الظاهرة السلفية في القضايا العقدية وعلاقتها بالمدارس الكلامية
ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية الأولى التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات» يومي الأربعاء والخميس 28 – 29 صفر 1440هـ، الموافق لـ: 7 – 8 نونبر 2018م بمدينة مراكش.
الظاهرة السلفية في القضايا العقدية وعلاقتها بالمدارس الكلامية
الحمد لله، والصلاة والسّلام على سيِّدِنا محمَّدٍ رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه، أمّا بعد، فقد تشرَّفتُ بتلقِّي دعوةٍ من مؤسَّسة محمّد السادس للعلماء الأفارقة للحضور والمشاركة في أشغالِ النَّدوة العلميّة الدَّوليَّة الأولى، والمساهمةِ في ذلك بإلقاء محاضرة بعنوان: «الظَّاهرة السَّلفيّة في القضايا العقَديّة وعلاقتها بالمدارس الكلاميَّة» تكملةً للمحور الثاني من المحورين المقترحين لأعمال هذه النّدوة؛ سعياً لتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها هذه المؤسسة الهامّة في هذا العصر الذي احتاج فيه المسلمون كثيرًاً لتضافر الجهود للمِّ الشّمل وإلقاء الضَّوء على الأسباب الحقيقيّة لما نراه مِن تنازعٍ مؤدٍّ للفشل وذَهاب الريح، وما كان أن يتمَّ مثلُ هذا العمل المبارك لولا الاهتمام الموجَّه والنّظرة الثّاقبة لأمير المؤمنين بالمغرب وإمامِهم محمَّدٍ السادس – أعزَّه الله وحفظه ورعاه -، والذي ما فتئ من خلال مؤسساته العديدة يحقّق النجاح في خدمة قضايا الدِّين ومصالح المسلمين.
سوف أتناول ذلك – إن شاء الله تعالى – من خلال ذكر بعض عقائد السّلفيين التي خالفوا فيها جمهور أهل السّنّة والجماعة، مشيرًاً إلى الفرق التي انتمَوا إليها، مكتفياً ببعض الأمثلة.
الظّاهرة السّلفيّة
الظّاهرة: الأمرُ ينجُم بين الناس فهي حدثت بعد أن لم تكن. (قاموس المعاني.) وبالفعل فقد حدثت هذه الظاهرة السّلفيّة بعد أن لم تكن.
ويوجد ضِمن فروع محاور هذه النّدوة فرعٌ يبحث في مفهوم ومضمون مصطلح السّلفيّة.
وقد ثبتَ جليّاً أنَّ هذه السّلفيّة ليست لها علاقة بالسّلف الصالح، ولا بأهل السّنّة والجماعة. وكيف تكون لهم بهم علاقة وهم يخالفونهم في أهمّ العقائد المتعلّقة بذات الله تعالى وهي مطلق التنزيه والبعدُ عن التشبيه والتجسيم؟ وكيف تكون لهم بهم عَلاقة وهم يتبنَّون مذهب الخوارج في التكفير حملاً لآيات نازلة في المشركين على المسلمين؟ وكيف تكون لهم بهم علاقة وهم يُبَدِّعون أهل المذاهب الأربعة السُّنِّيَّة السّلفيّة المعلومة لكل أحد؟ وكيف تكون لهم بهم علاقة وهم يتجنَّوْن على الرّكن الثالث من مقامات الدِّين – وهو الإحسان – بالإنكار على أهله وعلى وسائلهم الشّرعيّة فهدموا بذلك الرّوح التي تقود المسلم إلى المعرفة بالله تعالى والإخلاص والطمأنينة؟
وأذكر هنا – باختصار – بعض ما خالفوا به أهل السّنّة والجماعة في العقائد التي ينتمون في بعضها إلى المشبِّهة، وفي بعضها إلى المجسِّمة، وفي بعضها إلى الخوارج، وفي بعضها إلى المعتزلة، وفي بعضها إلى الفلاسفة، وفي بعضها إلى ابن تيمية، وغير ذلك.
أخذُهم بالظاهر المتبادر من لغة العرب في النصوص المتشابهة
وهم بذلك ينتمون إلى فرقة (المشبِّهة) أو (المجسِّمة) ويُطلَق عليهم (الحَشْوِيَّة) أو (الكرَّاميَّة) وهم أتباع محمّد بن كرَّام ابن عراف السّجستاني، الذي أثبت الصِّفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه وتوفي عام 256هـ[1]، فتباعدوا بذلك عن معنى قوله تعالى: ﴿ليسَ كمثلِه شيء وهو السَّميعُ البصير﴾ [الشورى: 9]. وخالفوا مذهب أهل السّنّة والجماعة وهو الإيماٌنُ بالمتشابهات على مُرادِ قائلِها وبأنَّ لها معنى ساميًا عظيمًا يليق بذاتِه سبحانه وتعالى، ويُمرّونها كما جاءت مِن دُون تفسيرٍ ولا ذِكْرِ معنى مع قطعِهِم بأنَّ الظَّاهرَ المتبادِر من لغة العرب غيرُ مراد لأنَّه يُفْضي إلى التَّشبيهِ، واللهُ تعالى ليس كمثله شيء، فإيمانهم بذات الله تعالى وصفاتِه إنما هو إيمان إثبات ووجود من دون خوضٍ في معاني المتشابه. ومنهم مَن صرف بعضَها عن الظَّاهر مُؤَوِّلا لها تأويلاً جاريًا على لغة العرب الَّتِي نزل بها القرآن الكريم مع التَّنـزيه، إلَّا في بعض ما ورد مِمَّا يعطي ظاهرُه نقصًا مباشرًا فقد اتَّفق الجميع على تأويله مثلُ الوصفِ بالنسيان، والمرض، وطلب القرض، وأخذ الصّدقات، والاستسقاء، والاستطعام، وغير ذلك. وبهذا فقد جرى السّلف والخلف على مذهبي التفويض أو التأويل في المتشابه، إلّا أنّ التفويض كان عند السّلف أكثرَ من التأويل.
قال ابن دقيق العيد الأشعريّ[2]: «نقول في الصِّفات المشكِلة إنها حقٌّ وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومَن تأوَّلها نظرنا فإن كان تأويلُه قريباً على مقتضى لسان العرب، لم ننكر عليه، وإن كان بعيداً توقَّفنا عنه ورجعنا إلى التّصديق مع التّنـزيه». اهـ من فتح الباري 13/383.
واختصر الإمام إبراهيم اللَّقَّاني الأشعريّ صاحب جوهرة التّوحيد ذلك في بيته المشهور: وكلُّ نَصٍّ أوهمَ التَّشْبيها أوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنـزيها
إنكارهم لتفويض المعنى في المتشابه
وقد خالفوا في ذلك أهل السّنّة والجماعة وادّعَوا بأنّ السّلف قد فسّروا المتشابه كلّه بأوضح بيان وهذا نوع من البهتان والتضليل.
أمثلة من أقوالهم في إنكار التفويض في المعنى
ذهبت السّلفيّة المعاصرة إلى ما ذهب إليه ابن تيمية في ذلك، قال: «قول أهل التفويض الذين يزعُمون أنهم متَّبعون للسُّنَّة والسَّلف من شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد». اهـ. (درأ تعارض العقل والنقل 1/205) وعزاه له ابن عثيمين في مواضع من فتاويه (فتاوى ابن عثيمين 1/244 و 3/297).
وقال ابن العثيمين في شرح العقيدة الواسطيّة: «مَن قالوا إنّ طريقة السَّلف هي التفويض هؤلاء ضلُّوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السَّلف، وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد». (1/92-93). وقال فيها أيضًا: «الّذين قالوا إنّ طريقة السَّلف هي التّفويض كذبوا على السَّلف، بل هم يثبتون اللّفظ والمعنى ويقرّرونه ويشرحونه بأوفى شرح». اهـ). 1/97).
وقال: “التّفويض الذي ذكرتموه هنا لم تبيّنوا بيانًا ظاهرًا ما المراد به؟ هل هو تفويض المعنى، أو تفويض الكيفية؟ فإن كان الأول فليس هذا مذهبَ السَّلف لأنَّهم يثبتون المعنى على حقيقته ويعرفونه تمام المعرفة”. اهـ. (مجموع فتاوي ورسائل ابن عثيمين 1/243).
وقال أبو العالية المحسي د. فخر الدّين الزّبير – من المعاصرين المفتين في الحرم المكّيّ – في (خلاصة الوحيين:) «إنّ هذا المذهب الذي ينسُبُه المتأخّرون للسّلف، ما هو إلَّا أُحبولةٌ شيطانيّة وحيلة يونانيّة لتحريف ظواهر النّصوص». اهـ ثمّ قال: «إنّ التّفويض الذي ينحلونه إلى السَّلف هم منه براء – أعني الجهل بالمعاني – بل هو مذهب باطل ولا يمكن أن ينطلي على عاقل». اهـ.
والنُّقول المعاصرة بهذا المعنى كثيرة جداً في كتابات السَّلفييِّن، وكلُّهم يصرّون على أنّ معاني المتشابه معلومة، وأنّ السَّلف فسّروا المتشابه كلّه بأوضح تفسير، وأنّ كلّ من قال بالتفويض في المتشابه ضالّ.
وبالنّسبة لادّعائهم تفسير السَّلف للمتشابه كلِّه فهو ادّعاء لا يصحبه دَليل، وإلَّا فليبيّنوا لنا أين فسّر السَّلف النّصوص المتشابهة؟ لم نجد في كتب السَّلفيِّين ما يسند هذا الادّعاء إلا ما ورد من تفسير لكلمة (استوى) بمعنى ارتفع وعلا، ولفظُ العُلُوِّ قد ورد في نصوص من الكتاب والسّنّة وليس مختصًّا بكلمة (استوى) فالعلوّ واردٌ معلوم لا ينكره أحد، لكن ما المراد منه؟ ثم إنَّهم مع هذا النّقل تجدهم يفسّرون الاستواء أيضًا بالاستقرار والجلوس كما هو موجودٌ في كتابات كثيرٍ منهم، مع أنّه تفسيرٌ مبتدَع لم يرِد في كتاب ولا سنّة ولا عن السّلف. والموضع الثّاني عبارة الإمام مالك – رحمه الله – من قوله:
«الاستواء غير مجهول، وفي رواية معلوم والكيف غير معقول أو الكيف عنه مرفوع، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، وقد أثبتَ المحقّقون أنّها ليست نصًّا فيما يدّعونه من تفسير المتشابه وذِكر معناه. وإلَّا قولَهم: «إنّ مجاهدًا أخذ تفسير القرآن كلَّه عن ابن عبّاس رسي الله عنهما»، وهذا كلام لا دليل فيه على تفسير المتشابه؛ فابن عبّاس نفسه – رضي الله عنه وعن أبيه – ورد عنه ما يفيد الإمساك عن الخوض في المتشابه، كما ورد عنه صرف المعنى عن ظاهرِه في مواضع، ولم يَرِدْ عن مجاهدٍ نفسِه تفسيرُ المتشابه أو ذكرُ معناه، بل ورد عنه التّأويل في بعضِه، وليس للسَّلفيِّين في كتبهم غيرُ ذلك مما يبيّن تفسير السَّلف للمتشابه كما يدَّعُون.
