أحمد التوفيق: حقوق النفس في الإسلام وأبعادها الاقتصادية
ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، يوم الجمعة 2 رمضان 1439(18 ماي 2018) بالقصر الملكي بالرباط، الدرس الافتتاحي من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وقد ألقى الدرس بين يدي أمير المؤمنين، السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، متناولا بالدرس والتحليل موضوع “حقوق النفس في الإسلام وأبعادها الاقتصادية”، انطلاقا من قوله تعالى في سورة الشمس “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”، وفيما يلي نص هذا الدرس الافتتاحي:
نص الدرس الافتتاحي حول حقوق النفس في الإسلام وأبعادها الاقتصادية
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى وآله وصحبه الأكرمين
مولاي أمير المؤمنين
استخرج أعلام علماء الأمة ما ورد في الكتاب والسنة، عن الحقوق، وميزوا بين الحقوق الخالصة والحقوق المركبة، وقالوا إن الحقوق المركبة هي في نفس الوقت حقوق الرب وحقوق الرسول وحقوق الإنسان الفرد وحقوق الجماعة. ومن حقوق الإنسان الفرد حقوقه إزاء نفسه، وبعدها المركب يتجلى في تأثيرها على الجماعة لاسيما في الاقتصاد، وقد أذنتم، يا مولاي، في أن يكون تناولها في هذا الدرس الذي يتأسس على أربع مسلمات ومعتقد واحد:
- أولا: وجود علاقة عضوية بين السلوك البشري والاختيارات الاقتصادية؛
- ثانيا: القول بأن هذا السلوك البشري يتبلور في السياسة التي هي في جوهرها تدبير للضعف البشري؛
- ثالثا: التسليم بأن هذا السلوك تكيفه نفس الإنسان التي تشتهي وتشتري؛ رابعا: اعتبار أن السوق هي ملتقى الاقتصاد والسياسة والنفس في آن واحد، فإما أن تتدخل في توجيهها قيم خارجية، وإما أن تترك لحركيتـها، بدعوى أنها تنضبط من تلقاء نفسها، فلا يراعى حينئذ غير ربح الفاعل الاقتصادي الذي قد يدعي أن مصلحته تستتبع بالضرورة مصلحة الجماعة.
هذه هي المسلمات، أما المعتقد المراد بيانه فهو ما جاء في القرآن الكريم من إمكان تربية النفس على توجيه ذلك السلوك، ودور هذا التوجيه في بناء نموذج شامل لحياة ليس الاقتصاد سوى بعد من أبعادها.
ونقترح بسط هذا الموضوع في ثلاثة محاور هي:
- أولا: ذكر النفس في القرآن الكريم؛
- ثانيا: ذكر فهم المسلمين وغيرهم لمسألة النفس وحقوقها؛
- ثالثا: الأبعاد الاقتصادية لتصور يراعي هذه الحقوق.
ومن الاحتياط أن نشير إلى أن هذا التناول للموضوع هو من داخل الإيمان بالوحي، مع كل ما يستتبعه هذا الإيمان، فالوحي يخبر بوجود الله، فهو سبحانه الوجود الحق بذاته وفعله وحكمه، فحقوق النفس ناشئة عن إذن الحق الأعلى فيها، ولذلك فهي أمانات يُرعى فيها حكم الله إذنا ومنعا،فوجب العلم بها وعدم الظلم فيها، قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء: “إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط لكل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان”. رواه البخاري ومسلم.
والآيات المبنـي عليـها الدرس أربع من سورة الشمس في قوله تعالى:
“ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها”
وفيـها ثلاثة مفاهيم رئيسة، النفس والتزكية والفلاح؟
أقسم الله تعالى بنفس الإنسان، وهي واحدة من أعظم مصنوعاته، وتتميز عن الروح التي لا منفذ للإنسان إلى معرفة كنهها، أما النفس فهي بحسب أثرها الخارجي تلك القوة الفاعلة التي يصدر عنـها سلوك معين، ولا مجال في ما يهمنا للخوض لا في مقرها ولا في نوع الآلية التي تربطها بالقلب أو الدماغ، أما العقل فينسب إليه التمييز، ولعل السر في كون القرآن يكني عن بعض هذه الأماكن ببعض هو أنها معنية بدرجات متداخلة في الأوامر الصادرة عن النفس بمنطوق القرآن.
وأقسم سبحانه بتسوية هذه النفس على فطرة يبدو أنها أصلها الخير غير المتأثر بفساد العالم. ولقد تحير المفسرون في معنى قوله تعالى: (فألهمها)، والفعل جاء مرة واحدة في القرآن، وأصل التحير، على ما يبدو، في تجنب نسبة إلهام الفجور إلى الله، وقد يكون قدرا، ونسبة التزكية إلى الإنسان، وما إذا كان يترتب عنها الفلاح في حد ذاتها، والحالة أننا في هذا العصر، وبسبب ما أدركه عقل الإنسان من البــــرمجة الرياضية للحواسـيب، نـــــتــــصور، أن الإلـــهام هنا نـــــوع من برمجة احتمالات من نوع خاص، علما بأن إلـــهام الله تعالـــى النــفس يـــتـضمن حرية مقرونة بالعدل من جهة، ومحكومة بالـقدر من جهة أخرى، وهــذا ما لا مطـــمح للبـــرمجة البشرية في أن تــتشوف إليه، ويتقوى فهم معنى (ألهمها) بقوله تـــعالـــى: “وهديناه النجدين”، وقـــوله تعالــى: “إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”، وقول النبـي صلى الله عليه وسلم: “اعملوا فكل ميسر لـمـا خلق له.”
