الأستاذ أبو بكر دوكوري: أهمية الحديث الشريف فـي معرفة الأحكام والأخلاق
ألقى الأستاذ أبو بكر دوكوري، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الإسلامية ببوركينافاصو، بين يدي أمير المؤمنين، يوم 5 رمضان 1435 هـ الموافق لـ 3 يوليو 2014 م، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية لعام 1435هـ، تناول فيه بالدرس والتحليل موضوع ” أهمية الحديث الشريف في معرفة الأحكام والأخلاق” انطلاقا من قول الله تعالى “وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”.
نص درس الأستاذ أبو بكر دوكوري
بسم الله الذي خلق، ففاضل بين خلقه، حيث خص بعض الناس والأزمان والأماكن بمزيد فضله، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة الإسلام، دين السعادة في الدنيا والسلامة في ألآخرة، وأصلي وأسلم على من بعثه الله رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين،سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
يا أمير المؤمنين،
يقول جدكم المصطفى: “من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة”. فها هو أحد أسباطه وواحد من سلالته الطاهرة وهو والدكم المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني يسن هذه الدروس الرمضانية التي اشتهرت باسمه الميمون، وتفردت بها المملكة المغربية الشريفة، وتميزت بقيمتها العلمية وبمضامينها الفكرية النيرة، حتى غدت مفخرة لا للمغرب فحسب، بل لكل المسلمين في العالم.
يا أمير المؤمنين،
إن درسنا الذي نتشرف بإلقائه بين يدي جلالتكم هو بعنوان “أهمية الحديث الشريف في معرفة الأحكام والأخلاق”انطلاقا من قوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا﴾.
وحيث إن ما يلقى في هذا المجلس يا أمير المؤمنين يتتبعه الناس من مختلف المستويات وفي مختلف بلدان الإسلام، وحيث إن المطلوب من الدروس هو تعميم الفائدة وترقية الوعي، وحيث إن الكلام سيدور حول أحد مصدري التشريع وهو الحديث، فسنعمل على تحري التبسيط بقدر الإمكان حتى يتعرف أكبر عدد من المتتبعين على الحديث، ما المقصود به، وكيف وصل إلينا، وكيف اجتهد العلماء للتغلب على مشكل التأكد من صحته، ولابد أن نقول إن هذا الموضوع ليست له أهمية دينية وعلمية فحسب، بل له خطورة سياسية في عصرنا حيث ظلت فرقُ أقليةٍ من الناس توظف الحديث في التفرقة المذهبية والسياسية، وهو مسلك ليس بجديد، ولكن الوسائل العلمية والتواصلية التي تتوفر لأصحاب هذا السلوك اليوم تتوفر كذلك للعلماء لحسن الحظ لكي يقوموا بدورهم في الدفاع عن الحديث ضد الاستعمال المغرض دفاعا عن العلم والدين وإحقاقا للحق.
وسأتناول هذا الموضوع في ثلاثة محاور هي:
- 1. التعريف بالحديث وتدوينه وموقعه من القرآن؛
- 2. السياق المذهبي والسياسي لوضع الحديث وما أدى إليه من اختلاف المواقف منه؛
- 3. دفاع المسلمين عن الحديث بإقامة علم صارم يتناوله.
وبعد هذه المحاور نأتي إن شاء الله بحديثين يمثلان النوع الذي استوجب من العلماء النقد والاحتياط.
المحور الأول: تعريف الحديث وتدوينه وموقعه من القرآن
أبدأ بتعريف الحديث تعميما للفائدة. فالحديث في اصطلاح علماء الإسلام هو كل ما نسب إلى الرسولمن قول أو فعل أو تقرير. فكل ما قاله الرسولبعد مبعثه أو فعله بنفسه أو فُعِل بحضوره ومعرفته ولم ينكره، كل ذلك يعتبر حديثا يستدل به في إثبات الأحكام.
وقد أجمعت الأمة على أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي مقطوعٌ بصحته وثبوته، لأنه معجزة الله الخالدة إلى يوم القيامة أعجز الناس بلفظه ومعناه وبما اشتمل عليه من العقائد والأحكام والحِكم التي تصلُح لكل زمان ومكان، ولنقله بالتواتر من أوله إلى آخره، تكفل الله بحفظه، ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد﴾، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون﴾.