أمثلة من أقوال السّلف في التفويض في معنى المتشابه
نُقِل عن ابن عبّاس – رضي الله عنهما – عند قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اُ۬للَّهُ فِے ظُلَلٖ مِّنَ اَ۬لْغَمَٰمِ وَالْمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ اَ۬لَامْرُۖ وَإِلَي اَ۬للَّهِ تُرْجَعُ اُ۬لُامُورُۖ﴾ [البقرة: 210]. قوله: «هذا من المكتوم الذي لا يُفسّر». أورده من المفسِّرين أبو حيَّانَ التَّوحيديُّ، والقرطبيُّ، ومرعي بنُ يوسف المقدِسيُّ الحنبليُّ في تفسيره (البرهان) وكتابِه (أقاويل الثِّقات) والسَّمرقنديُّ في (بحر العلوم)، والبغويُّ في التّفسير. كما أورد ابن تيمية هذا اللّفظ مقرًّا له في مجموع الفتاوى (16/421). وذكر هناك أنّ هذه الآية أغمضُ من آية الاستواء.
وجاء في كتاب البيان والتَّحصيل لابن رشد (الجَدّ) – رحمه الله تعالى (18/504).، وسيرِ أعلام النّبلاء (8/104)، والنّوادرِ والزياداتِ لابن أبي زيد (14/553). ما نصّه: (قال – يعني ابن القاسم صاحب مالك – وسألت مالكًا عن الحديث في أخبار سعد بن مُعاذ في العرش، فقال: لا تتحدّث به… وعن الحديث: «إنَّ اللهَ خلقَ آدمَ على صورتِه». وعن الحديث في السّاق، وذلك كلِّه، قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدِّث بمثل هذا. قال ابن رشد بعد أن ذكر الأحاديث الَّتِي أشار إليها ابن القاسم: وإنما نهى مالك أن يُتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جاء بأنَّ الله خلق آدم على صورته، ونحوِ ذلك من الأحاديث الَّتِي يقتضي ظاهرُها التشبيه، مخافة أن يُتحدث بها، فيكثرَ التّحدّث بها، وتشيعَ في الناس، فيسمعَها الجهّال الذين لا يعرفون تأويلَها، فيسبق إلى ظنونهم التشبيهُ بها، وسبيلُها – إذا صحَّت الروايات بها – أن تُتَأوّل على ما يصحّ، مما ينتفي به التشبيه عن الله عزّ وجلّ بشيء من خلقه، كما يُصْنَع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه وهو كثير، كالإتيان في قوله عزّ وجلّ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اُ۬للَّهُ فِے ظُلَلٖ مِّنَ اَ۬لْغَمَٰمِ وَالْمَلَٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ اَ۬لَامْرُۖ وَإِلَي اَ۬للَّهِ تُرْجَعُ اُ۬لُامُورُۖ ﴾ [البقرة: 210]، والاستواءِ في قوله: ﴿الرّحمنُ علَى العرشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]. وكما يُفعل أيضًا بما جاء من ذلك في السُّنن المتواترة كالضَّحك والنـُّزول وشبه ذلك مما لم يُكره روايتُها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كُلّها في اقتضاء ظاهرِها التشبيهَ وإمكانِ تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عزّ وجلّ بشيء من خلقه سواء) اهـ. من كتاب (أهل السّنّة الأشاعرة ص140).
وقال الإمام الشّافعيّ – رحمه الله – عن المتشابه: «آمنَّا بالله وبما جاء عن الله على مرادِ الله، وآمنَّا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام». (لمعة الاعتقاد صـ 7) لابن قُدامة المقدسيّ وغيرِه من المراجع، وهذه العبارةُ عن الإمام الشافعيّ كثُر نقلها حَتَّى من السَّلفيّين أنفسهم مع أنّها واضحة في عدم ذكر معنى بعينه بل فيها التّفويض الكامل بقوله (على مراد اللهـ) و (على مراد رسول الله.)
ونُقِل عن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى – عدمُ ذِكْرِ المعنى في عدَّة مواضع، ففي كتاب (لمعة الاعتقاد لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي: «عندما سئل الإمام أحمد عن أحاديث الصِّفات قال: (نؤمن بها ونصدِّق بها ولا كيف ولا معنى» اهـ. (صـ 7).
وفي شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة للالكائي: «ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أحاديث الرُّؤيا والنـّزول ونحوِ ذلك قال: نؤمن بها ونصدِّق بها ولا كيف ولا معنى».اهـ) رقم604).
وفي كتاب (الورع 1/199) للإمام أحمد قال: «واعلم أنَّ الله تعالى بصفاته ليس كالبشر والرؤيةُ حقٌّ لأهل الجنة من غير إحاطة ولا كيفيّة كما نطق به كتاب ربّنا
﴿وُجُوهٌ يوْمَئِذِ ناَضِرَة إِلىَ رَبهِّا ناَظِرة﴾ [القيامة: 22–23]. وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعَلِمَه، وكلُّ ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فهو كما قال ومعناه على ما أراد الله». اهـ
وذكره ابن بطّة في (الإبانة الكبرى 1/96). قال: «قال أبو عبد الله: ونحن نؤمن بالأحاديث في هذا ونقرّها، ونُمرّها كما جاءت بلا كيف، ولا معنى». اهـ
وقال أيضا عن اليدين: «ليستا بجارحتين، وليستا بمركَّبتين، ولا جسمًا، ولا من جنس الأجسام، ولا من جنس المحدود والتّركيب، ولا الأبعاضِ والجوارح، ولا يقاس على ذلك، ولا له مرفق ولا عضُد ولا فيما يقتضي ذلك من إطلاق قولهم يد». (اعتقاد الإمام المنبّل أبي عبدالله أحمد بن حنبل صـ 32 للإمام أبي الفضل التّميميّ وكذلك اعتقاد الإمام أحمد لمحمد بن أبي يعلَى 1/249 « اعتقاد الإمام أحمد (ذيل طبقات الحنابلة) تأليف: محمد بن أبي يعلى أبو الحسين، دار النشر: دار المعرفة – بيروت، تحقيق: محمد حامد الفقي»)، وهذا كلامٌ قاطعٌ في هذه المسألة من هذا الإمام رضي الله عنه، فهو مع إيمانه بالنَّصّ واعتقاد أنَّ له معنى يليق بذاته، لكنَّه ينأى عن كل معنى يعطيه ظاهر اللَّفظ لكلمة (يد) وهذا هو عين التَّفويض في المعنى لأنَّه لا يعتقد ولا يتصوَّر معنى لليد إلَّا مِن حيث الإثباتُ، وفيه ردٌّ على منكري التّفويض في المعنى الّذين ذهبوا إلى تأويل كلام الإمام أحمد (ولا معنى) بقولهم (أي لا معنى أهل التّأويل الذين يؤوّلونها) وهذا تهجّم منهم على هذا الإمام وتحريفٌ لكلامه ليوافق مذهبهم المنكِر للتّفويض والمثبِت للمعنى الظّاهر، وإلَّا فانظر إلى عبارة الإمام المذكورة عن اليد، وإلى قوله: «ولا نصف الله بأكثر ممّا وصف به نفسه بلا حدّ ولا غاية ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [الشورى:11] ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسٌه، لا نتعدَّى ذلك»، فليس فيه ذكرُ معنى بل هو من باب السّكوت وعدم القول بالمعنى الظّاهر المؤدِّي إلى التّشبيه، وهو من قبيل التّأويل الإجماليّ لأنّ التّفويض تأويل في الإجمال لأنّ أهله قد ابتعدوا عن المعنى الظّاهر المؤدّي للتشبيه.
وفيه: وسئل قبلَ موتِه بيوم عن أحاديث الصفات فقال: «تُمَرُّ كما جاءت ويُؤْمَن بها ولا يُرَدُّ منها شيء إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حَدٍّ ولا غاية ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [الشورى:11] ومن تكلَّم في معناها ابتدَع». اهـ1 /307 فانظر إلىٌ قوله «ومن تكلم في معناها ابتدع» تعلمْ مذهب هذا الإمام في هذه المسألة وأنّه لا اختلاف بينه وبين من قال بالتّفويض في المعنى.
وتعدّد نقل د. محمد أمان رئيس شعبة العقيدة بالدِّراسات العليا بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوّرة عن الإمام أحمد في كتابه (الصّفات الإلهيّة) ومِن ذلك: «إنَّ ما يرجِع إلى عالَم الغيب لا ينبغي الخوض فيه وإنما نفوِّض أمره إلى الله». صـ100
وذكر البيهقيّ بسنده إلى إسحاق بن موسى الأنباري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: «ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسّره بالعربيّة ولا بالفارسيّة». اهـ (إيضاح الدليل1/40) و(شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة للالكائي رقم 569).
وقد جاء ذكر تفويض المعنى في المتشابه وعدمِ تفسيره عن كثيرٍ من أئمّة السّلف غيرِ مَن ذكرناهم، كيحيى بن معين، وزكريا بن عدي، ووكيع بن الجراح، وإسماعيل بن أبي خالد، ومِسعر بن كِدَام، والترمذيّ، ومحمد بن الحسن الشَّيبانيّ الذي قال: «اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وقال: ما وصف الله تعالى به نفسه فقراءته تفسيره». ذكره اللالكائي في شرح السنة. 1/40 من إيضاح الدّليل.
قال الإمام التِّرْمِذِيّ رحمه الله تعالى في سننه عند حديث: «إِنَّ الله يقبلُ الصَّدَقَةَ ويأَخُذُها بيَمينِه»: «وقد رُوي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم روايات كثيرة في مثل هذا، والمذهب في هذا عن أهل العلم من الأئمّة مثل سفيان الثّوري ومالك بن أنس وسفيانَ بنِ عيينة وابن المبارك ووكيع وغيرِهم أنَّهم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال كيف، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كيف جاءت ويُؤمَن بها ولا تُفسَّر ولا يُتوهم ولا يقال كيف، قال وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه» اهـ 4/692.
