إبراهيم أحمد مقري: الأبعاد الروحية والثقافية في العلاقات المغربية النيجيرية
ألقى الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لعام 2017/1438 يوم الخميس 01 يونيو 2017، بحضرة أمير المؤمنين، الأستاذ إبراهيم أحمد مقري، إمام بالجامع الوطني بأبوجا، وأستاذ بجامعة بايرو-كنو بنيجيريا، متناولا بالدرس والتحليل موضوع : “الأبعاد الروحية والثقافية في العلاقات المغربية النيجيرية”، انطلاقا من قول الله تعالى : “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير”.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعروف بالجود واللطف والامتنان، خلق الإنسان وعلّمه البيان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المنتخب من ولد عدنان، وعلى عترته الطاهرين وصحبه الأكرمين ما اتفق الفرقدان واختلف الجديدان.
مولاي صاحب الجلالة أمير المؤمنين
أتشرف بإلقاء هذا الدرس بعد إذنكم متحدثا عن بعض الأبعاد الروحية والثقافية للعلاقات المغربية النيجيرية، انطلاقا من قوله الله تعالى: “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”.
فالمغرب تجمعه مع نيجيريا وشائج إيمانية وأواصر إنسانية عميقة الغور وممتدة الجذور، تحتاج إلى حشر فريق من الباحثين المتخصصين في ميادين المعرفة المختلفة لإنصافها، ولكن عملا بالقاعدة الفقهية التي تقول بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، نقول مستعينين بحول الله وقوته:
إن سياق الآية وواقع العلاقة يحتمان تناول الموضوع من خلال محاور أربعة:
- المحور الأول ويتناول البعد الإنساني المأخوذ من النداء الإلهي للناس في أول الآية؛
- والمحور الثاني حول الجانب الاجتماعي المتجلي في قوله الحق: “لتعارفوا”؛
- والمحور الثالث عن الجانب الروحي المستفاد من قوله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”؛
- والمحور الرابع ونتطرق من خلاله للجانب العلمي والثقافي المستشف من قوله عز وجل: “إن الله عليم خبير”.
- المحور الإنساني
إن الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، تشغل حيزا كبيرا من منطلقاته النظرية ومن تطبيقاته العملية، وقد رُبطت بعقائده وشعائره ومنهجه وآدابه ربطا محكما، فلحكمة ما نجد في أول ما نزل من القرآن من سورة العلق كلمة الإنسان تتكرر مرتين، ومجموع الآيات الخمس موضوعها العناية بأمر الإنسان، وإن كان القرآن كله، كما يقول بعض العلماء، يمكن وصفه بأنه كتاب الإنسان، إذ ليس فيه إلا حديث عن الإنسان أو إلى الإنسان.
فالقرآن إذن إنساني الغاية، وهذا لا يتنافى مع كونه رباني المقاصد ما دام الخالق ليس نقيضا للمخلوق، ولعل هذا مما يستشف في تلك الإضافة التكريمية للناس ثلاث مرات في جملة واحدة حيث قال عز من قائل “قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس من شر الوسواس الخناس”.
والمقصود بالإنسانية هي الخصائص التي يتصف بها الفرد أو مجموعة الأفراد أو الأمة في إطار من الوعي الاجتماعي الخيّر الذي ينشد تحقيق الكمال ويتجلى في علاقات الأفراد أو الأمم مع بعضها، ويمكن إجمال هذه الخصائص أو القيم في قوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى”
وبناء على هذا، فقوله تعالى في أول الآية التي تستهدي الكلمة بها (يأيها الناس) ثم قوله (من ذكر وأنثى) أكبر تأكيد على تلك الرحم الإنسانية التي تربط الناس أجمعين.
ومما يستفاد من هذا النداء مبدأ المساواة بين بني الإنسان، فقد وجد النيجيريون في الإسلام، هذا الدين الجديد الذي أدخله إليهم المغاربة دينهم الفطري الذي ليس للتفرقة العنصرية والتمييز العرقي مكان فيه بالإطلاق، وقد ظل هذا المبدأ الإنساني السامي يظلل جميع العلاقات المغربية النيجيرية لدرجة أن الحضرة المراكشية أفسحت المجال للأديب النيجيري أبي إسحاق الكانمي للإقراء في أرقى معاهدها التي تعج بالعلم والعلماء، في الوقت الذي كان فيه إخوانه الأفارقة يساقون في السلاسل والأغلال للاتجار بهم في الأسواق الغربية.
