إمارة المؤمنين وحوار الأديان من خلال نداء القدس
بسم ﷲ الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين تحث التعاليم الإسلامية على العيش المشترك، وعلى الوئام بين كافة الأطياف، والإحسان إلى الآخر المختلف والتعارف معه وَقبوله والإقبال عليه. هذه التعاليم تعلمنا أنه ونحن نتحاور ألا نفرض على أحد اختيار اَ دينيا أيا كان، ويذكرنا رب العزة في سورة يونس الآية 99 بأنه ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِے اِ۬لَارْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاًۖ اَفَأَنتَ تُكْرِهُ اُ۬لنَّاسَ حَتَّيٰ يَكُونُواْ مُومِنِينَ﴾. فالناس أحرار في أن يعتنقوا ما يشاؤون من الأديان، وتركهم على دينهم وتحبيب الإسلام إليهم بالتي هي أحسن وبالحسنى هو دليل على احترام باقي الأديان. وبهذا عمل الصحابة وعمل الخلفاء الراشدون، وعملت الدولة الإسلامية وتواتر ووصل إلينا. فهذه العهدة العمرية ترمز إلى إمارة المؤمنين وكيف تحرص على التعايش في وئام وعلى احترام الآخر المختلف واحترام البيع والكنائس ودور العبادة، واحترام عقائد الناس وممارساتهم الدينية بل وحمايتهم للقيام بذلك على أحسن وجه. ومع هذا الزخم من الثوابت، ومن التعاليم الدينية، ومن القيم اشتغل علماؤنا منذ القدم واستنبطوا أحكاما فرضت العيش المشترك وفرضت الإحسان إلى الآخر والإقبال عليه والتعارف معه.
ونحن حينما نتحدث عن إمارة المؤمنين نقول إنها تحمي حمى الملة والدين، لأنه ونحن نعود إلى التاريخ المغربي نجد إمارة المؤمنين سمت نفسها إمارة المسلمين استثناءفي محطات قليلة، وإلا فإنها كانت دائما تسمى إمارة المؤمنين لأن المحمين هم جميع المؤمنين وليس فقط المسلمون.
وإذا أردنا أن نستحضر من التاريخ بعض الشذرات، نذكر على سبيل المثال :قصة اليهود المغاربة مع حكومة فيتشي التي سعت إلى بسط القانون التمييزي الذي وضعته في مستعمراتها ضدهم، فنتذكر موقف المغفور له الملك محمد الخامس من ذلك، ولازال اليهود يتذكرونه ويشيدون بذلك ويزيدهم تعلقا بمغربيتهم وبالمغرب. بل إن عددا من الزوايا كانت هي الحاضنة لليهود المضطهدين والمجلون من بقاع أخرى. فكانوا يجدون ملاذا ليس فقط في المغرب إنما داخل الزوايا. وأعطي مثالا على ذلك الزاوية الوزانية التي أهدت أرضا من داخل وقلب الزاوية عليها قام سكن اليهود الوزانيين. ويكفي أن أحد الأولياء الذي يحجون إليه سنويا «با عمران» يقوم المسلمون الوزانيون بحمايته .أضيف إلى هذا صدور عدد من الظهائر منذ مطلع القرن العشرين أي مع البدايات الأولى للتحولات الكبرى لبناء الدول صدرت ظهائر لحماية اليهود المغاربة. ففي عام 1918 وعام 1945 صدرت ظهائر لحماية اليهود عندما انتشرت نزعة اضطهاد اليهود. ثم صدرت ظهائر أخرى لاحقا لحماية الكنائس الموجودة في المغرب بعد الاستقلال وتمكينها من القيام بعملية التعليم وتأطيـر المؤمنين والقيام بأنشطتها في العبادة والتعليم وغيـر ذلك.
إذن هذا هو تاريخ الأمة لمدة اثني عشر قرنا، تاريخ الأمة المغربية، وهو تاريخ الأمة الإسلامية لمدة خمسة عشر قرنا، لكن الآن يمكن أن نقول إننا نعيش على صفيح ناري، فما الذي تغيـر؟ أين ذهبت هذه الثوابت وهذه القيم؟ فأصبحنا نقتل بعضنا البعض داخل نفس الدين من طوائف مختلفة، وتروج تجارة الأسلحة وتجد لها موطئ قدم داخل نفس البلد المشكل من دين واحد بطوائف مختلفة، وتلبس الأيديولوجيات لبوسا دينيا فلا يطيق حتى المنتمي لنفس الدين أخاه أو أخته من نفس الدين، ما الذي حصل؟ إذن علينا أن نتساءل: هل العيب فينا أم في نسيان هذه التعاليم والقيم والمبادئ والثوابت.
ما الذي حصل وديننا على هذه الشاكلة، والتطرف ينتشر والإرهاب والتعصب والعنف والتقتيل، كل هذا ينتشر في ظل هذه الروحانيات الإسلامية.