وقد أخبر الله في كتابه العزيز أنه كلف رسوله الكريم بتبليغ رسالته حيث قال تعالى: ﴿يا أيها الرسول بـلغ ما أنـزل إليك من ربك﴾كـما أخبـره أنـه كلفه أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم فـقال: ﴿وأنزلنا إليك الذكـر لتبين للنـاس ما نزل إليهم﴾. فلا غـرو أن يـكـون حـديثه المـصــدر الثـاني للتشـريع في الإسلام لأنـه التفسير العملي للقرآن، ولأن الله وصف رسوله بأن ما يقوله في مجال التشريع وحي من عنده فقال: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾.فكما أن المسلمين بحاجة إلى معرفة كتاب الله لترسيخ الإيمان في قلوبهم ومعرفة ما يتعلق بالغيبيات أو معرفة ما يتعلق بالعبادات والمعاملات ومكارم الأخلاق، فإنهم يحتاجون كذلك إلى السنة النبوية التي تبين لهم المراد من القرآن، لأن كثيرا من آياته مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء حديث الرسولليبين المراد منها، إما بتفصيل المجمل أو تقييد المطلق أو تخصيص العام، ولكن مبالغة في حفظ القرآن وصيانته. لم يكن الحديث يدون في أيام الرسولكما دون القرآن، بل كان الرسول ينهى عن تدوين الحديث كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم: إن النبي قال: “لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”. ولا يخفى أن المنع ما كان ليحرم بدليل أن الرسول سمح بكتابة بعض الأحاديث في حياته لأهل اليمن وكتب إلى ملوك وأمراء عصره، كما كان يبعث مع بعض رؤساء سراياه كتبا ويأمرهم أن لا يقرؤوها إلا بعد أن يجاوزوا موضعا معينا.
كل ذلك يدل على جواز كتابة الحديث، وإنما منعهم من ذلك في فترة كتابة الوحي حتى يفرَّغ كتابه إلى تدوين القرآن، لأنهم ما كانوا كثيرين في أيامه، بل يعدون بالأصابع، فلوا كلفوا بتدوين كل ما يصدر عنه من قول وفعل وتقرير طيلة فـترة عيشه بينهم بعـد البـعـثة، لكان ذلك شاقا جدا. لذلك أرادأن يفرغ هؤلاء الكتاب لكتابة القرآن فقط، باعتباره المصدر الأول الأساسي للتشريع، ليكون محررا مضبوطا وينتقل إلى الأجيال المتعاقبة تاما لم ينقص منه شيء. ولم يفارق الرسولالحياة إلا وللمسلمين كتاب مدون محفوظ وهو القرآن المصدر الأول لدينهم الحنيف.
أما الحديث، فإنه كان يروى غالبا من الذاكرة لا من كتاب معين أو صحيفة مدونة، فإذا حدث أمر ولم يجدوا حكمه في القرآن، سأل الصحابة بعضُهم بعضا هل سمع أحدهم من الرسولحديثا في الأمر ليحدثهم به؟ وعلى الرغم من ورعهم وعدالتهم التي أثبتها القرآن بقوله: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾. فقد كان بعضهم يكره كثرة الرواية عن رسول الله خشية الخطأ. فقد روي عن عبد الله بن الزبير أنه قال لأبيه: “إني لا أسمعك تحدث عن رسول اللهكما يحدث فلان وفلان، فقال: أما أني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”. وكان زيد بن أرقم إذا قيل له: حدثنا، يقول: “كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد”. ولعل هؤلاء المقلين في الرواية من الصحابة كانوا يشكون في ذاكرتهم ألا تمكنهم من إيراد الحديث وروايته على الوجه الذي سمعوه من النبيفرأوا أن من الورع والاحتياط في دين الله ألا يكثروا من الرواية. وإلا فقد اشتهر بعض الصحابة بالإكثار من الرواية جمعهم بعضهم بقوله:
والمكثرون من رواية الأثر * أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والحبر والخدريّْ * وجابر وزوجة النبيّْ
والمقصود بالحبر عبد الله بن عباس الملقب بحبر الأمة.
وكان بعض الصحابة إذا حدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث طلب دليلا على صحة الرواية. كما في حديث المغيرة بن شعبة “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة سدس التركة في الميراث فلم يقبل أبو بكر الحديث على الرغم من ثقته بشعبة حتى شهد له محمد بن مسلمة فأعطاها السدس”. ومثله حديث أبي موسى الأشعري: “إذا استأذن
أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فليرجع”. فلم يقبل عمر حديثه حتى شهد له أبو سعيد، فقال عمر لأبي موسى: “إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله“.
وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يحلِّف من حدثه بحديث عن رسول الله.
ومما تجدر الإشارة إليه أن كتب الحديث من صحاح وسنن ومسانيد إنما دون معظمها في نهاية القرن الثاني الهجري وبداية الثالث، باستثناء الموطأ الذي كان سابقا لها.
