إمارة المؤمنين وحفظ كليات الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين.
يأتي الحديث عن ثابت إمارة المؤمنين في سياق اللقاء التواصلي المنظم لفائدة المكونات العلمية لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، حول موضوع: «النموذج المغربي في التدين»، لما يمثله ثابت الإمامة العظمى من بالغ الأهمية في باب حراسة منظومة الثوابت، بحكم ما هو منوط بالإمام الأعظم من أمانة حماية الملة والدين، تفعيلا لبنود عقد البيعة الشرعية المبرم بين الأمة وولي أمرها.
ولما كان الإسلام خطاب الله تعالى إلى كافة عباده فيما يهمهم من أمور دنياهم ودينهم، كان لزاما أن يشتمل على كل ما ينظم شؤونهم في دنياهم التي فيها معاشهم، وفي آخرتهم التي إليها مصيرهم، لذا رأينا أن أول ما شغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحط رحاله بمهاجره، النظر في وضع النواة الأولى لمجتمع يسوده الأمن والاستقرار، والتعاون بين مكوناته في جلب المصالح ودرء المفاسد، مجتمع تسهر على تدبيره دولة حاكمة وحكيمة حتى تجري حياة الناس على نظام واستقامة.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
قال إمام الحرمين في معنى وجوب وجود الدولة: إذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفاية، فحفظ مهج الأرواح وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم.
وقد تجرد للنظر في فقه الدولة في الإسلام، وما يحتاج إليه حسن القيام بوظائفها العديدة، أعمال الدورة التواصلية الأولى: التعريف بالنموذج المغربي في تدبير الشأن الديني من الأجهزة والآليات، والضوابط والأحكام ومناهج التحكم في تنسيق هاته الأجهزة، وفقا لأحكام الدين وتحقيق مصالح الساكنين، أقول تجرد لذلك فقهاء هذا الشأن وأعلامه، فأفادوا وأجادوا، وأغنوا البحث العلمي باجتهاداتهم وابتكاراتهم، وأتوا في هذا الباب بما صار سلفا ومثال للآخرين.
كل ذلك يدل على مدى اهتمام الإسلام بإقامة الدولة، ونصب حاكم يسوس أمر الناس على منهج بديع جامع بين مصالح الدنيا والدين، في تناغم وتناسق وانسجام عز نظيره في قديم أمر الناس وجديده، حتى لكأن الدولة والدين في شرع الله شقيقان.
وقد استحدثوا لكل قطاع مصطلحاته ومفرداته التي لا تصلح إلا له، ومن هذه المصطلحات:
ألقاب رئاسة الدولة في الإسلام، وهي ثلاثة: الخلافة، والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين.
قال العلامة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون وهو أحد أعمدة هذا الشأن وأقطابه، في تعريف الخلافة وما في معناها من الألقاب:
هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به.
والقائم بهذه المهمة يسمى خليفة، وأمير المؤمنين، والإمام الأعظم، وكلها مصطلحات إسلامية خالصة لا شائبة فيها من تقليد ولا اقتباس من حضارة أو فكر آخر. والألقاب الثلاثة هذه قد تداولها الصحابة في زمن الخلافة الراشدة.
وأول خلافة انعقدت في أرض الإسلام، خلافة أبي بكر، فكيف كان ذلك؟
هو سؤال قديم وجهه هارون الرشيد إلى أحد علماء عصره، فأجابه قائلا: «يا أمير المؤمنين، سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون. فقال الرشيد: والله ما فهمت شيئا، وما زدتني إلا غما». فقال: «يا أمير المؤمنين، مرض رسول الله ثمانية أيام، فدخل عليه بلال، فقال: يا رسول الله، من يصلي بالناس؟ فقال عليه السلام: أمر أبا بكر ليصلي بالناس، فصلى أبو بكر ثمانية أيام والوحي ينزل، فسكت رسول الله لسكوت الله، وسكت المسلمون لسكوت رسول الله». فأعجبه ذلك، وقال له: بارك الله فيك. إذ لم يعدل الصحابة عن من قدمه ليؤمهم في صلاتهم نيابة عنه ليقدموه خليفة له في تدبير الشأن العام.