والفجور والتقوى وصف لما يصدر عن الإنسان بقياس النقل والتجربة، وذلك مما لا يخفى جله عن ميزان العقل العام.
وقول بعض المفسرين بأن المقصود هو الفلاح في الآخرة، لا يوافق منطق القرآن المستفاد منه أن الفلاح في الدنيا مفض للفلاح في الآخرة، لأن الدنيا لم تخلق عبثا، بل الله أخرجها وخلق فيـها خليفة هو الإنسان، وأودعه أمانة، وجعل بينه وبينه الميثاق.
وبعض المفسرين متردد في نسبة التزكية، أي التطهير والتربية، إلى الإنسان، فمالوا إلى تغليب القدر، فقالوا معناه: “من زكى الله نفسه”، مع أن الجهد الإرادي المطـــلوب من الإنسان في هذا الصدد جلي في قوله تعالى: “قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى”، والمعنى بتعبيرنا: من نمى في نفسه نوازع الخير وتمرن عليه. وينبغي أن يفهم من هذه الآيات أن الأمر يتعلق بنفسين، نفس تحتاج إلى التزكية، ونفس تقوم بتحقيق هذه التزكية في النفس الأخرى.
أما دس النفس أو تدسيسها، فهو إخفاء أمرها، من قبيل تحاشي طرح مشكلتها على نفسه المنتظرة منها المراقبة، تهربا من مواجهة المسئولية الأخلاقية، إما نظرا للمشقة التي يتحاشاها الكسل، وإما لكراهة الحرمان المترتب عن ضبط النفس بخصوص بعض الشهوات.
هذه التزكية أو التربية الواجبة للنفس، هي حقها الذي تنطوي تحته جملة من الحقوق، وهي نظام بناء الشخصية السليمة السوية من منظور الدين، فهذه النفس بما ندركه اليوم من غرائزها وميولها وأحاسيسها وانفعالاتها، هي التي ينبغي توطينـها على أن تكون للخير فاعلة، وعن الشر منقبضة بمرجعية الشرع، هذا الجهد في التدبير والترويض هو المراد بالمفهوم المركزي الذي نحن بصدد شرحه، وهو التزكية، وقد أبرز القرآن أمرها بظاهر أعظم آثارها عندما بين أن المرض الأشد الذي ينبغي أن تتخلص منه هذه النفس هو مرض الشح، أي البخل، فقال: “ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” ، وتؤكد هذه الحقيقة آيات كثيرة تحض على الإنفاق، فالعطاء والبخل مما يصدر عن النفس، وحيث إن الأمر يتعلق بجانب مهم من النظام الاقتصادي وهو التوزيع، فإنه يصدق على نفس الفرد، كما يصدق على نفس الجماعة، وهو ما يستفاد من ذكر أمم قديمة ورد أن الله أخذها ببخلها.
إن التزكية من الشح بُعد في السلوك يتميز بحسب نمطه وقدْرِه نموذج اقتصادي عن آخر، حذر منه القرآن لما فيه من ظلم النفس وعدم تمكينها من حقها، وهذا ما تؤيده أخبار السيرة حيث تأسس الإسلام على تغيير النفوس من حال إلى حال، تغييرا تجلى على الخصوص في المشاطرة في المال بين المهاجرين والأنصار، وهي الثمرة المعجزة للتزكية في نفوس بناة المجتمع الإسلامي الأول، فلا غرابة في أن يكون هذا العهد النبوي هو الذي تأسست فيه، نظرا وتطبيقا، منظومة أخلاق الإسلام حول هذا المفهوم العملي الرئيس، وبعبارة عصرية يمكن القول إن التدين في هذا العهد كان بجودة عالية، فقد استمر الدين بعد العهد النبوي، على المستوى النظري، كاملا، كما تم تبليغه، ولكن الأخذ به في الأهم هو الذي تردى، ونقصد بالأهم التزكيةَ وتعلمَ الحكمة، وهما مهمتان من المهمات الأربع للبعثة المحمدية، وعليه، يتوجب التمييز في حياة المسلمين بين الدين وبين التدين، أي مدى الالتزام العملي بالدين، وبناء على هذا التمييز يجوز الحديث عن جودة التدين ورداءته، وليس في إطــلاق هذين الوصفين، جودة الـتديـن ورداءته أي ابـتـداع، لأن الأول يحـيل على كل ما ورد في القرآن من قــبـيــل قـــوله تعالى: “واتقوا الله حق تقاته”، والثاني يحـيل على كـل ما جاء في القرآن من قبيل قوله تعالى: “كــبـر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” ، ولا جودة في التدين إلا بالتزكية، وهي سبب وثمرة لاختيار اقتصادي تسود فيه أخلاق العطاء، على الأقل بقدرها الأدنى من الأمرين الأساسيين اللذين امتن الله تعالى بهما على قريش. وهما الأمن من الجوع والأمن من الخوف. روى البيـهقي في شعب الإيمان حديثا جاء فيه: “وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع”، وحتى لو لم يكن الحديث صحيحا بلفظه، فإن تداول معناه يدل على تخوف ضمير المسلمين من الإفلاس في واقع ضَعُف فيه التضامن بشكل غير معهود ولا مقبول في خيال الذين ارتبط عندهم الدين في العهد الأول بالإيثار والكفاف.