المحور الثاني: السياق المذهبي والسياسي لوضع الحديث وما أدى إليه من اختلاف المواقف منه
إن عدم كتابة الحديث وتدوينه في كتاب خاص في عهد رسول اللهواكتفاء الصحابة بالاعتماد على الذاكرة في روايته، وكذلك صعوبة حصر ما قاله الرسولأو فعله على مدى فترة البعثة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاما. كل ذلك دفع بعض الناس إلى الاجتراء على وضع الحديث ونسبته كذبا إلى رسول اللهوقد كثر ذلك الوضع بعد الفتوحات الإسلامية، وبعد دخول أمم وشعوب كثيرة في الإسلام، وكان من هؤلاء حديثو العهد بالإسلام، ضعاف الإيمان، وذوو الأهواء والمصالح، فلم يجدوا حرجا في وضع الحديث والكذب على رسول الله لأسباب منها:
- الخصومات السياسية التي وقعت بعد وفاة الرسول، فوضع البعض الأحاديث في ذكر فضائل أصحابهم وذم خصومهم السياسيين.
- الخلافات المذهبية في العقيدة والفقه، فكان بعض الذين أعماهم التعصب المذهبي يضعون الأحاديث في مناصرة آرائهم ومذاهبهم.
- مجاراة بعض علماء السوء لأهواء الحكام والأمراء، فيضعون لهم ما يعجبهم من الأحاديث رغبة فيما في أيديهم من المال والجاه، ومن ذلك قول غياث بن إبراهيم للخليفة المهدي بن المنصور، وكان يعجبه اللعب بالحمام، قال رسول الله: “لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح، فأمر له الخليفة بجائزة، فلما أراد الخروج، قال له: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله ما قال رسول الله: “جناح”ولكنه أراد أن يتقرب إلينا“.
- بعض الصالحين كانوا يضعون الحديث عن حسن نية، وخاصة في باب الفضائل مما لا يترتب عليه تحليل حرام أو تحريم حلال، كنوح بن مريم الذي وضع أحاديث في فضائل سور القرآن سورة سورة، فلما قيل له: “من أين لك هذه الأحاديث؟ قال: لما رأيت انشغال الناس بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق وضعت هذا الحديث حسبة لله تعالى“.
المحور الثالث: دفاع المسلمين عن الحديث بإقامة علم صارم يتناوله
كل هذه الحقائق الثابتة دفعت بعض الناس إلى إنكار صلاحية الحديث لإثبات الأحكام الشرعية مطلقا، ودعوا إلى وجوب الاقتصار على القرآن وحده في ذلك، نظرا إلى تطرق الشك في طريقة ثبوت الحديث لما يلحق روايته من خطأ أو وهم، بالإضافة إلى ما ذكرنا من كثرة الوضاعين الذين اندسوا بين رواته، وبعضهم أقل تشددا، فقبلوا من الأحاديث ما كان متواترا فقط دون غيره، والمتواتر من الأحاديث هو ما رواه جموع عن جموع بحيث لا يمكن تواطؤهم على الكذب. أما ما عداه من أحاديث الآحاد فلا يقبلونها لأنها لا تفيد إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا. وساقوا أدلة أخرى رد عليها الجمهور وأبطلوها.
وذهب علماء آخرون إلى قبول الحديث إذا جاء بيانا لما في القرآن أو مؤكدا له دون ما يأتي بحكم مستقل. وكل ما ذكروه لدعم هذا التوجه تهافت ضعيف لا يعول عليه لأن الأئمة الأثبات والعلماء الراسخين في العلم لما رأوا من كثرة الوضع في الحديث، ومن اختلاط الحابل بالنابل فيه، وضعوا الموازين العلمية الدقيقة لتمكنهم من الاستيثاق من ثبوت الحديث، وذلك بتمييز صحيحه عن سقيمه، وجيـده عن رديئه، لأن هـذه المـوازين التي تشـمـل سنـد الحـديث ومتـنه جـمـيــعا، والتـي أصبحت مع الوقت علما مستقلا يعرف بعلم مصطلح الحديث، أوصل السيوطي فروعه إلى 93 فرعا علميا يتعلق بالحديث النبوي الشريف. وبالرجوع إلى هذا العلم، نجد العلماء قد وضعوا شروطا لا يكون الحديث صحيحا ولا مقبولا إلا بتوفرها فيه، إذ قالوا في الحديث الصحيح: هو ما رواه عدل ضابط، متصلَ السند غيرَ شاذ، ولا مُعَلٍّ. وقد اشترط علماء المنطق في التعريف أن يكون جامعا مانعا أي جامعا جميع أفراد المعرف ومانعا غيره من الدخول فيه.
ومن هذا التعريف نعرف أن للحديث الصحيح خمسة شروط:
الأول: العدالة في راويه، وهي سلامة الدين من الفسق، والمروءة من القوادح؛
قال ابن عاصم في رجزه:
والعدل من يجتنب الكبائر * ويتقي في الأغلب الصغائر
وما أبيح وهـو في العيان * يخل من مـروءة الإنسان
فالحديث الذي يرويه كذاب يسمى موضوعا، والذي شذ به الراوي الذي ليس بعدل ولا ضابط يسمى منكرا، وهما مردودان غير مقبولين بالإجماع.
