق والمعارف فللعارفين الواصلين.
ثم استعرض الشيخ اليدالي مجموعة من الفوائد حول مفاهيم التصوف؛ ومنها تبيين ما ليس من التصوف، وأنشد في ذلك الأبيات التي يقول صاحبها:
ولا تغاش ولا رقص ولا طربا ولا اغتباطا بأن قد صرت مجنونا بل التصوف أن تصفو بلا كدر وتتبع الحق والقرآن والدينا وأن ترى خاشعا لله مكتئبا على ذنوبك طول الدهر محزونا وذكر قول زروق: إن التصوف صدق التوجه إلى الله، والقيام بشروط هذا التوجه قولا وفعلا. وذكر قول من قال: إنه الأخذ من كل شيء بأحسنه، وأن المتصوفة ورثوا عن الأنبياء العلم والعبادة، وبذلك يكون التصوف أشرف العلوم. وقد قال الإمام الجنيد: «لو علمت على أديم الأرض علما أشرف من التصوف لسعيت إليه».
لكنه في هذا المعرض استدرك قائلا -مثل من سبقوه- إن علم التصوف عفا ودرس، وقد قال الجنيد: «هذا الذي نتكلم فيه قد طُوي بساطه منذ عشرين سنة، وإنما نتكلم الآن عن حواشيه». ثم أنشد أبياتا اعتاد مؤرخو التصوف الاستشهاد بها حتى أن ابن عربي الحاتمي ذكرها في إحدى رسائله وهي:
أهل التصوف قد مضوا صار التصوف مخرقه
صار التصوف سبحة وتواجد ومطبقه
مضت العلوم فلا علوم ولا قلوب مشرقه
أصول التصوف وتتضمن شرعيته ومستنداته:
1- شرعية التصوف
نستعرض حول هذه الأصول شرعيتها ومشتقاتها:
يقول الجنيد بن محمد: «إن كل الطرق مسدودة سوى طريق الكتاب والسنة»، فلا يجوز أن يعبد سبحانه وتعالى بغير ما تعبد به عباده، وليس لأحد أن يبتدع في الدين ما ليس منه، ومن أحدث فيه أمرا جديدا فهو رد.
والذين رفضوا التصوف اعتمدوا على هذا الأمر ورأوا أنه طارئ على الملإ كما يقول ابن خلدون، وأنه يتضمن أدعية وتجديدات ودعاوى واصطلاحات محدثة في الشريعة، وهي بدع يجب إنكارها وتجنبها! وأن أصولها جاءت من نحل مخالفة للشريعة؛ منها ما هو مأخوذ عن الرهبان المسيحيين، ومنها ما تشرب إلى الإسلام من الديانات الشرقية!
غير أن المتصوفة من علماء المسلمين بيّنوا أن منهجهم في التصوف نابع من مراتب الإحسان الموصوف في الحديث الصحيح بأن يعبد المسلم ربه وكأنه يراه، وهي تعني سلوكا خاصا في العبادة يقتضي تدبرا في التلاوة والذِّكر، وإخلاصا في النية، وأدبا في الأداء. وذكروا أن صيغ الذِّكر والدعاء قد ترد على ألسنة الصالحين دون أن تكون ألفاظها مروية حرفيا عن النبي صلى الله عليه وسلم واستدلوا على ذلك بحديثين:
أَولهما: عن برَيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أنْتَ اللَّهُ الْأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤًا اَحَدٌ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَد سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أجَابَ»[2].
والآخر: عَن أَبِي أَيُّوبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟» فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟ لَمْ يَقُلْ إِلَّا صَوَابَا» قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُهَا أرْجُو بِهَا الْخَيْرَ. قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأيْتُ اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[3].
هذا فيما يخص أصول التصوف العامة، وصحة نسبتها إلى الدين الإسلامي. أما أصوله الخاصة المعتمدة عند المتصوفة أنفسهم فهي مجموعة المقامات المبسوطة في كتب مدونات التصوف.