وبينما كان العلماء يستنبطون القواعد من الأصلين في القرنين الثاني والثالث، اتجه فريق إلى تطبيق أخلاق الدين على حياتهم في مناحي التزهد، همهم السلوك، وفي مركزه النفس، وهم يسمعون قوله تعالى: “إن النفس لأمارة بالسوء”، وقوله تعالى: “ونهى النفس عن الهوى”وقوله تعالى: “أرأيت من اتخذ إلهه هواه”، بدأ بعض هؤلاء القلقين وعاظا ومذكرين، ثم جمع علماؤهم، مثل ابن المبارك، رقائق الأخلاق في نصوص نفيسة، وسرعان ما ظهرت في هذا التيار بوادر استنكار لغلبة الشح وضعف التزكية.
في هذا السياق ظهر تيار التصوف، وجعل تربية النفس في عمق مشروعه، اهتم بعض الآخذين به بأخلاق العامة، وتكرس آخرون للحقائق التي لا يتشوف إليها إلا الخاصة، رأى التيار الأول أن عدم إصلاح النفس بالتزكية خطر على فهم الدين من حيث هو خطر على السلوك، ورأى التيار الثاني أن ضرر نسيان النفس لا يقف عند فساد أخلاق المعاملات، بل يتعدى ذلك إلى حجاب الإنسان عن الحقيقة المطـلقة التي هو مرشح لملامسة قدر منها. وأما المتوجهون إلى العامة فقد تكلموا عن النفس بلغة الاتهام حتى قرنوها بالشيطان، واهتم بالتأليف في عيوبها مشاهيرُ منهم السلمي المتوفى في أوائل القرن الخامس للهجرة، فقد وضع كتابه في “عيوب النفس”، وكلما ذكر عيبا ذكر أمامه التمرين الذي به يمكن أن يُزال، ومن هذه العيوب الكذب والشح والبخل واتباع الهوى والتكبر والطمع والتكاسل في أداء الحقوق والغفلة وطــلب الرياسة بالعلم أو الدين، إلخ… وقد وصل هذا التراث المتعلق بالاحتياط من النفس إلى الجمهور الواسع بواسطة كتب الحكم، مثل “حكم” ابن عطاء الله، وبواسطة منظومات مثل منظومة الشيخ المغربي أحمد زروق، ومثل قصيدة البردة في المديح النبوي للبوصيري المغربي الأصل، كما تناوله في المغرب شعر الأدب الشعبـي، ومما يحفظه الناس في مقدمة قصيدة البردة، مما يتعلق بالنفس، قولُ الناظم:
فإن أمارتي بالسوء ما اتعظت من جهلها بنذير الشيب والهرم
إلى أن يقول:
فلا ترم بالمعاصـي كسر شهوتها إن الطعام يقوي شهوة النـهم
إلى أن يقول:
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
أما أهل العرفان من الصوفية فلهم كلام موجه لأمثالهم من أهل الأذواق، فمن ذلك قول ابن عربي في رسالة “كنهُ ما لابد منهُ”:
“ومما لابد منه محاسبةُ نفسك ومراعاةُ خواطرك مع الأوقات، واستشعار الحياء من الله تعالى بقلبك، فإنك إذا استحييت من الله منعت قلبك من أن يخطر فيه خاطر ذمه الله أو يتحرك بحركة لا يرتضيـها الله تعالى، ولقد كان لي شيخ يقيد حركاته في كتابه بالنهار، فإذا أمسـى جعل صحيفة بين يديه وحاسب نفسه على ما فيها، وزدت أنا بتقييد خواطري”.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن استمرار الفضل في الأمة إلى يومنا هذا، قد أمكن بالحرص على قدر أدني من النقد الذاتي، أي من التشوف إلى التزكية، وتفاوتت الأحوال في الأزمان بحسب ما تهدد النفوسَ من غوائل النسيان والطغيان.
أما خارج الإسلام، فكل المذاهب الروحية الكونية الكبرى اعتبرت تربية النفس، مثلما في الإسلام، سبيلا إلى الاكتمال الإنساني، إلى حد القول بوجوب إماتة شطرها الشهواني الذي يحجب عن الحقيقة، وإحياءِ جانبـها النوراني، وقد عاشت نخب هذه المذاهب تجاربَ مع النفس les expériences du Soi، وقد تنعت بأنها تجارب قصوى peak experiences، فقالوا من عرف نفسه عرف ربه، وهكذا كان من المهتمين بالنفس فلاسفة من أفلاطون إلى هيدجر، وأصحاب مشاربَ روحانية ورياضات أسيوية من أتباع الفيدانتا واليوكا، وآخرون في المسيحية، من القديس أوغسطين إلى سان جان دولاكروا.
