المدرسة الأشعرية: النشأة والامتداد
[نسخة المداخلة الأصلية PDF]
تنسب المدرسة الأشعرية إلى مؤسسها الذي سميت باسمه وهو الإمام الأشعري. وهذا الإمام هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري الذي يعتبر إمام أهل السنة والجماعة في العقائد بامتياز. ولا يستطيع إنكار ذلك إلا مكابر أو معاند أو جاهل. وما ذلك إلا لما قام به من أجل تثبيت العقيدة الإسلامية، وتحصينها، وحمايتها من كل أشكال التشدد، والغلو، والتطرف، والانزلاقات.
ونحن حينما نتكلم عن الإمام أبي الحسن الأشعري فإننا نتكلم عن مفكر سني، وعن متكلم شهير، استمات في الرد على الملل والنحل المخالفة لمعتقد أهل السنة والجماعة، وأبلى في ذلك البلاء الحسن. كما كان له قصب السبق في تأسيس مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، مذهب أهل الحق الأشاعرة، أو أهل التوفيق والتسديد. وهو المذهب الأشعري.
والحقيقة أنه قد جرت عادة المؤرخين لحياة أبي الحسن الأشعري والدارسين لها أن يميزوا في إطارها بين مرحلتين: مرحلة الاعتزال، ومرحلة تأسيس مذهب أهل السنة والجماعة. ولكن المتأمل المدقق لحياة هذا الرجل يجد نفسه أمام ثلاث مراحل، لا مرحلتين.
- مرحلة الانتماء إلى أهل السنة في طفولته: حيث تحكي لنا المصادر أن أبا الحسن الأشعري كان ينحدر من أسرة سنية جماعية، فقد كان أبوه إسماعيل بن إسحاق سنيا جماعيا حديثيا، كما أكد على ذلك ابن عساكر[1] حيث ذكر أنه كان «سنياً جماعياً حديثياً، (وقد) أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي رحمه الله وهو إمام في الفقه والحديث، وله كتب.. وكان يذهب مذهب الشافعي، وقد روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة»[2] وعليه فيكون أبو الحسن الأشعري من أب سني حديثي. وسيكون بالطبع قد نشأ على معتقد أبيه. وتغذى وتشرب منه في صباه، إلى أن بلغ سن العاشرة.
- مرحلة الاعتزال: ذلك أن الأشعري بعيد وفاة والده تزوجت أمه بأبي علي الجبائي، إمام معتزلة البصرة في عصره، فترعرع الأشعري في بيئة معتزلية وقد أخذ مبادئها عن رأس المعتزلة أبي علي الجبائي الذي أثّر في الأشعري تأثيرا مباشرا، حيث جعله معتزلي العقيدة. وهذا التحول العقدي الذي شهده الأشعري في طفولته من السنّة إلى الاعتزال كان العامل المباشر فيه القرابة العائلية من جهة[3]. ومن جهة أخرى الهيمنة الفكرية للمعتزلة في هذه المرحلة، واكتساحهم الساحة باعتبارهم أهل العدل والتوحيد، والذين كانوا بدورهم يتصدون لأهل الأهواء والبدع من الفرق الثنوية، وغلاة الشيعة، والخوارج، ومنكري النبوات… ومن جهة أخرى لكون دولة الخلافة العباسية كانت قد قربت المعتزلة واعتبرتهم المعبرين الشرعيين عن عقيدة الدولة العباسية الرسمية.
- المرحلة الأشعرية: وهي المرحلة التي ابتدأت في حياة الأشعري وقت نضجه الفكري حين وصل سن الأربعين فبعد أن كان يعد معتزليا، وعلما من أعلامهم، مبرّزا في الاعتزال تبريزا، حتى عُدّ من كبار نظارهم، متقنا للجدل على طريقتهم، ومتفننا في الدفاع عن أصولهم، محنكا في الردود ضد خصومهم وأعدائهم. حتى إن زوج أمه المعتزلي الشهير أبا علي الجبائي كان إذا «دهمه الحضور في المجالس يبحث عن الأشعري ويقول له: نب عني»[4]
المدرسة الأشعرية: إن إطلاق اسم المدرسة الأشعرية على المذهب الذي أسسه الإمام الأشعري ودعا إليه هو إطلاق لا يجانب الصواب. فقد توافرت في المذهب الأشعري كل مقومات المدرسة بالمعنى الحقيقي لها. فهو يتوافر على مضامين منسجمة ومتناغمة، داخل منظومة عقدية تتجانس مجموع مكوناتها وعناصرها. كما أن لها منهجا في تحقيق العقائد وعرضها على الناس. بالإضافة إلى منهجها في المناظرة والحجاج. أضف إلى ما سبق توافره على علماء مشهورين على امتداد التاريخ والجغرافيا، يعدون من كبار أعلام هذه الأمة ورؤوسها كما أن له أتباعا كثرا في كل بقاع الأرض إلى يوم الناس هذا.
والحقيقة أننا سنعمل في هذه الورقة على الإجابة على أربعة أسئلة تقربنا من استجلاء صورة نشأة وامتداد هذه المدرسة العقدية. ويتعلق الأمر بالأسئلة التالية:
السؤال الأول: هل كانت هناك حاجة أو ضرورة لظهور المذهب الأشعري في أواخر القرن الثالث الهجري؟
الواقع أنه للإجابة عن هذا السؤال لابد من استجلاء صورة الواقع العقدي الذي كانت عليه دولة الخلافة العباسية في هذه الفترة. فقد كان العالم الإسلامي يعيش حالة من التشرذم والتشتت العقدي قل نظيره في التاريخ. فقد كثرت النحل والملل، وتعددت الآراء والأهواء، والمذاهب العقدية التي كانت منتشرة في المجتمع العباسي وآراؤها كثيرة التداول والانتشار بين المسلمين. فقد كانت أجواء التعدد العقدي تعكس هذا التشرذم العقدي، الذي عز نظيره في سائر الأوقات. فقد كانت هناك الفرق الشيعية بتعددها والتي أشاعت في آرائها العقدية مسألة الطعن والسب في بعض الصحابة الكرام جهارا وعلى المنابر. خصوصا أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة الصديقية…. كما أشاعوا القول بعصمة الأئمة آل البيت، ورفعوا مقام علي كرم الله وجهه إلى ما لا يقبله العقل المسلم فجعلوه محور الكون وفاعلا في تدبيره. كما أشاعوا مسألة المهدية، حين طوروا القول في المهدي المنتظر..