1 .ظهور لقب أمير المؤمنين
عندما بويع أبو بكر كانوا يسمونه خليفة رسول الله، فلما توفي واستخلف عمر بن الخطاب كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله، فاستثقلوا ذلك، ورأوا أن تزايده يؤدي إلى الاستهجان، فاتفق أن دعا بعض الصحابة عمر بن الخطاب بأمير المؤمنين فاستحسنوا ذلك واستصوبوه. فكان عمر بن الخطاب أول من لقب بأمير المؤمنين. على أن هذا اللقب كان مألوفا لدى الصحابة منذ عصر المبعث، أطلقه الرسول الكريم على عبد الله بن جحش حين بعثه في سرية أميرا عليها. كما روي أن أبا بكر، بعد وفاة رسول الله بعث أسامة بن زيد على جيش إلى الشام تنفيذا لوصية رسول الله، فكان الصحابة في ذلك السفر يدعون أسامة: أمير المؤمنين؛ وأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كلما رأى أسامة قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين تقول لي هذا، فيقول عمر: لا أزال أدعوك الأمير ما عشت، مات رسول الله وأنت علي أمير.
ثم توارث هذا اللقب الخلفاء بعد ذلك واتخذوه سمة خاصة لا يشاركهم فيها أحد، ولا سيما ملوك دولة بني أمية بالشام، وملوك بني العباس بالعراق.
2 .البيعة الشرعية
أحدث الإسلام، من جملة ما أحدث من أمور في تنظيم الدولة المسلمة، قاعدة البيعة، وهي عبارة عن عقد حقيقي يتم بين الإمام وبين الأمة، تنشئه بملء إرادتها، ومحض رضاها واختيارها، ومنه يستمد الإمام سلطته، ومشروعية حكمه، ويرتب حقوقا وواجبات على الطرفين.
ويتميز عقد البيعة في الإسلام عن غيره من العقود والالتزامات، بأنه يأخذ في اعتباره البعد الرباني؛ لأن وظيفة الإمام هي حراسة الدين وسياسة الدولة، كما سبقت الإشارة إليه، فهو عقد مع الله تعالى: (اِنَّ اَ۬لذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح 10]، وبذلك يختلف عقد البيعة عن باقي العقود المدنية والاجتماعية.
3 .خطبة الإمام بعد مبايعته
سن خلفاء الرسول الكريم سنة إلقاء خطبة بعد مبايعتهم من طرف أهل الحل والعقد في الأمة، يبينون فيها برنامجهم السياسي في تدبير الشأن العام، ومنهجهم الذي يسلكونه في سياستهم الداخلية والخارجية. وأول من خطب بعد بيعته، أبو بكر الصديق الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في خطبته بعد حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسول الله قوله: أيها الناس، إني وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق. لا يدعن أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فإنه ما تركه قوم إلا ضربهم الله بالذل. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
4 .خطبة عمر بن الخطاب بعد البيعة
ولما بويع عمر بن الخطاب، صعد المنبر فجلس، ثم تذكر جلوس أبي بكر فوق ذلك المنبر فنزل درجة عن مكان الصديق، ثم ذكر بعض شأنه مع النبي، وخليفته من بعده، وكيف أنهما توفيا، وهما عنه راضيان، ثم قال: إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة المعهودة قد تضاعفت، ولكنها على أهل الظلم والتعدي، فلست أدع أحدا يظلم أحدا ويتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق. وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف. ولكم علي -أيها الناس – خصال أذكرها لكم فخذوني بها. لكم علي ألا أجتبي شيئا من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم، إلا في وجهه، ولكم علي إذا وقع بين يدي، ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد في أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث، فأنا أبو العيال، حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله – عباد الله – وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإنما مثل العرب مثل جمل آنف، اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق.