أما في الإسلام، فبعد المبالغة المقصودة في اتهام النفس على أيدي الزهاد والصوفية، مقابل مبالغة قوم أطلقوا لهذه النفس عنانها بالإقبال المسرف على الدنيا في القرنين الثاني والثالث، ظهر ابتداء من القرنين الرابع والخامس حكماءُ من علماء مكارم الأخلاق، وضعوا نُصب أعينهم ما ورد عن النفس في القرآن، مع علم جلهم بتراث اليونان في الموضوع، لاسيما أرسطو في كتابه عن النفس De Anima، نذكر من هؤلاء مسكويه في “تهذيب الأخلاق” والراغب الإصبـهاني في “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين” ومعاصره الغزالي في “إحياء علوم الدين”.
يقول مسكويه: غرضنا أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا… والطريق إلى ذلك أن نعرف أولا أنفسنا. والحرص على ذلك واجب لأننا خلقنا للخيرات التي هي كمالنا.
فقوى النفس ثلاث، التي يكون بها الغضب والترفع، والتي يكون بها الشوق إلى الملاذ، والتي يكون بها الفكر والتمييز، والمهم أن يكون بينـها الاعتدال. والخلق يكون في أصل المزاج أو يستفاد بالعادة والتدرب، لذلك وجب على الوالدين أخذ الأولاد بالآداب الجميلة، فقد وهبت للإنسان قوة عالمة وقوة عاملة لا لأجل تحصيل اللذات، والواجب على العاقل أن يعرفها ويقومها، والسبيل إلى هذا التقويم ألا يتعدى القدر الضروري من حاجاته وألا يتعدى ما يملكه إلى ما يملكه غيره. وقد تبين أن السعادة متعلقة بالجود لأن اللذة الفاعلة تكون بالإعطاء. فإذا تحاب الناس صارت القوى الكثيرة واحدة. فالشريعة تدعو إلى المحبة، ومن فاته شرف المحبة لزمته العدالة.
أما الراغب الإصبهاني فيقول:
في نفس الإنسان أمراض يلزم إماطـتـها كالجهل والشره والعجلة والشح والظـلم، وفي الإنسان قوى عليه أن يراعيها ليستعملها على الوجه المطــلوب، فهو عجول ظلوم جهول هلوع جزوع منوع كفور قتور، إن لم يُزل أمراض نفسه لم يجد سبيلا إلى نعيم الآخرة بل وإلى طيب الحياة الدنيا. فمعرفة الإنسان نفسه سبيله إلى معرفة العالم، فالإنسان هو المقصود من العالم. والناس يتفاوتون بحسب الوراثة واختلاف التأديب والمخالطة (أو البيئة) واختلاف الاجتـهاد في تزكية النفس بالعلم والعمل.
أما الغزالي فقد سمى كتابه “إحياء علوم الدين” لأن جوهر هذه العلوم في نظره قد وقع تناسيه، وهو علم الباطن المتمثل في الأخلاق العملية التي هي الثمرة المرجوة من العبادات الظاهرة، فقد قال: “لقد اندثر هذا العلم، وأُنكر بالكلية طب القلوب، والعلماء هم الأطباء، وقد تكلم عن النفس وشرح معناها فقال: إما أن يقصد بها الإنسان ذاته وإما أن يقصد بها المعنـى الجامع قوة الغضب والشهوة، وهي التي يقوم التصوف على مجاهدتها، ولها ثلاثة أحوال في القرآن: الأمارة بالسوء، إذا أطاعت لمقتضيات الشهوة، اللوامة، إذا كانت تلوم صاحبها لتقصيره، المطمئنة، إذا كانت تحت أمر العقل الشرعي. فالإنسان يحتاج في حياته إلى الغضب والشهوة، والمهم هو ألا تتمرد عليه وتستعبده، وهذه حالة أكثر الخلق، والمهم هو تحقيق الاعتدال بين القوى المذكورة لتحسن بذلك أخلاق صاحبـها، والأخلاق تتغير، والبخل هو المبعد عن الله تعالى وعلاجه بالإنفاق، ولا تكون النجاة إلا بالأعمال الصالحة.
وهكذا يلتقي الحكماء الثلاثة في أربع خلاصات هي من أعمق ما وصل إليه فكر الإنْسية L’Humanisme إلى يومنا هذا:
1- تدبـير قوى النفس على الاعتدال هو منهج التزكية، وهي تهذيب الأخلاق؛
- 2- النفس قابلة للتزكية، بالرغم من أثر الوراثة؛
- 3- العطاء هو الدليل الأعظم على التزكية؛
- 4- بالتزكية تحصل سعادة الأولى والآخرة.
بعد ذكر هذه المفاهيم المستمدة من القرآن يتعين التساؤل: هل حدث في هذا العصر تطور في معرفة نفس الإنسان من شأنه أن يعيد النظر في الحكم على سلوكه، وبالتالي في علاقة الدين بالاقتصاد؟
تعددت مباحث الأخلاق من ذرائعية ووجودية وواقعية ومعرفية ونسبية وعواقبية، وظهر الاهتمام بالأخلاق المؤسساتية والتعاقدية والجمالية، وتولدت في الموضوع أفكار من نتائج علوم كالأنطروبولوجية والسيكولوجية والبيولوجية والقانون.