الثاني: الضبط: وهو كون الراوي غير كثير الغلط والخطأ، بل خطؤه نادر، وعليه فلا تقبل رواية الصبي غير المميز، ولا المجنون ولا المغفل الذي لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه، لأنه لا ثقة بقوله وإن كان غير فاسق. أما إذا خف ضبط الراوي فينزل الحديث إلى درجة الحسن، وهو ما كان راويه مشهورا بالصدق والأمانة، ولكنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح في الحفظ والإتقان فيكون حديثه مقبولا على الصحيح.
الثالث: اتصال السند إلى رسول الله، فإن سقط أحد الرواة لم يقبل الحديث لـجـواز أن يــكـون السـاقط غـيـر ثـقــة، ولا يخفى أن الإسناد من خـصائص هذه الأمـة المحمدية، فالصحابة لم يكن يشك بعضهم في بعض لأن الله زكاهم جميعا، ولم يكن التابعون يتوقفون عن قبول أي حديث يرويه صحابي عن رسول اللهحتى وقعت الفتنة، وبدأ الناس يكذبون ويدسون على السنة ما ليس فيها، فعندئذ بدآ العلماء يتحرون في نقل الأحاديث ولا يقبلون منها إلا ما عرفوا طريقها ورواتها واطمأنوا إلى ثقتهم وعدالتهم، وفي ذلك يقول عبد الله بن المبارك: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء في الدين ما شاء“.
الرابع: عدم الشذوذ في الحديث، بألا يخالف الراوي في روايته لرواية الثقات أو لمن هو أوثق منه.
الخامس: عدم العلة، قال النووي في التقريب: “وهذا النوع من أجل علوم الحديث وأشرفها وأدقها، إذ لا يتمكن منه إلا أهل الحفظ والخبرة والفهم الثابت”. والعلة كما قال العلماء: عبارة عن سبب غامض خفي يقدح في الحديث وإن كان ظاهره السلامة، فقد يكون الحديث سليما من حيث الأسانيد فيرفضه العلماء والمحققون لعلة فيه، ونلاحظ أن بعض العلماء من المحدثين يقبل الحديث ويدافع عنه بقوة بمجرد سلامة سنده، دون الالتفات إلى علل أخرى تجعله مردودا. وقد رأينا بعضهم على جلال قدرهم وسعة علمهم وتشددهم في الرواية يحكمون بالصحة على أحاديث دون أن يكلفوا أنفسهم بالبحث والنظر هل ما ورد فيها متفق مع الحقائق العلمية الثابتة أو الحوادث التاريخية المقررة أم لا أو أن عبارته نوع من التعبير الفلسفي الذي يخالف التعبير النبوي المألوف أو أسلوب عصره أم لا؟ مما يدل على أنهم عنوا بنقد الإسناد أكثر مما عنوا بنقد المسند فلم يفكروا في علل أخرى قد تفضي إلى رد هذه الأحاديث أو التوقف فيها على الأقل.
فقد تبين مما تقدم عدم قبول أي حديثِ مجهول العين أو مجهول الحال، أو من كان مشكوكا في عدالته أو في تمام ضبطه، أو كان في سنده انقطاع أو كان الحديث شاذا بان خالف فيه راويه الثقة لروايات الثقات أو لرواية من هو أوثق منه، أو كان في الحديث علة قادحة في سنده أو متنه، لأن الحديث في هذه الحالات يكون ضعيفا، فكل حديث لم تجتمع فيه صفات الصحيح ولا صفات الحسن فهو ضعيف. وأنواع الضعيف كثيرة ودرجاته مختلفة ولا يعمل بواحد منها في إثبات الأحكام الشرعية العملية بإجماع علماء الأمة. وإنما اختلفوا في الاستدلال به فيما يتعلق بفضائل الأعمال مما لا يدخل في باب التشريع الصريح من حل، وحرمة، وكراهة، وإيجاب، واستحباب. وفي ذلك يقول الحاكم فيما يرويه عن بعض العلماء قولهم: “إذا رويـنا عن النبيفي الحـلال والحرام والسنن والأحكام، شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا عن النبيفي فضائل الأعمال، والثواب والعقاب، والمباحات، والدعوات، تساهلنا في الأسانيد”. وروى الخطيب مثله عن الإمام أحمد. وقد فهم كثيرون أن هذا الكلام على إطلاقه وأن الحديث الضعيف وإن انفرد به من كان فاحش الغلط أو كثير المناكر فهو مقبول في الفضائل، وليس الأمر كذلك كما صرح به كثير من الأئمة. وتحقيق القول في هذه المسألة هو أن الحديث الضعيف إنما يستدل به في فضائل الأعمال بثلاثة شروط ذكرها الحافظ بن حجر:
- أن يكون الضعف غير شديد، بألا ينفرد في روايته من كان متهما بالكذب أو من كان كثير الغلط؛
- أن يكون مندرجا تحت أصل عام، أما ما كان مخترعا وليس له أصل فلا يقبل؛
- أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته وإنما يعمل به فقط من باب الاحتياط.