والنقل عن السّلف كثير لا يُحصى في هذا الأمر، وقد حرّر مذهبَهم الأئمة الأعلام أبو الحسن الأشعري (324 هـ) وأبو منصور الماتريديّ (333هـ) وأبو جعفر الطّحاويّ (321هـ) فصارت عقائدُ أهل السّنّة والجماعة من الخلف بعد ذلك تدور حول ما حرّروه من مذاهبَ بعيدةٍ عن التشبيه والتجسيم، على خلاف ما عليه جماعة الطائفة السّلفيّة الذين شذُّوا عن الجمهور في ذلك.
قال الإمام الخَطّابي في شرح حديث النّزول: «مذهب علماء السَّلف وأئمة الفقهاء أن يمروا مثل هذه الأحاديث على ظاهرها، وأن لا يذكروا لها المعاني»اهـ. بذل المجهود 18/271
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «أكثر السَّلف يمتنعون عن تأويل مثل هذا ويُمرونه كما جاء، وينبغي أن يُراعى في مثل هذا الإمرار اعتقادُ أنه لا يشبه صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد مع اعتقاد التَّنـزيه».اهـ (فتح الباري 6/39-40).
وفي شرح مسلم للنّووي في ذكره لمذهب التفويض في المعنى قال: «وهو مذهب معظم السَّلف أو كلِّهم، أنه لا يُتَكَلَّم في معناها، يقولون: بل يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منـزَّه عن التَّجسيم والانتقال والحيّز في جهة وعن سائر صفات المخلوق». اهـ 3/19
وفي إيضاح الدّليل لابن جماعة: «عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة تفويض إدراك حقيقة متشابه الصِّفات إلى الله تعالى والتَّسليم بجميع ما جاءت النُّصوص الصحيحة إيماناً بذلك وإذعاناً وتسليماً وفق مراد الله تعالى ومراد رسوله صلّى الله عليه وسلّم».اهـ1/39
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية 54 من سورة الأعراف:﴿ ثمَُّ اسْتَوَى عل العرْش﴾: «وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السَّلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظَّاهرُ المتبادِر إلى أذهان المشبهين منفيٌّ عن الله تعالى». اهـ 3/427
وفي كتاب (أساس التقديس) للفخر الرّازي: «حاصل مذهب السَّلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأنَّ مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها».اهـ1/137).
وقال العلاّمة ابن خلدون عن المتشابه في المقدِّمة: «مذهب السّلف تفويض المراد بها إلى الله والسكوت عن فهمها».اهـ) 1/277).
وهكذا في نصوص لا تحصى عن أئمة الخلف في إثبات ونسبة التفويض للسلف وعدم الخوض في المعنى.
وكلُّ ذلك عملاً بالتّوجيه النّبويّ الوارد في عدَّة نصوص منها ما أخرجه أحمد في المسند بإسناد حسن6453) ) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا؛ ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ». يتدارؤون في الأمر: «لا تُعقَد عليه قلوبهم». وهو في مصنَّف عبد الرّزّاق 20368 وأخرجه أيضا الطبراني في المعجم الكبير 3113 والبيهقي في شعب الإيمان 2128، وفي المستدرك 5326 عن أُبي بن كعب رضي الله عنه: «ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم، فكِلوه إلى عالمه».
وعن عَبْدِ اللّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: هَجَّرْتُ إلى رَسُولِ اللّهِ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم يَوْمًا. قَالَ: فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: «إِنّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلاَفِهِمْ فِي الْكِتَابِ». [مسلم 2666] وعن جُنْدُبٍ بنِ عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه قوموا». [مسلم 2667].
إثباتهم للكيفيّة في ذات الله تعالى وصفاته
وقد كثر ذكر ذلك في كتب المعاصرين، فيُثبتون الكيفيّة ويقولون نفوّض فيها، فتفويضهم مختلفٌ عن تفويض أهل السّنّة والجماعة؛ فالسّلفيّون يفوّضون في الكيفيّة وأهلُ السّنّة يفوّضون في المعنى وينفون الكيفيّة إذ إنّها من الأمور المستحيلة على الله تعالى لأنّها من خواصّ الأجسام.
نُقول عن السّلفيّين المعاصرين في إثبات الكيفيّة لله تعالى وصفاته
ورد في شرح العقيدة الواسطيّة لابن العثيمين: (إنَّ معنى قولنا «بدون تكييف» ليس معناه ألَّا نعتقد لها كيفيّة بل نعتقد لها كيفيّة لكنِ المنفيُّ علمُنا بالكيفيّة لأنّ استواء الله على العرش لا شكَّ أنّ له كيفيّةً لكن لا تُعلم، ونزوله إلى السَّماء الدّنيا له كيفيّة، لكن لا تُعلم لأنّه ما من موجود إلا وله كيفيَّة لكنّها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة.) صـ 99ج1 فانظر إلى هذه الجرأة بنسبة الكيفيّة لله تعالى وصفاته صراحة!!
وكثير من الذين أخذوا العلم عن منكري التّفويض والتّأويل يتأثّرون بهم في الإنكار ويثبتون الكيفيّة لله تعالى.
وقال أيضاً: «قوله: ﴿الرّحمنُ علَى العرشِ اسْتَوى﴾ [طه: 5] استقرَّ عليه وعلا عليه». صـ90ج1.
وقال عن قولهم: «أمرُّوها كما جاءت»: «معلوم أنّها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثًا، فإذا أمررناها كما جاءت لزم من ذلك أن نجعل لها معنى». صـ101-102ج1.
وقال عن حديث الصّورة: «نحن وجدنا أنّ الصورة لا يلزم منها مماثلة الصّورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهرِه. فإن قلتَ ما هي الصّورة الَّتِي تكون لله ويكون آدم عليها؟ قلنا إنّ الله عزّ وجلّ له وجه وله عين وله يد وله رجل، لكن لا يلزم مِن أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان فهناك شيء من الشَّبه، لكنّه ليس على سبيل المماثلة».صـ 1/110 من شرح العقيدة الواسطيّة. فانظر إلى قوله (فهناك شيء من الشبهـ) وانظر إلى المقارنة بأعضاء آدم تعرف ما هنالك.
وقال: «ما المانع من أن يأتي الله بنفسه بالكيفيّة الَّتِي يريدها؟». صـ من شرح العقيدة الواسطيّة 280ج1فهو مِن إثباته للكيفيّة الّذي تكرّر عنه.
وسئل الألباني رحمه الله: هل آيات الصّفات من المتشابهات أم من المحكمات؟ فأجاب رحمه الله: (هي من جهةٍ من المتشابهات وذلك فيما يتعلّق بالكيفيّات، وليست – من جهة أخرى – من المتشابهات من حيث إنّ لها معنى ظاهرًا أي أنّ لها معاني معروفة باللغة العربيّة). صـ119 وعزاه للفتاوى الإماراتيَّة السّؤال 17 منها. (المنهج السَّلفيّ عند الألبانيّ) لعمرو عبد المنعم سليم.
وفيه: وقال: (مذهب السَّلف الإيمان بآيات الصّفات وأحاديث الصّفات على المعنى اللغويّ). صـ 132
قال: «وسئل: ما القول في قوله تعالى: ﴿اَ۬للَّهُ يَسْتَهْزِۓُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِے طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَۖ﴾ [البقرة:15] وقوله﴿ سَخِرَ اَ۬للَّهُ مِنْهُمْۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌۖ ﴾ [التوبة: 79] فأجاب رحمه الله: نقول في الآيتين السّابقتينُ الواردتين في السّؤال من استهزاء الله عزّ وجلّ وسخريّته، إنّه استهزاء وسخرية يليق بالله عزّ وجلّ». صـ 132-133
فهو لا يحترز عن نسبة كلّ المتشابهات للمولَى تعالَى على ما يعطيه المعنى الظّاهر مِن اللّغة العربيّة، فهو كما قال استهزاء يليق به وسخرية تليق به، كذلك يلزمه أن يقول: ومرض يليق به، وطلب قرض يليق به وأخذ صدقة تليق به إلى آخر المتشابهات والنّواقص!
هذه أمثلة من أقوال السّلفيّين المعاصرين في إثبات الكيفيّة لله تعالى، مع أنّهم يخالفون زعيمهم ابن تيمية الذي كان يصرّح في بعض ما نقل عنه بتنزيه الله تعالى عن الكيفيّة، فمن ذلك قوله في مجموع الفتاوى: «وَلا تَدْخُلُ أَوْصَافُهُ تَحْتَ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ. وَصِفَاتُ الْخَلْقِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ جَائِزٌ عَلَيْهَا الْكَيْفُ؛ فَأَمَّا صِفَاتُهُ تَعَالَى فَمَعْلُومَةٌ فِي الْعِلْمِ وَمَوْجُودَةٌ فِي التَّعْرِيفِ قَدْ انْتَفَى عَنْها التَّشْبِيهُ فَالإيمَانُ بِها وَاجِبٌ وَاسْمُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ سَاقِطٌ». اهـ1/420
كما ذكر السّلفيّون ألفاظاً وعبارات لم ترد في كتاب ولا سنّة، وذلك كقولهم: بائن عن خلقه – ويعنون بذلك الانفصال الحسّي- [3]، مستو على عرشه، وجلس، واستقرّ، وهل يخلو العرش منه؟ وغير ذلك. مع أنّهم يدّعون أنّهم لا يخرجون عن الكتاب والسنّة في العقيدة، فمن أين جاءوا بألفاظ التشبيه هذه؟
إنكارهم تأويل المتشابه وإن كان سائغاً مقبولاً
وقد خالفوا أهل السّنّة والجماعة في ذلك وادّعَوا بأنّ التأويل تعطيل، وأنّه بدعة وأنّه لم يرد عن السّلف أصلاً، والواقع يكذّبهم.
قال علماء أهل السّنّة والجماعة إنَّ مذهب التأويل يعني صرف هذه الصِّفات عن الظّاهر المؤدّي إلى التّشبيه وإرجاعَها إلى لوازمِها، والتّأويلُ مذكور في القرآن على معنى البيان والتفسير في آيات كثيرة منها قوله تعالى:ِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَاوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراًۖ ﴾ [الكهف: 78] ﴿ولِنُعَلمَّه مِن تأويلِ الأحاديث﴾ [يوسف: 21]، قال الإمام النّووي في تهذيب الأسماء واللّغاتُ: «أما التَّأويل فقال العلماء: صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله أوجبه برهان قطعيّ في القطعيات وظنِّيّ في الظنّيات، وقيل هو التّصرّف في اللّفظ بما يكشف عن مقصوده».اهـ 3/290.