2- مستندات التصوف
ومن مستندات التصوف عند أئمته الأوائل ما روي عن الحسن البصري، إذ قيل له: يا أبا سعيد إنك تتكلم بكلام لم نسمعه من غيرك، فممن أخذت هذا العلم؟ فقال: أخذته عن حذيفة بن اليمان، وهو أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الحسن أخذ مالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وثابت البناني ،وأيوب السختياني، وعبد الواحد بن زيد.
وقال الجنيد: «ما أخذنا هذا العلم من القيل والقال، والمراء والجدال، ولكننا أخذناه بالسهر والجوع، وملازمة الأعمال». وفي هذا يشير إلى قول المتصوفة: إن المريد يصل بملازمة الأعمال التعبدية إلى العلم بالله، مصداقاً لقوله تعالى:
﴿وَاتقَّوا اللَّه وَيعُلمُّكُمُ اللَّه﴾ [4].
ويقول الشيخ اليدالي: «إن دقائق علم التصوف تنال بمنح إلهية ومواهب ربانية، وأن لها أربعة مفاتيح وهي: صحة الاعتقاد، واللجوء إلى الله، والالتزام بالسنة، والعمل بالعلم».
ثم تكلم عن أركان التصوف وعدها في سبع:
- أولها: التوبة، وفيها أكثر من عشرين قولا؛ لأنها تتدرج من التوبة من الكبائر إلى التوبة من الغفلة.
- والثاني: الاستقامة على السنة؛ لأن كل طريق إلى الله مسدود غيرها.
- والثالث: الجوع، وهو ماسك الشهوات، ومثير الإيثار، وذكر قول الإمام زروق: إن الدعاء بالصمد معين عليه.
- الرابع: الصمت: وذكر الحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم أن ليس يُكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم[5].
- الخامس: العزلة، وهي أعم من الخلوة، وقد تكون بالتفرد بالمعنى لا بالشخص.
- السادس: تقوى الله ظاهرا وباطنا.
- السابع: تجنب البدع ومخالطة أهل الأهواء.
لمحة عن تاريخ التصوف وطرقه في إفريقيا
إذا ما شرعنا في الحديث عن نشأة التصوف الأولى، فإننا لن نبتعد عن أصوله في منبع العرفان في القرآن، حيث نرى أن نشأته نشأة إسلامية أشرنا لمداركها في المقدمة، ولا يشوب إسلاميتها وجود صدى الأفلاطونية المحدثة عند ذي النون المصري، ومعتقد النيرفانا الهندية عند إبراهيم بن أدهم، ولا أفيستا ميثرا الفارسية عند معروف الكرخي، ولا مقامات رهبان الأديرة في العراق عند مالك بن دينار ومحمد بن رافع، وإنما هي المذهب السني الذي دوّنه المحاسبي في «رعايته»، وأقره الجنيد في تعاليمه وسلوكه، وفصّله الشيخ عبد القادر في «غنيته».
وللطرق الصوفية أثر بارز في نشر الإسلام الوسطي وترسيخ قيم التسامح والتعايش بإفريقيا، وفيما يأتي عرض لأربع طرق منها اشتهر أمرها:
1-الطريقة القادرية
ومؤسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني، وشهرته تغني عن التعريف به، فهو إمام الأئمة القائل إن قدمه فوق رقبة كل ولي، وكانت حياته تتسم بالكرامات والخوارق والمجاهدة إلى أن التقى الخضر عليه السلام وأخذ منه ما يريد، فأسس أولا مدرسة للعلم والوعظ والإرشاد، ثم طريقه للتربية الصوفية، وقد جمع بين علوم الشريعة والحقيقة؛ ذلك أنه في «غنيته» تناول مباحث العقيدة وافق فيها مذهب السلف، وتحدّث عن الأحكام الفقهية، ثم انتقل إلى مبادئ التصوف ومسيرة المتصوف فقال: إن أصول الطريقة سبعة وهي:
- أولا: المجاهدة: لقوله تعالى: ﴿ وَٱلذِّينَ جَهَدُوا فِينَا لنَهدِينَّهُم سُبُلنَا﴾[6].