كما كانت هناك فرق الخوارج التي تفننت في تكفير المسلمين وبعض صحابة رسول الله حتى إن بعض فرقها المتشددة كفرت كل مخالف لهم في الاعتقاد جملة وتفصيلا وأشاعت القتل والتنكيل بمخالفيهم مما أشاع جوا من العنف والإرهاب في أوساط المؤمنين. كما كانت هناك المعتزلة وأصولها الخمسة. ونظرا لكونهم كانوا مقربين من المامون العباسي، وكانوا المعبرين عن الاقتناع العقدي لدولة الخلافة العباسية، فقد عرفت أفكارهم انتشارا كبيرا بين الناس حيث سادت أصولهم الخمسة وهيمن اقتناعهم المبدئي المتأسس على أن الله عادل عدلا مطلقا، فلا يصح منه الظلم إطلاقا. لذا وجب عليه أن يكون عادلا، وهو ملزم بتحقيق كل وعده ووعيده. لأن الله لا يتصور في نظرهم أن يكون كاذبا.
كما عرفت هذه الفترة ظهور تيار فكري ينتقد النبوات، وينكر المعجزات، ويطعن في القرآن، مثلته طائفة من الملاحدة ممن عرفوا بمنكري النبوات مثّلهم مطر بن أبي الغيث، وأبو عيسى الوراق، وابن الراوندي، وأبو بكر الرازي الطبيب…. هذا بالإضافة إلى الزنادقة والفرق الثنوية من مزدكية ومانوية ومرقيونية وديصانية وزرادشتية.. الذين أشاعوا الاعتقاد بثنائية الآلهة إله الخير وإله الشر، إله النور وإله الظلمة. والتي زعزعوا بها أركان التوحيد الحقيقي الذي نادى به الإسلام، ونظّر له أهل السنة.
كما كانت هناك اعتقادات المرجئة التي انطلقت من الحياد السياسي المطلق، فعكست حيادها في معتقداتها فلم تحكم بكفر مرتكب الكبائر وأرجأت الحكم عليه لله. بل انطلقت من أنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة.. هذا بالإضافة لأفكار ومعتقدات اليهود، والنصارى حيث كانت قضايا نقاشهم مع المسلمين تمس صلب التوحيد.
في حمأة هذا الصراع المحتدم بين الملل والنحل المختلفة داخل تربة العالم الإسلامي، وأمام هذا التمزق والتشرذم العقدي بات الوضع مؤذنا بالانفجار. بل أضحى المجتمع الإسلامي على شفا جرف هار. لكن بدل الانفجار جاء الانفراج. فقد قيض الله لهذه الأمة رجلا يجدد لها أمر دينها ومعتقدها على رأس المائة الرابعة فظهر أبو الحسن الأشعري حاملا لواء التصدي لمختلف الملل والنحل التي مزقت المجتمع الإسلامي أي ممزق. فصار يساجل ويناظر ويجادل كل هذه التيارات وأعلامها وعلى رأسها المعتزلة فتمكن من إظهار تهافتها وضعف حجتها في مجال العقيدة. فقد ناقش الأشعري الزنادقة، والملاحدة، والروافض، والخوارج، والمعتزلة، والفرق الثنوية، واليهود، والنصارى…. ومن خلال هذه الردود تبنى موقفا سنيا جماعيا مستندا على القرآن والسنة، على اعتبارهما يمتلكان الأولوية المعرفية في أمور العقيدة ثم ليتم بعد ذلك الاعتماد وتوظيف العقل في الاستدلال والبيان للعقائد الإيمانية بالأدلة العقلية.
لقد كان هدف الإمام الأشعري هو تفادي الطامة الكبرى التي كادت تعصف بالمجتمع الإسلامي وبهذا الدين. فسارع إلى لملمة الوضع عن طريق سعيه إلى توحيد سواد الأمة على معتقد يعكس ما أقره القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وما فهمه الصحابة الكرام. فكان هذا المعتقد الذي جمع الأشعري الناس عليه هو معتقد أهل السنة والجماعة الذي يعكس روح هذا الدين ومقصده في الاعتقاد. فراعى فيه مؤسسه الوسطية والاعتدال ونفر فيه من كل أشكال التطرف والغلو. ومن جهة أخرى بنى الأشعري مفهوما للتوحيد مبناه على تنزيه الذات الإلهية عن التعدد والتشبيه. فقد تم معهم إعادة تأسيس مفهوم التوحيد على النقل والعقل. فمن النقل نجد العديد من الآيات القرآنية التي يعتبرونها منطلقا لإعادة بناء وتأسيس هذا المفهوم، مثل قوله تعالى في سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌ﴾ (الإخلاص آية 1)، وقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَےْءٞ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُ﴾ (الشورى 9) أو قوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمَ اَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا اَ۬للَّهُ﴾ (محمد 20) وغيرها كثير. وتماشيا مع منطوق ومدلول هذه الآيات، فقد أعمل الأشاعرة العقل والبرهان للاستدلال على أن معنى التوحيد هو الإقرار أن الله إله واحد. «فكونه إلها يقتضي كونه غنيا عما سواه»[5] بحيث إنه يستحيل عليه أن يتوقف على غيره، أو أن يحتاج لمن يساعده في خلق الكون والكائنات وتدبيرها. فهو وحده القائم بالخلق والأمر. ومن جهة أخرى فإنه يستحيل عليه أن يكون مركبا في ذاته بحيث تتوقف ذاته على أجزائها. لأن كل مركب «مفتقر إلى كل واحد من أجزائه. وكل واحد من أجزائه غيره. فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره»[6] لذلك كان الإقرار لله بالألوهية وبالأحدية معناه الإقرار له بالغنى عن كل ما سواه من جهة، والإقرار بأنه واحد أحد فرد صمد. ومعنى ذلك القطع