التراث الإفريقي بين النص التاريخي والعمل البيبليوغرافي
ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “التراث الإسلامي الإفريقي بين الذاكرة والتاريخ” أيام 22-23-24 ربيع الأول 1443 هـ الموافق لـ 29-30-31 أكتوبر 2021 م في العاصمة النيجيرية أبوجا.
تقديم
إن الحديث عن موضوع “التراث الإفريقي بين النص التاريخي والعمل البيبليوغرافي” يقتضي الحديث عن ثلاثة محاور:
أولها التراث الإفريقي، هو غزير ومتنوع، وسوف أنتقي منه التراث المكتوب باللغة العربية، الذي يشكل ثروة هائلة سنعود للحديث عنها لاحقا.
أما المحور الثاني فيتعلق بالنصوص التاريخية. وهي بدورها تشكل تراثا ثقافيا متنوعا حسب اختلاف الحقب التاريخية من جهة، وحسب اختلاف أنواع النصوص، من نثر وشعر ومراسلات وتقاييد ورحلات إلى غير ذلك، ثم حسب اختلاف الأحداث والمجالات الجغرافية.
أما المحور الثالث: فيتعلق بالعمل البيبليوغرافي، فهو موضوع ذو أبعاد متعددة، تفرضه طبيعة الموضوع المتناول بالدراسة. وهو متنوع بتنوع المصادر ومشارب أصحابها. وتدخل في إطاره عدة أنواع يمكن تلخيصها في المصادر المحلية والمصادر الأجنبية. وهي بدورها تنقسم إلى عدة أنواع يمكن حصرها في المخطوط منها والمنشور.
ولنتمكن من تحديد الموضوع، وتناوله بشكل عملي وأكثر وضوحا، اخترنا أحد المصادر التاريخية التي تكتسي في تقديرنا أهمية بالغة، أولا للتعريف بالتراث الإفريقي، ثم لأهميته كمصدر أساسي لتاريخ إفريقيا، وهو إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور لصاحبه محمد بلو بن عثمان بن فودي. وقبل أن نبدأ بمعالجة الموضوع، نرى من الضروري الحديث عن التراث الإفريقي كمدخل للدراسة للتعريف بأصوله وبداياته.
-
أهمية التراث الإفريقي
من المعلوم أن التراث الإفريقي المكتوب بالحرف العربي يشكل ثروة هائلة ورصيدا معرفيا مهما يتطلب مجهودا جبارا لرصده مجاليا وتصنيفه موضوعاتيا وترتيبه زمنيا. ومن الصعب تحديد تاريخ دقيق لانتشار اللغة العربية في إفريقيا[1]، إلا أنه من الأكيد أن انتشار الإسلام قد واكبه انتشار اللغة العربية. ومن المعلوم أن الصحراء كانت مجالا مفتوحا قبل التدخل الأوربي ولم تكن حاجزا مانعا للتحركات البشرية. فقد كانت طرق القوافل من العوامل الأساسية التي مهدت ليس فقط للتبادل التجاري بل كانت محركا رئيسيا لعملية التواصل الثقافي، كما أن رحلات الحج ساهمت إلى حد كبير في نقل اللغة العربية والثقافة الإسلامية إلى القارة، فأصبحت لغة العلم والثقافة والمعاملات التجارية والإدارية، وأصبح الحرف العربي هو الذي تُكتب به أشهر اللغات الإفريقية، مثل تمازيغت والتماشق والهوسا والفلفلدي والسواحلية والولوف، وصار مستوى العلم والثقافة يقارن بباقي البلدان الشرق عربية بل يفوقها أحيانا[2]. وفي هذا الإطار لابد من التذكير بأنه شاع مؤخرا الاعتقاد بأن شعوب إفريقيا ليس لها تاريخ مكتوب قبل التدخل الأوربي[3]، وأن تاريخها شفهي على العموم. غير أن الحقيقة عكس ذلك، حيث إنه على امتداد عدة قرون، عرفت إفريقيا حضارات متعاقبة تركت بصماتها في التاريخ وفي الإنتاج الفكري والعلمي لا يمكن لأحد أن ينكره. وقد تزامنت الصلات الفكرية والدينية بين ضفتي الصحراء مع العلاقات التجارية وتبادل السفارات[4]، وعرفت إفريقيا حركة علمية انطلاقا من القرن العاشر الميلادي ازدهرت تدريجا لتصل أوجها في القرن السادس عشر الميلادي. وكانت الرحلات العلمية محركا أساسيا لعملية التواصل والتبادل الثقافي انبثق عنها رواج في الكتب والمعارف، فتعددت المراكز، وكثر أعلامها، وتنوعت اهتماماتها وازدهرت عملية التدوين وأصبح لدى المؤلفين والنساخ دراية ومعرفة بما يلزم من خطوط ورسم وتزيين وإخراج للنصوص. وتطورت مع ذلك معرفتهم بصناعة الأدوات والمعدات المستخدمة في هذا الفن من قلم وحبر وأوراق وأختام، كما أن “تجارة الكتب كانت تدر أرباحا تفوق سائر البضائع[5]” فكان هذا منطلقا لنهضة أدبية وثقافية في إفريقيا بمختلف المجالات. وظهرت المساجد الجامعة، كالمسجد الجامع بمدينة أغادس، ومساجد تنبكت وجاو وجني ومالي العاصمة، وصكتو، وكانو، وكاشنة وغيرها. وكانت على علاقة وطيدة بمراكز الشمال الإفريقي مثل القيروان والزيتونة بتونس والقرويين[6] بفاس والأزهر بمصر، وكذلك بالحجاز، وكان يتم فيها التوسع في الشروح والتفاصيل وتناقش فيها المسائل على مستوى أمهات الكتب من المؤلفات الكبيرة، وظهر عدد من المراكز التعليمية الرائدة ضمت مكتباتها الآلاف من العناوين والمجلدات محبسة لفائدة طلاب العلم والعلماء[7]. وتمحورت موضوعات التدريس بها حول القرآن والدراسات الإسلامية والقانون والأدب والفلسفة والمنطق واللغات واللسانيات والجغرافيا والتاريخ والفن[8]. واختصت أخرى في تعليم الطب والجراحة والفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات[9]، ويمنح فيها الطالب الإجازة في العلم الذي برز فيه بعد نهاية دراسته.
ولقد تخرج من هذه المراكز التعليمية مجموعة من العلماء، تركوا آثارا علمية بالغة الأهمية، التي تضم أعمالا علمية وأدبية هامة وقيمة، دلت على مدى تمكنهم وتضلعهم في مختلف أنواع العلوم.