وهنا نلاحظ بأن القائلين بجواز الاستدلال بالحديث الضعيف في الفضائل يمنعون روايته بصيغة الجزم أي ألا يقول فيه: قال رسول اللهبصيغة الجزم والقطع، وفي ذلك يقول ابن الصلاح: “فإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه: قال رسول الله: “كذا وكذا”، وما أشبه ذلك من الألفاظ الجازمة بأنهقال ذلك، وإنما تقول فيه: روي عن رسول اللهكذا وكذا، أو بلغنا عنه كذا وكذا، إلخ“.
ومما تقدم، وبالرجوع إلى علم مصطلح الحديث، نستطيع أن نجزم بأن الحجج التي قدمها منكرو حجية الحديث النبوي الشريف باطلة، لأن علماء الأمة ابتداء من عصر الصحابة وحتى زمن تدوين الحديث بل وإلى هذه الأزمنة المتأخرة، بذلوا جهدا لا مزيد عليه في توثيق كل ما نسب إلى رسول اللهمن قول أو فعل أو تقرير، ووضعوا من أجل تحقيق ذلك علم مصطلح الحديث ومستلزماته، من إسناد الحديث، ومن رواته لمعرفة من تقبل منهم روايته ومن لا تقبل، حتى أصبح ذلك يعرف بعلم الجرح والتعديل. وكذلك وضعوا قواعد عامة وشروطا معينة تمكن من تمييز الصحيح من الفاسد والحق من الباطل فكانوا بذلك أول من وضع قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات في التاريخ البشري، ونستطيع أن نجزم كذلك بأهمية الحديث لتشريع الأحكام وتوجيه السلوك والأخلاق لدى المسلمين، وذلك لورود الأدلة بذلك من القرآن الكريم، فكان التعامل معه دراسة وفهما، وإيمانا والتزاما، وفقها وتعليما، من أوجب الواجبات على المسلمين. قال تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾. والـرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والـرد إلى الرسول بعد وفـاته يكـون بالـرد إلى سنته الصحيحة المدونة، وقال تعالى أيضا: ﴿إنما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون﴾. فليحذر الذين ينكرون الحديث الشريف، ويَدْعون للاكتفاء بالقرآن، لأنهم بذلك لا يكونون مخالفين لأوامر الله في القرآن فقط، وإنما يعطلون كثيرا من الأحكام الشرعية التي لا يمكن القيام بها إلا بالرجوع إلى الحديث كالصلاة مثلا فإنها ركن من أركان الإسلام بإجماع الأمة، والأمر بأدائها ورد في أكثر من آية من القرآن الكريم، فكيف يمكن أداؤها وإقامتها دون الرجوع إلى الحديث، والأمثلة على ذلك كثيرة. لذلك حذر النبيمن ضلال من يدعي ذلك فقال: “لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري! ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه”. وفي رواية: “ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه”. وفي أخرى: “ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله“.
وقد كان إمامنا وإمام الأئمة مالك ابن انس رضي الله عنه آية في اتباع السنة بحيث لم يقتصر على النص فقط وإنما يرى عمل أهل المدينة الذي أجمعوا عليه وتوارثوه جيلا بعد جيل حتى عهد رسول اللهحجة في قوة الحديث، بل هو أقوى عنده من حديث الآحاد لأن المدينة مهبط الوحي ومثوى الرسول، فأهلها الذين تربوا في مدرسته والقريبون من عهده لا يمـكن أن يلتزموا أمرا ويعملوا به جميعا إلا إذا كان أمرا مشروعا عمل به الصحابة في عهد الرسول وأقرهم عليه، ثم توارثوه من بعدهم ودرجوا عليه، فيكون سنة عملية ودليلا شرعيا يعمل به في إثبات الأحكام الشرعية.
مولاي أمير المؤمنين،
سوف نسوق مثالين من أمثلة الحديث الضعيف الذي أسيء استعماله: الأول حديث افتراق الأمة والثاني حديث الخلافة.