بكون الله أحدا «وكونه أحدا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة»[7] . أما الإقرار لله بأنه صمد فمعناه أنه «هو السيد المصمود إليه في الحوائج، وذلك يدل على أنه ليس بجسم، وعلى أنه غير مختص بالحيز والجهة[8] فثبت من كل هذا أن التوحيد الحق يبنى على تنزيه الله عن التعدد وعن الشبيه، فالمقصود بقوله تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَےْءٞ﴾ هو نفي الشبيه والمثيل والنظير عن الله، وفي نفس الوقت نفي التحيز والجهة والمكان عنه. أو بتعبير بعض علماء المغرب «نفي الكم المتصل وفيه رد على المجسمة…ونفي الكم المنفصل وفيه رد على الثنوية المشركين»[9] وهذا هو المعنى الذي بناه الإمام الشعري للتوحيد في دلالته التنزيهية، وما قصده جمهور أهل السنة والجماعة من هذا المفهوم. وحتى نتوسع في توضيح التوحيد الأشعري نورد تفصيلا دقيقا لأحد أشاعرة الغرب الإسلامي وهو يفصل ويدقق المفهوم. حيث رأى أن هناك أربعة معاني أو أوجه معاني للتوحيد هي:
المعنى الأول: وهو أنه واحد في ذاته، بحيث لا تجوز عليه التجزئة والتقسيم. فهو واحد، بمعنى أنه فرد غير مركب، ولا يقبل التجزيء إلى عناصر أولية. فكل اعتقاد في الله بأنه مركب من أجزاء، كاليد والعيون والجوارح الأخرى، وأنه يجلس كما يجلس سائر الناس، فقد حاد عن مفهوم التوحيد السني الأشعري
المعنى الثاني: أنه واحد في ملكه، فلا يشاركه الخلق والأمر والتدبير غيره. فمن قال بثنائية الآلهة، أو تعددها، فقد حاد عن معنى التوحيد، وسقط في نقيضه
المعنى الثالث: أنه واحد في صفاته، وفي صفات كماله، فلا يشاركه فيها سواه. فجميع صفاته على الإطلاق، لا على النسبية. فهو قادر قدرة مطلقة، وعالم علما مطلقا بالكليات والجزئيات، وسميع، وبصير، ومريد … كل ذلك بإطلاق، بحيث لا يمكن تصور مخلوق يشاركه في هذه الصفات، بهذا الإطلاق
المعنى الرابع: أنه واحد في الخلق والصنع والاختراع، فلا أحد يخلق معه. فهو البارئ المصور، المبدع لجميع المخلوقات، لا نتصور خالقا مبدعا مصورا غيره[10]
فالله إذن منزه عن فوق يرفعه، وعن تحت يضعه، وعن عرش يحمله، وعن سماء تكنفه، وعن زمان يخصه، وعن بداية تكونه، وعن عين تدركه، وعن لسان يصفه، وعن عقل يكيفه، وعن وهم يتخيله، ومنزه عن شريك يشاركه في القدم والبقاء والملك والحكم والتدبير. وكل خروج عن ما سبق يخرج صاحبه عن معتقد أهل السنة والجماعة.
السؤال الثاني: ما هي أهم مضامين المعتقد الأشعري؟
من باب التقريب لمضامين المعتقد الأشعري يمكن صياغة بعض المضامين على هيأة مجموعة من القواعد العامة التي ينتظم فيها هذا المعتقد. وعلى رأسها أم القواعد التي يصدر عنها الفكر الأشعري ونعني بها الرحمة الإلهية. فقد آمن الأشاعرة بأن رحمة الله هي التي تحكم الكون ولا يحكمه عدلُه لأنهم صدروا عن الآيات القرآنية التي يعلن فيها رب العالمين أنه رحمن رحيم كتب على نفسه الرحمة. وأن كل مضامين هذه العقيدة تترجم الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء. فما من مضمون إلا وتحضر فيه رحمة رب العالمين.
ولما كتب الله لهذه العقيدة الانتشار بين الناس طرح السؤال أمام هذا التعدد في الملل والنحل والآراء والمعتقدات أين الحقيقة وأين الحق؟ فوقع الإجماع من الناس على أن الحقيقة والحق مع أهله أعني أهل السنة والجماعة الأشاعرة فسموا لذلك أهل الحق.
القاعدة الأولى: «يُعرف الله بالنظر العقلي لا بالظن لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا».
وهذه القاعدة سادت في أوساط غالبية الأشاعرة لاسيما أشاعرة الغرب الإسلامي. فقد صدروا عن اقتناع مفاده أن القرآن الكريم تضمن الحض على إعمال النظر، والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، في حوالي 767 موضعا. فهل هذا العدد من الآيات ليس قمينا بأن نفهم منه أن هذا الحض والحث لم يكن اعتباطا وجزافا وإنما كان لغرض امتثال الأمر وإعمال العقل والتدبر في مخلوقات الله كلها. فقد خلق الله الكون الفسيح كبيره وصغيره وجعل فيه آيات وعلامات تدل بالقطع واليقين على وجود صانعها وبارئها (الله). وإن نحن لم نعمل النظر واعتدنا التقليد في القول بوجود الله ومعرفته سنكون ممن يصدق عليه قوله تعالى ﴿وَكَأَيِّن مِّنَ اٰيَةٖ في اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف آية :105) فاللجوء إلى التقليد في العقائد نكوص عن مرغوب ربنا سبحانه وتعالى.
فموجودات هذا الكون تدل – إذا نحن تأملناها وأجرينا عليها قواعد النظر العقلي- على وجود الله يقينا لا ظنا. فأنت حين ترى ظاهرة كونية كبيرة أو صغيرة أو تصادف كائنا بشكل غريب لا يسعك إلا قول: سبحان الله. فهذا نظر عقلي في أبسط حالاته وهو علامة على يقين وإيمان كامل لا ظن فيه.
القاعدة الثانية: «الجهل بالصفة يقتضي الجهل بالموصوف».