وقد ذكر العلامة أحمد بابا التنبكتي (1556-1627م) أن لديه ألفا وستمائة مجلد، وقال: “أنا أقل عشيرتي كتبا”. ويذكر مترجموه أنه ألف ما يزيد على أربعين كتابا، وورد في تاريخ السودان للسعدي أن ملك مدينة جني خلال القرن السادس الهجري عندما أراد إشهار إسلامه جمع أربعة آلاف ومائتي عالم من العلماء حتى يشهدوا على إسلامه[10]. وذكر الوزير جنيد ابن محمد البخاري في ضبط الملتقطات أن ملك غوبر خلال القرن التاسع عشر الميلادي أرسل إلى جميع علماء مملكته لمناظرة الشيخ عثمان بن فودي، وفاق عددهم ألف عالم[11]. ووجود أهل العلم والعلماء بهذه الكثرة يدل على مدى انتشار العلم والمعرفة، ويضيق المجال في مقال علمي للتعريف بمجموع التراث المكتوب باللغة العربية، وعلى هذا الأساس، اقتصرنا على الإشارة لبعض ما اشتهر منه.
وتكتسي المخطوطات العربية المحلية المتعلقة بالقرن التاسع عشر، المتناثرة في عدد من المكتبات الإفريقية أو لدى الخواص، أهمية بالغة في إعادة قراءة تاريخ إفريقيا السياسي قبيل تدخل الاستعمار الأوربي. وبلغ مجال الثقافة والأدب ذروته في هذه الفترة من حيث التأليف والتدريس. ولعل أبرز المؤلفات خلال هذه الفترة ارتبطت بزعماء حركات الإصلاح، ببلاد الهوسا، فقد خلف قادة الجهاد ومعاصروهم كما هائلا من المؤلفات في مختلف المجالات سواء منها السياسية أو الاجتماعية أو الفقهية، تفوق ستمائة مخطوط، نذكر من هؤلاء القادة على سبيل المثال: عثمان بن فودي الذي كتب العديد من المؤلفات نثرا ونظما[12] تصل إلى أكثر من مائة مؤلف، باللغة العربية وباللغات المحلية: الهوسا والفلفلدي المكتوبة بالحرف العربي، ومن أشهرها: إحياء السنّة وإخماد البدعة والفرق بين الفرق ونجم الإخوان وبيان وجوب الهجرة وشفاء الغليل فيما أشكل من كلام شيخ شيوخنا جبريل[13]. ونـور الألباب[14]، وبلغت مؤلفات أخيه عبد الله نحو المائتين، وزادت مؤلفات ابنه محمد بلُّو على المئة، كما ألفت نانا أسماء ابنة عثمان سبعة وأربعون كتابا، وما تبقَّى من نصيب أبناء الشيوخ وأتباعهم[15]. وأكثر هذه الأعمال ما يزال مخطوطا[16].
وما زالت العديد من المؤسسات، والمكتبات الخاصة، تختزن آثار تلك الثروة الفكرية[17] التي عرفتها القارة الإفريقية على مدى قرون عديدة. فهي تختزن آلاف المخطوطات في مختلف المجالات، تحمل في طياتها معلومات هامة عن فترات زاهرة للحضارة الإفريقية، تكشف بعضها عن جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية. وحسب الباحث جورج بوهاس[18] المشرف على برنامج ” Vecmasفيكماس”[19] (تقويم ونشر المخطوطات العربية لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء) فإن مجموعة المخطوطات المتوفرة تقدَّر بـ 000 180 مجلد، 25 % منها فقط قد تم جرده، و10 % تمت فهرسته، في حين أن 40 % ما زال داخل حقائب من خشب أو حديد، فيما تحتفظ بعض العائلات بعدد من المخطوطات[20]. وتشهد هذه الكنوز على أن ثقافة إفريقيا ليس شفهية كما يدعي البعض.
-
حيز الاهتمام بالتراث الإفريقي المكتوب كمادة مصدرية
إن المتصفح لغزارة هذا التراث يدرك الأهمية البالغة التي يكتسيه، ليس فقط كمادة أدبية شعرية أو نثرية، وإنما كمادة أصلية لدراسة التاريخ والحضارة الإفريقية وتطوراتها الاجتماعية والتعريف بتنوع الهوية الإفريقية، إلا أنه من المؤسف أن نلاحظ أنه لم يتم إعطاؤه الأهمية التي تستحقه. فإلى غاية الثمانينات من القرن الماضي، بقي تدريس تاريخ إفريقيا يعتمد في غالبه على الكتابات الأجنبية[21].
وقد حظي التراث الإفريقي المكتوب باللغة العربية باهتمام متزايد من طرف الباحثين منذ منتصف القرن العشرين، وكان ذلك على إثر موجة التحرر التي شهدتها القارة الإفريقية. وكان الأفارقة أنفسهم أول من نادى بضرورة الاهتمام بتاريخ إفريقيا. وعلى هذا الأساس جاءت الدعوة لإعادة كتابة التاريخ الإفريقي ووضعه في إطاره المنهجي الصحيح بأقلام الأفارقة وانطلاقا من التراث الإفريقي، وهو مدون في غالبه بالحرف العربي، وتناوله وفق مقاربة جديدة، تعتمد على المصادر المحلية مع تحليل منهجي ونقدي للكتابات الأجنبية، والتي تذهب معظمها إلى أن الحضارة الإفريقية شفهية بالأساس، وأن إفريقيا كانت تعرف ركودا ثقافيا وفراغا سياسيا، الشيء الذي برر التدخل الأوربي.
وبرز الاهتمام في المغرب مثل باقي الدول الإفريقية، في هذه المرحلة بالتراث الإفريقي المخطوط، إذ اهتم مجموعة من العلماء منذ الستينات من القرن الماضي، بهذا التراث وعرفوا به، وأبرزوا أهميته. نذكر من بينهم على الخصوص رواد إحياء التراث المغربي العلامة محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني (1904-1990) والعلامة محمد المنوني (1915–1999). ونشر الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني بحكم إشرافه على قسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط مجموعة من الدراسات في هذا الشأن، نذكر من بينها: “مؤلفات علماء غرب إفريقيا في المكتبات المغربية”، “مجموعة مختارة من النصوص العربية المتعلقة بإفريقيا الموجودة في دور الوثائق المغربية”.