ولم يبتدع المؤوِّلون في ذلك فقد كنى الله تعالى عن التوسّط في الإنفاق بقوله ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً اِلَيٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ اَ۬لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماٗ مَّحْسُوراًۖ ﴾ [الإسراء: 29]. وقال على لسان إخوة يوسف عليه السلام:﴿ وَسْـَٔلِ اِ۬لْقَرْيَةَ اَ۬لتِے كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ اَ۬لتِےٓ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَۖ﴾ [يوسف: 82]. وأراد أهلَ القرية وأصحاب العير. وعبَّر المولى تعالى عن انفراده بالكبرياء والعظمة بالرداء والإزار. وأوّل تعالى على لسان نبيه صَلَّى الله عليه وسلم المرض المنسوب إليه بمرض العبد في حديث: «مرضتُ فلمْ تعُدْني». ففتح بذلك باب التّأويل في بقيّة الحديث نفسه: «فلو عُدتَه لوجدتَني عندَه… الحديث»، وفي غيره من المتشابه. وأطلق النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم طول اليد وأراد كثرة الإنفاق ففي حديث مسلم (3452) عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم: «أسرعُكُنَّ لحاقاً بي أطولُكُنَّ يدًا». قالت: «فكنَّ يتطاولن أيتّهن أطول يدًا. قالت: فكانت أطولَنا يدًا زينبُ؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدَّق».
ولما أخذ أحد الصحابة بظاهر قوله تعالى:﴿ حَتَّى يتَبيَّنَ لكُمُ الَخْيْطُ الْأبَيَض مِنَ الَخيط الْأسْودِ﴾ ظنَّ أنَّ المراد تبيُّنُ الخيط نفسِه فضحك النّبيّ صَلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم وقال: «إنما هو اللّيل والنّهار». والحديث في الصّحيحين عن عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ قال: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية ﴿حَتَّى يتَبيَّنَ لكُمُ الَخْيْطُ الْأبَيَض مِنَ الَخيط الْأسْود﴾ قال: أخَذْتُ عِقَالاً أبْيَضَ وَعِقَالاً أسْوَدَ، فَوَضَعْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَنَظَرْتُ فلمْ أتَبَيّنْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لرَسُولِ الله -صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم- فَضَحِكَ فقالَ: إنّ وِسَادَكَ إذًا لَطَوِيلٌ عَرِيضٌ إنّمَا هُوَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ».
وعن أبي شُرَيحٍ الخُزاعِيِّ قال: خرج علينا رسول الله – صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم – فقال: «أليسَ تَشهدونَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنِّي رسولُ الله؟» قالوا: بلَى. قال: «إنَّ هذا القرآنَ طرفُه بيدِ اللهِ وطرفُه بأيديكم فتمسَّكوا به فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تَهْلَكُوا بعدَه أبدًا». (أخرجه ابن حبّان في صحيحه 122وابن أبي شيبة 7/164 وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2036 والطبرانيّ في الكبير 1520 وأورده الهيثميّ في مجمع الزّوائد وقال: رجالُه رجال الصحيح).
وفي حديث التِّرْمِذِيّ وأحمد عن أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوَلُ اللَّهِ – صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم: – «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الَثَّقَلَيْنِ أَحدهُمَا أكْبَرُ مِنْ الآخَرِ كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ وَعِتْرَتِي أهْلُ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ». وهو حديث حسن (الترمذيّ 3788) والتّأويل في الحديثين واضح لا ينكره إلا مكابر، وإلاّ فما معنى قولِه: «إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم» إن لم يؤوّل؟ وما معنى: «كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ». إن لم يُصرف عن ظاهرِه؟ وغير ذلك موجود في الكتاب والسنة.
وإذا كان التفويض في معنى المتشابه نوعاً من التأويل الإجماليّ، فقد ورد التأويل أيضاً عن السَّلف والخلف، إلا أنّ التأويل كان في الخَلفِ أكثر من السَّلف لما اقتضته الضّرورة.
أمثلة للتأويل عن السّلف
في تفسير ابن أبي حاتم عََنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اُ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞۖ﴾ [البقرة:115] قِبْلَةُ اللَّهِ أيْنَمَا تَوَجَّهْتَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا».اهـ 1/212.
وفي تفسير القرطبيّ عند قوله تعالى:﴿ ويبقَى وجه ربكِّ﴾ [الرحمن: 27] قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: الوجه عبارة عنه. اهـ. وقال القرطبُي: أي ويبقى الله فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه، وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا ابن فَوْرَك وأبو المعالي وغيرهم، وقال أبو المعالي: وأمّا الوجه المراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى (17/165).
وقد يعترض البعض بأنّنا ذكرنا قبل ذلك قول ابن عبّاس رضي الله عنهما في بعض المتشابه: «من المكتوم الذي لا يفسّر»؛ فالذي هنا ليس بتفسير، وإنّما هو صرفٌ للّفظ عن ظاهره، وهو استدلال على بعض التأويل الوارد عن السّلف.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وسِع كرسيه السمواتِ والأرض﴾ [البقرة: 255] قال: (علمهـ). اهـ أخرجه ابن جرير في التفسيرُّ 3/9 واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 2/160.
وأوَّل ابن عباس رضي الله عنهما (الأيدي) في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَيَيْدٖۖ﴾ [الذاريات: 47] بالقوَّة (الطبري 27/7).
وفي فتح الباري (8/664): «وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله:﴿يومَ يكُشَفُ عن ساق﴾ [القلم: 42] قال: عن شدة أمر، وعند الحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو يوم كرب وشدة. قال الخطّابي: فيكون المعنى يكشف عن قدرته التي تنكشف عن الشدَّة والكرب وذكر غير ذلك من التأويلات». اهـ.
وذكر ذلك التأويلَ ابنُ جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره وعزاه للصّحابة والتّابعين فقال: «قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد». (29/38).
وأوَّل رضي الله عنه مجيء الرَّبِّ تعالى، جاء في تفسير النَّسفيّ رحمه الله تعالى) 4/338) عند قوله تعالى ﴿وَجَاءَ رَبكُّ وَالمَلكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: 22] ما نصّه: «عن ابن عباس: أمره وقضاؤه» اهـ.
وجاء عنه رضي الله عنه تأويل لفظ (الأعين): قال تعالى: ﴿واصنعِ الفُلكَ بأِعْيننا﴾ [هود: 37] قال رضي الله عنه: «بمرأى مِنَّا» (تفسير البغوي 2/382). وقال تعالى: ﴿فإنكَّ بأعيننا﴾ قال رضي الله عنه: «نرى ما يُعمل بك». (تفسير الخازن 4/495).
تأويله رضي الله عنه للفظ (الجنب): قال تعالى ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٞ يَٰحَسْرَت۪يٰ عَلَيٰ مَا فَرَّطْتُّ فِے جَنۢبِ اِ۬للَّهِ﴾ [الزمر: 56] قال رضي الله عنه: «ما تركت من طاعة الله». (روح المعاني الآية 56 من الزمر.)
وعند ابن جرير أيضًا: «عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: ﴿اللُه نورُ السّموات والأرض﴾ يقول: الله سبحانه هادي أهل السماوات والأرض».اهـ 18/135
فهذهِ عشرةُ مواضِع مِن التّأويل في المتشابه الذي ينكره السّلفيّون مِمَّا أُثِرَ عن حَبْرِ الأمّة ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. ولا تسمعْ لمن يحاول نفي ذلك عن حبر الأمّة؛ فقد أورده علماء السّلف ومن أخذ عنهم في كتبهم المعتمدة كابن جرير وابن أبي حاتم ومجاهد واللالكائي وأقرّوه.
تأويل مجاهد والسُّدِّيِّ للفظ (الجنب): جاء في تفسير الطَّبري رحمه الله (24 /19) عند قوله تعالى: ﴿أن تَقُولَ نَفْسٞ يَٰحَسْرَت۪يٰ عَلَيٰ مَا فَرَّطْتُّ فِے جَنۢبِ اِ۬للَّهِ﴾ [الزمر: 56] قال مجاهد: «في أمر الله»، وقال السُّدِّيُّ: «على ما تركت من أمر الله».
وأوّلَ سفيان الثَّوْرِيُّ الاستواء على العرش: بقصد أمره، والاستواء إلى السماء: بالقصد إليها (مرقاة المفاتيح 3/270).
تأويل مجاهد والضحاك وأبي عبيدة للفظ (الوجهـ): قال تعالى: ﴿وَلِلهِ اِ۬لْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُۖ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اُ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞۖ ﴾ [البقرة: 115] قال مجاهد رحمه الله: «قبلة الله». (الطبري 1/402 الأسَماء والصفات للبيهقي 309 وصحَّحه ابن تيمية عنهما كما في العقود الدُّرِّيَّة 1/263-264).
وقال الضّحّاك وأبو عبيدة في قوله تعالى:﴿كلُّ شْيءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص:88] أي إلا هو (دفع شبه التشبيه 1/ 113).
تأويل الإمام الطّبري للفظ (العين): قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى:﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَيٰ عَيْنِيَ﴾[طه: 39] «بمرأى مني ومحبة وإرادة». (16/ 163).
وعنده أيضاً: «يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿الله نورُ السّمواتِ والأرض﴾ [النور:38]
هادي من في السماوات والأرض، فهم بنورهُ إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون».اهـ) 18/135).
وأوَّل الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقد روى الحافظ ابن عبد البرِّ في التَّمهيد 7/143 وذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 8/105 أن الإمام مالكًا أوّل النـزول الوارد في الحديث بنـزول أمره، قال الذّهبيّ قال ابن عَدِي: حدثنا محمد بن هارون بن حسان، حدثنا صالح بن أيوب، حدثنا حبيب بن أبي حبيب، حدثني مالك قال: ينـزل ربنا تبارك وتعالى ينـزل أمره، فأمّا هو فدائم لا يزول. اهـ قال الإمام ابن عبد البر بعد نقله لقول مالك: «وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك رحمه الله على معنى أنه تتنـزل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة» اهـ. كما أشار إلى ذلك الإمام النَّووي في شرح مسلم وذلك في شرح حديث النـزول عندما ذكر المذهبين التّفويض والتّأويل؛ فقال عن التّأويل: «والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تُتَأول على ما يليق بها بحسب مواطنها؛ فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما تأويل مالك بن أنس وغيره معناه تنـزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الدَّاعين بالإجابة واللُّطف والله أعلم».اهـ 6/37-38.
وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (ج7 ص145-146) روى حرملة بن يحيي قال سمعت عبد الله بن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: مَن وصف شيئاً من ذات الله مثل قوله ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة﴾ [المائدة:64] وأشار بيده إلي عنقه، ومثل قوله﴿وهو السميع العليم﴾]الأنعام: 13] وأشار إلي عينيه أو أذنه قُطع ذلك منه لأنه شبَّه الله بنفسه». اهـ.
ونقل الطبري في تفسيره تفسير لفظ (الأيد) بالقوة عن جماعة من أئمّة السَّلف كمجاهد وسفيان وقتادة). 27/57).
وأوّل الإمام الشّافعيّ رحمه الله تعالى وجه الله في قوله تعالى ﴿فَثَمَّ وجهُ الله﴾ [البقرة:
115] بالوجه الذي وجَّه إليه الله تعالى (الأسماء والصفات للبيهقي 309).
وفي قوله تعالى: ﴿وجاء ربكُّ والملكُ صَفًّا صفًّا﴾ [الفجر: 22] قال الإمام أحمد في تفسيرها: أي جاء ثوابه. قَال البيهقي: «هذا إسناد لا غبار عليه».اهـ (البداية والنّهاية) 10/327 وبعد هذا يأتي السَّلفيّون ويسمّون ذلك ونحوَه تعطيلا، قال ابن العثيمين: «يقول المعطِّل في قوله ﴿جاءَ ربكُّ﴾ جاء أمره». صـ281من شرح العقيدة الواسطيّة ج1 إذن فالإمام أحمد على قوله هذا معطِّل، ولا ينفعهم تكذيبُ نسبة ذلك للإمام أحمد فقد قال البيهقي «هذا إسناد لا غبار عليه» كما قال ابن كثير رحمهم الله جميعًا. وتأويل الإمام أحمد لإتيان سورة البقرة بالثّواب ذَكَره السّلفيّون أنفسهم (انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 1-249 و2-237).
والحديث في سنن التّرمذيّ 2808 عَنَ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْتِي الْقُرْآنُ وَأهْلُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ… الحديث» قال التّرَمَذيّ: «وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابَُ قِرَاءَتِهِ كَذَا فَسَّرَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الأحَادِيثِ أنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».اهـ.
وفي مستخرج أبي عوانة رقم 3195 قال أبو عبيد في قوله: «يأتِيان يوم القيامةِ كأنَّهما غمامتان». إنما هو الثواب وهو بَيِّن في الكتاب والسُّنَّة، أمّا في الكتاب بقوله تعالى: ﴿فمن يعملْ مِثقالَ ذرَّةٍ خيراً يرَهْ﴾ الزلزلة يريد به الثواب ﴿وما تقُدِّموا لأنفسِكُمْ مِن خيرٍ تجدوهُ عندَ الله﴾ فيرون لو أنَّ رجلاً أطعم مسكيناً رغيفاً يراه بعينه أو ثوابَه؟ وأما السنّة بقوله عليه السلام: «من عال ثلاث بنات كنّ له حجاباً من النار». معناه الثواب. اهـ.
وقال سفيان بن عيينة في حديث: «آخر وطأة وطِئها الرّحمن بِوَجٍّ». أي آخر غزوة (ووجّ وادٍ بالطّائف) .اهـ الأسماء والصّفات للبيهقي.470.
وفي صحيح ابن حبّان رقم 4668 عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله ﷺ قال: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ». قال: «إنما هو الثّواب في العقبى والغنيمة في الدنيا». اهـ.
وأوَّلَ النَّضر بن شميل: وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ولد سنة 122هـ، ذكر البيهقي في (الأسماء والصفات حديث735) وابن الجوزي في (دفع شبه التشبيهـ) أن النَّضر قال: إن معنى حديث: «حَتَّى يضعَ الجبّارُ قدمَه»: «أي مَن سبق في علمه، أنه من أهل النار»اهـ.
وقال أبو منصور الماتريدي في كتاب (التوحيد) عن قوله تعالى: ﴿ونحن أقربُ إليهِ مِن حبلِ الوريد﴾ [ق:16] أي بالسّلطان والقوّة وبألوهيّته في البقاع كلِّها لأنّها أمكنة العبادة. اهـ 1/71.
وأوَّل الإمام البخاريّ الضحك بالرّحمة، قال الإمام البيهقي – رحمه الله تعالى – في كتـاب «الأسمـاء والصفـات» (حديث927): (باب ما جاء في الضحك… عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى عليه وسلم قال: «يضحكُ اللهُ إلى رجلين يقتلُ أحدُهما الآخر كلاهما يدخل الجنَّة»…. قال: قال البخاري معنى الضحك الرحمة. قال أبو سليمان – يعني الخطابي – قول أبي عبد الله قريب، وتأويله على معنى الرضى لفعلهما أقرب وأشبه، ومعلوم أن الضحك من ذوي التمييز يدلّ على الرضى، والبِشرُ والاستهلال منهم دَليل قبول الوسيلة، ومقدّمة إنجاح الطَّلِبة، والكرام يوصفون عند المسألة بالبِشْر وحُسْن اللقاء، فيكون المعنى في قوله: «يضحك الله إلى رجلين». أي يُجزل العطاء لهما لأنه موجب الضحك ومقتضاهـ).اهـ.
وقال رحمه الله في التفسير 62 باب تفسير سورة القصص 4/1788: ﴿كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه﴾ [القصص: 88] إلا مُلْكَهُ وَيُقَالُ إلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ.
وأوّل الحافظ ابن حِبَّان 354 هـ، في صحيحه (حديث رقم 268): «حَتَّى يضع الرّبّ قدمَه فيها»: أي جهنّم، فقال: «هذا الخبر من الأخبار الَّتِي أُطلقت بتمثيل المجاورة، وذلك أنه يوم القيامة يُلقى في النار من الأمم والأمكنة الَّتِي يُعصى الله فيها فلا تزالتستزيد حَتَّى يضع الرب جلّ وعلا موضعًا من الكفار والأمكنة فتمتلئ فتقول: قط قط، تريد: حسبي حسبي، لأنَّ العرب تطلق في لغتها اسم القدم على الموضع، قال الله
جلّ وعلا: ﴿وَبَشِّرِ اِ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْۖ﴾ [يونس: 2] يريد: موضع صدق». اهـ.
ذكر الذَّهبي في سِير أعلام النّبلاء 7/274 في ترجمة إمام حفَّاظ عصره سفيان الثوريّ، أنَّ مَعدان سأل الثّوريّ عن قوله تعالى: ﴿وهُو معَكم أينما كنْتُم﴾ [الحديد: 4] فقال: «علمه». اهـ .
فهذه أكثر من ثلاثين مثالاً مِن النّقول لأعيانٍ من السّلف يؤوِّلون فيها متشابهَ النّصوص، فأين هي دعوى أنّ السّلف لم يُنقل عنهم تأويل؟!
هذا وقد حاول بعضهم تكذيب نسبة هذه الأقوال إلى قائليها ليثبتوا دعواهم بأنّه لم يرِد تأويل عن السّلف أصلاً، ولكن هيهات! فالحافظُ البيهقيّ أورد بعض ذلك مصحّحًا له كما مرَّ، والإمامُ البخاريّ والإمام الطّبريّ والإمام ابن حبّان ما ذكروه ثابت في أصولهم، وما ورد عن الإمام مالك أسنده الحافظ ابن عبد البرّ، واعتمد العلماء مِن بعدهم كلَّ ذلك، وليست هي كلَّ التّأويلات الموجودة بل هناك غيرها، ويكفي قبل كلّ ذلك التّأويلاتُ التي صحّ ورودها في الكتاب والسنّة عن ربّ العزّة تعالى وعن النّبيّ الكريم – صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم – وأصحابِه الكرام.
اعتقادُهم الجسميّةَ لـذاتـه تعالى، والـحـدَّ، والـتّـحـيّـزَ، وجـهـةَ العلوّ الـحـسّـيّـة، وأنّـهـا جـهـة عـدمـيّـة، واعـتـقـادًُهـم جـًلـوسـه – تـعـالـى – على العرش واستقرارَه عليه، وأنَّه ينزل نزولا حسّيا: قال أبو الفتح الشّهرستانيّ في المِلل والنِّحل: «وأمَّا ما ورد في التّنـزيل من الاستواء، والوجه، واليدين، والجنب، والمجيء، والإتيان، والفوقية، وغيرِ ذلك فأجرَوها – أي المشبّهة – على ظاهرها؛ أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها». اهـ 1/105 وبذلك تثبتُ نسبتُهم إلى المجسِّمة والمشبِّهة كما مضى ذِكرُه.
وكُتبُ السّلفيّين مليئة بهذا الباطل ويدافعون عنه باستماتة، وقد خالفوا في ذلك أهل السّنّة والجماعة الذين ينزّهون الله تعالى عن كلِّ ذلك، ونصوصُهم في ذلك لا تحصى سلفاً وخلفاً.
ومن أعجب الأمور أنّ السّلفيّين تارةً ينسُبون المولى تعالى إلى جهةٍ معدومة تُسَمّى جهة العلوّ، وذلك تنـزيهًا له عن الجهات السّتّ لأنها مخلوقة أو محدودة، فما هذه الجهة العدميّة الَّتِي يعنونها؟ فإن كان اعتقادهم (لا جهة) فقد وافقوا الجمهور ولزمهم الرّجوع إلى اعتقادهم في عدم وصف الحقّ تعالى بالجهة أو الحيّز أو المكان، كما لزمهم الإقرار بأنّ العلوّ الوارد في النّصوص ليس علوّ جهة وحسّ، أمّا إن أصرّوا على أنّها جهة عدميّة غير مخلوقة فلا توجد جهة عدميّة غير مخلوقة، وإنهم بذلك يُثبتون قديمًا مع الله يُسمَّى جهة عدميّة! ولا غرابة في ذلك إذ ثبت عن زعيمهم ابنِ تيمية القولُ بالقِدم النّوعيّ، وبوجود حوادث لا أول لها، وهم على خطِّه سائرون. وبذلك ينتمون إلى فرقة من الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالَم.