وهي قاعدة تنطلق من أن معرفة الله تكون على الحقيقة لا على الوهم فمن يتوهم أن الله له ولد، أو صاحبة. أو هو مثل مخلوقاته. فهو غير عارف بالله على الحقيقة. وللاستدلال على هذه القاعدة نورد قصة ما وقع لابن أبي زيد القيرواني أيام إقامته بالقيروان حين دار نقاش فكري بين عامة الناس حول مسألة: هل يعرف الكفار الله أو لا يعرفونه؟ فكثر النزاع بينهم حتى كاد يؤدي بهم إلى الاقتتال. ففزعوا إلى أبي عمران الفاسي وهو يومها إمام الوقت، ليحل لهم ما أشكل عليهم، ويفتي في المسألة برأيه فقال لهم: «إن أنصتم وأحسنتم الاستماع أخبركم بما عندي. فقالوا له: ما نحب إلا جوابا بيّنا على قدر أفهامنا. فتوجه بالحديث إلى أحدهم قائلا: أ رأيت لو لقيت رجلا فقلت له أ تعرف أبا عمران الفاسي؟ فقال لك أعرفه. فقلت له صفه لي. فقال: هو رجل يبيع الحنطة والزيت في سوق ابن هشام، ويسكن صبرة أكان يعرفني؟ فقال: لا. فقال: لو لقيت آخر فقلت له:
أتعرف الشيخ أبا عمران فقال نعم. فقلت له صفه. فقال هو رجل يدرس العلم، ويفتي الناس، ويسكن قرب السماط. أكان يعرفني. قال: نعم. قال: والأول ما كان يعرفني؟ قال: لا. قال لهم الشيخ: فكذلك الكافر إذا قال لمعبوده صاحبة وولد، وأنه جسم، وقصد بعبادته من هذه صفته فلم يعرف الله ولم يصفه بصفته. بخلاف المؤمن الذي يقول إن معبوده هو الله، الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، فهو قد عرف الله ووصفه بصفته، وقصد بعبادته من يستحق الربوبية»[11]
القاعدة الثالثة: التوحيد تنزيه للذات الإلهية عن التعدد والشبيه.
وهي قاعدة تفيد أن التوحيد عند السادة الأشاعرة مبني على الآيات المحكمة من قبيل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَےْءٞ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُ﴾ و﴿قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد﴾ فالله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله. وكل آية تفيد بظاهرها السقوط في التعدد أو التشبيه يعمل الأشاعرة على تأويلها تأويلا عقليا وفق شروط وقانون التأويل العربي. فمثلا مسألة علاقة الذات بالصفات، فالأشاعرة يثبتون لله صفاته جميعها ويجعلونها مستقلة عن الذات. فلله «صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها. وكما دلت الأفعال على كونه عالما، قادرا، مريدا، دلت على العلم، والقدرة، والإرادة لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهدا أو غائبا»[12]1 فالله إذن عالم بعلم وعلمه صفة قائمة بذاته، وقادر بقدرة وقدرته صفة قائمة بذاته، وكذلك الشأن بالنسبة لباقي الصفات. وعلى الرغم من أن إثبات وجود صفات الله مستقلة عن الذات الإلهية قد يوحي بوجود قدماء على التكثير فقد لجأ بعض الأشاعرة في هذا الصدد إلى القول بنظرية الأحوال حتى يتفادوا السقوط في التعدد ومشاركة غير الذات الإلهية في صفة القدم
وبهذا الصدد انقسم الأشاعرة إلى: فريق ناف للأحوال، وفريق مثبت لها. فأشاعرة المشرق الإسلامي كان أكثرهم مع نفي القول بالأحوال كالشيخ أبي الحسن الأشعري الذي لم يقل بالأحوال، ولا ذهب إليها. ولكن أول من قيل إنه تردد في القول بها ونفيها هو القاضي أبو بكر الباقلاني[13]. ثم جاء من بعده إمام الحرمين فقال بها في كتابه الإرشاد ولم يقل بها في البرهان[14]….
أما في الغرب الإسلامي فإن الأمر على خلاف المشرق فقد شكل من أثبت الأحوال قاعدة كبيرة من أشاعرة هذه المنطقة، حيث نجد أن من قال بها هنا عدد كبير ممن نسج عقائده ومنظوماته على منوال الإرشاد أو ممن كانوا من شراح الإرشاد، الذين كانوا كثرا. لذا نجد غالبيتهم مع المثبتين للأحوال والمدافعين عنها. وكذلك الشأن بالنسبة للإمام أبي عمرو السلالجي صاحب البرهانية، ومن شرحها ممن جاءوا بعده. وكذلك الأمر مع الإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي وجل من شرح عقائده….
وملخص تعريف الأشاعرة الذين قالوا بالأحوال للأحوال أنها عبارة عن صفات إثبات تقوم بموجود لكنها لا تتصف لا بالوجود ولا بالعدم[15]. ومن ذلك أنه إذا قلنا إن الله على حال من القدرة، أو كونه قادرا، فقد أثبتنا له القدرة باعتبارها حالا. علما أنها لا تتميز بوجود ذاتي مستقل، ولا بعدم ذاتي مستقل عن الذات. وبذلك يكون من أثبت الأحوال من الأشاعرة راموا من إثباتها أن «تصح لهم عقلية المماثلة والمخالفة بين الذوات»[16] وبذلك يكون الأشاعرة قد تجاوزوا السقوط في التعدد في الذات الإلهية، وتجاوزوا هفوات المعتزلة من جهة أخرى. ومن أبرز الهفوات التي تجاوزها الأشاعرة المثبتون للأحوال في نظرية الأحوال أن الحال عندهم ليست صفة نفس «إذ لو كانت متصفة بصفة نفس لكانت نفسا، ولكانت صفة نفسها أيضا متصفة نفسا. وذلك يؤدي إلى ما لا يتناهى وهو مستحيل»[17].
أما حينما يتعلق الأمر بالآيات المتشابهات، التي تُلحق بالذات الإلهية صفات جسمية تجعله شبيها بمخلوقاته كاليد، والوجه، والأعين …الخ فإن موقف الأشاعرة منها على قسمين:
- قسم مثله أوائل الأشاعرة الذين أثبتوا لله هذه الصفات لكن دون كيف[18] فقالوا: لله يد لكن لا نعرف كيفها، وكذلك الوجه والأعين والاستواء …….
