التصوف السني بإفريقيا وأثره في التربية السلوكية
ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد حمدا دائما مع خلودك، ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدا لا يزيد قائلها إلا رضاك، ولك الحمد حمدا ملياًّ عند كل طرفة عين وتنفس نفس بعدد كل معلوم لك آمين.
والصلاة والسلام على جملة الجمال وذروة الكمال أبي القاسم رسول الله سيد الخلق وحبيب الحق ومصطفاه محمد عبد الله بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وسار على دربه وهداه واقتفى أثره واقتدى بسنته من مبدأ الأمر إلى منتهاه،
وبعد،
أيتها الشموس العلمية التي تشرق على قارتنا الفيحاء ولا تحرق، أيتها البحار التي تغدق ولا تغرق، أيتها الأرواح التي تَسْتَرِق الأنفس والأرواح بأخلاقها المحمدية ولا تعتق.
سيداتي ساداتي علماء القارة الإفريقية ونجومها الهداة،
سلام تام بوجود مولانا الإمام أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين جلالة الملك محمد السادس أعز الله مقامه وأبقى في الخافقين أعلامه.
السادة العلماء الأجلاء، كلنا نشوة وسعادة وحيوية غامرة ونشاط ونحن نسرع الخطى من أرض مالي ذات الحضارات الشامخة نحو المملكة المغربية الشريفة العريقة؛ مملكة النخوة والشهامة العربية الأصيلة، لنشارك في هذه الندوة العلمية الدولية تحت عنوان: «قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية»، بمداخلة علمية متواضعة عنوانها: «التصوف السني بإفريقيا وأثره في التربية السلوكية»، فبالله التوفيق وبه نستعين، عليه المعتمد وعليه التكلان.
أيها السادة الكرام يُحتمل أن يكون الانبثاق الأول أو الاستعمال الأول للفظ الصوفي -كما ذكر ذلك الدكتور عبد المنعم الحفني في كتابه «المعجم الصوفي»- يحتمل أن يكون ذلك على لسان إمام من أئمة الأدب في العصر العباسي وهو أبو عثمان عمر المعروف بالجاحظ البصري (ت255هـ).
يُفهم من هذا الاحتمال أن المدرسة البصرية هي أولى المدارس في العالم الإسلامي آنذاك استعمالا لهذا اللفظ، غير أن هناك احتمالا آخر أورده المصدر نفسه يفيد بأن المدرسة البغدادية هي التي استحدثت لفظ الصوفي. على أية حال ومهما يكن من صدق أحد الاحتمالين فإن أول من أُطلق عليه لقب الصوفي كما أورده «المعجم الصوفي» هو أبو هاشم الكوفي المتوفى سنة 150هـ، وأبو هاشم هذا هو شيخ الإمام سفيان الثوري الجهبذ السني المعروف، وهو أيضا أول من بنى زاوية صوفية في رملة بفلسطين وخصصها لعبادة جماعة من العباد والزهاد من المسلمين.
يستخلص من هذا، أنه لم يكن لهذا الاسم استعمال في صدر الإسلام للدلالة على جماعة من المسلمين يعرفون به، وإن كانت حقيقته التي اصطلح عليها فيما بعد موجودة منذ البدايات الأولى للدعوة الإسلامية، التي انطلقت من مكة المكرمة واستقامت على عودها في المدينة المنورة.
قسم بعض الباحثين في حقل التصوف مبحث التصوف إلى ثلاث مدارس كبرى، هي: التصوف السلفي، التصوف الفلسفي، التصوف السني؛ وذلك لغرض الدراسة والتحليل. وستركز هذه المداخلة على بيت القصيد والعنصر المحوري الذي تمثله وهو: مدرسة التصوف السني، لانسجامه مع عنوان المشاركة: «التصوف السني وأثره في التربية السلوكية».
مدرسة التصوف السني هي المدرسة التي يتزعمها وبلا منازع سيد الطائفة، ومُقدم الجماعة، وإمام أهل الخِرقة والسيادة، وعلم من أعلام أهل السنة والجماعة سيدي أبو القاسم بن محمد الجنيد البغدادي رحمة الله عليه والمتوفى سنة 298هـ، والذي كان من ديدنه أن يكون كل كلامه بالنص مربوطا، وأن يكون كل بيانه بالأدلة مبسوطا، وهو الذي أُثِرت عنه قولته المشهورة: «الطريق مسدود إلا على المتبعين آثار المصطفى صلى الله عليه وسلم». وهو القائل أيضا: «طريقنا مقيد بالكتاب والسنة، وإن من لم يسمع الحديث ولم يجالس الفقهاء ويأخذ أدبه من المتأدبين أفسد من اتبعه».