5 .واجبات إمارة المؤمنين
عقد البيعة الشرعية يحدد العلاقة بين الراعي والرعية، ويعين حقوق كل طرف وواجباته. وهكذا فإن من أهم واجبات إمارة المؤمنين وآكدها:
- أولا: حفظ الدين والملة على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة؛
- ثانيا: حماية بيضة الوطن، والذب عن الحوزة ليأمن الناس في دينهم، وأرواحهم، وأعراضهم،
- وأموالهم، في إقامتهم وسفرهم، وفي ليلهم ونهارهم، وأسواقهم ومواطن نشاطهم؛
- ثالثا: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة؛
- رابعا: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويأتمنهم عليه من الأعراض والأموال؛
- خامسا: تفقد أحوال الناس، وتصفح شؤونهم بنفسه للوقوف على ما يضرهم في دينهم ودنياهم لدفعه، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم لدعمه، وألا يعول في شيء من ذلك على تفويض لأحد مهما بلغت درجة الثقة به؛
- سادسا: السهر على إقامة ميزان العدل بين الناس، دون تمييز بين شريف ومشروف، ولا بين غني وفقير، فالعدل أساس الاستقرار والعمران، والظلم مؤذن بالخراب.
6 .حقوق إمارة المؤمنين
وفي مقابل هذه الواجبات المنوطة بإمارة المؤمنين أوجب الشارع على الأمة واجبات نحو إمامها وولي أمرها، أهمها:
أولا: السمع والطاعة له في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وفي كل الأحوال ما لم يأمر بمعصية الله تعالى، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛
ثانيا: تحريم الخروج عن طاعته، والسعي في إثارة البلبلة والفتنة والتشويش عليه في إيالته، والتحريض على الخروج عن سلطته كيفما كانت الأسباب والدوافع، وتحت أي ذريعة من الذرائع؛
ثالثا: إبراز كل ما يليق بمقامه من معاني التجلة والاحترام والتبجيل والإعظام، لما في توقيره وإجلاله من هيبة للدولة، وتثبيت لأمن الوطن واستقراره وازدهاره؛
رابعا: الدعاء له بظهر الغيب بالنصر والتأييد والتوفيق والتسديد، لما في ذلك من صالح الأمة والوطن ولا سيما في الأوقات الفاضلة التي يكون العبد فيها أقرب ما يكون من ربه، فقد قال بعض أهل التقوى: من كانت له دعوة متقبلة فليجعلها لإمامه وسلطان زمانه.
7 .إمارة المؤمنين بالمغرب خاصة وبالغرب الإسلامي عامة
سبقت الإشارة إلى ما كان لملوك المشرق من تعلق بهذا اللقب الجليل، أمير المؤمنين وتنافس في التحلية بحليته. فلما وهن العظم من الخلافة في مهدها، واهتزت صورة القائم بها في نظر ولاتها في الأقطار، طمع فيها من كان من خدامها في زمن قوة شوكتها، فأعلن من أعلن منهم الاستقلال عنها.
أما قطرنا المغربي فقد صادف أن وفد إليه في الربع الأخير من القرن الهجري الثاني أحد آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هو المولى إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة الزهراء؛ فارا بعد موقعة “فخ” التي انتصر فيها شيعة العباس على آل علي وشيعتهم، فانتقل بذلك الحكم إلى العباسيين.
قدم المولى إدريس إلى المغرب، وبيده وصية أخيه محمد بن عبد الله النفس الزكية له بالخلافة التي كان قد بويع بها بيعة شرعية من أهل الحل والعقد بمدينة رسول الله، قبل بيعة أبي جعفر المنصور العباسي، وعلى أساس هذه الشرعية بايع أهل المغرب المولى إدريس، فهو أول من تسمى باسم أمير المؤمنين، وأسس أول دولة إسلامية مستقلة عن المشرق. وكان الإمامان مالك وأبو حنيفة بالمشرق، يرجحان إمامته على بني العباس، ويريان أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر المنصور لانعقاد بيعة محمد بن عبد الله النفس الزكية قبله.
وهكذا تكون إمارة المؤمنين دخلت المغرب وهي مستوفية لكل شروط الصحة التي أساسها البيعة الشرعية المزكاة من طرف إمامين عظيمين من أئمة المسلمين: مالك وأبي حنيفة، فتأسست منه ذلك أول إمارة المؤمنين بالربوع المغربية.