أما العلامة محمد المنوني فله في هذا الشأن إسهامات متعددة نذكر من بينها: “المصادر العربية لتاريخ المغرب”، وقد ضمها العديد من المصادر الغرب لإفريقية[22]. و”التكامل الثقافي بين المغرب وإفريقيا”، أورد في ملحقه بعض مصادر تاريخ إفريقيا في العصر الحديث[23]. و”العلاقات المغربية الإفريقية “[24]. و”المدرسة الكنتية بالمغرب” ضمن هذه الدراسة مؤلفات الكنتيين بالمغرب[25]. وأنجز دراسة في موضوع: المصادر العربية لتاريخ إفريقيا لفائدة اليونسكو. كما شهدت الجامعة المغربية خلال فترة الثمانينات إنجاز عدد من الأطاريح حول التراث الإفريقي المشترك وعدة مواضيع تهم السياسة والدين والاقتصاد والمجتمع.
ويهتم معهد الدراسات الإفريقية الذي تأسس بتعليمات خاصة من الملك الحسن الثاني (رحمه الله) سنة 1987، حسب نظامه الأساسي، بكل ما يتعلق بدراسة مختلف مظاهر الحضارات الإفريقية والتراث المغربي المشترك، واللغات، واللهجات الإفريقية. وأشرف على نشر عدد من نصوص، منها: إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور لمؤلفه محمد بلو بن عثمان بن فودي والذي أخذناه نموذجا لهذه الدراسة.
-
التراث الإفريقي بين النص التاريخي والعمل البيبليوغرافي من خلال إنفاق الميسور لمحمد بلو ابن عثمان بن فودي
تهدف هذه الدراسة إلى الإجابة على مجموعة من الإشكاليات، ترتبط بالتراث الإفريقي، وتطرحها طبيعة المصادر التاريخية لكتابة تاريخ إفريقيا، وذلك لكشف النقاب عن أهمية هذا التراث، والفهم المستنير لهذه النصوص، وخصائصها وسماتها والعوامل المساهمة في بلورتها. وقد اعتمدنا مؤلف إنفاق الميسور كأساس لهذه الدراسة لاستخراج ما يتضمنه من مادة أصلية، إذ لا يمكن للباحث في حقل التاريخ أن يتبين دلالات ما ورد فيها دون استحضار لتاريخ القارة الإفريقية في عمومياته، ولخصوصية ما عرفته المنطقة من تغيرات، ولا يتسنى له ذلك دون تتبع المصادر التي استقى منها معلوماته.
-
محمد بلو بن عثمان بن فودي
هو محمد بلو بن عثمان الملقب بـ(فودُيِ) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد غُرْطُ بن جُبّ بن محمد سَمْبُ بن أيوب بن ماسِران بن بوب بابَ بن موسى جُكُلُّ. فهو إذن سليل العلماء، ويلقّب والده بابن فودي وتعني الفقيه. كما لقب أيضا سركين مسلماني، أي أمير المؤمنين. ولد محمد بلو سنة 1195هـ/1780م، ونشأ في بيئة علم ودين. درس على يد والده عثمان بن فودي العلوم الدينية، وعلى عمه عبد الله العربية والبلاغة. شارك والده في تأسيس الجماعة والجهاد. وغالبا ما كان يقود الجيوش أثناء المعارك. وقد أتاحت له ثقافته أن يتبوأ مكانة كبرى في حركة الإصلاح، وكان واحدًا من أهم وزراء الدولة الصكتية، كما تولى حكم القسم الشرقي للدولة سنة 1809 وبويع للخلافة بعد موت أبيه سنة 1817. وقد أورد غداد بن ليم في مؤلفه الكشف والبيان عن أحوال محمد بلو[26] معلومات وافية عن تنقلات محمد بلو إلى جانب والده منذ صباه مع ذكر لغزواته، وأماكن إقامته وبعض كراماته ومؤلفاته وقصائده.
وقد عرف محمد بلو بغزارة تأليفه وتعمقه في الأمور السياسية[27] وله مؤلفات عدة، وغالبا ما كان يقوم في بدايته بتوضيح وتبسيط بعض كتب والده، ونذكر على سبيل المثال: الترجمان في كيفية وعظ الشيخ عثمان، الذي ألفه سنة 1802، وتمهيد العباد فيما زاد على عمدة العباد، ألفه سنة 1803. وعمدة العباد هو مؤلف للشيخ عثمان. ثم كف الإخوان عن اتباع خطوات الشيطان. وكتاب مفتاح السداد في أقسام هذه البلاد[28] 1810، وهو يعطي صورة واضحة عن الأوضاع الاجتماعية لكل المجموعات التي تعيش بالمنطقة. وتنبيه الإخوان على أحكام الزمان[29]. والغيث الوبل في سيرة الإمام العدل[30]. وأصول السياسة وكيفية المخلص من الرياسة[31]. وكلاهما يتحدثان عن التنظيمات السياسية كما وضعها زعماء حركة عثمان بن فودي. وتاريخ فلاتة وغيرها[32]. ويذكر محمد بلو أن مؤلفه هذا بمثابة حاشية على مقدمة عبد الله بن فودي في مؤلفه إيداع النسوخ مع التنبيه على أشياء ذكرها عبد الله والصوابُ خلافُها وذلك فيما يخص أصل قبيلة الفولانيين. ثم ينهي مؤلفه بذكر الشيوخ الذي أخذ عنهم. أما كتاب قدح الزناد في أمر هذا الجهاد[33]. فيورد فيه ترجمة لوالده في البداية ثم ينتقل إلى وصف أحوال بلاد حَوْسَ، وسياسة أمرائها. ويشير فيه إلى هجرة ابن فودي وجماعته، ثم بيعته. والجهاد ضد أهل حَوْسَ وبرنو. وله أيضا كتاب النقول النواطق في شأن البربر والتوارق[34]، يصف فيه أحوالهم. و له من الإنتاج الشعري: العديد من قصائد أورد بعضها في كتاب: «إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور» وأخرى متفرقة بين مطبوع ومخطوط، منها شعر الحماسة والمديح، وتخميس «بانت سعاد لكعب بن زهير»، و«بردة البوصيري»، كما ترك عدد من الرسائل أورد بعضها كذلك في كتابه إنفاق الميسور، منها: رسائل سلطان المغرب المولى سليمان[35] الأولى مؤرخة بأواسط جمادى الثانية 1225 هـ/1810-1811م والثانية مؤرخة بالخمس والعشرين من نفس الشهر والسنة. ورسائل إلى الشيخ الكانمي. وهكذا تميز محمد بلو بتنوع إنتاجه الفكري في مختلف المجالات فكتب في النحو «علم الجمل النحوية»، وفي السياسة: «أصول السياسة» و«مسائل الجهاد»، وفي التصوف «مرآة القلب في معرفة الرب» و«الكواكب الدرية في مصطلحات الصوفية»، وفي الطب: القول المنثور في أدوية الباسور، وتنبيه الإخوان على أدوية الديدان، تلخيص مصوغ اللجين في أمراض العين[36]. وقد تنوعت مؤلفات محمد بلو بتنوع مشاغله، فجاءت معبرة عن شخصيته ومسؤولياته واهتماماته وبيئته. ولعل أهم ما ألفه محمد بلو في تقديرنا هو إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور موضوع دراستنا هاته.