وحيث إن المتدين يرجع إلى الوحي في معرفة طبيعة الإنسان ومصيره، فإن مباحث العلم المتعلقة بالأخلاق لا يمكن أن تتدخل بالنسبة إليه إلا في جزئيات قد تكون لها أهميتـها، ولاسيما بالنسبة لأثر المحيط في السلوك، غير أن التقدم العلمي البيولوجي والجيني والطبي والتقدم التكنولوجي، كما في الذكاء الاصطناعي، والتقدم التواصلي، وكل الجوانب التي يثيرها عند مناقشة الهوية والأخلاق كلاوس شواب Klaus schwab في كتابه الثورة الصناعية الرابعة، كل هذا التقدم، حتى لو وصل إلى إمكانات من قبيل تغيير في الخلق، فإنه لا يغير من معادلة النفس الإنسانية على مستوى الفرد أو الجماعة كمصدر للخير أو الشر، بل لربما أبرزت بعض عواقب هذا التقدم خطورةَ النفس بحدة أقوى، نظرا لارتباطها بالاستـهلاك والتفاوت من جهة، وبالأطماع الفردية والجماعية من جهة أخرى.
وبـهذا الصدد، فإن علم النفس الاجتماعي قد بين التأثيرات المتبادلة بين السلوك الفردي والسلوك الجماعي، وبين التفكير والسلوك، فالمطــــلوب في جهد التزكية لا يتوقف عند تدبير قوى النفس إزاء الشهوات وكفى، بل يجب أن يؤدي إلى تخفيف الآثار السلبية للعوامل البيئية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، ويمكن لتقنيات السلوك أن تقدم للإنسان المعاصر نصائح في هذا المضمار، سواء من جهة التحكم في المثيرات أو التسلح بالثقافة اللازمة للتفاعل المطـلوب مع البيئة، إضافة إلى استثمار القدوة بالوالدين والمعلمين والأبطال وعموم الصالحين في الأمة، ولكن القدوة المنتظر منها الأثر الأعظم مرجوة من الدولة من جهة، ومن أثرياء الناس من جهة أخرى.
ومن الناس من يرى أن له في الأخلاق المدنيةcivisme Le، كما توصف في هذا العصر، منبعا كافيا لقواعد الأخلاق والسلوك، قد يغنيه عن المرجعية الدينية، ويضرب المثال ببلدان تحتكم إلى هذه الأخلاق، ثم إن هناك منظومات أخلاقية أخرى تستمد من تقاليد أديان خارج أديان التوحيد لا سيما في آسيا وإفريقيا، ومهما يكن الأمر فإن الاحتكام إلى الأخلاق كيفما كان منبعها ضروري للتساكن السلمي في المجتمع البشري، ثم إن الجهد الفردي المطلوب في الالتزام بالأخلاق المنقطعة لا يقل عن الجـــهد المطـــلوب في التــزكية من وجهة الدين. ولهذا الجهد الـموازي للتــزكــية بالدين في الحياة الـــحاضرة أسماء مــنــها مــصطـــلـــح ” ترويض النــفــس” “le travail sur soi“، أو “la réalisation de soi” وهو التحقق بلغة التصوف، ثم تقنية أخري هي الإرشاد المعروف ب coaching، لاسيما في طلب النجاح المهني في هذا العصر، وفيه معنـى الصحبةAccompagnement ، وبصدد التربية الصوفي يذكرها ابن عاشر بقوله “يصحب شيخا عارف المسالك”، ومثل رياضة “الزين” “zen” الذي يقول ممارسوه بمبدأ معرفة النفس.
إن زيادة الإقبال على هذه الرياضات والتقنيات في صيغها المنقطعة عن الدين في وقتنا الحاضر دليل على استمرار شعور الإنسان عموما بمسألة النفس ودورها في شقائه أو سعادته، وهو أمر طبيعي، غير أن النفس التي تُرجى تنميتها ببعض هذه الرياضات قد لا تكون سوى نفس متعبة بهموم الدنيا، تبحث عن الاسترواح أو الاسترخاء، وعلى صعيد آخر فإن مشكلة النفس المريضة المتألمة التي يباشرها التحليل النفسـي أو الطب العقلي، لا تتعلق ضرورة بمسألة السلوك والأخلاق والتزكية، فليس من الشائع أن نسمع بشخص يذهب إلى الطبيب ليشكو له مرض البخل، عل سبيل المثال، والحال أن الشح هو المرض الأخطر في النفس بالنسبة لمن يسعى إلى الفلاح بتزكيتـها.