ذكَر ابن عثيمين في (العقيدة:) «إن أردتَ أنّ الله تعالى في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا ممتنع وباطل، وإن أردت أنه في جهة عليا عدمية لا تحيط به ما ثمّ إلا هو عزّ وجلّ فهذا حقّ». اهـ.
وقال الفوزان في شرح العقيدة الطّحاويّة (صـ 77) عند قول الإمام الطّحاويّ: «لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات». قال: «هذا فيه إجمال، إن أُريد الجهات المخلوقة، فالله منـزَّه عن ذلك، لا يحويه شيء من مخلوقاته، وإن أُريد جهة العلُوّ وأنَّه فوق المخلوقات كلها، فهذا حق ونفيه باطل، ولعل قصد المؤلف بالجهات الست، أي: الجهاتُ المخلوقة؛ لا جهةُ العلو». اهـ وكلامه واضح في إثبات جهة غير مخلوقة تُسمّى جهة العلوّ!!
وقال صالح آل الشيخ في العقيدة: «وأما الأشاعرة، لَمَّا لم يمكنهم إنكار الأدلّة من الكتاب والسنة أثبتوا الرؤية وقالوا: يُرى ولكن ليس في جهة، وهذا من التناقض العجيب! ليس هناك شيء يُرى وهو ليس في جهة، وأهل السنة يقولون: يُرى سبحانه وتعالى وهو في جهة العلو من فوقهم، فالجهة إن أريد بها الجهة المخلوقة فالله ليس في جهة؛ لأنه ليس بحالٍّ في خلقه سبحانه وتعالى، وإن أريد بها العلو فوق المخلوقات فهذا ثابت لله عزّ وجلّ، فالله في العلو فوق السماوات». اهـ (42/47 وكذلك شرح العقيدة الطّحاويّة له 1/62). ولا ندري من هُم أهل السّنّة الذين يقولون ذلك، اللهمّ إلا إن كان يعني ابن تيمية فقد ورد عنه لفظ الجهة العدميّة كَأول قائل به في نصوص عديدة منها قوله في منهاج السنّة النّبويّة: «وَإِنْ أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ». اهـ 2/323، أمّا أهل السّنّة الذين هم أهل السّنّة فينفون الجهة تماماً عن الله تعالى كما تقدّم النّقل عنهم، وانظر إلى إصرار آل الشيخ على العلو والفوقيّة الحسِّيين، وإلى إثباته جهة غير مخلوقة!
وقال أحمد بن عطيّة الغامديّ: «الجهة التي أثبتناها لله تعالى إنما هي جهة عدمية لا وجودية». اهـ صـ 87 (تحقيق كتاب إثبات صفة العلو لابن قدامة المقدسي).
وقال أبو العالية د.فخر الدِّين الزّبير في (خلاصة الوحيين:) «إن أردتم بلفظ الجهة شيئًا عدميًا – أي نسبيًا إضافيًا – فالله تعالى فوق العالَم عالٍ عليه مُسْتَوٍ على عرشِه… وهذا مراد مَن أطلق القول بالجهة، وإن أردتم شيئًا وجوديًا مخلوقًا فالله تعالى منـزَّه عن الحلول في المخلوقات». اهـ صـ 198 فما أحسنَ تنـزيههم لله تعالى عن الحلول في المخلوق! وما أعجبَ وصفَهم لجهة العلوّ بالجهة العدميّة الغير مخلوقة! وما أسوأَ هذا التناقض الذي ما فتئوا يحيّرون به عقول أتباعهم قبل غيرهم!
كما أن السّلفيّين يعتقدون أنّ كلام الله القديم بحرف وصوت على ما هو متبادر من لغة العرب، وخالفوا أهل السنّة في ذلك، ومما احتجوا به في إثبات الصوت الأحاديث النبويّة، واحتجوا بتصحيح الحافظ ابن حجر لتلك الأحاديث لكنّهم غفلوا أو تغافلوا عن إجرائه ذلك مجرى المتشابه بتنزيله على المذهبين المشهورين -التفويض أو التأويل-. قال الحافظ: «وَإِذَا ثَبَتَ ذِكْرُ الصَّوْتِ بِهَذِهِ الْأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ ثمَّ إِمَّا التَّفْوِيضُ وَإِمَّا التَّأْوِيلُ». اهـ. (فتح الباري 13/458).
ردُّ ابن الجوزيّ الحنبليّ على المشبِّهين مِن الحنابلة
ألّف الإمام عبد الرّحمن ابن الجوزيّ (656هـ) كتابه (دفع شبه التّشبيه بأكفّ التنزيهـ) في ذلك وهاك ملخَّصاً لكلامه:
قال رحمه الله تعالى: «رأيت من أصحابنا من تكلّم في الأصول بما لا يصلح وانتُدِب للتصنيف ثلاثَةٌ أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني؛ فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواءً لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفًّا وخنصرًا وإبهامًا وصدرًا وفخذًا وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس، وقالوا يجوز أن يُمَسّ ويَمَسَّ ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم ويتنفس ثم يُرضون العوام بقولهم:« لا كما يعقل». وقد أخذوا بالظّاهر في الأسماء والصّفات، ولم يلتفتوا إلى النّصوص الصَّارِفَة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهرُ من سمات الحدوث ولم يقنعوا بأن يقولوا صفةَ فعل حَتَّى قالوا صفة ذات ثمّ لَمَّا أثبتوا أنها صفات ذات قالوا لا نحملها على توجيه اللّغة مثل يد على نعمة وقدرة، ومجيء وإتيان على معنى برّ ولطف، وساق على شدّة، بل قالوا:
«نحملها على ظواهرها المتعارفة». والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: «نحن أهل السّنّة». وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام، فقد نصحتُ التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط: « كيف أقول ما لم يُقَل؟».
فإيّاكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه ثم قلتم في الأحاديث: «تُحمل على ظاهرها». وظاهر القَدم الجارحة فإنه لَمَّا قيل في عيسى روح الله اعتقدت النّصارى أن لله صفة هي روح وَلَجَت في مريم ومن قال: « استوى بذاته»، فقد أجراه مجرى الحسيات وينبغي أن لا يُهمل ما يُثبَت به الأصل وهو العقل فإناَّ به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقِدم فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر عليكم أحد إنما حَمْلُكُمْ إياها على الظاهر قبيح فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السَّلفيّ ما ليس منه ولقد كسوتم هذا المذهب شيناً قبيحا حَتَّى صار لا يقال حنبليّ إلا مجسِّم». اهـ. (دفع شبه التّشبيه 1/100-103).
وقال أيضا: (إنهم قالوا: «إنَّ هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى». ثم قالوا: «نحملها على ظواهرها». فوا عجباً! ما لا يعلمه إلا الله أيّ ظاهر له؟ فهل ظاهر الاستواء إلا القعود وظاهر النـزول إلا الانتقال!؟). اهـ دفع شبه التّشبيه 1/104
وقال: (إنهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحسّ فقالوا ينـزل بذاته وينتقل ويتحرك ثم قالوا: «لا كما يُعقل». فغالطوا من يسمع فكابروا الحس والعقل فحملوا الأحاديث على الحسيات فرأيتُ الرد عليهم لازماً لئلا يُنسب الإمام إلى ذلك وإذا سكتُّ نُسبتُ إلى اعتقاد ذلك…).اهـ دفع شبه التّشبيه 1/107
وقال فيه: «وكان أحمد لا يقول بالجهة للباري». اهـ1 /135.
وقال: (واعلم أن كل من يتصور وجود الحق سبحانه وجوداً مكانياً طلب له جهة، كما أن من تخيل أن وجوده وجودٌ زمانيٌّ طلب له مدة في تقدّمه على العالم بأزمنة، وكلا التخيلين باطل، فإن قيل فقد أُخرج في الصّحيحين عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ذكر المعراج فقال فيه: «فَعَلا به إلى الجبَّار تعالى فقال وهو في مكانه يا رب خفِّف عنَّا». فالجواب أن أبا سليمان الخطّابي قال: «هذه لفظة تفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ، والمكان لا يضاف إلى الله عزّ وجلّ إنما هو مكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعناه مقامه الأول الذي أقيم فيه»…. وقد قال القاضي أبو يعلَى في كتابه المعتمد: «إن الله عزّ وجلّ لا يوصف بالمكان». فإن قيل نفيُ الجهات يُحيلُ وُجودَه قلنا إن كان الموجود يقبل الاتّصال والانفصال فقد صدقت، فأمّا إذا لم يقبلهما فليس خلوّه من طرف النّقيض بمحال، فإن قيل أنتم تلزموننا أن نقرّ بما لا يدخل تحت الفهم! قلنا إن أردت بالفهم التخيّل والتّصور فإنّ الخالق لا يدخل تحت ذلك إذ ليس يُحَسّ ولا يدخل تحت ذلك إلا جسم له لون وقدر فإن الخيال قد أنس بالمبصَرات فهو لا يتوهم شيئا إلاّ على وفق ما رآه لأن الوهم من نتائج الحسّ، وإن أردت أنه لا يُعلم بالعقل فقد دَلّلنا أنه ثابت بالعقل لأن العقل مضطر إلى التصديق بموجب الدَّليل، واعلم أنك لَمَّا لم تجد إلا حسًّا أو عرَضاً وعلمت تنـزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيّزا أو متحرِّكا أو متنقِّلا ولَمَّا كان مثل هذا الكلام لا يفهمه العامّي قلنا لا تُسمعوه ما لا يفهمه ودعوا اعتقاده ولا تحرِّكوه ويقال إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق بهـ).اهـ 1/136.