- ثانيا: التوكل، وأصله: ﴿ وَمَن يتَوَكلَّ عَلىَ ٱللِه فَهُوَ حَسبُهُ﴾[7].
- ثالثا: حسن الخلق، وأصله وصف الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ وَإنَّكَ لعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم﴾[8].
- رابعا: الشكر، وأصله قوله تعالى: ﴿لئَن شَكَرْتمْ لَأزِيدَنكَّمْ﴾[9].
- خامسا: الصبر، وقد قال تعالى: ﴿وَٱصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلَّا بٱِللِه﴾[10].
- سادسا: الرضا، وفيه قوله تعالى: ﴿ رَّضِيَ ٱلله عَنهُم وَرَضُوا۟ عَنهُ﴾[11].
- سابعا: الصدق، وأصله: ﴿ يَٰۤأيَهُّا ٱلذِّينَ ءاَمَنُوا ٱتقَّوا ٱللَه وَكوُنُوا مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ﴾[12].
لكن الصوفي عنده إذا أراد أن يكون شيخاً مربياً، فلا بد له أن يتحلى بخمس خصال ذكرها في قوله:
إذا لم يكن للشيخ خمس فوائد وإلا فدجال يقود إلى الجهل عليم بأحكام الشريعة ظاهرا ويبحث عن علم الحقيقة عن أصل ويظهر للورّاد بالبِشر والقرى ويخضع للمسكين بالقول والفعل
ثم يبسط آداب المريد مع الشيخ، وهي: الأدب، والوقار، وعدم مخالطة الشيخ ظاهرًاً وباطناً. ثم بيّن الفرق بين المتصوف وهو المريد، وبين الصوفي وهو الذي أنهى مسيرة التصوف، فقال: «إن المريد هو من بدأ في طريق السلوك، مكابدا نفسه وشيطانه، متعبدا ربه عز وجل بمفارقة الجهات الست والأشياء، يترك دنياه ويفارق أقرانه، ويجاهد نفسه، بأمر الله، ويفارق أخراه وما أعد لأوليائه من جنة لرغبته في مولاه، فيصفّى من الأحداث، ويتجوهر لرب الأرباب، فتنقطع منه الأسباب، فتنفتح في وجهه جهة الجهات، وباب الأبواب، ثم يفتح تجاه هذا الباب بابا يسمى باب القربة إلى المليك الديان، ثم يُرفع منه إلى مجلس الأنس ،ويجلس على كرسي التوحيد، ثم يرفع عنه الحجاب وحينئذ يسمى صوفيا». ولقد انتشرت الطريقة الصوفية القادرية عالميا، بحيث اختفت الشاذلية. وفي إفريقيا برز منها فرعان كان لهما دور بالغ في نشر التصوف، وهما:
الفرع الأول: الكنتية
إمامها الأول: الشيخ محمد الشيخ بن سيد أحمد البكاي بن سيدي محمد الكنتي الكبير، وقد صحب عبد الكريم المغيلي ثلاثين سنة، وبعده حفيده سيد أحمد بن محمد الرقاد (ت 1063هـ)، مؤسس الزاوية الكنتية في اتوات، وخلفه ابنه سيدي علي، ثم أخوه سيد الأمين ذو النقاب (ت 1116هـ)، حتى وصلت إلى الشيخ الأجل والعالم الفذ سيد المختار بن أحمد بن أبي بكر، المولود سنة(1140هـ)،والمتوفى سنة(1226هـ)، وصاحب العلوم الكثيرة والمصنفات الشهيرة، وهو الذي ازدحمت على بابه جماهير المريدين، وتصدر عنه عِليَةُ المشايخ. فممن صدر عنه ابنه سيد محمد الخليفة، والشيخ القاضي الإجيجبي، والشيخ سيدي الانتشائي .ومن مؤلفاته في التصوف: «الكوكب الوقاد في فضل المشايخ والأوراد»، و»جذوة الأنوار في الذب عن أولياء الأخيار»، و»اللطائف القدسية»، وشرح «القصيدة الفيضية».