- وقسم ثان عمل على تأويلها تأويلا عقليا فتحرى في ذلك التنزيه للذات الإلهية عن صفات الجسمية، والتشبيه التي تجعل الله شبيها بمخلوقاته. وهذا الرأي هو الذي عمل به غالبية الأشاعرة لاسيما المتأخرين. وقد كان هذا التأويل مؤشرا آخر على تميز الفكر الأشعري عن الفكر التسليمي التفويضي.
القاعدة الرابعة: لا يجب على الله شيء.
وهي قاعدة تتأسس على أن الله فوق كل مخلوقاته وهو القاهر فوق عباده. فلا يمكن تصور قاهر فوقه فلا يلزمه شيء ولا يجب عليه؛ بل يجب له ولا يجب عليه؛ لأن إلزام الله بشيء وفرضه عليه سوء أدب معه. فالله سبحانه وتعالى تجب له الصفات العلى والأسماء الحسنى. أما القول بأنه ملزم بإدخال المؤمنين الجنة وإدخال الكافرين النار حتى لا يكون كذابا، كما قالت بذلك المعتزلة. فإن الأشاعرة يصدرون في هذه المسألة عن رحمة الله الواسعة وحكمه في ملكه بما يشاء وكيف يشاء.
القاعدة الخامسة: المعية الإلهية تكون بالعلم والإحاطة والاطلاع.
فمفهوم المعية يفيد الاقتران والمصاحبة والمجانبة وهي صفات تفيد التحيز في المكان. وبما أن الأشاعرة ينفون عن الله المكان وفوق وتحت وما إلى ذلك. فقد أولوا مفهوم المعية الوارد في القرآن من قبيل : ﴿َهُوَ مَعَكُمُۥٓ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ و﴿إن الله مع الصابرين﴾ و﴿إن الله معنا﴾ فقد أول الأشاعرة المعية الإلهية حتى لا يسقطوا في القول بحلول الله في المكان وتحيزه فيه. وحيث إن الله تعالى منزه عن المكان والتحيز فيه لأنه خالقه. ولا يحيط به مكان أولوا هذه المعية بالعلم فالله معنا بعلمه وبإحاطته واطلاعه
القاعدة السادسة: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب.
وأصل هذه القاعدة هو النقاش الأول بين المسلمين حول الحكم على مرتكب الكبيرة من المسلمين هل هو كافر أو مؤمن أو عاص؟ فكانت أجوبة الفرق الكلامية الأولى بين تكفير، وإرجاء حكم، والقول بالمنزلة بين المنزلتين. لكن الأشاعرة قالوا بعدم كفر مرتكب الكبيرة ما دام معتقدا بقلبه ومقرا بلسانه بإيمانه فهو مؤمن عاص، حتى النقاش الذي دار بين الأشاعرة حول الحكم على المقلد في العقائد فقد أولوا تكفيره، وحملوا معنى الكفر على الكفر السطحي، أو الكفر الظاهري لا الكفر الشرعي. كما حملوا تكفيره على أن إيمانه غير كامل. مما يعني أن إطلاق الكفر عليه لا يعني كفر ملة ودين، وإنما نعني به نقص الإيمان وعدم اكتماله فقط. أو إن شئت قلت كفر عصيان. فهو من حيث الملة والدين مؤمن، لكنه من حيث العمل عاص. فكفره كفر عصيان.
يقول محمد العربي الفاسي في تبرير هذا المعنى:
أي ليس هو كامل الإيمان *** والكفر قد يجري على العصيان[19]
كما حملوا الكفر المستعمل هنا على المقلد في العقائد لمن قال بكفره على أنه ليس كفر ملة ودين، وإنما هو كفر نعمة. لأن الله أنعم على المقلد بنعمة العقل، وبدل أن يشكر الله عليها باستعمالها وامتثال أمره بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، عطّل عقله وقلّد غيره. فيكون كافر نعمة لا كافر اعتقاد.
القاعدة السابعة لا يقطع لحد بجنة ولا نار إلا من قطع له الله ورسوله.
وهذه القاعدة تعكس مطلق الإرادة الإلهية والانفتاح على رحمة الله الواسعة فالله يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء إن شاء أدخلنا الجنة وإن شاء أدخلنا النار، فالمسلمون يرجون رحمة الله، ولا ينتظرون عدله. وأن يحاكمهم بإحسانه لا بميزانه. وأن كل من يجزم بالجنة لمن لم يجزم له الله ورسوله كان كمن يقول ما لا يستقيم. فالواجب الدعاء والوقوف بباب الرجاء لا الحكم بالقطع والجزم بالجنة أو النار فقد قال الشاعر:
ما بين غمضة عين وانتباهتها *** يغير الله الأمر من حال إلى حال
القاعدة الثامنة: قضى الله ما شاء وأراد ما فعل.
وهنا يتميز الأشاعرة بوضوح تام عن المعتزلة، فالمعتزلة يعتبرون أن الأمر الإلهي غير إرادته فهو أمر بالإيمان به، ولم يرد من الكافرين الكفر تبعا لذلك، لكن الأشاعرة قالوا إن الله قد يأمر بشيء لكنه يريد نقيضه، فقد أمر بالطاعة وأراد من العصاة العصيان، وأمر بعبادته وأراد من الكفار والمشركين عبادة غيره.. وهكذا دواليك. لا معقب لحكمه. ألا له الخلق والأمر.
القاعدة التاسعة: الأفعال البشرية خلق من الله وكسب من البشر.