وقال: (ولَمَّا علم بكتابي هذا جماعة من الجُهَّال لم يعجبهم لأنهم ألِفوا كلام رؤسائهم المجسِّمة فقالوا: «ليس هذا المذهب». قلت ليس بمذهبكم ولا مذهبَ من قلدتم من أشياخكم فقد نزَّهتُ مذهب الإمام أحمد رحمه الله ونفيت عنه كذب المنقولات وهذيان المقولات غير مقلد لهم فيما اعتقدوه، وكيف أعتقد بَهْرَجاً وأنا أنتقده؟) اهـ. ثمّ قال شِعرًا:
ولما تأملت المذاهب كلها ** طلبت الأسد في الصواب وما أغلو
فألفيت عند السير قول ابن حنبل ** يزيد على كل المذاهب بل يعلو
وكل الذي قد قاله فمشيد ** بنقل صحيح والحديث هو الأصل
ومذهبه ألا يشبه ربه ** ويتبع في التسليم من قد مضى قبل
فقام له الحساد من كل جانب ** فقام على رجل الثبات وهم زلوا
وكان له أتباع صدق تتابعوا ** فكم أرشدوا نحو الهدى وكم دلوا
وجاءك قوم يدعون تمذهبا ** بمذهبه ما كل زرع له أكل
ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة ** لما نقلوه في الصفات وهم غفل
وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد ** فمال إلى تصديقهم من به جهل
وصار الأعادي قائلين لكلنا ** مشبهة قد ضرنا الصحب والخل
فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم ** ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا
تقسيمهم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وتكفيرُهم المسلمين بالتّوسّل والاستغاثة والتبرّك بآثار الصّالحين وزيارة قبورهم، وإحياؤهم بذلك الفكر التكفيريّ:
والثلاثة أقسام هي: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، والسلفيّة المعاصرة قلّدت ابن تيمية في ذلك ليتسنَّى لهم القول بأن خصومهم وهم جمهور الأمَّـة الإسلامية في توسُّلهم وتبركهم بالأنبياء والأولياء مثلُ المشركين الذين وحَّدوا توحيد الرّبوبية ولكنَّ ذلك لم ينجهم لأنهم يشركون في توحيد الألوهية. وقد ردّ عليهم العلماء بما يبطل ما ذهبوا إليه.
قال شيخنا الشريف إبراهيم صالح الحسينيّ – حفظه الله تعالى: – «وهذا كلام غير صحيح لأن المشرك لا يوصف بالتوحيد بأي حال من الأحوال فلا يكون الشخص مسلماً موحِّداً حتَّى يؤمن بأن الله واحد في ذاته وصفاته وأسمائه، وأنه وحدَه مستحقُّ العبادة بحق ولا يجوز صرف شيء من العبادة إلى غيره، والعبادة هي منتهى الخضوع والطاعة لمن يَعتقد العابد ألوهيته، ومجرد المحبة أو الطاعة لغير الخالق لا تسمَّى عبادة شرعاً، فكما أنَّ اسم المشرِك حقيقةً لا ينطبق إلا على معتقد ألوهية شيء غيرِ الله أو استحقاقِه لشيء من العبادة، كذلك لا يُطلق اسم الموحِّد حقيقة إلا على من لم يجزِّىء التوحيد فآمن بربوبية الله وألوهيته من جميع الوجوه وإلا فيكون مشركاً كافراً باعتقاده ألوهية الغير أو استحقاقَه لأي جزء من العبادة استقلالاً أو مع الله تعالَى، وما يصدر من عامَّة المسلمين من احترام شعائر الله كالتمسح بالكعبة أو الحجر الأسود أو مقام إبراهيم أو العتبات الشريفة بروضة الحبيب – صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – وما يصدر حتَّى من العلماء والأفاضل من توسلهم برسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-، وتبركِهم بآثاره كلُّ ذلك ليس شيء منه يصدق عليه اسم العبادة وبالتالي فلا يصدق اسم الشرك على متعاطيه منهم لا لغة ولا شرعاً». اهـ (الاقتصاد في تصحيح قواعد الاعتقاد.)
ثم قال: «إن تقسيم التوحيد أو فكرة تقسيم التوحيد القائمة على تهمة الأمَّة بالشرك الذي هو في نظر أصحاب الفكرة عبارة عن شرك أكبر وهو الكفر المخرج عن الملة هي أساس الفكر التكفيري الذي اعتقده مجموعة من المتشددين الذين ينتمون إلى المذهب السَّلفي المعاصر، وهو مذهب لا علاقة له بالسَّلف الصَّالح لا من قريب ولا من بعيد، فهو على الحقيقة مذهب يعتقد كفر المجتمع من حكومات وشعوب لأن المجتمع عندهم كافر بالأصالة لتوسل أفراده وتبركِهم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو كفارٌ بالتداعي لأنهم اعتقدوا إسلام من هو في الحقيقةغيرُ مسلم كالحكام العلمانيين فالراضي بالكفر كافر قطعاً في نظرهم، فافهم الخطورة الكامنة في اعتقاد تقسيم التوحيد.
«…وهم ما داموا يجعلون هذا التقسيم تحريفاً وتبديلاً للسنة ووسيلة لتحقيق أغراض فاسدة نتيجتها تفريق الأمة وتشتيت كلمتها ومفارقة الجماعة ومخالفة السَّلف الصَّالح فلا يجوز التسامح معهم فيه، وواضحٌ أنَّ الله تبارك وتعالَى أمر المسلمين بأن يعتصموا بحبلِه جميعاً ويتجنَّبوا الفُرقة والشقاق كما قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ حَقَّ تُق۪اتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَۖ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اِ۬للَّهِ جَمِيعاٗ وَلَا تَفَرَّقُواْۖ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اَ۬للَّهِ عَلَيْكُمُۥٓ إِذْ كُنتُمُۥٓ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰناٗۖ وَكُنتُمْ عَلَيٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اَ۬لنّ۪ارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۖ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُۥٓ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَۖ﴾». [آل عمران: 101-103] (الاقتصاد 1/197).
وكونهم يكفّرون المسلمين بالتوسّل والاستغاثة والتبرّك فهذا شذوذ ظاهر منهم وجهل مركّب؛ إذ إنّ هذه الأمور ثابتة بالأدلّة الصّحيحة؛ فالتوسّل يكفي دليلاً له حديث الأعمى الصحيح وفيه توجيه النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – بأن يقول وهو بعيد عن أنظاره غائب عنه: «اللّهُمَّ إنِّي أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ محمَّدٍ نبيِّ الرَّحمةِ، يا محمَّدُ إنِّي توجَّهتُ بكَ إِلى رَبِّي في حاجتي هذِهِ لتُقْضَى لي. .. الحديث». ولفظ الاستغاثة يكفي في الاستدلال على صحته حديث البخاري عن عبدِ الله بن عمرَ رضي الله عنهما قال: قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وعلَى آلِه وصحبِه وسلَّم: «إنَّ الشّمسَ تَدْنُو يومَ القيامةِ، حتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نصفَ الأذُن، فبينا هُمْ كذلكَ استغاثُوا بآدمَ، ثُمَّ بموسى، ثُمَّ بمحمَّدٍ صلّى الله عليه وعلَى آلِه وصحبِه وسلَّم». ]البخاريّ 1405]. فكيف يكفر الناس بألفاظ وردت على لسان النبيّ – صلّى الله عليه وسلَم -؟ والتبرك يكفي دليلاً عليه تابوت بني إسرائيل وما فيه من بقيّة مما ترك آل موسى وآل هرون، وكذلك قميص يوسف – عليهم جميعاً السلام -، ثم الأحاديث الصحيحة المستفيضة في كتب السنّة المشرّفة.
تكفيرهم زوّار قبور الصالحين وإطلاقهم صفة قبوريّين عليهم
وهذا الوصف ذائع منتشر عند فرقة الظاهرة السّلفيّة سواء في كتبهم أم في خطبهم، مع أنّ زيارة القبور والدعاء عندها من الأمور الجائزة في شريعتنا بالإجماع، أما وصفهم المسلمين بالقبوريّين فالله حسيبهم، وفي طلب أمير المؤمنين سيِّدِنا عمر- رضي الله عنه- الدَّفنَ مع رسول الله – صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم – وصاحبه عبرةٌ وأيَّةُ عبرة! وانظر متبصِّرًا إلى قوله- رضي الله عنه: – «ما كان شيء أهمَّ إليَّ من ذلك المضجَع». وإلى قول عائشة – رضي الله عنها – عن موضع القبر الذي دُفن فيه عمر – رضي الله عنه: – «كنتُ أريدُه لنفسي، فلأوثرنّه اليوم على نفسي». وإنه لإيثار وأيُّ إيثار! قال الحافظ في الفتح: «وَفِيهِ الْحِرْصُ عَلَى مُجَاوَرَةِ الصَّالِحِينَ فِي الْقُبُورِ طَمَعًا فِي إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ وَفِي دُعَاءِ مَنْ يَزُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ».اهـ 3/258، والمسلم يجب عليه أن يكون متّبعًا راضيًا بما جاء عن الشّارع لأنّه لا يكملُ إيمانُه حتّى يكون هواه تبعًا لما جاء به النَّبيّ – صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم.-
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «ما يُذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقِّي الشياطين والبهائم لها واندفاع النّار عنها وعمّن جاورها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأُنس والسَّكينة عندها ونزول العذاب بمن استهان بها فجنسُ هذا حقٌّ ليس مما نحن فيه، وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهّمه أكثر الخلق» .اهـ من اقتضاء الصّراط المستقيم 2/255
وابن تيمية نفسه بعد موته كان قبره مزارًا للنّاس، ذكر ذلك أصحابُه منهم ابن كثير الذي قال في البداية والنّهاية: «وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً يبيتون عنده ويصبحون».اهـ 14-136
وقـال الإمـام الذّهبيّ عن خالد بن الوليد – رضي الله عنه: – «ولـه مشهد يـزار».اهـ (سير أعلام النّبلاء 1/384).
وقال عن الخطيب البغداديّ: «وخُتم على قبره عدة ختمات».اهـ السير 18/286
وقال عن شيخ همذان أبي الفضل محمد بن عثمان المعروف بابن زَيْرَك: «مات في ربيع الآخِر سنة إحدى وسبعين وأربعِمائة وقبرُه يزار ويتبرك به».اهـ 18/434 وذكر ذلك عن الإمام مسلم) 12/580).
وقال: «قبر الخِلَعِيِّ بالقَرَافة يعرف بقبر قاضي الجنِّ والإنس يعرف بإجابة الدعاء عنده». اهـ 19/76-77 وانظر سير أعلام النبلاء المذكور تجد أنّ الإمام الذّهبيّ قد ذكر عددًا كبيرًا ممّن تُزار قبورُهم ويُدعَى عندها. وهو لم يكن حاكيًا فقط إنّما كان معتقدًا لذلك، والأدلّة على ذلك كثيرة منها قوله في سِيَر أعلام النّبلاء 9/343: «عن إبراهيم الحربي قال: قبر معروف التّرياق المجرَّب، يريد إجابة دعاء المضطر عنده لأنَّ البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء».اهـ. ومنها قوله في ترجمة السّيّدة نفيسة – رضي الله عنها: – «كانت من الصالحات العوابد، والدعاءُ مستجاب عند قبرها بل وعند قبور الأنبياء والصالحين». اهـ (السّير 10/107). وقال أيضًا: «الدّعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والأولياء وفي سائر البقاع لكن سبب الإجابة حضور الداعي وخشوعه وابتهاله». اهـ (السّيَر 17/77). فهؤلاء هم أئمّة السّلفيِّين ذكروا زيارة القبور والدّعاء عندها وقراءة الختمات دون نكير من أحد! ومن هنا نعلم أنه لا يجوز إطلاق كلمة «قبوريِّين» على من يزور القبور ولو تكررت الزيارة، فإن كان هناك بعض العوام الذين لا يتقيَّدون بأدب زيارة القبور فعلينا أن نعلِّمهم الزيارة الصّحيحة لا أن ننهاهم عن الزيارة التي أقرتها الشريعة.