أعتبر أن إمارة المؤمنين أضحت تتقلد اليوم مهاما إضافية: فسابقا كانت تحمي المتدينين من الاتجاهات المختلفة داخل أرض الوطن، لكن الآن أصبحنا أمام جرائم عابرة للقارات وأصبحنا أمام حروب تمتد ولا تتوقف، انطلقت من آسيا وهي تنتقل إلى إفريقيا ولا نعرف إلى أين ستؤول.. ونطلب اللطف والسلامة. إذن فالمهام الجديدة لإمارة المؤمنين أضحت الآن ثقيلة جدا وهي إحياء هذه الثوابت وهذه القيم داخليا وخارجيا، وخلق قنوات للحوار والتعارف والانفتاح على الآخر على جميع المستويات داخليا وخارجيا. وأضحى من مهامها انتزاع الخطاب الديني من أيادي أصبحت تعبث به من أجل التصحيح.
فعلى مستوى التعريف بثوابت وتعاليم الإسلام داخليا وخارجيا فقد سبقني الإخوة المحاضرون إلى الإشارة إلى عدد من الفتاوى والتدابيـر المتخذة تحت لواء إمارة المؤمنين؛ منها استصدار فتاوى أو دراسات في موضوع الإرهاب وفي موضوع السلفية وفي موضوع الجهاد، الذي كان للمجلس العلمي الأعلى دور راسخ في تعريفه أنه جهاد أولا بالفكر والقلم والمال وجهاد في النفس قبل أن يكون جهادا بالمعنى الذي أعطي على المستوى العالمي بشكل مغلوط.
ثم هناك جهود حثيثة تبذلها إمارة المؤمنين على مستوى محاورة الآخر والتعارف معه وتعريفه بقيم الإسلام الخالدة، ويكفي أن أبين في هذا عراقة العلاقات ما بين إمارة المؤمنين وما بين رئاسة الكنيسة الكاثوليكية، فهذه العلاقة لا تعود إلى زمن قريب كما قد يتصور البعض وإنما هي علاقة ضاربة في التاريخ وضاربة في الحوار والتعارف والعرفان .فهذه العلاقة تعود إلى عهد المرابطين وعهد الموحدين من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر. واستمرت أحيانا بشكل قوي وأحيانا بشكل أقل، إنما هناك علاقة، هناك إمارة المؤمنين منفتحة على الآخر وتحاوره وتتعامل معه وتتفاعل معه وتتعارف معه وتحسن في التعامل معه.
إنما الآن أضيفت تحديات أخرى جديدة ولا بأس أن أذكر بها مرة أخرى. فنحن الآن نواجه تهديدا للسلم العالمي ونواجه معضلة أشد وهي توجيه الدمار والتدميـر إلى الذات، ونواجه معضلة الإسلام فوبيا. فلقد انتشر كالنار في الهشيم أن الإسلام دين عنف ودين تطرف ودين الجهاد بالمعنى السلبي للجهاد. ونواجه تحديا آخر، وهو المتعلق بضياع حقوق الشعوب بكاملها وعلى رأسها فلسطين .
إذن من أجل إحلال السلام في عالم لا يتحدث إلا لغة الحرب وإلا لغة السلاح، العالم أضحى بحاجة إلى عقلاء وحكماء، وإلى قادة دينيين يحيون القيم والأخلاق والمبادئ وثوابت العرفان والتعارف على المستوى العالمي. وحينما تديـر رأسك وذهنك في العالم، لن تجد من هؤلاء القادة الدينيين الذين ينتصرون للأخلاق والقيم والثوابت والعيش المشترك إلا إمارة المؤمنين وإلا رئاسة الكنيسة الكاثوليكية. لذلك لم يكن صدفة أن تكون هناك عراقة في العلاقة بين إمارة المؤمنين وما بين البابوية، وليس صدفة أن يكون أول قائد لدولة إسلامية يزور الفاتيكان كان هو المرحوم الحسن الثاني سنة 1980، وأول زيارة يقوم بها بابا الفاتيكان لدولة إسلامية كانت للمغرب سنة 1985، وبين الفترتين صدر ظهيـر ينظم الكنائس الموجودة في المغرب. ثم تلت ذلك زيارة جلالة الملك محمد السادس سنة 2000 ثم تلتها زيارة البابا فرانسيس للمغرب سنة 2019.