وتماشيا دائما مع القول بالقدرة المطلقة لله في الكون وبكونه الخالق الوحيد فيه لا يشاركه الخلق والأمر أحد، فإن القول بالأفعال البشرية هل هي من خلق البشر أنفسهم أم أن البشر مسيرون لا يأتون من الأفعال إلا ما كتب الله لهم وقدر عليهم؟ وهذا من أعوص المسائل الكلامية التي حار فيها العقل الإسلامي وتردد. لكن الأشاعرة قالوا إن القدرة الإلهية قدرة مطلقة، فالله فعال لما يريد، يتمتع بقدرة وإرادة مطلقتين، وأن من أثبت للإنسان قدرة وإرادة حرتين مستقلتين فإنه يسقط في القول بخالقين على التكثير، هم الله من جهة، وعباده من جهة أخرى؛ لأنهم يخلقون أفعالهم. في حين أن الله واحد في الخلق، أما قدرة الإنسان فحادثة لا تقوى على الخلق والإبداع لولا وجود القدرة الإلهية فقد قال تعالى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ رَم۪ى﴾ وقال أيضا ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُ﴾ وهذا يعني أن المشيئة الإنسانية متوقفة على المشيئة الإلهية «غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسبا .فيكون خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا، وكسبا من العبد حصولا تحت قدرته»[20] وهنا يبرز الأشاعرة بمفهوم قرآني هو الكسب الذي ورد في القرآن الكريم أربعا وعشرين مرة. وصاغوا قولا فيه أسماه الدارسون نظرية الكسب الأشعري. وهي نظرية ترنو الوسطية بين حرية الإرادة البشرية كما نادى بها المعتزلة وبين القول بالجبر المطلق كما قال به الجبريون. فنظرية الكسب مفادها أن الأمر منوط بكسب القلوب كما هو وارد في الآية الكريمة ﴿لَّا يُوَ۬اخِذُكُمُ اُ۬للَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِنْ يُّوَ۬اخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ فالإنسان تنشأ عنده إرادة فعل الشيء فيخلق الله له عقبها قدرة على إتيانه فيكون العمل خلقا من الله وكسبا من العبد؛ حيث يصبح العبد مجبورا في قالب مختار، فلو شئنا أن نبسط الأمر أكثر قلنا إن هناك الموجود بالقوة والموجود بالفعل، فحبة القمح مثلا هي حبة بالفعل ولكن يمكن أن تغرس فتصير برعما له سنابل فهذا المصير هو وجود بالقوة ما لم يتحقق، لكنه قابل للتحقق، وكذلك الأمر مع الطفل الصغير فهو طفل بالفعل ورجل بالقوة والذي ينقل الشيء من القوة إلى الفعل هو الله، تماما مثلما ينقل إرادة العبد من القوة إلى الفعل في نظرية الكسب.
القاعدة العاشرة: لا سببية في الكون وإنما هي عادات أجراها الله فيه.
ودائما في إطار القول بالفعل المطلق لله وفاعل معه في الكون نفى الأشاعرة القول بالسببية لأن الربط بين السبب والمسبب اعتراف ضمني بالقول بفاعلية الأسباب، علما أن لا فاعل إلا الله. لذا نجد الأشاعرة يرفضون كل قول بالطبع أو بالأسباب ويعتبرون أن ما يبدو لنا في الكون وظواهره أن فيه علاقة سببية ما هو إلا لكون الله قد أجرى العادة في هذا الاقتران ولكن يمكن لله أن يخرق هذا الاقتران وهذه العادة عن طريق المعجزات والكرامات والإرهاصات…الخ
ومن هذا المنطلق يحترز الأشاعرة في تسمية العلة أو السبب فيسمونها جريان العادة القابل للانخراق من قبل رب العالمين. فليس هناك قول بالسببية ولا قول بالطبع لأن في كلا القولين إقرار بفاعلين آخرين غير الله هما السبب والطبع، ولأجل ذلك نجد المعجم الأشعري خاليا من ذكر العلة أو الطبع؛ بل إن الله يمتلك قدرة وإرادة مطلقتين. إن شاء خرق العادة خرقها، فلا مجال للقول بنظام عقلي ثابت في الكون، وخير دليل على ذلك وجود المعجزات التي أيد الله بها أنبياءه ورسله. وفي معرض تعريف المعجزات نرى الأشاعرة يعتبرونها فعلا لله يكون خارقا للعادة ويحصل به التحدي، ويشهد الناس بالعجز عن الإتيان بمثله.[21]
القاعدة الحادية عشرة: يجوز على الله فعل كل الممكنات.
فالأشاعرة ينطلقون من مبدأ عام يحكم نظرتهم وتصوراتهم الميتافيزيقية لعلاقة الله بالكون والإنسان ألا وهو مبدأ التجويز، فإنهم نظروا إلى أن ليس هناك أمر واجب على الله فعله. بل كل فعله داخل في مبدإ التجويز، فجائز على الله خلق المخلوقات وبعث الأنبياء، وإدخال الناس الجنة أو النار، وفعل كل الممكنات. وبذلك تفادوا السقوط في سوء الأدب مع الله، والقول عنه إنه واجب عليه كذا وكذا، فكل ما في أفعال الله داخل في إطار الجائزات.
السؤال الثالث ما هي امتدادات المدرسة الأشعرية؟
يمكن الحديث عن مجموعة من أشكال الامتداد، التي عرفتها المدرسة الأشعرية وقد نحصرها في الامتدادات التالية:
- الامتداد في المذاهب الفقهية: ذلك أنه بمجرد ما شاع خبر ظهور إمام أهل السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري ومذهبه السني الوسطي والمعتدل في الاعتقاد حتى بادر إلى تبنيه والذهاب إلى مذهبه مجموعة كبيرة من فقهاء هذه الأمة.
فبالنسبة للفقه المالكي فقد تغلغل المذهب الأشعري في أوساط المالكية ورؤوسهم حتى اقترن بعد القرن السادس الهجري الفقه المالكي بالمعتقد الأشعري لاسيما في الغرب الإسلامي حيث كانت الدولة الموحدية المساهم الأكبر في ترسيم العقيدة الأشعرية في البلاد فكان ذلك إيذانا بزواج شرعي بين الفقه والعقيدة في هذه المنطقة إلى يوم الناس هذا. وقس على ذلك سائر الأمصار التي كان الفقه المالكي هو فقهها الرسمي.