يمكن بعد ما بيناه أن نجمل ذكر الحقوق الواجبة للنفس بمفهوم القرآن، وهي، حقوق غائبة عن الجدال القائم في وقتنا حول الحقوق، وقد يكون من أسباب هذا الغياب أو التغييب أن لا تُطلب من النفس الحرية وإنما تُطـلب من الآخر. ونصوغ هذه الحقوق في عشرين نقطة، وهو اجتـهاد شخصـي لا استقصاء فيه، نذكرها ببعض أسانيدها في القرآن، كما يلي:
- 1- حقها في الصلاة والذكر حتى لا تنسـى أصلها، ومن سنده: “سنقرئك فلا تنسـى”
- 2- حقها في حياة نوعية سوية ذات معنـى، ومن سنده: “أومن كان ميتا فأحييناه”، وقوله تعالى في من لا يطلب هذه الحياة النوعية: “ولتجدنـهم أحرص الناس على حياة”؛
- 3- حقها في التربية والتزكية، ومن سنده آيات الدرس وآيات أخر منـها:”ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل”
- 4- حقها في حرية نوعية، لأن الشهوة تستعبدها، ومن سنده: “أرأيت من اتخذ إلهه هواه”؛
- 5- حقها في متعة نوعية، بالنعم مع لزوم الشكر، ومن سنده: “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”؛
- 6- حقها في الاسترواح، لأن النفوس، كما يقول ابن حزم، تصدأ كما يصدأ الحديد؛ ومن سنده: “ولا تنس نصيبك من الدنيا”؛
- 7- حقها في صحة باطنية نوعية: لاسيما بالوقاية من الطغيان، ومن سنده: “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التـي في الصدور”؛
- 8- حقها في يقظة نوعية مبنية على النقد واللوم؛ ومن سنده: “تحسبـهم أيقاظا وهم رقود”؛
- 9- حقها في تغليب متعة العطاء على متعة الأخذ؛ ومن سنده: “لن تنالوا البـر حتى تنفقوا مما تحبون “؛
- 10- حقها في التواصـي بالحق، وهو أصل إصلاح المدينة في الفلسفة السياسية؛ ومن سنده: “وتواصوا بالحق” ؛
- 11- حقها في التواصـي بالصبر الذي به يكتمل الحق وتُتجاوز الأنانية؛ ومن سنده: “وتواصوا بالصبر”؛
- 12- حقها في صيانة حاملها الذي هو الجسد، لاسيما بالحرص على أكل الحلال وممارسة الرياضة وحسن التغدية وصيانة البيئة؛ ومن سنده: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا”؛
- 13- حقها في صيانة شريكها العقل بالعلم؛ ومن سنده قوله: “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”؛
- 14- حقها في صيانة شريكها القلب بالاطمئنان وقلة التـهمم؛ ومن سنده: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”؛
- 15- حقها في صيانة شريكها القلب بالتدبر؛ ومن سنده: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”؛
- 16- حقها في التربية على نبذ الاتكال سواء على العائلة أو على أي مؤسسة أخرى، ومن سنده قوله تعالى: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى”؛
- 17- حقها في تحقيق المعادلة الدقيقة بين العزم والتوكل، ومن سنده قوله تعالى: “فإذا عزمت فتوكل على الله”؛
- 18- حقها في السكينة بالذكر، ومن سنده: “هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم “
- 19- حقها في التشوف إلى حياة اليقين، ومن سنده: “واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”.
إن أداء هذه الحقوق لا يرتبط بسن معينة، ولكنـها قبل كل شـيء من حقوق الطفل التي ينبغي أن ينشأ عليـها في الأسرة والمدرسة والمجتمع.
إنها حقوق لا يتوقف أداؤها إلا على إرادة الفرد الذي ينبغي أن يستعد لمواجهة أنواع الابتلاء والإحباط، لاسيما من أثر المحيط، فلا يحتاط من آثاره السلبية فحسب، بل يستحضر بالخصوص، وعلى الدوام، آثار سلوكه هو على ذلك المحيط، فكل تفريط في نعمة من النعم كنعمة الوقت، أو نعمة الصحة، أو نعمة المعروف، أي النظام، وغيرها يعود بكلفة باهظة على الفرد والمجتمع، وهذا ما نقصده بالأبعاد الاقتصادية لحقوق النفس. فليس بدعا من القول ربط قيم الدين بآثارها الاقتصادية، فهو ربط عضوي في القرآن، أما خارج الإسلام فقد اشتغل عليه البحث على نطاق مشهود، ومن أشهر الأعمال العلمية الرائدة حول هذه العلاقة الكتاب الشهير لماكس فيبير، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، Max Weber, L’Ethique Protestante et l’Esprit duCapitalisme.
إلا أن الكلام عن هذه العلاقة لا يمكن أن يفهم خارج السياق، ومعلوم أن النمط الغالب على الاقتصاد في عصرنا هو النزعة الفردانية Individualisme، وتتميز بجنوح الفرد إلى التملص من القواعد والقيم الناجمة عن الضمير الجمعي، تملصا يتكرس به الوقوع في أنانية من ظواهرها تزايد الهم الذي تترجمه كلمة stress الشائعة على الألسنة، وانتشار الانـهيار العصبـي والانطواء على النفس والإقبال غير العادي على الاستـهلاك؛ وفي هذا السياق ظهر إنسان جديد هو “إنسان الاقتصاد” Homo economicus الذي لا يؤمن إلا بمعادلة المنفعة، مستبعدا كل ما له علاقة بالعطاء، وما يمت إلى معنى الإنصاف بصلة،
إن العناصر السابقة تفضي بنا إلى القول بأن التزام الفرد والجماعة بسلوك أساسه التزكية يَعِدُ بثمراته على ثلاثة مستويات، هي: النظرية الاقتصادية، والعدالة الاقتصادية، و الكلفة الاقتصادية.