أما حديث افتراق الأمة فلم يخرجه أحد من الشيخين أي البخاري ومسلم، وإنما رواه بعض أصحاب السنن بروايات مختلفة وربما متعارضة كما سيتبين ذلك فيما يأتي:
قال ابن تيمية في هذا الحديث: “الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد”. ورجح كون الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة. وقد رُوي الحديث في كتب الفرق الإسلامية كالشيعة الإمامية والزيدية والإباضية، وكثرة طرق الحديث وتعدد رواياته عند محدثين وفي مختلف كتب المذاهب الإسلامية، جعل البعض يحكم عليه بالتواتر، وقد تتبع بعض المحققين أسانيد مختلف الروايات فوجدوها كلها ضعـيفة.
وصححه كذلك الترمذي وابن حبان، وهما والحاكم مشهورون عند علماء الحديث بالتساهل في التصحيح. أما الترمذي فقال: “هذا الحديث حديث حسن صحيح، غير أن هذه الرواية لم يرد فيها زيادة (كلها في النار إلا واحدة)” وقد اختلف العلماء في مقصود الترمذي عندما يقول في الحديث حسن صحيح. فقال بعضهم إن الحديث روي بسندين أحدهما يقتضي الصحة والآخر الحسن، ورده ابن دقيق العيد وقال: يرد على ذلك الأحاديث التي قال فيها الترمذي ذلك، مع أنها ليس لها إلا مخرج واحد. مما أدى ببعض العلماء إلى القول بأن ما قيل فيه حديث حسن صحيح محمول على تقدير أو، أي أن الراوي تردد بين أن يكون الحديث حسنا أو صحيحا، وعلى هذا فما قيل فيه ذلك دون ما قيل فيه صحيح، لأن الجزم أقوى من التردد.
والرواية الثانية للحديث عند الترمذي والتي وردت فيها زيادة (كلهم في النار إلاّ ملة واحدة) فإن الترمذي لم يحكم عليها بالصحة وإنما قال: “حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه”. أما ابن حبان فقد اشتهر عند علماء الحديث بالتساهل بالتصحيح، وكثيرا ما يسمي الحديث الحسن صحيحا. أما الحاكم فإنه التزم في كتابه المستدرك بألا يخرج فيه إلا ما كان صحيحا على شرط البخاري ومسلم أو أحدهما أو مما كان صحيح السند، غير أن الإمام الذهبي الذي لخص الكتاب ذكر أن ربعه يحتوي على مناكير أو واهيات لا تصح، وقد ذكر العلماء أن التساهل الذي وقع في أحاديث الحاكم راجع لكونه سود كتابه لينقحه فأعجلته المنية فلم يتمكن من ذلك.
فعلمنا أن قبول هذا الحديث بناء على كثرة طرقه وتصحيح هؤلاء المحدثين له لا ينهض، لأن المتقدمين من أئمة الحديث المعتمدين لا يقوون الحديث بمجرد كثرة طرقه، بل عندما لا يكون له معارض راجح، ولا يكون في معناه إشكال، وقرروا أيضا بأن هؤلاء الذين صرحوا بتصحيح هذا الحديث هم متساهلون في التصحيح، فلا يسلم لهم كل تصحيح، وخـاصة عند وجـود ما يقتضي عـدم التسليم كما في هذا الحديث.
أهم العلل التي رُد بها هذا الحديث:
أ –الاضطراب الشديد في ألفاظه والاختلاف الكبير في عباراته، إذ ورد في بعض رواياته التردد في عدد فرق اليهود والنصارى هل هي 71أو 72كما في رواية أبي داوود، وورد في مسند الإمام أحمد أن اليهود افترقوا إلى 72فرقة، والمسلمون مثلهم في العدد وكذلك عند غيرهما، وهي تخالف روايات أخرى تجزم بأن فرق النصارى 71وبني إسرائيل 72وهذه الأمة المحمدية 73.
ب –الاختلاف في الحكم على هذه الفرق، فكثير من روايات الحديث اقتصرت على ذكر عدد الفرق دون الحكم عليها بالهلاك أو النجاة، بخلاف الروايات الأخرى التي زادت (كلها في النار إلا واحدة). وقد حكم بعض العلماء المحققين على هذه الزيادة بأنها موضوعة كما صرح بذلك ابن حزم، وقال ابن الوزير: أنها زيادة فاسدة، لا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة وهذه الزيادة متناقضة في روايات الحديث لأن بعضها تجعل الفرق كلها ناجية وفي الجنة إلا فرقة واحدة كما تقدم، وان كان بعض العلماء قد أبطلوا هذه الرواية إلا أن آخرين اعتبروها صحيحة، بل وأرجح من الرواية الأخرى، لا فقط لتعـدد طرقها.وهو ما استدل به المخالفون في قبول الرواية الأولى، وإنما لكونها أقرب إلى روح الإسلام وأكثر تحقيقا لمصالح الأمة.