وألف ابنه وخليفته كتاب «جُنّة المريد»، و»شرح الورد القادري»، وله تأليف في الاسم الأعظم، و«الإيجاب والسلب بجلاء مرآة القلب».
أما الشيخ سيدي الانتشائي فقد أسس جامعة علمية، ونهضة تربوية فكان كعبة الوُرّاد ومحجة الزُّوار، وصدرت عنه مجموعة من مشايخ التصوف في بلاد شنقيط. ومن مؤلفاته في التصوف كتاب «مجمع الطي والنشر في المسائل العشر»، وهو يتناول أمور الولاية وتعريفها ومؤهلاتها وخصائصها.
وكان لزميله الشيخ القاضي باع واسع في التربية والصوفية، وصدر عنه الكثير من شيوخ التصوف.
الفرع الثاني: الفاضلية
أما الفرع الفاضلي فينتمي إلى الشيخ الشريف محمد فاضل ابن مامين المتوفى سنة(1286هـ)، وهو من الذين جدّدوا عهد القادرية. ومن الطريف أن سنده فيما يمر بالشيخ زروق بسنده إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي عن الشيخ عبد السلام بن مشيش عن الغوث أبي مدين عن الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهذا ما جعل أتباعه لا يتعصبون لطريقة معينة، وإن كانوا يعتبرون طريقتهم قادرية، وهذا يتمثل في سلوك ابنه الشيخ ماء العينين الذي يقول:
إني مخاو لكل الطرق أخوة الإيمان عند المتقي
وقد نال الشيخ محمد فاضل شهرة فائقة في التربية واتباع منهج السنة، ونشر التصوف عن طريق أبنائه الذين أسسوا الزوايا في الأقاليم الإفريقية. وله عدة تآليف في سائر العلوم منها: كتاب «النور الساطع»، و «كشف الحجاب»، و «حصن الطريد».
أما ابنه الشيخ ماء العينين، حامل لواء التربية والجهاد، فهو العالم القدوة المربي، مجدد القرن. استقطبت زاويته مئات العلماء والمجاهدين والمريدين، فكان لكل واحد نصيبه، وعنه أخذ أبناؤه البررة، وجم غفير من مشايخ الأفارقة. ومن أشهر مؤلفاته في التصوف: «نعت البدايات»، و «مبصر التشوف على نظم منتخب التصوف»، و «حزب الخير»، و «حزب البسملة». وقد اشتهر دوره في الجهاد ضد المحتل. وما قيل عنه من مدائح، وما ترك من آثار علمية، وما تصدر على يديه من مشايخ، يجعل الإطالة في الحديث عنه لا تفي بحقه.
أما أخوه الشيخ سعد بوه (تـ 1335هـ)، فإنه استقر في جنوب بلاد شنقيط، وأسس حضرة علمية تربوية واصل فيها رسالة والده الشيخ محمد فاضل، مبنية على نهج الصوفية السنية فارتادها جموع المريدين، وتصدر منها كثير من أعلام المشايخ؛ أمثال الشيخ التراد بن العباس، والشيخ أبو المعالي التاكاطي وغيرهم، وعم صيتها إفريقيا حيث انتمى لها كثير من السنغاليين والغانيين.
واشتهر الشيخ سعد بوه بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وله فيه مدائح رائعة، كما له مؤلفات في التصوف، منها: «النفع العميم في أسرار بسم الله الرحمن الرحيم»، ونظم «الصراط المستقيم في السلوك»، و «زهر الآكام في الصلاة على خير الأنام»، و «نفحة المنان في النجاة من جزي الدنيا وعذاب الديان».