- 1- فعلى مستوى النظرية الاقتصادية، ليس القصد هو مناقشة التوجهات العامة بين الليبرالية والاشتراكية ، وإنما المقصود الإقرار بأن مراعاة حقوق النفس تعنـي إدخال قيم خارجية على منطق السوق، وعلى ذلك ينشأ اقتصاد سياسـي جديد، ليس من هذا المذهب ولا من ذاك، ولا يُذكر المطالَب بالتزكية فردا إلا على أساس أن المسئولية في الدين فردية قبل كل شيء، ولكن الفرد يسهم في نظام اقتصادي لا يمكن أن يكون إلا جماعيا، فنظام التزكية المتوقع في إطار الرؤية الشاملة للدين يتميز بالقيام على حرية من نوع آخر هي التي يكتسبها الفرد وتكتسبـها الجماعة من ضبط النفس إزاء أنواع التبذير، بمراعاة قوله تعالى: “لتسألن يومئذ عن النعيم”.
- 2- أما العدالة الاقتصادية فتتأتى على الخصوص بتوجيه إرادي مقنع لفضول الأموال، لا على أساس مجرد الإلزام الضريبـي أو الزكاة أو التصدق الاختياري المحدود، بل على أساس سواد الشعور الطوعي بأن الإنسان مستخلف في مكتسباته، ولا يتعلق الأمر برد أموال الأغنياء على الفقراء، كما كان يقول بذلك حزب الصحابي أبي ذر، ولا يتعلق الأمر بتحميل البطالين على كاهل المجدين المبادرين، لأن مجتمع التزكية ليس مجتمع بطالين ولا متواكلين، وإنما يتعلق بمجتمع تتحول فيه اللذة من الأخذ إلى العطاء، بالنسبة لجميع أفراده، الموسر والأقل يسرا، وهو نموذج لا يتصور تطبيقه في السياق المذكور، ولكنه النموذج الواقي من التبعية والإفلاس، وحيث إنه تصور قرآني فإن تطبيقه يتأتى في إطار الطبيعة الشمولية للدين، ويستخلص منه أن نسبة تحقيق التزكية هي نسبة تمكين هذا النموذج من التحقق، لأنه لا يتوقف إلا عليـها.
- 3- أما الكلفة الاقتصادية على الفرد والمجتمع، فيمكن تصور حسابها على أساس تصور درجة عالية من ضبط سلوك الإسراف على النفس، ودرجة عالية من تجنب التبذير في الاحتياجات، ودرجة عالية من السلامة من الطغيان في العلاقات، وما يؤدي إليه من توترات وعداوات. وأبسط الحسابات الممكنة بـهذا الصدد تتعلق بالوقاية من أنواع المرض والإدمان، وبالتزام تعبدي بالقانون، مع تصور انخفاض تكاليف الأمن وانخفاض التشنج في مجتمع تسود فيه التزكية. إن الضعف البشري هو مصدر الكلفة المرتفعة في حياة الأفراد والجماعات، وهو المذكور في القرآن، وهو حقيقة سارية على البشرية جمعاء، ولا يكون علاجها إلا بتنمية اليقظة والوعي بسلبيات السلوك وفوائده، وهذا ما سماه كل من ذكرناهم بضرورة معرفة النفس، وهي معرفة يمكن أن تكون موضوع تربية اصطلاحية بغرض تعلم الانضباط من أجل حياة طيبة متحررة من الشح والعنف. ولو وضعت للتزكية معادلة بدالة الوقع الاقتصادي، لبرزت ضرورة استثمار مناسب في مجال الخدمات الدينية.
وهذه الأبعاد الثلاثة، النظرية والعدالة والكلفة، مرتبط بعضها ببعض أشد ارتباط، وقد رأينا أن مسكويه قد لخص البعد الاقتصادي الاجتماعي للتزكية بقوله: “إن السبيل إلى تقويم النفس، أي التزكية، ألا يتعدى الإنسان القدر الضروري من حاجاته، وألا يتعدى ما يملكه إلى ما يملكه غيره.”
منذ عشر سنوات أرادت دولة أوربية أن تقيس في بلدها الخصائص والقدرات الاقتصادية والتقدم الاجتماعي، فعهدت بإنجاز تقرير في الموضوع إلى خبراء بإشراف خبيرين أحدهما الأستاذ أمارتيا سين من جامعة هارفرد، وهو مؤلف الكتاب المجدد عن “فكرة العدل”. وقد جاء التقرير في ما يزيد عن ثلاثمائة صفحة، وتبنى في القياس المذكور المعايير الثمانية الآتية:
ظروف الحياة المادية، والصحة، والتعليم، والأنشطة الشخصية، والمشاركة في الحياة السياسية، والروابط الاجتماعية، والبيئة، والأمن على صعيد الحياة المادية.
لم يرد في التقرير المذكور ذكر للدين صراحة إلا في فقرة واحدة، غير أن المعايير المتبناة فيه تتعلق كلها بالكم بقدر ما تتعلق بالكيف، أي بحياة الإنسان الذي ينخرط فيـها ويتحمل أعباءها ويرجو منـها تحصيل حالة من الرضا يسميـها الفلاسفة بالسعادة، ويـــسمـــيـها القرآن ب”الحياة الطيبة”، أما الـمــصطـلح الرائج في عــصرنا بهذا الصدد فـهـو “حسن الـحال”، “well being” أو “le bien être“، وهو مبني أيضا على متعة مادية وتقييم شعوري، وكل ما يتصل بالشعور برجع في مضمونه إلى القيم، وأقواها قيم الدين، ولا يجوز أن يُفهم من هذا الكلام القول بأن الشعور الديني عند عموم الناس يمكن أن يعوضهم عن الحاجات المادية الأساسية، إذ يكاد الفقر أن يكون كفرا، بمعنى يوشك أن يؤدي إليه.