إنكارهم الشّفاعة
وهم بذلك ينتمون لفرقة المعتزلة، ويخالفون أهل السّنّة والجماعة.
والشَّفاعة ثابتة بالقرآن والسُّنة للمسلمين كما هو معلوم من نصوص عديدة؛ فالنَّبيّ صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم يشفع الشَّفاعة الكبرى وشفاعاتٍ أخرى، ويشفع لأهل الكبائر وغيرِهم من أمَّته إلّا من أنكر الشفاعة كما في الحديث عن زيدِ بنِ أرقمَ وبضعةَ عشرَ مِن الصَّحابةِ رضي الله عنهم عن النَّبيّ صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم قال: «شفاعتي يومَ القيامة حقٌّ، فمَن لم يؤمن بها لم يكن من أهلها». [الجامع الصّغير (التيسير2/78)] وعزاه لابن منيع وصحّحه، وهو في كنْز العمّال 39059 وذكر عدد رواته من الصّحابة بضعة عشر، ولذلك ذكروه في الأحاديث المتواترة، قال الكتّانيّ في نظم المتناثر 1/234: «مثل هذا لا يكفي في إثبات التواتر لكن سَهَّلَ إطلاقَه هنا كونُ أحاديث الشفاعة مطلقاً أو في المذنبين متواترة المعنى».
ويشفع الأنبياء والعلماء والشهداء والأبناء الصالحون والأبناء الذين لم يبلغوا الحُلُم، ومن الأمّة من يشفع للقبيلة وأكثر. ويَفتقِد أهلُ الجنَّة أناسًا كانوا يعرفونهم في الدُّنيا، فيأتون الأنبياء فيذكرونهم فيشفَعون فيهم فيشفَّعون، يقال لهم: الطلقاء. كلُّ ذلك ثابتٌ بالأدلّة الصحيحة.
فالمعتزلة والخوارج ينكرون الشَّفاعة لأنها تهدم مذهبهم في خلود صاحب الكبيرة في النار، والسّلفيّون يتحيّلون للإنكار بقولهم: إنها لا تكون إلا بإذن الله، وهي كلمة حقٍّ أريد بها باطل لأنَّه من المعلوم ضرورةً أنَّه لا حركة ولا سكون في الكون إلا بإذن الله تعالى. وقد وردت الشفاعة في القرآن أيضا لمن اتَّخذ عند الرحمن عهداً ومَن رضي له قولاً ولمن شهد بالحقِّ وهم يعلمون، وقد بين النَّبيّ صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم ذلك وكان الصَّحابة يطلبون منه الشَّفاعة، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: سألتُ النَّبيّ صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم أن يشفعَ لي يوم القيامة، فقال: «أنا فاعل» …. الحديث. [التّرمذيّ 2433 وحسّنه، وأحمد 12360]. وحديث ربيعةَ بنِ كعبٍ رضي الله عنه قال: قال لي رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «سَلْني أُعطِك». قلتُ: يا رسولَ الله أنظِرني أنظُرُ في أمري قال: «فانظُر في أمرِك». قال فنظرتُ فقلتُ إنَّ أمرَ الدُّنيا ينقطعُ فلا أرَى شيئًا خيرًا مِن شيءٍ آخذُه لنفسي لآخرتي فدخلتُ على النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما حاجَتُك؟». فقلتُ: يا رسولَ الله اشفع لي إلى ربّك عزّ وجلّ فليعتقْني مِن النّار. فقال: «مَن أمرَك بهذا؟». فقلت: لا واللهِ يا رسولَ الله، ما أمرني بِه أحدٌ، ولكنِّي نظرتُ في أمري فرأيتُ أنّ الدُّنيا زائلةٌ مِن أهلها فأحببتُ أن آخُذَ لآخرتي قال: «فأعنِّي علَى نفسِك بكثرةِ السُّجود». [أحمد 16628] بتعليق شعيب الأرنؤوط وقال: حديث حسن بهذا السياق دون قوله: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» فصحيح لغيره]. وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وعلَى آلِه وصحبِه وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه:
زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَهَكَذَا». وَجَمَعَ كَفَّه، قَالَ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَهَكَذَا». فَقَالَ عُمَرُ: حَسْبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَعْنِي يَا عُمَرُ مَا عَلَيْكَ أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ كُلَّنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَدْخَلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ؛ فَقَالَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وعلَى آلِه وصحبِه وسلَّم: «صَدَقَ عُمَرُ». [أحمد 13030] وعبد الرزّاق 20556 والطبراني في الأوسط 3400 وذكره الهيْثَمِيُّ في مجمع الزّوائد 10/404 وقال: رجاله رجال الصّحيح]. والمنكرون للشَّفاعة أو الهاربون منها يظنّون أنّ مثل هذه الوَساطة قد تكون شِركًا، فهل هُم أغيَرُ على التَّوحيد من ربِّ العزَّة تعالى، أم مِن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم؟ فليتركوا هذه الوساوس التي خرَّبت كثيرًا مِن العقول وجلبت الفُرقة والتَّشتيت للأمَّة المحمَّدية بأوهام لا أساس لها من دليل ولا دين وليجعلوا هواهم مع الحقّ، وإلَّا انتقصَ إيمانُهم لقولِه صلّى الله عليه وسلَّم: «لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لِماَ جئتُ به». قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/289:
«أخرجه الحسن بن سفيان وغيرُه ورجالُه ثقات، وقد صحَّحه النَّوويُّ في آخرِ الأربعين». اهـ.
خاتمة
قد ذكرتُ في هذه المحاضرة باختصار أهمّ عقائد السّلفيّين التي خالفوا فيها أهل السّنّة والجماعة، وتأثّروا فيها بمدارس المشبّهة والمجسّمة والخوارج والتكفيريين والمعتزلة والفلاسفة، راجياً أن أكون قد ساهمت في إنجاح هذه النّدوة العالمية الأولى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بما فيه الإفادة، مكمّلاً لفروعها العديدة التي رصدتها في هذه الدّورة للظاهرة السّلفيّة، سائلاً المولى تعالى أن تساهم هذه الندوة في كشف حقائق الفرق السالبة المؤدية إلى التنازع المسبّب للفشل، راجياً أن تحقق هذه المؤسسة أهدافها التي أنشئت من أجلها، شاكرًاً لها على مجهوداتها الظاهرة تحت ظل لواء ورعاية أمير المؤمنين محمد السادس – أعزَّه الله تعالى وأيّده وحفظه ونصره -، والسلام عليكم ورحمة الله.
الهوامش
[1] كتاب: (التكفير أخطر بدعة تهدّد السلام والوحدة بين المسلمين في نيجريا لشيخ الإسلام الشيخ الشريف إبراهيم صالح الحسينيّ صـ 13) وقال في كتابه هذا عن السّلفيّة المعاصرة ومن ضاهاهم: «أمّا هؤلاء فما من بدعة إلا وقد أخذوا ببعض مخازيها، ولا من نحلة إلا هوت بهم في مهاويها، وهذه الفرقة هي التي أشار إليها النبهانيّ في كتابه شواهد الحقّ وتحدّث عنها طويلاً،…الخ». صـ 19 وقد ذكر المشَبِّهةَ الإمامُ عبد القادر البغدادي فيَ كتابه (الفرق بين الَفرق) وذكر منهم أصنافاً كثيرة وقال: «وَمِنْهُم الكرَّامية في دَعْوَاهَا أن الله تَعَالَى جسم لَهُ حد وَنِهَايَة وَأنه مَحل الْحَوَادِث وَأنه مماس لعرشه». (الفرق بين الفرق صـ 217). وقال الإمام الشهرستانيّ عن المشبّهة: «قالوا معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض، إما روحانية ،وإما جِسمانية. ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن.» اهـ (الملل والنّحل 1/105).
[2] أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيريّ المالكيّ ثم الشافعيّ ذو التصانيف الكثيرة في الفنون وأحد من ولي قضاء مصر وهو الحافظ العلامة الشهير أعلم أهل عصره مع تقدمه في الزهد والورع، مات في صفر سنة اثنتين وسبعمائة.
[3] قال العلاّمة ابن خلدون رحمه الله تعالى (المقدمة 1/283): «يقع كثيرًا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته، ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل… فلنبيِّنْ تفصيل هذه المذاهب ونشرحْ حقيقة كلِّ واحد منها حَتَّى تتضح معانيها، فنقول: إن المباينة تقال لمعنيين أحدهما: المباينة في الحيّز والجهة، ويقابلها الاتصال ،وتُشعِر هذه المقابلة على هذه التقيُّدَ بالمكان إمّا صريحًا وهو تجسيم، أو لزومًا وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة، ومن أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة، وقالوا: لا يقال في البارئ أنه مباينٌ مخلوقاتِه ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيّزات، وما يقال من أن المحلَّ لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضدّه فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا، وأمّا مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلوُّ عن المعنى وضدِّه كما يقال في الجماد لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمّي ،وصحة الاتصاف بهـذه المباينـة مشروط بالحصول في الجهة، على ما تقرر من مدلولها، والبارئ منـزه عن ذلك، ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين، وأما المعنى الآخر للمباينة فهو المغايرة والمخالفة، فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته، وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السَّلف وعلماء الشرائع، وهي تفسير لقوله تعالى: }ليسَ كمِثْلِه شيء».اهـ. وقال ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – (دفع شبه التشبيه صـ 130): «إن التَّجاور والتباين من لوازم المتحيّز في المتحيّزات، وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم المتحيّز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيّز… وكذا ينبغي أن يقال: ليس بداخل العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيّزات وهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض الَّتِي تختص بالأجرام. وكلام هؤلاء كله مبني على الحس، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط».اهـ.