وهذه الأخلاقيات الراقية هي التفسير الوحيد لاستقدام ملوك كانم برنو النيجيريين للعلماء المغاربة، كما يظهر في رسالة وجهها أحد سلاطين برنو عام (843هـ) إلى بعض العلماء المغاربة في العهد المريني يعاتبهم على بعد العهد بهم قائلا: “لماذا تركتم عادة كبرائكم؟ لماذا قصرتم عن النزول وإرسال البعثات إلى بلادنا منذ عهدكم مع كبيرنا، فعليكم أن تأتوا كعادتكم لأن البلاد بلادكم كما كانت بلاد أسلافكم”.
ومن السمات الإنسانية لهذه العلاقة كذلك التعايش السلمي رغم اختلاف الدين، فلسبب شهرة المغاربة بالأمانة كان الملوك الوثنيون في غرب إفريقيا يستعينون بهم في تدبير شئون الحكم ويقلّدونهم أرقى المناصب في ممالكهم كما ثبت تاريخيا في مملكتي غانا وأويو، وهذه الأخيرة تقع في غربي جنوب نيجيريا الحالية، وهذا مما فسح المجال لانتشار الإسلام لما يتمتع به هؤلاء المستشارون من الأخلاق الفاضلة النبيلة.
المحور الحضاري
إذا كانت كلمة واحدة تستأثر دون غيرها بوصف العلاقات المغربية الإفريقية فهي (التعارف) الواردة في هذه الآية التي نستفيض منها، والملاحظ أن السياق القرآني لم يقف في حدود “المعرفة” أحادية الاتجاه، فلم يقل الحق تعالى “لتعرفوا” ولكنه قال “لتعارفوا”، والتعارف يمتاز بالاعتراف بالخصوصيات وعدم تذويب الهويات الثقافية للشعوب المتعارفة.
وإذا كان المنظرون قد اختلفوا اختلافا بينا في تحديد مفهوم الحضارة فإن المادة الخام التي صيغت منها جميع تعريفات الحضارة هي التعارف. والاعتراف بالآخر المجاور لمعنى التعارف أقوى وأبلغ من مصطلح التسامح الذي كثر استعماله في هذا الزمان، فالحديث عن التعارف يفضي بنا إذا أردنا الاصطلاح إلى الحديث عن الحضارة التي عرفها بعضهم بأنها “كل إنتاج أو عمل تنعكس فيه الخصائص الفكرية والوجدانية والسلوكية للإنسان الاجتماعي الواعي في إطار من القيم العليا والمبادئ المثالية التي تسعد البشرية جميعا”.
وقد انتهى بعض العلماء المسلمين بعد سبر دلالة الحضارة من القرآن الكريم إلى أن المفهوم الإسلامي لها هو “الحضور والشهادة بجميع معانيها، والتي ينتج عنها نموذج إنساني يستبطن قيم التوحيد والربوبية وينطلق منها كبعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق الكون وواضع نواميسه وسننه والمتحكم في تسييره، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هي في تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون في تعمير أرضه وتحسينها وتزجية معاش الناس فيها وتحقيق تمام التمكين عليها والانتفاع بميزاتها وحسن التعامل مع المسخرات في الكون وبناء علاقة سلام معها، لأنها مخلوقات تسبح الله أو رزق لا بد من حفظه وصيانته، وكذلك إقامة علاقات مع بني الإنسان في كل مكان على ظهر الأرض، أساسها الأخوة والألفة وحب الخير والدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة”.
وهذا المفهوم القرآني للحضارة هو الذي يغلف العلاقات المغربية النيجيرية التي تغور في القدم إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد زمن التجارة الخرساء على حد تعبير هيرودوتس أي التبادل في صمت تام، وهذه التجارة الخرساء من أقدم ما عرفته الإنسانية من المعاملات المالية المبنية على الثقة والأمانة.
وبعد منتصف القرن الحادي عشر الميلادي بقليل نجد الجغرافي الأندلسي المغربي أبا عبيد البكري، يقوم بوصف دقيق للطرق والمسالك التجارية العابرة للصحراء، حيث اشتهرت وقتها عدة طرق للقوافل تنطلق من مراكش وتلمسان وتونس وطرابلس متجهة إلى الجنوب فتجتاز الصحراء الكبرى لتصل إلى المراكز التجارية الرئيسة في غرب إفريقيا.