ومما مدح به قول تلميذه البشير بن امباريكي بعد انتصاره في مناظرة مع خصومه:
وقد نشروا علم الرسوم للابتداء وفيهم خصوم حمية وفحول
فصب عليهم من فيوضات ربه مواهب منها الترهات تزول
فزال غبار الشك واتضح الهدى ولم يبق إلا مفحم وذليل
فأصبح فردا في حداثة سنه تقاصر عنه شيخة وكهول
2-الطريقة الشاذلية
إنها طريقة أبي الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، المولود في شمال المغرب، أخذ عن الإمام عبد السلام بن مشيش، قبل أن يعوم في بحر الاتصال المباشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالملائكة المقربين، ثم انتقل إلى تونس فأقام في قرية شاذلة ونسب إليها، وانتهى به المطاف إلى مصر، فأقام آخر أيام حياته في عيذاب، وبها توفى سنة(656هـ) يقول البوصيري عن طريقته:
إنَّ الإِمامَ الشَّاذِليَّ طَرِيقُهُ فِي الفَضْلِ واضحَةٌ لِعَيْنِ المُهْتَدِي
فانْقُلْ ولوْ قَدَماً عَلَى آثارِهِ فإذَا فَعَلْتَ فَذاكَ آخَذُ بالْيَدِ
قطب الزمان وغوثه وإمامه عين الوجود لسان سر الأوحد
ويشيد أبوعلي الحسن بن القاسم الكوهن الفاسي بفضائل طريقته قائلا: إنها امتازت عن الطرق بخمس وعشرين خصلة منها: أنهم مختارون في اللوح المحفوظ، وأن القطب لا يكون إلا منهم، وأن مريدهم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة في أول وهلة، وأن أهل الديوان لا يكونون إلا منهم.
وقد نوّه أبو سالم العياشي بأوراده وبحزبه، ويقال إن أحدا اعترض عليه في ابتدائه حزبه، فأجابه أنه أخذه من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد ترسخت هذه الطريقة في مصر، واشتهر من فروعها: البدوية والوفائية والدسوقية. ومنها في المغرب عدة فروع من أشهرها: الجزولية والزروقية، وقد اجتمعتا في الناصرية الدرعية، وهي التي توطدت في بلاد شنقيط، وكان من أبرز أتباعها الشيخ محمد اليدالي، مؤلف (خاتمة التصوف) المذكور آنفا، وقد شرحها بمؤلَّف جمع فيه جُل مباحث التصوف معتمداً على مؤلفات الشيخ زروق. وقد كان لهذه «الخاتمة» دور بارز في التصوف في بلاد شنقيط وفي السنغال. وقد نظمها وأشاد بها الشيخ أحمد بمب البكي السنغالي، مؤسس الطريقة المريدية.
ومن أشهر مشايخ الشاذلية في بلاد شنقيط أسرة أهل أحمد بن العاقل الديماني ،والشيخ محمذن فال بن متالي التندغي مؤلف كتاب «فتح الحق المبين فيما يجوز بين الحق والخلق».
وفرع طريقة الغظف: وهي طريق المجاهدة والجهاد، ومن مشاهيرها أبناء الشيخ الغزواني، وأسرة الشيخ المحفوظ ولد بيه.
3- الطريقة التجانية
أما الطريقة الثالثة فهي التجانية التي أسسها أبو العباس أحمد التجاني، دفين زاويته بفاس المحروسة.