-
التعريف بإنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور لمحمد بلو
ا. منهجه في التأليف
يعتبر كتاب إنفاق الميسور من أهم ما كتبه محمد بلو (ألفه سنة 1812)، وهو تأريخ لبلاد التكرور. ويبدو أن محمد بلو حرص في العنوان على احترام أسلوب السجع الذي كان شائعا في عصره، كما حرص منذ البداية من خلال عبارة “إنفاق الميسور” على إعلانه كتابة ما تيسر له من معلومات بحكم مسؤولياته السياسية. وقد أكد ذلك في نهاية المخطوط، بعبارة: “قد انتهى بحمد الله ما عملنا عليه في هذا الكتاب، من قصد الإشارة إلى تاريخ بلاد التكرور، وذكرنا ما تيسر، وأعرضنا عما تعسر[37].
ب. تحديد مجال الدراسة
حرص محمد بلو على التعريف بالمجال المدروس، “بلاد التكرور[38]” انطلاقا من عدد من المصادر، مثل تاريخ ابن خلدون والفيروزبادي قبل أن يحدده بقوله: “لكن القصد تاريخ هذا القطر كله من بلد فور إلى بلد فوت وما وراءها وما والاها”[39]. ويقصد بها دار فور التي تقع شرق جمهورية السودان الحالية، وبلاد فوتَ غربا، التي تقع على ضفتي نهر السينغال وما والاها من المجالات المحاذية لها. وفي هذا الإطار يضع جميع الأقاليم الموجودة في المنطقة التي شملتها حركة والده خلال القرن التاسع عشر. ويذكر أن أول هذه البلاد من جهة الشرق بلد فور، ويليها من جهة الغرب بلد وَدَّاي وبلد باغِرْمِ. وأما ما حاذى هذه البلاد من الشمال، فقفار معاطيش، لا يعمرها إلا الرعاة في فصل الربيع[40]. ويليها من جهة المغرب بلد برنُو الذي يليه من جهة الشمال بلد آهير، ويلي هذا البلد من جهة اليمين وغربي برنو بلد حَوْسَ، وهو سبعة أقاليم لسانهم واحد،[41] ويليها من جهة الشمال بلد سُنْغَي[42] ويلي سُنْغَي من جهة الغرب، وبُرْغُ من جهة الشمال بلد مَلِي.[43]
وهكذا يتتبع كل الأقاليم التي يشملها المجال المذكور، فيحدد كل إقليم ويذكر أصل سكانه و يوضح حدوده وموارده الطبيعية، مع التعريف بعلمائه وأهم الأحداث التي شهدها[44]. وتبعا لهذا يمكن القول أن محمد بلو يحدد مجال التكرور في منطقة شاسعة شملت أهم الكيانات السياسية التي عرفتها إفريقيا جنوب الصحراء خلال القرن التاسع عشر، الممتدة من السودان شرقا حتى حوض السينغال غربا. كما يصف بلاد حَوْسَ وصفا دقيقا، سواء من حيث المعطيات الطبيعية، والتركيبة الاجتماعية، والأحداث التاريخية قبل الجهاد، والتعريف بشخصية والده وحركته الإصلاحية وعلاقاته مع أمراء حَوْسَ، فضلا عن علاقاته الدبلوماسية مع باقي الأقطار، وأهمها المملكة المغربية.
ويتضح بهذا أن محمد بلو اتبع منهجية محددة في تحريره لكتابه، فقد أخضع معلوماته لعدد من المحاور اختارها بعناية فائقة. كما أن أسلوبه في الكتابة يدل على رصيده الثقافي المتنوع، فهو ينتقي عباراته ويستعمل لغة عربية أصيلة تستدعي الرجوع أحيانا إلى قواميس اللغة العربية، كما يستعمل عبارات متداولة في كتب الفقه، ويلجأ أحيانا إلى استعمال ألفاظ مستقاة من القرآن الكريم.
- الأهمية التاريخية للكتاب
يعتبر كتاب إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، ذا قيمة تاريخية بالغة الأهمية. فهو مصدر مهم لتاريخ إفريقيا خلال القرن التاسع عشر، ومتمم للمصادر العربية لتاريخ إفريقيا السابقة، مثل تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس وذكر وقائع التكرور وعظائم الأمور، للقاضي محمود كعت التنبكتي، وما دونه عبد الرحمان السعدي في تاريخ السودان.
فجاء إنفاق الميسور، مصورًا لواقع حضاري متجدد طعمه الموروث الثقافي المتأصل والمتجذر في المنطقة منذ قرون عديدة. كما مكنت محمد بلو ثقافته الواسعة من أن ينهل من معارف سابقيه من الشيوخ والعلماء من أبناء عشيرته. فهو يعدُّ من أهمِّ المصادر وأكثرها دقَّة، حول تاريخ إفريقيا.
ومن أهميَّة هذا المصدر أنَّ مؤلِّفه من أبناء هذه المنطقة، وعايَش وكثيرا من أفراد أسرته قبله تاريخ المنطقة؛ لأنَّه من أسرة دينيَّة وعلميَّة، كان أفرادها من أبرز زعماء الإصلاح في إفريقيا جنوب الصحراء. فتميزت كتاباته بذكر ووصف تدوين أحداث تاريخية، كانت لها أثار بالغة الأهمية في تغيير مجرى التاريخ الإفريقي برمته، فجاء هذا المصدر بمثابة سجل يوثق للتحولات السياسية، من جهة، ثم مرآة تعكس قمة الوعي السياسي والنبوغ العلمي للإنسان الإفريقي.
- مصادر إنفاق الميسور
اعتمد محمد بلو في تأليفه لإنفاق الميسور على مصادر متعددة، بالإضافة إلى تدوينه للأحداث التي عايشها. فقد سجل كل ما عاينه من مظاهر اجتماعية واقتصادية وسياسية. وكثيرا ما كان يستقي معلوماته عن بلاد التكرور من أفواه معاصريه من الشيوخ، فعند حديثه عن ممالك حَوسَ مثلا يقول: “وحدثني الأخ أمير المؤمنين محمد الباقري بن السلطان محمد العادل أن كاشنة وكانو وزكزك ودور ورنو كلهم من ولد باوَ (BAWA)، أو كقوله “من ذلك ما رواه الثقات عن أم هانئ الصالحة الولية الفولانية أنها قالت. ..”.