ويذكر لنا المؤرخ البريطاني (فاغ) كيف كان بعض المغاربة يقومون بدور الوكالة بين النيجيريين والأوربيين فكانوا يقطنون المراكز التجارية في نيجيريا الحالية، وتأتي إليهم البضائع التي يوزعونها على الأهالي كما يجمعون بدورهم البضائع التي يصدِّرونها إلى الساحل.
وقد انطلق الإسلام على يد هؤلاء التجار المغاربة انطلاق السيول من قمم الجبال، يكتسح مناطق واسعة مما يعرف اليوم بنيجيريا. وامتزج بعض هؤلاء المغاربة بالأهالي واستقروا بينهم وتناسلوا معهم، فالعرب المشهورون في نيجيريا بعرب الشوا يعدون اليوم بالملايين ويشكلون نسبة مئوية كبيرة، يتركزون أساسا بإقليم شرقي الشمال، وهم من القبائل العربية العريقة التي هاجر بعض فصائلها من المغرب وتعود أصولها إلى قبائل القوالم والثوابت والحميدية والشوافع، وما زالوا محافظين على لغتهم وعاداتهم العربية الأصلية، ومن أبرز أعلامهم العلامة الشريف إبراهيم صالح الحسيني مفتي الديار النيجيرية في وقتنا هذا.
ويرى بعض الباحثين المغاربة بأن لغة هوسا (كبرى اللغات الإفريقية بعد العربية) إنما اعتصرت عاداتها وتقاليدها من ذلك التثاقف المغربي النيجيري حيث يقول: وهكذا اختلط البربر بالزنوج والعرب في الصحراء وعلى أطرافها غربا وجنوبا وامتزجت العادات والتقاليد والدماء وقويت الصلات المتبادلة ونتج عن ذلك الامتزاج شعب هوسا.
ولم يمض القرن الثامن الهجري حتى بلغ التثاقف أوجه، فلقد ذكر المؤلف البندقي (جيوفاني لوينزو) بناء على معلومات استفادها عام (1575م) أن مدينة “كنو تعد بجانب فاس والقاهرة من أهم مدن إفريقيا، حتى إن الزائر لها حسب المغاربة لا يعدم بها أي شيء يطلبه، وهي تقع على رأس مثلث قاعدته فاس والقاهرة وتبعد عنهما بنفس المسافة”.
وهذا كلام حق، فمدينة كنو، كبرى المدن الإسلامية جنوب الصحراء، قد أعيد تصميمها على غرار مدينة فاس بفضل المعماريين الوناغرة الماليين الذين تخرجوا على عبقري العمران المغربي أبي إسحاق إبراهيم الساحلي.
وعلى إثر اضطراب طريق ركب الحج المغربي التقليدي بسبب الصراعات العنيفة التي غرق فيها حوض البحر الأبيض المتوسط بين العثمانيين والأوروبيين خلال النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي أصبحت بلاد هوسا محطة توقف للحجاج المغاربة في طريقهم إلى الحجاز.
أما على الصعيد الرسمي فقد جرت مراسلات بين الأمير السعدي أحمد المنصور وعاهل مملكة كانم برنو أفضت إلى إرسال وثيقة البيعة للأمير المغربي من العاهل الكانمي، لكن الموت المفاجئ للسفير الكانمي في الطريق حال دون وصول الرسالة، كما جرت مراسلات مماثلة بين الأمراء السعديين وزعماء مملكة كبي الواقعة حاليا في شمال نيجيريا.
أما زيارة العلامة محمد بن عبد الكريم المغيلي إلى كنو في القرن التاسع الهجري فتعد فتحا جديدا ليس لكنو فحسب ولكن لولايات الهوسا جميعا، حيث كانت للمغيلي اليد الطولى في رسم خطوط السياسة الشرعية في هذه الولايات فدلهم على تعيين القضاة وإقامة الحدود وإصلاح أمور المجتمع عن طريق الحسبة والنظم التعليمية وتكوين الأئمة والمرشدين، ومحاربة ظاهرة التعري التي لا تزال متفشية في بعض الأوساط إلى ذلك الوقت، حتى لقد ذكر مؤلف كتاب (الآثار الكنوية) بأن القفاطين والعمائم والقمصان المفضفضة التي تعتبر الآن الزي التقليدي لجميع القبائل المسلمة في نيجيريا إنما عرفت في زمن ملك كنو محمد رمفا الذي استقدم الإمام المغيلي، وهذا ما يقوي الظن بأنها من جملة هدايا المغاربة إلى أهل نيجيريا في البداية.