ج –الاختلاف في تحديد الفرقة الناجية:
في بعض روايات الحديث استثناء الفرقة الناجية في هذه الأمة من بين الفرق الهالكة ولكن من غير تحديد لها كما في حديث الإمام أحمد وغيره.
ولكن أبا يعـلى أخرج الحديث عن أنس بلفظ “أهداها فرقة الجماعة” وفي رواية أخرى: “كلها في النار إلا السواد الأعظم”. وفي أخرى: “كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومـن هي يا رسول الله؟ قـال: ما أنا عليه وأصحابي”. ولا يخفى أن كثيرا مـن المحدثين يركز على هذه الرواية لما فيها من ذكر الصحابة لكي يرجح بذلك نجاة الفرقة التي تـزكى الصحابة مطلقا، وهلاك مخالفيهم ممن لا يعمم تزكيتهم، قال الإمام الشاطبي: “إن رواية من يروى في تفسير الفرقة الناجية” (وهي الجماعة) محتاجة إلى التفسير، لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى وهي قوله: “ما أنا عليه وأصحابي”. فمعنى لفظ الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير، لذلك اختلف العلماء في المقصود من الجماعة في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي تأمر بوجوب ملازمة الجماعة مما أدى إلى ادعاء كل فرقة من فرق المسلمين أنها الناجية وأن غيرها الهالكة، وهذا لا شك يؤدي إلى الفُرقة وتفريق وحدة الأمة، وأيضا لا يخفى ما في ادعاء الحق المطلق دون الناس من أمن من مكر الله الذي يعتبر من أكبر الكبائر، ويوشك من كان هذا شأنه أن يقع في المحظور الذي وقعت فيه الأمم السابقة. فعلمنا أن من الخطأ اعتبار مذهب معين أو فرقة مخصوصة بأنها الفرقة الناجية، لذلك قال الشاطبي: الأولى أن يسأل عن أعمال الفرقة الناجية التي بها نجت لا عن نفس الفرقة، لأن التعريف بها من حيث هي لا فائدة فيه، إلا من جهة أعمالها التي نجت بها. إذن فالفرقة الناجية هي كل من كان من المسلمين ملتزما بالمضي على خطى رسول الله، وأن الفرقـة الـهالكـة هي المتمردة على شـرع الله المتعـمدة لمخـالفة رسـول الله، لذلك جزم الإمام الصنعاني في حديثه عن الفرقة الناجية، بأنهم متبعو الرسول قولا وفعلا من أي فرقة كانت، وهم “صالحوا كل فرقة“.
د –حاول بعض العلماء قديما وحديثا تعيين هذه الفرق التي ورد ذكرها في الحديث وحصرها في العدد المذكور فيه أي 73فرقة، ولكن نجد أن ما تكلفوه من التأويلات لحصر عدد الفرق في هذا العدد لا يتفق مع الواقع. ونحن نجزم بأن كلام الرسوللا يمكن بأي حال أن يخالف الواقع، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وقد اشتهر الإمام الشاطبي بإنكار تعيين الفرق التي افترقت إليها الأمة، لأن ستر الأمة مطلب شرعي، ولأن تعيينها يؤدي إلى مزيد من الفُرقة وعدم الألفة، وقد حذر الله منها ورسوله في أكثر من آية قرآنية وحديث نبوي، فكان الغالب والأجدر أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها.
هـ –معارضة الحديث للقطعـيات والثوابت الإسلامية:
إن حديث افتراق الأمة على فرض صحته فهو حديث آحاد لا يفيد إلا الظن عند الجمهور، لأنه محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال، إذن فخبر الواحد لما لم يفد اليقين فلا يكون حجة فيما ينسب إلى الاعتقاد وفي ذلك يقول الأسنوي: “إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية -وهي الفروع-دون العلمية كقواعد أصول الدين”. ومن الثوابت الإسلامية أن أمة محمد خير الأمم لثبوت ذلك بأدلة قطعية بموجب قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾، فلا يسلم أن تكون أسوأ من غيرها من الأمم في مجال الاختلاف والتفرق المذمومين، وأيضا فإن الحديث حكم على جميع فرق الأمة المحمدية بأنها في النار إلاّ واحدة، وهذا يتنافى مع ما ورد في الحديث من أن هذه الأمة أمة مرحومة: “أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره”.وروى الإمام مسلم رضي الله عنه أن الصحابي الجليل عبد الله قال: “قال لنا رسول الله: أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، ثم قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قال فكبرنا، ثم قال: أني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة”.والسؤال الذي يطرح نفسه كيف تكـون أمته نصف أهل الجنة إذا هلك كـل فرقها ولم ينجُ منها إلاّ فرقة واحدة؟ وخروجا من هذا الإشكال قال الإمام الصنعاني: “الحكم على تلك الفرق بالهلاك والكون في النار حكم عليها باعتبار ظاهر أعمالها، ولا ينافي ذلك كونها مرحومة باعتبار آخر، من رحمة الله بها وشفاعة نبيها وشفاعة صالحيها“.