ولم يترك المؤلف جانبا إلا ودقق في تفاصيله. ولعل ما يلفت النظر هو سجالاته الكلامية مع الأمين الكانمي، وكذلك الرسائل والقصائد التي أوردها في كتابه. إذ يتضح جليا من خلال ما أورده، اطلاعه الواسع، وطول باعه سواء في المجالات الأدبية أو السياسية أو الدينية. فهو لا يكاد يورد أي معلومة دون الإدلاء بمصدرها. ولم يُفْتِ بأي أمر إلا مستندا إلى حجج وبراهين قاطعة من مصادر موثوقة.
فخلال حواره مع الكانمي كثيرا ما كان يرجع إلى أسئلة الأسكيا وأجوبة المغيلي، ونوازل البرزلي، وأبي حامد الغزالي وجلال الدين السيوطي.
ويتضح من خلال الاطلاع على الكتاب أن محمد بلو يمتلك رصيدا فكريا بالغ الأهمية. فهو لا يتوانى عن ذكر مصادره في كل حين. كقوله مثلا: “رأيت لمجد الدين الفيروزبادي في القاموس، أو قال ابن خلدون في التاريخ الكبير، وذكر الحسن اليوسي[45] في المحاضرات”.
- إنفاق الميسور بين النص التاريخي والعمل البيبليوغرافي
إن المتصفح لهذا المؤلَف يدرك الأهمية البالغة التي يكتسيه، ليس فقط كمادة مصدرية، بل لما يتضمنه أيضا من مصادر متنوعة تساهم في إغناء العمل البيبليوغرافي الذي يعتبر أساسا لدراسة تاريخ وحضارة القارة الإفريقية، ومختلف التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدتها. إلا أنه من المؤسف أن نلاحظ، أنه لم يتم إعطاؤه الاهتمام التي يستحقه. فالمتصفح لعدد المصادر التي اعتمدها محمد بلو في كتابة مؤلفه هذا يدرك مدى أهميتها في العمل البيبليوغرافي. ولتوضيح الصورة أكثر، قمنا بعملية إحصائية لمجموع المصادر التي اعتمدها محمد بلو في إنفاق الميسور، وترتيبها حسب انتماءات مؤلفيها على الشكل التالي:
جدول خاص بمصادر إنفاق الميسور وانتماءات أصحابها
عنوان المصدر | المؤلف | البلد | العدد | |
1. | غاية الإجادة في مساوات الفاعل للمبتدإ في شرط الإفادة | أحمد بابا | 1. تنبكت | 11 |
2. | تنبيه الواقف | أحمد بابا | 2. تنبكت | |
3. | جلب النعمة ودفع النقمة | أحمد بابا | 3. تنبكت | |
4. | مطلب المرأب في أعظم أسماء الرب | أحمد بابا | 4. تنبكت | |
5. | النكت الوفية في شرح الألفية | أحمد بابا | 5. تنبكت | |
6. | النكت الزكية | أحمد بابا | 6. تنبكت | |
7. | نيل الابتهاج | أحمد بابا | 7. تنبكت | |
8. | غاية الأمل في تفضيل النية على العمل | أحمد بابا | 8. تنبكت | |
9. | كفاية المحتاج في معرفة من ليس في الديباج | أحمد بابا 3 مرات | 9. تنبكت | |
10. | التحديث والتأنيس في الاحتجاج بابن إدريس | أحمد بابا | 10. تنبكت | |
11. | نيل الأمل في تفضل النية عن العمل | أحمد بابا | 11. تنبكت | |
12. | ||||
13. | إحياء السنة وإخماد البدعة | عثمان بن فودي | 12. بلاد الهوسا | 41 |
14. | أسانيد الضعيف | عثمان بن فودي | 13. بلاد الهوسا | |
15. | أسانيد الفقير | عثمان بن فودي | 14. بلاد الهوسا | |
16. | أصول الولاية | عثمان بن فودي | 15. بلاد الهوسا | |
17. | دعوة العبادة إلى كتاب الله | عثمان بن فودي | 16. بلاد الهوسا | |
18. | ترغيب عباد الله في حفظ علوم الدين | عثمان بن فودي | 17. بلاد الهوسا | |
19. | تلخيص كتاب الحارث المحاسبي | عثمان بن فودي | 18. بلاد الهوسا | |
20. | تمييز المسلمين من الكافرين | عثمان بن فودي | 19. بلاد الهوسا | |
21. | السلاسل الذهبية للسادات الصوفية | عثمان بن فودي | 20. بلاد الهوسا | |
22. | سوق الصادقين | عثمان بن فودي | 21. بلاد الهوسا | |
23. | شفاء الغليل في كل ما أشكل من كلام شيخنا جبريل | عثمان بن فودي | 22. بلاد الهوسا | |
24. | علوم المعاملة | عثمان بن فودي | 23. بلاد الهوسا | |
25. | عمدة البيان | عثمان بن فودي | 24. بلاد الهوسا | |
26. | عمدة العباد | عثمان بن فودي | 25. بلاد الهوسا | |
27. | عمدة العلماء | عثمان بن فودي | 26. بلاد الهوسا | |
28. | عمدة المتعبدين والتصوفين | عثمان بن فودي | 27. بلاد الهوسا | |
29. | كتاب التصوف | عثمان بن فودي | 28. بلاد الهوسا | |
30. | كتاب رجوع الشيخ السنوسي عن التشديد على التقليد | عثمان بن فودي | 29. بلاد الهوسا | |
31. | كف الطالبين عن تكفير عوام المسلمين | عثمان بن فودي | 30. بلاد الهوسا | |
32. | مرآة الطلاب | عثمان بن فودي | 31. بلاد الهوسا | |
33. | المسائل المهمة | عثمان بن فودي | 32. بلاد الهوسا | |
34. | نصائح الأمة المحمدية | عثمان بن فودي | 33. بلاد الهوسا | |
35. | نصيحة أهل الزمان | عثمان بن فودي | 34. بلاد الهوسا | |
36. | حصن الأفهام | عثمان بن فودي | 35. بلاد الهوسا | |
37. | نور الألباب | عثمان بن فودي | 36. بلاد الهوسا | |
38. | تلخيص كتاب الحارث المحاسبي | عثمان بن فودي | 37. بلاد الهوسا | |
39. | كتاب الجهاد | عثمان بن فودي | 38. بلاد الهوسا | |
40. | أزهار الربا في أخبار يوربا | محمد بن مسنة الكشناوي | 39. كاشنة | |
41. | البزوغ الشمسية في شرح العشماوية | محمد بن مسنة الكشناوي | 40. كاشنة | |
42. | النفحة العنبرية في شرح العشرينية | محمد بن مسنة الكشناوي | 41. كاشنة | |
بلاد المغرب | ||||
43. | النصيحة الكافية | المختار الكنتي | 1. شنقيط | |
44. | مقدمة التاجوري | التاجوري: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد المغربي | 2. المغرب | |
45. | مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن | لأبي حامد الفاسي | 3. المغرب | |
46. | شفاء عياض (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) | عياض بن موسى السبتي | 4. المغرب | |
47. | صغرى السنوسي أم البراهين أو العقيدة السنوسية الصغرى | محمد بن يوسف السنوسي | 5. المغرب | |
48. | عشرينيات الفزازي الغرناطي المغربي | أبو زيد عبدُ الرحمن الفازازي القرطبي المغربي | 6. المغرب | |
49. | المدخل لابن الحاج | محمد العبدري المعروف بابن الحاج | 7. المغرب | |
50. | النوازل: البرزلي | أَبُو الْقسم بن مُحَمَّد البرزلي | 8. المغرب | |
51. | المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب | أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي التلمساني الفاسي | 9. التلمساني الفاسي | |
52. | أجوبة المغيلي لأسئلة الأسكيا: 2 | محمد بن عبد الكريم المغيلي | 10. تلمسان | |
53. | الجواب المحدود عن أسئلة القاضي بن محمود | المغيلي | 11. تلمسان | |
54. | مصياح الأرواح في أصول الفلاح 2 | محمد بن عبد الكريم المغيلي | 12. تلمسان | |
55. | القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية | محمد بن جزي الكلبي الغرناطي | 13. غرناطة | |
56. | كتاب المنتقى شرح الموطأ | الإمام الباجي | 14. الأندلس | |
57. | بهجة النفوس | ابن أبي جمرة الأندلسي | 15. الأندلس | |
58. | تاريخ ابن خلدون | عبد الرحمان بن خلدون | 16. القيروان | |
59. | مدونة سحنون | عبد السلام بن سعيد سحنون | 17. القيروان | |
60. | أصول السبكي | السبكي | 1. مصر | 07 |
61. | معجم السيوطي: مصر | جلال الدين السيوطي | 2. مصر | |
62. | الحكم العطائية | أحمد بن عطاء السكندري | 3. مصر | |
63. | نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض | شهاب الدين الخفاجي | 4. مصر | |
64. | الزواجر عن اقتراف الكبائر | محمد بن حجر الهيتمي | 5. مصر | |
65. | لواقح الأنوار: 2 | عبد الوهاب الشعراني | 6. مصر | |
66. | مختصر خليل | الشَّيخ خَلِيل بن إسحاق الجندي | 7. مصر | |
آسيا | ||||
67. | القاموس المحيط | مجد الدين الفيروزآبادي | 1. فارس | 06 |
68. | إحياء علوم الدين | أبو حامد الغزالي | 2. خراسان | |
69. | سنن الترمذي | أبو عيسى الترمذي | 3. (أوزبكستان) | |
70. | صحيح البخاري | حمد بن إسماعيل البخاري | 4. بخارى – (أوزبكستان) | |
71. | صحيح مسلم | أبو الحسين مسلم النيسابوري | 5. نيسابور – إيران | |
72. | الموطأ | مالك بن أنس | 6. المدينة المنورة |
يبدو من خلال هذه العملية الإحصائية أن محمد بلو اعتمد اثنين وسبعين (72) مصدرا مقسمة على الشكل الآتي:
بلد الانتماء | عدد المصادر |
1. بلاد الهوسا | 42 |
2. بلاد المغرب والأندلس | 17 |
3. مصر | 07 |
4. آسيا | 06 |
يتبين إذن من خلال الجدول أعلاه أن محمد بلو اعتمد في المعلومات الواردة في مؤلفه على مصادر محلية بالدرجة الأولى 42 من أصل 72 من داخل بلاد حَوسَ، وتليها مصادر بلاد المغرب، ثم مصر وآسيا.
إن قراءة متأنية لمؤلف إنفاق الميسور ومصادره، تجعلنا نتوصل إلى أن الكتاب منتوج إفريقي بالدرجة الأولى، ذلك أن محمد بلو لم يعتمد أبدا، وفي أي مسألة تطرق إليها على سرد مطول من مؤلف واحد، بل يقتبس من مختلف المؤلفات المحلية بالدرجة الأولى، كمؤلفات المغيلي وأحمد باب التنبكتي وابن مسنة الكشناوي وعثمان بن فودي والمختار الكنتي. كما يبدو اطلاعه الواسع على علماء المغرب والأندلس كالحسن اليوسي، وعياض وابن الحاج وغيرهم، وغالبا ما كان يرجع في المسائل الفقهية إلى أمهات الكتب المعروفة عند علماء الإسلام، كأنس بن مالك، والترمذي والبخاري. ويقدم محمد بلو، نموذجا ممتازا للمصادر العربية لتاريخ إفريقيا، وهو لا يقتصر على استخدام أسلوب محدد قوامه المصطلحات الفقهية والمفاهيم المجردة، بل يخضع لتوجيه عام يسير عليه طبقا لمراحل محددة، مرتبطة بالأحداث التاريخية التي عرفتها المنطقة.
من هذا المنطلق، تكمن أهمية جرد مصادر التراث الإفريقي في العملية البيبليوغرافية، إذ تحيلنا هي بدورها على تراث محلي هام، له أهمية بالغة في دراسة تاريخ مجتمعات القارة الإفريقية بصفة عامة، وبلاد حَوسَ على وجه الخصوص.
والموضوعية العلمية لكتابة التاريخ، تقتضي الرجوع بالدرجة الأولى للمصادر المحلية على اعتبار أن أصحابها، أقرب وأدرى بالأحداث التي يتم تدوينها. ومن المؤسف أن نرى أن أغلب الدراسات الحالية تعتمد على المصادر الأجنبية كمادة أساسية، على اعتبار سهولة الوصول إليها، فاهتمام الأوربيين بالكتابة عن إفريقيا قد بدأ منذ القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة ما دونه الرحالة والمستكشفون من الأوربيين الذين كان لهم دور في الإدارة وسخرت كتاباتهم لخدمة أهداف المستعمر ولتبرير وجوده في القارة الإفريقية. وإضفاء صفة الشرعية على السياسة الاستعمارية.
خاتمة
وعلى هذا الأساس، تتضح ضرورة التعريف بالتراث الإفريقي وتحفيز الطاقات الحية للتعريف به والحفاظ عليه، والموروث الضخم الذي يشكل جزءا هاما من الهوية الإفريقية، فإلى زمن قريب، بقي تدريس تاريخ إفريقيا يعتمد في غالبه على الكتابات الأجنبية، وحددت محاوره حول العمليات الاستعمارية دون إعطاء الأهمية لتاريخ إفريقيا قبل التدخل الأوربي.