المحور الروحي
لقد جعل الله تعالى في الآية الكريمة التي نحن بصددها ميزانا لنيل مرضاته وميدانا لسباق أصفيائه فقال عز من قائل: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، بل لقد كادت التقوى أن تكون مرادفة للتوحيد في التنزيل، قال تعالى: “وألزمهم كلمة التقوى”.
يقول ابن رجب: “التقوى هي وصية الله لجميع خلقه ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، ولما خطب رسول الله في حجة الوداع يوم النحر وصّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم، ولما وعظ الناس قالوا: كأنها موعظة مودّع فأوصنا، قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة”.
والتقوى هي الولاية والمتقون هم الأولياء، فهما متلازمان بشهادة القرآن، قال تعالى: “إن أولياؤه إلا المتقون” وقال عز من قائل: “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون”.
وإذا كان بعض الصالحين قد عرّف التقوى بأنها مطلق الامتثال للمأمورات ومطلق الاجتناب للمنهيات من حيث يرضى الحق تعالى لا من حيث يرضى العبد. فهذا التعريف من أشهر ما عرف به التصوف أيضا وهو التعريف الذي اختاره مولانا أبو العباس أحمد بن محمد التجاني رضي الله عنه، فمن هذه الحيثية يكون الحديث عن التقوى هو نفسه الحديث عن التصوف الذي أجمع علماء الأمة على أنه المنهج السني للتزكية كما أنه من الثورات الروحية في الإسلام.
وقد دخل الإسلام في نيجيريا صوفيا بفضل الحركة المرابطية، ونستدرك القول بأنه قد يكون سبق الإسلام إلى هذه الأنحاء قبل قيام الدولة المرابطية وذلك بفضل التجار كما هو معلوم ومذكور، غير أن المرابطين هم الذين عملوا على الإسراع بمهمة تحويل السودان الغربي إلى الإسلام بدلا من سيرها ببطء تدريجي.
ومنذ ذلك الوقت قامت زوايا الطرق الصوفية بعضها مشرقية المنشأ مثل القادرية والرفاعية، لكنها انحدرت جميعا إلى غرب إفريقيا وإلى نيجيريا على وجه الخصوص عبر المداخل المغربية بعد أن اصطبغت بالصبغة المغربية ثم انتشرت في غرب إفريقيا، فالطريقة القادرية مثلا انتشرت بفضل الشيوخ الكنتيين “الذين أقامت أسرتهم فترة بمنطقة توات ثم تعمقوا في قلب الصحراء ومناطق من السودان الغربي” ويرى البعض بأن الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي هو أول من أدخل الطريقة القادرية في نيجيريا، فشيخ عموم الطريقة القادرية في نيجيريا في عصره المجاهد الكبير عثمان بن فودي مؤسس الدولة الإسلامية الفودية، تتصل سلسلة إسناده في الطريقة القادرية بالشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي.
لكن التثوير الحقيقي لهذه العلاقات الروحية إنما بدأ مع قيام الزاوية التجانية في فاس على يد مؤسس الطريقة مولانا أبي العباس أحمد بن محمد التجاني، ففتح ذلك صفحة جديدة من العلاقات المغربية النيجيرية، تعلقت من أجلها قلوب المسلمين النيجيريين بالمغرب تعلقا لا يعلم مداه إلا الله.
ففي نيجيريا اليوم عشرات الآلاف من الزوايا التجانية، وكل زاوية في الحقيقة ملحقة ثقافية للمملكة المغربية في نيجيريا، فلا تسأل عن الولاء والحب والإئتساء وخالص الدعوات في الخلوات والجلوات وتعلق القلوب بالمغرب تعلقا منقطع النظير.
فقد انطلقت الطريقة التجانية من فاس عاصمة ملك العلويين وقتذاك تحت حماية السلطان المولى سليمان ومؤسس الطريقة التجانية مولانا أبي العباس أحمد بن محمد التجاني، انطلقت حركة عامرة غامرة لنشر الإسلام والطريقة في إفريقيا أثمرت أطيب النتائج.