لقد نشأ الشيخ أحمد التجاني في بيت علم وورع في «عين ماض»، شرق الجزائر، ثم انتقل في طلب العلم والمعرفة إلى تلمسان وفاس، وانتمى إلى عدة طرق، وقام برحلة لأداء فريضة الحج، فكانت له فرصة للقاء بعض المشايخ مثل الخلوتي والقطب السماني، وبعد عودته حدث له ما يقع لكبار المشايخ؛ مثل تلقّي الأوراد من الحضرة النبوية، وحينها أسس طريقته المستقلة. وكان من أشهر مريديه الحاج علي احرازم مؤلف «جواهر المعاني»، والشيخ محمد بن المشري مصنف «الجامع». واشتهر بعدهم من كبار العلماء في المغرب الشيخ سيدي العربي بن السائح مؤلف «بغية المريد»، والقاضي أحمد سكيرج، مؤرخ الطريقة وغيرهم.
وقد انتشرت فروع التجانية في إفريقيا على يد مشايخ مشهورين؛ منهم العالم الشيخ محمد الحافظ العلوي، إمام المربين وشيخ العارفين أول من نشر الطريقة التجانية في بلاد شنقيط، ومن أبرز تلامذته خليفته العالم الشاعر الكبير محمدي ولد سيدينا المعروف بحسان الطريقة ومؤلف كتاب «نزهة المستمع واللافظ في مناقب الشيخ محمد الحافظ». ومن مشاهير خلفائه الشيخ الشهير سيدي مولود فال الموسوي الذي كان خليفة لمحمدي ولد سيدينا، واشتهر من مشايخ التجانية الحافظيين أبناء امبوجه العلويون التيشيتيون، وأحمد التجاني ولد باب ولد أحمد بيبه ناظم «منية المريد» التي قام بشرحها الشيخ سيدي العربي ولد السائح بكتاب «بغية المستفيد»، والشيخ أحمدو ولد الشيخ محمد الحافظ وله نظم «حكم ابن عطاء الله»، والشيخ أحمد )آب( بن الشيخ محمدي خليفة والده في الطريقة، وكان لهذين الأخيرين دور متميز في نشر التصوف السني في الطريقة التجانية. وكذلك الشيخ الحاج الفوتي وهو العالم المجاهد الذي أسس مدرسة صوفية متميزة بث فيها العلوم والمعارف، وصنّف مجموعة من الكتب؛ من أشهرها كتاب «رماح الرجيم»، وما زالت زاويته قائمة في السنغال ومالي وغينيا. والشيخ الحاج مالك سي الذي كان شيخا عارفا عالما عابدا، نشر الإسلام والتصوف في السنغال والمناطق المجاورة، وله تآليف في العلوم الشرعية واللغة العربية والتصوف على الطريقة التجانية.
ولقد كان لأسرة الشيخ عبد الله انياس دورها الكبير في نشر التصوف، وبالخصوص الشيخ إبراهيم الذي تربى على يديه جموع كبيرة من المشايخ في موريتانيا والسنغال وغامبيا، وقام بنهضة تربوية وتعليمية، وألف مجموعة من المصنفات في العلوم الشرعية؛ منها تفسير حافل للقرآن الكريم.
ومن فروع الطريقة التجانية؛ الفرع الحموي المنتمي إلى الشيخ المجاهد الشريف حماه الله التشيتي أصلا الإفريقي وطنا، وقد امتاز بالزهد والمجاهدة، وله أتباع كثر في الأقاليم الإفريقية.
4- الطريقة المريدية
المريدية طريقة سنغالية صرفة، مؤسسها خادم الرسول صلى الله عليه وسلم الشيخ أحمدّ بمب البكي. ولد في ريف السنغال، ودرس على علماء أفارقة واستكمل دراسته مع بعض العلماء الشناقطة. كانت حياته كلها تعلم وتعليم، وتربية وإرشاد، وكرم وكرامات وجهاد ضد المحتل، وقد تعرض للنفي عدة مرات، وأخيرا فُرضت عليه إقامة جبرية إلى أن توفي سنة 1927م.