وقد تبين منذ عدة سنوات ضرورة إعادة النظر في هيكلة محاور تدريس تاريخ إفريقيا في جميع مستويات الأسلاك التعليمية، وأهمية تناولها وفق مقاربة جديدة، تنفض الغبار عن التراث الإفريقي المشترك، والهوية الإفريقية الحقيقية، وتعتمد على تحليل نقدي للكتابات الأجنبية، التي تذهب معظمها إلى أن إفريقيا كانت تعرف ركودا ثقافيا وفراغا سياسيا، الشيء الذي برر التدخل الأوربي. لقد أصبح من الضروري وضع محاور متكاملة حول التاريخ والحضارة والثقافة الإفريقية، تعتمد بالأساس على الكتابات المحلية، وهي في مجملها مدونة باللغة العربية أو باللغات المحلية المكتوبة بالحرف العربي.
ويبقى دور معظم الدول الإفريقية قاصرا بصفة عامة في هذا المجال بالمقارنة مع المجهودات التي تقوم بها بعض المنظمات والمعاهد الدولية لنشر ثقافتها والحفاظ عليها. لقد غدا من الضروري تثمين هذا التراث. فالاهتمام به يعتبر جزءا لا يتجزأ من حيز الاهتمام بعملية التطور، بما في ذلك التطور الاقتصادي. ولبناء المستقبل، لابد أن نشعر بأننا ورثة الماضي، ومن هنا تأتي ضرورة الاهتمام بالتراث فهو أساس البناء، ويمثل رأسمالا روحيا يجب أن يكون مصدر اعتزاز بالنسبة للأجيال الصاعدة.
ومهما يكن الأمر، بالنسبة للوضع المؤلم الذي تعرفه بعض المناطق، وما يشكل من خطر تدمير للتراث المخطوط، فإن حمايته أصبحت أمرًا ملحًا لإنقاذ هذا الموروث المشترك.
الهوامش
[1] – أحمد قاسم أحمد، الهجرات العربية إلى إفريقيا، وأثرها في نشر الثقافة العربية جنوب الصحراء، مجلة دراسات إفريقية
[2] بهيجة الشاذلي: الإنتاج الأدبي لإفريقيا جنوب الصحراء في الجامعات المغربية: الأدب الإفريقي المكتوب باللغة العربية، عرض ألقي في المعرض الدولي للكتاب، وزارة الثقافة، فبراير 2014.
[3]-Georg Wilhem Friedrich Hegel, La raison dans l´histoire, Éditions 10/18, Paris 1979, p. 251 et 269. Joseph Ki-Zerbo, Histoire de l’Afrique Noire d’hier à demain, Paris. Hatier. 1978. Introduction, p., xxxi, Makhily Gassama (sous la direction de),L´Afrique répond a Sarkozy, contre le discours de Dakar, , Éditions Philippe Rey, Paris 2008.
[4] – أحمد قاسم أحمد، الهجرات العربية إلى إفريقيا، مرجع سابق.
[5] – الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بليون إفريقيا، وصف إفريقيا، الطبعة الثانية، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة، ص167.
[6] – جامعة القرويين بمدينة فاس وهي أقدم جامعة أنشئت في العالم على الإطلاق، حسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية، قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245 هـ/859م وكانت مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني قرابة الألف سنة. درس فيها سيلفستر الثاني غربيرت دورياك، الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، وكان ممن نبغوا في علوم كثيرة منها اللغة العربية والطب و النحو، ابن خلدون المؤرخ، ولسان الدين بن الخطيب، وابن عربي الحكيم وابن مرزوق. وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين فهي أقدم جامعة ظهرت قبل جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنوات. وجامع الأزهر بناه جوهر المغربي سنة 360هـ، ولم يتخذ معناه الجامعي إلا سنة547هـ، فالقرويين أقدم من الأزهر بـ 125 عام، وأقدم من الأزهر الجامعة بـ302 عام. وقد ذكر “دلفان” في كتابه “حول فاس وجامعتها والتعليم العالي بها” المطبوع سنة 1889، عبد الهادي التازي، مجلة الفرقان، عدد 54 سنة 2006.
DELPHIN, Georges, Fès, son université et l’enseignement supérieur musulman, Paris ,1889. p. 95.
[7] – منصور فاي، الملامح الحضارية والعلمية للسودان الغربي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي، حوليات الجامعة الإسلامية بالنيجر، العدد الثالث،1997 ، ص 23- 30؛ تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 62 ؛ تاريخ الفتاش، محمود كعت، ص 122.
[8] – كان الحصول على أعلى درجة علمية (تعادل درجة الدكتوراه في هذه الأيام) يستغرق نحو عشر سنين، والجامعات تخرج أساتذة وعلماء على مستوى عالمي، وكانوا يعرفون بما يؤلفون من كتب، وكانوا يسمون أطروحة الدكتوراه “رسالة”، وما زالت هذه التسمية مستعملة في كثير من الجامعات العربية. وفي أثناء احتفالات التخرج كان الطلبة يعتمرون عمامة تقليدية ترمز إلى الحكمة والمعرفة، ويرتدون عباءة (رداء جامعي) ترمز إلى السلوك الأخلاقي العالي اقتداءً بالشيخ، وهؤلاء الخريجون اشتهروا بسعة معرفتهم ولذا كانت جامعات العالم الإسلامي ترغب بهم أساتذة فيها. (نقلاً عن كتاب: ألف اختراع واختراع).
[9] –DJEBBAR ahmed, les sciences arabes en AFRIQUE : mathématiques et astronomie ixe – xixe siècles, edition, grandvaux , janvier 2012.
[10] – محمد مرحبا الإمام، الثمرة الجنية في أساس تاريخ أعيان السودان الغربية، مخطوط، رقم 212، معهد البحوث والعلوم الإنسانية، قسم المخطوطات العربية والعجمية، نيامي النيجر، ورقة11 . جاء فيه على لسان القاضي أبو بكر بغيغ: “هاكم كتاب ابن عطاء جاءنا به من مصر أمير المؤمنين الحاج محمد أسكيا، وأمرنا بنسخه ثلاثمائة نسخة … ويليه شرح ترجمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني الذي كتبه بيده الأمير أسكيا محمد داود، وهذا أعظم الأمثال لحرصكم على العلم بالإقبال). انظر جودات محمد ناصر، أثر الوقف الخيري بإفريقيا جنوب الصحراء في النهضة العلمية أعمال مؤتمر أثر الوقف الإسلامي في النهضة العلمية.