ولما انتشر الفقه المالكي في بلاد السودان الغربي على يد المغاربة نقلوا معهم العقيدة الأشعرية فصارت الأخت الرضيعة لها. وظهر في هذه المنطقة من وضع عقائد صغرى على الطريقة الأشعرية كما وضعوا شروحا على بعض العقائد من أمثال عقائد الإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (ت 895ه)
أما الشافعية فيمكن القول إنهم حاليا جميعهم أشاعرة إلا ما كان من قلة قليلة منهم في السابق لا يُعبأ بهم كانوا قلة تعتقد بمعتقد المعتزلة، أو تقول بتجسيم الذات الإلهية، عدا ذلك فقد عادت الأمور إلى جادة الصواب فتطابق وتناغم الشافعية عن بكرة أبيهم مع المعتقد الأشعري بحيث صاروا يعتبرونه الغطاء العقدي والنظري الذي يبني جانب المعتقدات السنية ويؤسس لمنظومة منسجمة ومتناغمة في أمور العقائد تتجانس مع ما ورد به القرآن الكريم ونطقت به السنة النبوية المشرفة. فلا تجد شافعيا في الفقه إلا وتجده أشعري العقيدة.
وفيما يتعلق بالمذهب الحنفي فجل أتباعه اليوم ماتريدية أي من أتباع أبي منصور الماتريدي الذي وضع عقيدة تكاد تكون متطابقة مع الأشعرية. وأيا ما كان الأمر. فالماتردية والأشعرية والطحاوية تكاد تكون تمتح من نفس المشرب السني. الذي لا يتعارض ولا يتناقض.
والحنابلة وإن لم يكونوا أشاعرة فيشهد ابن السبكي أن فضلاء متقدميهم كانوا على عقد الأشعري، ولكن مع ظهور الوهابية صاروا يقولون بتجسيم الذات الإلهية ويعتقدون في ذلك.
يقول تاج الدين السبكي «إن المالكية كلهم أشاعرة لا أستثني أحدا، والشافعية غالبهم أشاعرة لا أستثني منهم إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال، ممن لا يعبأ الله به، والحنفية أكثرهم أشاعرة، أعني يعتقدون عقد الأشعري، لا يخرج منهم إلا من لحق منهم بالمعتزلة. والحنابلة أكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة لم يخرج منهم عن عقيدة الأشعري إلا من لحق بأهل التجسيم»[22]
ولعلنا ونحن نتدبر هذا النص الشاهد على امتداد الأشعرية داخل المذاهب الفقهية السنية لنخرج بانطباع إيجابي على مدى اختراق هذه العقيدة السنية للمذاهب الفقهية السنية، وإذا استحضرنا اليوم سياق المذاهب الكلامية ومع انقراض المعتزلة الذين لم يعد لهم وجود، جاز لنا القول إن غالبية المذاهب الفقهية تدين بالأشعرية بدون نقاش، ولم يعد القائلون بالتجسيم إلا الفقه الحنبلي.
- الامتداد في أوساط كبار العلماء والعظماء من هذه الأمة: فبدءا من الإمام الأشعري وكبار تلامذته ومن جاء بعدهم كابن فورك، والباقلاني، والإسفرايينين وأبي عمران الفاسي، والجويني، والغزالي، والباجي، والقابسي، والمرادي الحضرمي، وابن النحوي، وابن حجر العسقلاني، والنووي، وابن تومرت، والقاضي عياض، والقاضي ابن العربي، والسلالجي، والمازري، وصلاح الدين الأيوبي، والسبكي، وابن السبكي، والسيوطي، والسرخسي، والسنوسي، وابن زكري …..واللائحة طويلة من كبار رجالات هذه الأمة وما انتماء هؤلاء وغيرهم كثير إلى المذهب الأشعري إلا ضمانا حقيقيا بأن هذا المذهب قد خرّج رجالا عظاما، وأن هذه المدرسة في أصلها عظيمة.
- الامتداد الجغرافي: فجغرافية الحضور والوجود الأشعري ممتدة من الشرق الأقصى من أندونيسيا وماليزيا إلى الشرق الأوسط من العراق وبلاد الشام ومصر وليبيا إلى الغرب الإسلامي من تونس والجزائر والمغرب والأندلس وبلاد السودان الغربي من السينغال ومالي والنيجر وساحل العاج إلى تركيا وأمريكا….
إن هذا الحضور الممتد في جغرافية الأرض من شرقها إلى غربها ليشهد بصوت واحد على قيمة هذه العقيدة وقدرتها على الصمود أمام كل التحديات والعراقيل.
- الامتداد في الزمان: فمنذ الإمام المؤسس إلى يوم الناس هذا تبلور المذهب الأشعري وتطور وتصدى للتحديات المسيحية، والشيعية، والخارجية، والمعتزلية، والفلسفية…… فأبان عبر التاريخ أنه صامد. وسيظل صامدا في وجه كل الأعاصير المحتملة من أي جهة جاءت، حتى تحافظ على عقيدة أهل السنة نقية صافية في وجه كل التحديات.
السؤال الرابع: هل هناك من حاجة إلى العقيدة الأشعرية في وقتنا الراهن؟
الحقيقة أن أجدادنا تمكنوا من أن يضمنوا للعقيدة الإسلامية استمراريتها في التاريخ إلى يومنا هذا. رغم التهديدات المتعددة والتحديات المستمرة المتمثلة في التنصير، وفي الطوائف الشاذة والمغالية والقائمة على العنف والإرهاب وتكفير المجتمع، وتبديع عاداته وتقاليده. فقد مثلت العقيدة الأشعرية الوجاء المنيع والحصن الحصين الذي رد كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وعداء الكافرين. لأن عقيدة أهل الحق الأشاعرة كانت سدا منيعا وردا رصينا ضمنت حماية ثابتة.
ونحن اليوم نعيش في عالم قلق تحيطه تحديات مختلفة وتكتنفه ملابسات خطيرة تهدد وجود المجتمعات الإسلامية بالتدهور والاضمحلال، وتقض مضاجع المسلمين في عقر دارهم، وتهدد وجود دينهم بالزوال. فهناك حملات التنصير الشرسة التي تشنها كتائب المسيحيين من أجل تنصير الشباب باستخدام المال وبذريعة تأمين مستقبلهم وإغرائهم بالحياة الغربية. كما أن هناك موجات الإلحاد التي باتت قريبة من تلاميذنا وطلبتنا، بالإضافة إلى التشيع وحملاته عبر العالم، وأفكار الغلاة والمتشددين الذين يدعون إلى الإرهاب بمختلف أنواعه من أجل إثبات وجودهم في هذا العالم، هذا بالإضافة إلى منظومة التفاهة التي أفقدت الإنسان المسلم مهمته في الحياة وغايته من الوجود.