دخلت الطريقة إلى غرب إفريقيا بفضل العارف بالله الشيخ محمد الحافظ العلوي التجاني أحد أبرز تلاميذ مؤسس الطريقة. وعنه أخذ الشيخ المجاهد عمر الفوتي بواسطة، وقام هذا الأخير بالجهود المعروفة في نشر الطريقة التجانية في ربوع إفريقيا، وهو الذي أدخل الطريقة في نيجيريا حيث تجمعه بالأسرة الفودية وملوك مملكة كانم برنو علاقات وطيدة، حتى ليقال بأن السلطان محمد بللو بن الشيخ عثمان بن فودي أخذ الطريقة التجانية عن الشيخ عمر الفوتي.
ثم جاء بعد ذلك في القرن العشرين من قام بأكبر الأدوار في نشر الطريقة التجانية وهو الشيخ إبراهيم انياس الكولخي الذي يمثل أتباعه أكبر شريحة اجتماعية في غرب إفريقيا عامة وفي نيجيريا على وجه الخصوص، فقد قدرت جريدة مغربية عدد أتباعه في حياته بما لا يقل عن أربعين مليونا.
وعلى كل، “فإن إفريقيا وصحراءها قد وجدتا في الثنائية السنية، أي الدولة العلوية والطريقة التجانية خير مزيج لنشر الفكر الإسلامي ومعالم السنة المحمدية فاكتسب المغرب بذلك عن حق صيتا جعل من الملوك العلويين رواد الوحدة من المتوسط إلى النيجر”.
ولا يمكن طي هذا المحور دون الإشارة إلى أن من أولياء الله الذين التقى بهم أحمد اليمني القادم من فاس في رحلاته سيدي عبد الله بن عبد الجليل البرنوي الذي ذاعت كراماته واشتهرت في المغرب بفضل رواية أحمد اليمني وبفضل ما ألف بعد ذلك أحمد بن عبد الحي الحلبي بعنوان “ريحان القلوب فيما للشيخ عبد الله البرنوي من أسرار الغيوب”.
مولاي صاحب الجلالة
إن من عجائب تقدير العزيز العليم أن لقاء الشيخ النيجيري مع تلميذه أحمد اليمني الذي قدم من فاس إلى شمال نيجيريا، كان في العام نفسه الذي ابتدأ فيه تاريخ دولتكم العلوية الشريفة.
المحور العلمي والثقافي
العلم أصل كل خير يحرر العقول من قيود الأوهام ويهيئ العمل للقبول، يكشف لصاحبه طريق الحق والخير وينير له دروب الهدى ومسالك النجاة ويفتح بصيرته للفهم عن رب العالمين، قال عز من قائل: “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون”.
وإن للإسلام موقفا من العلم لا يدانيه في ذلك دين سماوي ولا منهج أرضي، بدءا بالحث على طلبه والترغيب في تحصيله وإخلاص النية فيه وتخصيص ذويه، دون الناس، بالفقه عن الله وخشيته، ثم الإعلاء من شأنهم ووعدهم بالنعيم المقيم في دار الخلود.
هذا، وقد جاوزت العلاقات المغربية النيجيرية في هذا المجال مجرد الأخذ إلى التثاقف التام بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد تفاعل عناصر وجود الإنسان التي لا بد من ترابطها لأداء المعنى المراد، ولعل هذا ما حذا ببعضهم إلى طرح مصطلح الثقافة العلمية الذي يرونه محصول ثلاثية الثقافة والعلم والمنهج العلمي.
والثقافة هنا هي مجموعة المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلمها الناس، فهي خاصة بالذهن وتعتبر بمثابة الجسر الموصل إلى الحضارة التي تعتبر مادة محسوسة من آلة تخترع أو بناء يقام أو نظام حكم يمارس، فالحضارة مادية والثقافة ذهنية.
هذا، ففي المجال العلمي الثقافي يتجلى التأثير القوي للمغرب على نيجيريا من خلال المذهب المالكي الذي انتشر في غرب إفريقيا ولا يزال يتمتع بوجوده القوي متحديا جميع الأعاصير التي تحاول زعزعته عن مراسيه. فمناهج التعليم في نيجيريا تقوم على أساس الفقه المالكي، كما ينص الدستور النيجيري بوجوب التزام فتاوى المذهب المالكي في المحاكم الشرعية، وهو المذهب المعتمد لدى هيئة الفتوى، وكل العلماء الذين برزوا واشتهروا في نيجيريا من فقهاء المالكية بلا استثناء.