8 .انتشار مذهب مالك بالمغرب
وفي عهد المولى إدريس بن عبد الله بدأ انتشار مذهب مالك بالمغرب، والاقتصار عليه وذلك بأمر من المولى إدريس نفسه. وسبب ذلك فيما قال ابن خلدون، أن مالكا روى في الموطأ عن جد إدريس بن عبد الله، ثم أفتى بخلع أبي جعفر المنصور العباسي والبيعة لمحمد بن عبد الله العلوي، النفس الزكية، الذي عهد لأخيه إدريس بالخلافة من بعده، بعد انهزام شيعته في موقعة فخ المشهورة فكان مالك هو السبب في ولايتهم الملك، عندها قال المولى إدريس نحن أحق باتباع مذهبه، وقراءة كتابه، يعني الموطأ، وأمر بذلك في جميع عمالته.
ولذلك كان من التقاليد الجميلة التي درج عليها ملوك دولة الأشراف العلويين أن أول زيارة يقوم بها الملك إذا بويع، تكون لضريح المولى إدريس بزرهون إشارة منهم إلى أنه المؤسس الأول للإمامة العظمى والدولة الإسلامية المستقلة عن المشرق.
أما في الأندلس التي استقلت هي الأخرى عن المشرق منذ أن دخلها عبد الرحمان بن معاوية الأموي، المعروف بصقر قريش، والمؤسس للدولة الأموية بالأندلس. فخلال القرن الهجري الرابع، أعلن عبد الرحمن الناصر الأموي نفسه أمير المؤمنين حسب ما ذكره ابن جزي في قوانينه، بأنه أول من حمل هذا اللقب بالأندلس، وكان حكامها قبله يتسمون بالأمير فقط، وإنما أعلن الناصر نفسه أمير المؤمنين؛ لأن الدولة عظمت في أيامه من جهة، ولأن نظام ملك العباسيين بالمشرق أصبح مغلوبا على أمره، وصار لعبة في يد المتسلطين حتى غنى من غنى في هذه الحالة بهذا الكلام:
خليفة في قفصه بيد وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
واستهل الناصر إمارته بدعوة الخطبة المنبرية بجامع قرطبة لإضفاء الصبغة الشرعية على عمله، فكانت أول خطبة خطب له بها في جامع قرطبة سنة 316هـ، حيث أعلن الخطيب فيها عن هذا القرار داعيا الناصر باسم أمير المؤمنين، وله بالنصر والتأييد.
ثم أنفذ الناصر منشورا بذلك لعماله قال فيه: “وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا، وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو لهذا الاسم منتحل له ودخيل، ومتسم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، فامر الخطيب بموضعك أن يقول به، واجر مخاطبتك لنا عليه”.
هكذا استوطنت إمارة المؤمنين بالمغرب الذي صار دارا لها ومستقرا ومقاما، منذ الربع الأخير من القرن الهجري الثاني، ولا تزال مقيمة في ربوعنا شامخة شموخ جبال الأطلس الجبار إلى يوم الناس هذا، زمن أمير المؤمنين محمد السادس، سليل دولة الأشراف العلويين من ذرية علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت محمد نبي الله ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله.
ويطول الحديث لو رمنا رسم طريق رحلة الإمامة في المغرب عبر الحقب والسنين، وكيف عبرت عن وجودها فقد تولى ذلك أهل هذا الشأن وفصلوا القول فيها تفصيلا.
وبعد، فلئن كانت الإمامة العظمى إمارة المؤمنين التي لها في نظام الإسلام وحضارته هذه الأهمية التي يباهي بها المسلمون، قد غابت صورتها اليوم عن أنظار أبنائها، ولم يعد لها وجود إلا في تاريخ يقرؤونه، فإنه لا يزال لها في الربوع المغربية وجود حقيقي ماثل للعيان، يبصره كل ذي عينين يبصر بهما.
لقد صار هذا اللقب الغالي عنوانا كبيرا على القطر المغربي دون غيره من الأقطار، إذ كان هو البلد الحاضن لهذه القيمة الحضارية ذات البعد التنظيمي الدال على أن نظام الحكم ووجود الدولة قديم في وجودنا كأمة عريقة في التمدن والحضارة.