كان الشيخ أحمدّ بمب من كبار العلماء والشعراء والنُّظّام، قيل إن أنظامه وصلت مليون بيت، وله عدة مؤلفات في العقيدة والفقه والسلوك، كما أنه أنشأ طريقة مستقلة أسسها بعدما انتمى في أول عهده إلى عدة طرق سابقة، ثم حدث له أن تلقّى ورده من النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما رأينا عند أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس أحمد التجاني، وروي عنه قوله:
مشائخي سيدنا الجيلاني والشاذليّ معه والتجاني
والأوراد التي التزم بها مريدوه تضمنت بعض الصلوات المأثورة في الطرق الأخرى؛ منها مائة من صلاة الفاتح المعروفة في الطريقة التجانية.
والطريقة المريدية اليوم يتبعها ملايين المريدين، الذين اعتادوا أن يجتمعوا سنويا في ذكرى عودة الشيخ من المنفى، وهو اجتماع يحضره ملايين الزائرين، كما أنهم يتبعون نظاما محكما في شأن الطريقة لتدبير أمورهم الدينية والدنيوية.
أما موطنهم فإنه يشمل المناطق المحاذية لمدينتهم العلمية المعروفة بمدينة طوبى، ولهم أتباع كثر في المدن السنغالية وفي أوربا وأمريكا، كما أن للشيخ أحمدّ بمب مريدون في موريتانيا التي تربطه بها علاقات تاريخية علمية وطيدة.
ومن مؤلفاته: أرجوزة «نظم مسالك الجنان»؛ نظم به «خاتمة التصوف» للشيخ محمد اليدالي وهو يزيد على ألف وخمسمائة بيت، وذكر تسميته بقوله:
سميته مسالك الجنان في جمع ما فرقه الديماني
والديماني يعني به الشيخ محمد المامي. وله مؤلفات أخرى في التصوف؛ منها «نظم جالبة المراغب» ونظم الفاتح في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، و «جلب القلوب إلى علّام الغيوب». وله مدائح كثيرة وأنظام في التوحيد والنحو وغيرهما.
خاتمة
أسهمت الطرق الصوفية بشيوخها الحكماء المربين في دخول الملايين من الأفارقة في دين الإسلام، هؤلاء المشايخ الصلحاء الذين وقفوا حياتهم للعبادة والإرشاد والنصح بالتي هي أحسن. واهتموا اهتماماً بالغا بالتربية وتحفيظ القرآن، وتعليم اللغة العربية، ودراسة أهم المتون الشرعية، وتدوين كتب الشريعة بلغاتهم الخاصة، مع الاحتفاظ بالحرف العربي، فلقد كانت زواياهم مدارس وجامعات إسلامية ومعينا ينهل منه الطلبة والمريدون.
ولقد قام قادة هؤلاء الطرق بتأليف مئات المصنفات في سائر العلوم الإسلامية، وخصصوا نصيبا وافرا منها لدراسة التصوف، فكتبوا عنه المختصرات والموسوعات، مما قامت به نهضة عارمة في إحياء التراث.
وأقترح أن تخصص مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة مصنفا خاصا لقادة الطرق الصوفية في إفريقيا، وآخر مستقل بذكر كتب التصوف في إفريقيا، وهذا يندرج في قاعدة البيان العام للمؤسسة.
والله ولي التوفيق.
الهوامش
[1] سورة النساء، الآية: 135
[2] أخرجه الإمام ابن ماجة في سننه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، رقم: 3857.
[3] أخرجه الإمام الطبراني في الدعاء ،رقم: 513.
[4] سورة البقرة، الآية: 281.
[5] أخرجه ابن ماجة ( 3973) والترمذي( 2574) في سننهما.
[6] سورة العنكبوت، الآية: 69.
[7] سورة الطلاق، الآية: 2.
[8] سورة القلم، الآية: 4.
[9] سورة إبراهيم، الآية: 9.
[10] سورة النحل، الآية: 127.
[11] سورة المائدة، الآية: 121.
[12] سورة التوبة، الآية: 120.