يؤيده ما قاله ابن تيمية رحمه الله: “فمن كفر الاثنين وسبعين فرقة كلهم فقد خالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان، … وليس قوله: “اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة” بأعظم من قوله تعالى: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا﴾. وقوله: ﴿ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا﴾.وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار، ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار، لإمكان أنه تاب أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك، لذلك جزم ابن تيمية بأن الناجين في هذه الأمة المحمدية هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، ولله در من حاول الجمع والتوفيق بين روايات الحديث المتعارضة حيث حمل رواية “كلها في الجنة إلا واحدة” على أمة الإجابة، ورواية “كلها في النار إلا واحدة” على أمة الدعوة، لذلك نستطيع أن نجزم بأن الفرقة الناجية هي الغالبية العظمى من أمة محمد.
وأما حديث الخلافة الذي رواه أبو داوود الطيالسي في مسنده من طريق النعمان بن بشير قال: كنا قعودا في المسجد مع رسول الله، وكان بشير رجلا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول اللهفي الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله:”تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة”ثم سكت.
فإنه ضعيف رواية، مشكل دراية؛ أما ضعفه من جهة الرواية، فلأن مدار إسناده على راويين مضعفين:
- أحدهما: “داود بن إبراهيم الواسطي” الذي أورده الذهبي لضعفه عنده في كتابيه المغني في الضعفاء، وميزان الاعتدال.
- وثانيهما: “حبيب بن سالم”، الذي قال فيه البخاري في تاريخه الكبير بعد أن تتبع رواياته ووازن بينها: “فيه نظر“.
وأما ضعفه من جهة الدراية فلأنه:
أولا: لم يخرجه أحد ممن اشترط إخراج الصحيح المجرد بالوصف المعتبر في سلسلة وسائط الإسناد، وفي مضمون المتن الذي لا ينبغي عند نقاد الحديث أن يخالف القرآن الكريم، أو السنة المتواترة، أو العمل المدني النقلي، أو التاريخ، أو اللغة، أو الواقع، أو العقل الصريح.
ثانيا: أن مصطلح “الخلافة” بمعنى الإمارة بعده صلى الله عليه وسلم لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دواوين السنة المعتمدة إلا من طرق متكلم في بعض رواتها بما يوجب رد حديثهم.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا، ولم يقل شيئا يعتمد عليه في تعيين الخليفة بعده، وترك الأمر لاختيار الأمة بقاعدة البيعة والشورى والعهد.
رابعا: أن المتفق عليه بين علماء الأشاعرة أن النص الذي يحتج به في موضوعات العقائد لا بد من إفادة طريقه اليقين إسنادا ولفظا ومعنى، بحيث لا ينبغي أن يختلف عليه، وهذا لم يتحقق في مثل هذا الحديث الذي جمع عللا مُؤَثِّرة، شملت التفرد من متكلم فيه، والنكارة في المتن الراجعة إلى مخالفة التاريخ والواقع.
مولاي أمير المؤمنين،
إننا نقدّر كل هذه الجهود المبذولة لخدمة ديننا وأمتنا ومنها إحداثكم لجائزة أهل الحديث بمملكتكم السعيدة، ونقدّر كل الامتيازات التي نتمتع بها في بلدكم وتحت رعايتكم الكريمة، وبالمقابل فإننا نعاهد الله تعالى ونعاهد جلالتكم بأن نكون جنودا أوفياء لهذا الدين، فسيروا على بركة الله، فنحن معكم بقلوبنا ودعواتنا وولائنا، حتى تصلوا بسفينتنا إلى بر الأمان، وتعيدوا لأمتنا مجدها وعزها. ونسأل الله تعالى أن يحفظكم ويحفظ لكم سمو ولي عهدكم الأمين، وأن يبارك فيه كما بارك في آبائه وأجداده ويجعله من الصالحين، كما نسأله تعالى أن يحفظ لكم أخاكم سمو الأمير مولاي الرشيد، ويعضدكم ويشد أزركم وكذلك كل من ينتمي إلى أسرتكم الكريمة وكذلك الأمراء والشرفاء، كما نسأله تعالى أن يطيل في حياتكم ذخرا لشعبكم ولأمتكم ولدينكم، وأن يوفقكم دائما لما فيه صلاح البلاد والعباد، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، وهو نعم المولى ونعم المجيب.
والختم من مولانا أمير المؤمنين