إن نظام إمارة المؤمنين رافق أمتنا ورافقته عبر الأزمنة والعصور، حتى بات ثابتا راسخا من ثوابتها، وركنا من أركان وجودها لا تستقيم حياتها إلا في ظله، ولا تطمئن القلوب إلا مع قيادته.
أما عندما نعود للنظر في الشروط المؤهلة لحمل أمانة لقب أمير المؤمنين، كما بينها وفصلها علماء هذا الشأن، وألزموا بها من رشح نفسه لهذه المهمة الثقيلة، فإننا نجد من بيدهم الحل والعقد من سادتنا وكبرائنا كانوا يحرصون الحرص كله على الالتزام بها، كما نجد أن ملوكنا وأمراء المؤمنين الذين قادوا خطى أمتنا، كانوا عند حسن الظن بهم في حراسة الدين وحماية البيضة، وجمع شمل الأمة في السراء والضراء، ولا الالتفات لبعض الاستثناءات التي كانت شاذة.
ومنذ قيام دولة الأشراف العلويين الذين عرف المغاربة سلفهم بسجلماسة قبل أن يصيروا ملوكا للمغرب، فعرفوا فيهم الصالح والصدق والإخلاص للدين والوطن، والتصدي لكل ما يهدد الأمن والاستقرار، واستمروا على ذلك إلى أن دعاهم أهل المغرب في ظروف احتاج فيها إلى من تجتمع عليه الكلمة، ويعيد للأمة وحدتها واستقرارها، فلبوا الدعوة، فكانت دولتهم أطول عمرا من جميع الدول المغربية التي سبقتها، واجتمع في إمامتها من المزايا والفضائل والمؤهلات ما تفرق في غيرها، فأحب المغاربة ملوكها، ومحضوهم الود والوفاء والولاء، وما كان لله دام واتصل.
ومغرب اليوم، في النصف الأول من القرن الهجري الخامس عشر، والربع الأول من القرن الميلادي الواحد والعشرين، يقود خطاه غصن من هذه الشجرة المباركة، هو أمير المؤمنين محمد السادس، يقوده على المحجة البيضاء، في أمور دنياه ودينه، في صحوة دينية، ونهضة دنيوية هادئة، وفي وفاء عز نظيره في تنزيل بنود البيعة الشرعية، يرعاها كما رعاها الصالحون المصلحون من أمراء المؤمنين، الذين فتح لهم التاريخً بين أحضانه، ولقد جعله طموحه الكبير، يمد عينيهً مرموقا صدره، وخصص لهم مكانا نحو قارته الإفريقية التي تجري دماء سلفنا في خاليا الخلف من أبنائها وأحفادها، وبناتها وحفيداتها، فقرر أن يجول في أرجائها جولة من يحمل هم الصحوة والنهضة.
وكان من ثمار ذلك القرب -وهي كثيرة- هذه المؤسسة العلمية الإفريقية التي تحمل اسم مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي نتواصل اليوم بمدينة فاس حاضنة جامعة القرويين، منارة العلم والإيمان، مع صفوة من عالماتها وعلمائها، لتبادل الرأي، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والنقاش فيما يهم قارتنا وعلماء ديننا وشريعتنا، وما يمكنهم أن يسهموا به في تحقيق الأمن المعنوي لقارتهم، ولأن ما أنجزته إمارة المؤمنين في هذه الفترة الوجيزة من إمارة محمد السادس خلال بضع عشرة سنة في أوراش النهوض بالدنيا والدين لا يمكن الإحاطة به في كلمة قصيرة عن ثابت إمارة المؤمنين في ماضي زمنها وحاضره، ولكنكم ستشاهدون بعضا من ذلك في زيارتكم لمؤسسات ذات قيمة ستتحدث معكم عن نفسها بلسان حالها إن شاء الله، ولعل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات يمثل نموذجا للإصلاح الديني الصحيح، والذي فتح أحضانه لأئمة ومرشدات إفريقية الغد.
والله ولي التوفيق.