[11] – مجمد بلو، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، تحقيق بهيجة الشاذلي، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1996.
[12] – للمزيد من التفاصيل حول هذه المؤلفات، انظر: بهيجة الشاذلي، الإسلام والدولة في إفريقيا جنوب الصحراء، الفكر السياسي عند عثمان بن فودي، منشورات مركز الدراسات الصحراوية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2016.
[13] – ابن فودي (عثمان)، شفاء الغليل في ما أشكل من كلام شيخ شيوخنا جبريل، نشره أحمد بدوي مع تقديم له في مقال تحت عنوان : كتاب شفاء الغليل في العلاقة بين عثمان وجبريل، مجلة المنتقى، باريس، 1975.
[14] – ابن فودي (عثمان)، نور الألباب، ترجمة وتعليق إسماعيل هامت، منشور ب :
Revue Africaine, t. XLI, n- 227 (1er trimestre 1897), p. 297 à 6317.
كما نشر النص كاملا في نفس المجلة : t. XLII, n- 228 (1er trimestre 1898), p. 58-69.
[15]– جودات محمد ناصر، أثر الوقف الخيري بإفريقيا جنوب الصحراء في النهضة العلمية أعمال مؤتمر أثر الوقف الإسلامي في النهضة العلمية (Internet)
[16] . فهرسة المخطوطات العربية – Bookman Publishers, Ibadan-Nigeria, Nigerian Edition, 1999.
[17]– Jean-Michel Djian, Les manuscrits de Tombouctou, Editions : JC Lattès, 2012
[18]– Bohas, Georges, Saguer Abderrahim, Salvaing, Bernard, L’inspiration de L’éternel, éloge de Shékou Amadou, fondateur de l’empire du Macina, édition: Grandvaux , 2011
[19] – Georges Bohas (professeur d’arabe à l’ENS Lyon et initiateur du programme Vecmas [Valorisation et édition critique des manuscrits arabes subsahariens]),
[20]– Jean-Michel Djian, Les manuscrits de Tombouctou,J.-C. Lattès, 2012 p. 64.
[21]– بهيجة الشاذلي: الإنتاج الأدبي لإفريقيا جنوب الصحراء في الجامعات المغربية: الأدب الإفريقي المكتوب باللغة العربية، مرجع سابق.
[22] – محمد المنوني، “المصادر العربية لتاريخ المغرب”، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1983 – 1989.
[23] – مجلة دعوة الحق، عدد 269، 1988.
[24] – مجلة كلية الآداب بالرباط، العدد 15، (89-1990).
[25] – ضمن أعمال ندوة العلاقات بين المغرب وإفريقيا، الرباط، 1992.
[26] – مخطوطة الجامعة الإسلامية بالنيجر، رقم 485/22/2.
[27] – للمزيد من المعلومات حول محمد بلو، مع عرض شامل لمؤلفاته والخزانات التي توجد بها، أنظر مقدمة إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، مصدر سابق.
[28] – بلو (محمد)، مفتاح السداد في أقسام هذه البلاد، طبعه ونشره الحاج أبو بكر آلت، ومحمد البخاري، باهتمام الحاج محمد طن اغي، صكتو (د.ت) وهي نسخة مخطوطة مصورة. وتوجد نسخة من المخطوط في مركز الوثائق بإبادن بنيجريا، رقم: 295. وأخرى بمكتبة جامعة إبادان بنيجريا،رقم: 386-212. وبمكتبة كانو بنيجريا، رقم: 99 وبمركز التاريخ بولاية صكتو بنيجريا برقم 766-422-145. وبمكتبة جامعة نيامي بالنيجر، رقم: 579-247
[29] – توجد نسخة منه بمركز الوثائق بإبادان بنيجيريا، رقم : 201، وأخرى بلايدن، رقم 91889.
[30] – هناك نسخة منه بمركز الوثائق بجامعة إبادان، رقم : 391 وبالخزانة الجامعية بكنو، رقم : 81. وبمركز التاريخ بصكتو، رقم : 337. وبمركز أحمد باب بتنبكت، رقم : 28. وبمركز البحوث وجمع المخطوطات بجامعة بايرو بكنو، مجلد 4/م، وملف 553. وقد حققه عمر بلو لنيل رسالة ماجستير من جامعة بايرو بكنو، نيجريا، سنة 1977. وقد اعتمدنا على النسخة المحققة.
[31] – توجد نسخة مخطوطة بدار الوثائق بإبادان، رقم : 153/142 وبمكتبة جامعة إبادان، رقم : 602 M 22-525. وبدار الوثائق بكدونا وبجامعة كنو تحت رقم 415، وبمركز البحوث وجمع المخطوطات بجامعة بايرو بنيجريا، رقم : 6/م و 550م. وبجامعة نيامي بالنيجر، رقم : 1414.
[32] – مخطوطة I.F.A.N. داكار، Fragment n-22
[33] – مخطوط الخزانة الوطنية بباريس رقم : .5576 وتوجد نسخة منه بمكتبة البحوث، جامعة بايرو، كنو، رقم : 17م.
[34] – مخطوط خاص. وتوجد نسخة منه بمكتبة الوزير جنيد، صكتو، رقم : م. ج. 555/8/63.
[35] – محمد بلو، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، تحقيق بهيجة الشاذلي، مصدر سابق. ص. 292.
[36] للمزيد من المعلومات حول مؤلفات محمد بلو وتصنيفها والخزانات الموجودة بها، أنظر مقدمة تحيق إنفاق الميسور، من ص. 17 إلى ص. 30.
[37] – المصدر السابق، ص. 332.
[38] – أطلق المؤرخون العرب لفظة تكرور على بلاد السودان، في حين أن مملكة تكرور هي مملكة صغيرة نشأت على ضفتي نهر السينغال حوالي القرن الحادي عشر الميلادي. ولعل إطلاق العرب اسم هذه المملكة على مجموع بلاد السودان راجع إلى احتكاكهم بهؤلاء أكثر من غيرهم، إما عن طريق التجارة، أو عن طريق الحج، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أهل تكرور عرفوا الإسلام قبل غيرهم، منذ العهد المرابطي.
[39] – بلو (محمد)، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، ص. 47.
[40] – المصدر السابق، ص. .49
[41] – نفسه، ص. .69
[42] – نفسه، ص. .311
[43] – نفسه، ص. .329
[44] – نفسه.
[45]– اليوسي أبو علي الحسن بن مسعود، ولد سنة 1040هـ/30-1631م) بأيت يوسي وهي قبيلة أمازيغية توجد جنوب مدينة فاس. توفي 1102هـ/1691م. للمزيد من المعلومات، انظر مجلة المناهل، العدد 15 خاص بشخصية الحسن اليوسي.