فليس إذن صدفة من كلا المؤسستين أن تتفاعلا على اعتبار ما تحملانه من الفكر والحكمة والتعقل والثوابت والقيم والمبادئ والأخلاق. وعلى اعتبار أنهما مؤسستان منظمتان تنفردان بهذا، فإمارة المؤمنين مؤسسة لها دستور يقيم مقوماتها، ولها مؤسسات تشتغل تحت إمرتها، ولها مراكز للحوار بين الثقافات يعني بدأت مع الاستقلال، فعلى سبيل المثال «تومليلين» تحولت من مؤسسة كانت لها أغراض إبان الاستعمار إلى مؤسسة للقاء بين كبار المفكرين من المسلمين والكاثوليك والمسيحيين بشكل عام. وزارها المرحوم الحسن الثاني لما كان وليا للعهد لكي يشارك في هذه الحوارات، وكان المرحوم محمد الخامس يوجه خطابا توجيهيا للمشتغلين في إطار الحوار داخل ديـر تومليلين. وهناك مؤسسة الثقافات الثلاث في إشبيلية المؤسسة سنة 1998، ومركز محمد السادس لحوار الحضارات في الشيلي في أمريكا اللاتينية وهي المؤسسة الوحيدة أو الامتداد الوحيد للإسلام داخل أمريكا اللاتينية، أضف إلى هذا ملتقيات دورية تنعقد في مدن مغربية كفاس ومكناس ومراكش والصويـرة والرباط والدار البيضاء أصبحت تقليدا يلتقي فيها المفكرون للتثاقف في موضوع حوار الحضارات. هناك المؤتمر الدولي لمراكش والذي ذاع صيته في العالم حول الأقليات الدينية، وهناك «المرصد الإفريقي للتراث الثقافي الإفريقي اللامادي»، وهذا شيء جميل جدا، لاعتبار أن هذا التعايش السلمي وهذا الوئام هو تراث لامادي يجب أن نحافظ عليه، وهناك مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وهناك معهد محمد السادس لتكوين الأئمة الذي يؤم إليه الأئمة المرشدون والمرشدات من العالم بأسره ولكن بخاصة من إفريقيا.
أيضا بالموازاة مع هذا فالبابوية لها أيضا مؤسسات فعندها ما يعادل الوزارات تسمى وزارة حوار الثقافات سيما بعد أن غيـرت البابوية موقفها من الأديان الأخرى بعد مجمع الفاتيكان الثاني بين 1962 و1965 فغيـرت مواقفها من الأديان وانخرطت في حوار الثقافات وأنشأت لها مؤسسات.
أكثر من هذا، ليس صدفة أن تجتمع إمارة المؤمنين والبابوية، فلإمارة المؤمنين ديبلوماسيتها وللبابوية أيضا ديبلوماسيتها، فإمارة المؤمنين عرفت بديبلوماسيتها الدينية الناعمة في إفريقيا وفي غيـرها. والبابوية لها أيضا ديبلوماسية ناعمة يوثق التاريخ أنه كان لها دور حاسم في إنهاء الحرب الباردة في التاريخ الذي تعرفونه في نهاية السبعينيات. وكان لها موقف من غزو العراق ولها مواقف من الإساءة إلى البيئة ولها مواقف أخرى.
ضمن هذه الديبلوماسية، ديبلوماسية إمارة المؤمنين، احتضنت الصخيـرات اللقاء الحواري ما بين الأطراف المتنازعة في ليبيا وهناك تشييد مستشفيات ميدانية ومجموعة من المواقف لإمارة المؤمنين في كثيـر من القضايا الشائكة الكبرى.
الأكثر من هذا، فأميـر المؤمنين يـرأس لجنة القدس كما تعرفون هذا، وبيت مال القدس. ولذلك اشتغلت إمارة المؤمنين على حفظ وصون هوية القدس والدفاع والمنافحة عن هذا وعن خصوصيتها التاريخية، واشتغلت بما يتلاءم مع قرارات الأمم المتحدة ومع القانون الدولي ومع الحقائق التاريخية، فلم يكن صدفة إذا أن تصدر عن المؤسستين معا بما لهما من عراقة في التاريخ وبمالهما من مؤسسات تشتغل تحت إمرتهما، وبما لهما من دبلوماسية دينية ناعمة تحاول أن تلطف هذه الأجواء المشحونة في العالم. فلذلك صدر نداء القدس ولم يكن ذلك صدفة، فهذا حرص من أميـر المؤمنين في لحظة حرجة من التاريخ بعد أن تقرر أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل وفي تزامن مع قمة كانت تنعقد في تونس. وبالتالي لم تكن زيارة البابا زيارة مجاملة ولا زيارة روتينية كالزيارات التي يقوم بها قادة عديد من الدول، وإنما أثمرت وتناسل عنها نداء القدس. ونداء القدس ربما تعرفونه جميعا ولا أحتاج فيه إلى غوص، فهو يسعى إلى حفظ الهوية الثقافية المتعددة لهذه المدينة، ويسعى إلى أن تفعل القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. والبابوية أيضا لها حضور أيضا بشكل ملاحظ في القضية الفلسطينية، فهي تحضر في عدد من الندوات وتحضر في الأمم المتحدة بصفتها عضوا ملاحظا .
فنداء القدس هذا بقوته استطاع أن يـربح إشادة وتأييدا من الأمم المتحدة، وهذا شيء مهم جدا، ونال إشادة وتأييدا من جهات متعددة مسلمة وغيـر مسلمة، ومن دول متقدمة مثل أستراليا ودول أخرى، ونال تنويها من السلطة الفلسطينية ومن المواطن الفلسطيني بشكل عام.
وأختم بهذا وأقول الحمد رب العالمين.