ويعود سبب هذا الرسوخ القوي إلى ثراء المذهب في ذاته وإلى الجهود العظيمة للعلماء المغاربة في ترسيخ دعائمه في إفريقيا جنوب الصحراء، ثم إلى العلماء والفقهاء النيجيريين الذين يسهرون على التراث المالكي درسا وتدريسا وتأليفا حتى راضوا شعابه وأوديته وسبروا خزائنه وأوعيته وغدا لفظ العالم يرادف تماما الفقيه على المذهب المالكي.
فباستثناء المصادر المشرقية القليلة التي انحدرت إلى نيجيريا عبر المغرب يجد الباحث قائمة على مدّ البصر بأسماء الكتب المغربية التي يتخرج عليها طلاب العلم في نيجيريا، وقد أورد المرحوم الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني في مقدمة تحقيق فتح الشكور للولاتي قائمة طويلة بأسماء الكتب المغربية التي يتخرج عليها طلاب العلم في السودان الغربي، وليست نيجيريا استثناء في هذا المجال.
أما المنهج المتبع في التعليم فقد رسمه العلماء المغاربة، ولا تزال جميع المعاهد العلمية العتيقة تتبناه، “منذ الدخول إلى الكتاب والبدء في حفظ القرآن برواية ورش إلى تعلم الكتابة بالخط المغربي المعروف المتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه، ثم يستقل الطالب لحفظ المتون العلمية الفقهية واللغوية والأدبية. وهذا التأثير يكون أحيانا مباشرا عن طريق الاحتكاك الفعلي بالعلماء المغاربة الذين لم ينقطع ورودهم على هذه الأقطار للإفادة، وقد يكون أحيانا غير مباشر عن طريق الكتب والمؤلفات المغربية التي انتشرت واشتهرت في نيجيريا وأصبحت المصادر المعتمدة والمعول عليها.
ففيما يتعلق بالاحتكاك المباشر، يعتبر الشاعر الكانمي إبراهيم بن يعقوب (ت609هـ) أقدم الوافدين الأفارقة بالإطلاق ورودا على المعاهد المغربية بغية التعلم، وقد ذاع صيت هذا الشاعر بسبب بيتين قالهما بين يدي الأمير المنصور الموحدي:
أزال حجابه عني فعيني تراه من المهابة في حجاب
وقـــرّبني تــفضله ولــــكن بعــدت مهابة عند اقـــترابي
ومن جملة الزعماء النيجيريين الذين تلقوا علومهم في المغرب الشيخ محمد الأمين الكانمي الذي أقام في فاس سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان. وبعد عودته إلى برنو قام بأدوار جليلة في نشر العلم، وقلِّد منصب إمارة مملكة كانم برنو، واشتهر بعلمه وعدله وورعه وسفاراته إلى البلاد العربية ومساجلاته مع زعماء الممالك الإسلامية المتاخمة والبعيدة.
أما العلماء المغاربة الذين زاروا نيجيريا وتركوا بها آثارا حميدة لا تزال الأجيال تتعاقب على ذكر معروفهم والثناء الجميل عليهم فمنهم الفقيه مخلوف بن علي بن صالح البلبالي (ت940) وعبد الرحمن بن سقّين (ت 956هـ)، لكن الأثر الأكبر في نشر العلوم الإسلامية في نيجيريا يعود إلى الإمام العلامة محمد بن عبد الكريم المغيلي (909هـ) الذي استقر لبعض الوقت في كل من مدينتي كشنة وكنو، وتكونت بينه وبين ملك كنو في ذلك الوقت محمد رمفا(903هـ) علاقة وطيدة حتى اتخذه الملك مستشارا في الشئون الدينية، فكان أول من سن أنظمة القضاء والحسبة والإدارة لملك كنو من خلال رسائله التوجيهية، كما أشار الكاتب تحت المحور الحضاري، وقد جمعت هذه الرسائل تحت عنوان “مجموعة رسائل في أمور الإدارة وسياسة الدولة” ورسالة أخرى طبعت مستقلة بعنوان “الوصية فيما يجوز للحاكم في ردع الناس عن الحرام”.