والحقيقة أن الأشعرية من شأنها أن تنهض بدورها كاملا إن هي تمكنت من النفوس وتم تدريسها وتقريبها للناس لأن من شأنها أن توقظ إحساس المؤمن بإيمانه العميق والكامل وبفعاليته وإيجابيته في الحياة والمجتمع، وأن يكون إنسانا فاعلا وبانيا ومنتجا ومقبلا على الحياة بكل تفاؤل من غير ما تواكل ولا تكاسل.
إن المسلم المعاصر محكوم عليه أن يتفاعل مع العالم ومستجداته التكنولوجية لكن بشرط أن يكون محصنا بشحنة إيمانية تجعله متشبثا بدينه وإيمانه لا يمكن أن يزحزحه عنه أي مزحزح وفي نفس الوقت أن يطور إيمانه ويكيف عقائده الإيمانية مع ذلك. وذلك يتأتى مع العقيدة الأشعرية.
كما أن العقيدة الأشعرية بحكم اعتدالها ووسطيتها تبني إنسانا متوازنا توازنا داخليا ينبذ الغلو والتشدد والعنف والإرهاب بكل مظاهره وتلويناته. ويحقق الحياة الطيبة التي وعده بها رب العالمين في الدنيا قبل الآخرة.
إضافة إلى أن العقيدة الأشعرية تطور علاقة الإنسان بربه بحيث تؤسس علاقة هذا الإنسان بالله تقوم على التوحيد وعلى حسن العبادة. فالله لا يعبد بالجهل به، ولا بالتقليد في العقائد الإيمانية، ولا بالكفر والزندقة والإلحاد، كما أنه لا يعبد بالغلو ولا بالتراخي والاستهتار. بل ترنو إلى تأسيس علاقة قائمة على رحمة رب العالمين، في كل ما يتعلق بمصير الإنسان في الدنيا والآخرة.
علاوة على أن المعتقد الأشعري هو منظومة تربوية توجيهية تكرس في الإنسان قيما كونية مثل التآخي والتسامح والتعاون والتضامن واحترام الآخر. فلا يتم تكفير أحد من أهل القبلة، ولا تحل دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم وبذلك تتكرس علاقة الإنسان بالإنسان على ضوء هذه القيم. فلو ركزنا مثلا على السجال والجدال الذي ينبغي أن يسود بين الخصوم وأصحاب الأهواء والملل لخلصنا إلى أن قيمة التسامح متضمنة في هذا الاختيار وكذلك قيمة الاختلاف. كل ذلك في مقابل التكفير والإقصاء الذي يمارسه الآخرون.
إن الإنسان الذي تطمح العقيدة الأشعرية إلى تربيته هو إنسان ذو أبعاد متعددة، يحقق العبودية لله، ويؤسس الإيجابية في علاقته بالآخرين ويحافظ على انسجام الكون ونظامه، لأنه يعكس الصنع الرباني وتجلياته فيه. ولعمري هي قمة مقصد الشرع الإسلامي من تكوين وتربية المؤمن.
فما أحوجنا إلى هذا الإنسان الذي تربى في مدرسة العقيدة وتشرب من معينها وكرع من سلسبيلها وأخلص في ذلك الإيمان لله وأسلم وجهه للبارئ، واعترف للرسول الأعظم بأداء الرسالة وتبليغ الأمانة. ثم حقق الفرائض والنوافل براحة واطمئنان.
الهوامش
[1] ابن عساكر: تبيين كذب المفتري ص 35
[2] تبيين ص 35
[3] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو دار إحياء الكتب المصرية 1971 الجزء الثالث ص 347
[4] تبييين ص 91
[5] الفخر الرازي: أساس التقديس. مطبعة مصطفى الحلبي مصر 1935 ص 18
[6] الفخر الرازي: أساس التقديس ص 18
[7] نفس المصدر والصفحة
[8] نفس المصدر والصفحة
[9] الطالب بن الحاج: حاشية الطالب بن الحاج على شرح ميارة على المرشد المعين ط 1 المطبعة الأميرية بولاق مصر 1316 ص31
[10] القطب الصنهاجي: مشارق المهتدين في شرح عقيدة الصالحين مخطوط محمد احنانا تطوان ص22
[11] ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف: تحقيق أحمد التوفيق. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية –الرباط1984 ص87
[12] الشهرستاني: الملل والنحل: تحقيق محمد بن فتح الله بدران، مطبعة الأزهر مصر 1947. ج 1 ص 150
[13] الآمدي سيف الدين: أبكار الأفكار في أصول الدين. تحقيق أحمد محمد مهدي. دار الكتب والوثائق القومية 2004 ط 2. ج3. ص 253 وص407
[14] انظر اليفرني: المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية. تقديم وتحقيق د. جمال علال البختي. منشورات مركز أبي الحسن الأشعري التابع للرابطة المحمدية للعلماء. 2017 المجلد الثاني ص634
[15] انظر مثلا الآمدي: أبكار الأفكار ص408
[16] أبو يحيى زكرياء الشريف الإدريسي: أبكار الأفكار العلوية في شرح الأسرار العقلية في الكلمات النبوية. تحقيق «نزار حمادي. دار مكتبة المعارف. بيروت. لبنان 2011 ص 46.
[17] ابن دهاق نكت الإرشاد في علم الاعتقاد. مخطوط دار الكتب المصرية توحيد6 ج3 ص 153
[18] الباقلاني: التمهيد ص295
[19] محمد العربي الفاسي: تلقيح الأذهان بتنقيح البرهان(مخ) ص 2
[20] الشهرستاني: الملل والنحل ج1 ص156
[21] الجويني: الإرشاد. تحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد. مطبعة السعادة. مصر 1950 ص307
[22] السبكي (تاج الدين): طبقات الشافعية الكبرى. تحقيق مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية. بيروت ط الثالثة – الرابعة ج 2 ص 272
[نسخة المداخلة الأصلية PDF]