لقد حصل تقدم كبير في الإحصائيات المتعلقة بالسلوك الاجتماعي، لكنـــها لم تتناول لحد الآن الآثار الاقتصادية للتدين، وإذا روعي هذا القياس، فإن التخلف الاقتصادي يكون، على الأقل في بعده الاجتماعي، مقرونا برداءة التدين، والمستند القرآني الصريح في ارتباط جودة التدين بجودة السلوك هو قوله تعالى: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”، بمعنـى أن الصلاة التي لا يكون لها ذلك الوقع لم تتم إقامتـها بالجودة المطـلوبة.
وقد يُظن أن وصفا مثل “الشح” وصف من القاموس الديني الأخلاقي الفردي، بيد أننا نجد أن هذا النعت قد استعمله واحد من أبرز نقاد التوجه الاقتصادي في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو جوزيف إكـليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002، فقد انتقد في هذا النظام صراحة طابعه الأناني وقولبته الخانقة، عن قرب أو عن بعد، لإرادة الأفراد بفرض عولمة نماذج العيش، ويتلخص نقده في عنوان أحد كتبه وعنوانه “Free Fall” “السقوط في الهاوية” وقد جاء بليغا في ترجمته الفرنسية هكذا:(triomphe de la cupiditéLe) ومعناه: “غلبة الشح”.
مولاي أمير المؤمنين
يمكن إجمال فكرة الدرس كالتالي:
- 1- إن حقوق النفس تجمعها تزكيتـها وتعنـي ضبط سلوكها؛
- 2- من جملة ما يتمثل فيه هذا الضبط الاقتناع بأن الإنسان يستـهلك ليعيش ولا يعيش ليستـهلك؛
- 3- إن استحضار مفهوم التزكية اليوم ينبه إلى الهوة القائمة بين مجرد الانتماء إلى الدين وبين حسن الالتزام على مستوى التدين.
وبهذا الصدد، يا مولاي، فإن المتتبع لا يفوته أن يسجل التوجهات الجارية في مملكتكم الشريفة، مما يدخل في الإصلاح ويوافق روح التزكية، ومنـها:
- 1- نداء جلالتكم بإعادة النظر في نموذج التنمية، وهو نداء يدخل في باب النفس اللوامة، أي في النقد الذاتي الذي ينبغي أن ينخرط فيه الجميع؛
- 2- عملكم على ترشيد الحكامة الجهوية، ويدخل في وضع الدولة والمجتمع على صعيد توزيع المسئولية على أوسع نطاق، تيسيرا للقيام بالحق وتمهيدا للفلاح؛
- 3- رعايتكم للشأن الديني، ومن ضمنه تحميل العلماء العدول، مسئولياتهم في نشر أخلاق التزكية، إذ التزكية ليست مجرد تحلية، بل هي رافعة كبرى للتنمية، وبها تتم المناعة ضد الأمراض الطفيلية التي تظهر على هامش التدين الرديء، وعلى رأسها ظاهرة التطرف:
- 4- الاستثمار في مجال الأمن وإصلاح أجهزة التدبير وتنصيب آليات الحقوق، وكلها تدخل في وازع السلطان الذي جاء به الأثر عن إمامنا مالك عن سيدنا عثمان رضـي الله عنه أنه قال: “ما يزع الناسَ السلطانُ أكثرَ مما يزعهم القرآنُ”، أي يكفهم، والسلطان في لغة عصرنا هو السلطة التي تحرص على احترام القانون، وفي هذا القول إرشاد سابق لما يقول به المختصون اليوم من كون الأخلاق بحاجة إلى سلطة أوسع من السلطة القائمة على الدين؛
- 5- التضامن الذي جعلتموه من شعارات هذا العهد المبارك، ففيه علاج مرض الشح، سيما إذا بلغ مدى اقتصاد اجتماعي، وصار في الأمة خلقا عميقا شاملا في جميع النفوس، مهما تفاوتت قدراتـها في الإنفاق.
مولاي أمير المؤمنين
عـلم الله أن الناس سيتفاوتون في أداء حقوق النفس، وخاطبـهم سبحانه وتعالى بواقعية الصانع العـارف ببضاعته، المشفق عليـها برحمته، فقال:
“ثمأورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنـهم ظالم لنفسه، ومنـهم مقتصد، ومنـهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير” الظالم لنفسه الذي قصر استغفر وتاب، والمقتصد الحريص على الواجب وقد لا يتعداه، والفئات الثلاث مشمولة كــلها بعفو الله، ولكن المهم هو ألا يكثر في الأمة الخبث، وأن تنمو فيــهم هذه الفئة الثالثة من أصحاب المبادرات، السابقين بالخيرات. وفي الختم نقول إن حكمة الدرس كُلِّه مطوية في حديث جدكم المصطفى عليه الصلاة والسلام مما رواه عمار بن ياسر، إذ يقول: “ثلاث من جمعهن جمع الإيمان، الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار”.
والحمد لله رب العالمين
والختم من مولانا أمير المؤمنين