وقد ترك المغيلي هذه الرسائل والفتاوى التي ظلت قرونا تعتبر المرجع الأساس في تحديد وتوضيح معالم الطريق التي ينبغي أن يسلكها الحكام في تسيير الأمور، واستمر تأثيره أجيالا من بعده، حتى وجدنا مؤسسي الدولة الفودية بعد حوالي ثلاثة قرون يعتبرون فتاوى المغيلي ورسائله بمثابة المشكاة التي يستنيرون بها والمعلم الذي يهتدون به، فلا يفتر عن ذكره والاحتجاج بأقواله وآرائه.
فقد اعتمد العلامة الشيخ عثمان بن فودي على مؤلفات الإمام المغيلي في تنظيم شؤون إمارته إداريا وسياسيا وتدبير شئون الحكم والجهاد، وقبل ذلك في التنظير للأسس الفكرية التي قامت عليها الدولة الفودية، لدرجة أن بعض الدارسين يرون بأن الشيخ عثمان بن فودي لم يتأثر بشخصية واحدة تأثره بالمغيلي، وهذا جلي في كل ما ألف وخلف، وقد تتبع أحد الباحثين المغاربة مصادر الشيخ عثمان بن فودي في مؤلفاته التي تربو على مائة فوجدها جميعا مصادر مغربية إلا في النزر اليسير.
وإذا كان هناك من مؤلف متميز يُستأثر دون غيره بتوجيه الحركة الفودية الإصلاحية فلا شك أن ذلك الكتاب هو المدخل لابن الحاج العبدري الفاسي، الكتاب الاجتماعي التربوي الذي وصف فيه صاحبه كثيرا من أوضاع المجتمع الإسلامي وما كان عليه أهل زمانه من البدع والانحرافات، واهتم فيه بمعالجة سلوك المسلم في حياته اليومية. حتى لقد بلغ اهتمام الشيخ عثمان بن فودي بالمدخل إلى اختصاره في كتاب سماه (لباب المدخل) ثم الحذو على منواله بكتاب آخر سماه (إحياء السنة وإخماد البدعة).
مولاي صاحب الجلالة أمير المؤمنين
إن هذه العلاقات الروحية والإنسانية والثقافية لها عمقها التاريخي وأفقها الإنساني بحيث لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يمحوها أو يضع العراقيل في طريقها، وكم حاول ذلك المحتلون فباؤوا خاسرين، وإذا كان أجدادكم الشرفاء حراسا لهذه العلاقات على مدى التاريخ، فالمساعي الجليلة التي تقومون بها في لم الشمل الإفريقي هي بحق إحياء لإرث آبائكم وأجدادكم، وفي الحديث “ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها”، فلا شك أن هذه المبادرات المولوية السامية وصل للرحم الإنسانية والإيمانية التي احتال المحتالون لقطعها ولكن هيـهات.
وقد شهد للمبادرات المغربية في هذا المضمار القاص والدان، فهذا مدير المرصد الفرنسي للدراسات الجيوسياسية يشهد بأن التزام المغرب بإفريقيا وتطلعاتها مكّنه من أن يكون “البلد العربي الوحيد الذي يتوفر على سياسة إفريقية واضحة ومستمرة ومعرفة دقيقة وعلاقات إنسانية وثقافية ودينية مثمرة مع البلدان الإفريقية”.
وفي الختام نتوجه بالشكر الجزيل، والشكر أول الزيادة، لصاحب الجلالة أمير المؤمنين، فمساعيه الجليلة في التضامن المغربي الإفريقي خاصة وفي سائر وجوه البر وخدمة الإسلام ونفع الإنسان التي نعد منها ولا نعددها الزيارة الأخيرة لصاحب الجلالة أمير المؤمنين التي كانت بحق فتحا عظيما لآفاق رحبة من التعاون المغربي النيجيري ومنها كذلك مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تنعقد عليها آمال عراض في بزوغ الفجر الجديد الذي يبدد الغبش الذي طالما خيم على سماء خطابنا الديني، كل هذه المساعي مبنية على حب الخير ونشر الفضيلة ومنبية بإرث بيت النبوة. فبارك اللهم في عمر صاحب الجلالة أمير المؤمنين وتولّه واجعله ذخرا للشعب المغربي الوفي وللأمة الإسلامية من قاف إلى قاف، وأقر اللهم عينه بولي عهده الأمير مولاي الحسن وشد أزره بأخيه الأمير مولاي الرشيد وبسائر أفراد الأسرة العلوية الشريفة، آمين يا سميع يا قريب يا مجيب.
والختم من مولانا أمير المؤمنين