وهذا التصوف المنسوب إلى أهل السنة والجماعة والمقيد بالكتاب والسنة، هو في الحقيقة أسمى صور التدين، وهو الإيمان في إيجابية وهو الإحسان في العادة والعبادة. ورغم كونه كذلك وقر في أذهان بعض الناس أن التصوف يباين التدين ويغاير الإسلام، وأن له مفهوما سلبيا يدعو إلى الركون والركود، والخمول والخمود، والعزلة والانطواء والهروب من الواقع، أو أنه دروشة وبهدلة، ومظاهر تنفر منها الأذواق السليمة وتنبوا عنها العيون والنفوس الأبية؛ هذه الفكرة التي عششت في أذهان بعض الناس هي مصدر الشبهات التي أثيرت حول التصوف وحقيقته وطقوسه ورموزه؛ فحملوا عليه وعلى رجاله حملة شعواء لا هوادة فيها مدعين ومتذرعين بأنه أمر مستحدث في الدين، وأن الشرع الحنيف يعارض ولا يعاضد جاهلين أو متجاهلين حقيقته؛ فلا جرم أن كانت بين هؤلاء وبين أهل التصوف -عموما- جفوة أو فجوة يجب أن تصد؛ وذلك بردم الفجوة أو بإزالة الجفوة من خلال إزالة الجهل المسبب لها وتسليط الضوء على المناحي التي تنبعث منها روائح الانحراف الديني، والنواحي التي تخالف التعاليم الأصيلة وتجافي السلوك الإسلامي، وتتنافى مع روح الدين وسماحته وقيمه وأخلاقه وتعاليمه التي تُنتهك ليل نهار باسم التصوف من قِبل أهل القشور المظهرية والمغالاة والشطط والزيف والجنوح، من الذين يدعون في تبجح أنهم متصوفة ويسيرون تحت الألوية وفي المواكب متشدقين أنهم وحدهم حفظته وسدنته ودعاته ورعاته.
وحتى لا تمتد أثواب الباطل فتغطي وجه الحق، وحتى لا تتبلد سماء الحقيقة بغيوم الأكاذيب وبِسُحب الترهات، فتحول دون إشراق الحق أو تحجب نوره ولو إلى حين، نظم موقع الثوابت الدينية المغربية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة هذه الندوة العلمية في موضوع: «قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية»، وذلك من أجل رد الجانح أو الجامح إلى حضيرة الحق، والإعلان على مسامع الدنيا أن المنهج الصوفي السني الصحيح هو المنهج الإسلامي في أعلى صوره صفاء ونقاء، قوة وإيجابية، سماحة وسموا، بل التصوف بهذا المعنى هو «الأرستقراطية الإسلامية» على حد تعبير الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق.
التصوف السني الصحيح يتمثل في السير الحثيث في جميع مناحي الحياة، مع استشعار واضح وصادق لرسالة السماء وتوجيهها وهديها، هذه الرسالة البسيطة في عقيدتها وشريعتها والتي يمكن تلخيصها في كلمة «الإسلام»، هذا التعبير الأدق في معناه والأجمل في جرسه ومبناه والذي يرمز في أبسط معانيه إلى أن يُلقيَ الإنسان بقياده إلى خالقه ويسلم نفسه لربه، ليكون مسلما لله أمرا ويعتنق مبدأ السلام مع الله؛ فيكون قلبه سلاما بالنسبة إلى نفسه، وسلاما بالنسبة إلى الخلق فيسلمون من لسانه ويده لأن قلبه عامر بهذا السلام.
التصوف السني الذي نحن بصدد دراسته هو المنهج الصحيح الذي يُفضي إلى تحقيق مبدأ السلام الحقيقي الذي يريده الإسلام، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجد بعض الناس غضاضة واشمئزازا في استعمال لفظ التصوف أو الصوفية ويعتبرونه مستحدثا من المستحدثات المنكرة المردودة، إذ إن تعاملهم لم يتجاوز حدود الألفاظ والمباني ولم يغوصوا إلى المقاصد والمعاني، بل حرموا أنفسهم من المعاني السامية والأسرار القدسية الكامنة في تضاعيف الألفاظ والمباني، والذي يجب أن يعلمه هؤلاء وأولئك أن الأسماء والكلمات والمصطلحات ليست هي التي توصف بأنها الإسلام أو أنها البدع الطارئة على الإسلام، وإنما الذي يوصف بهذا الوصف أو ذاك هو مسميات الأسماء ومضامينها والمعاني التي جاءت الأسماء والمصطلحات معبرة عنها خادمة لها، وقديما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح.
إذا كانت المعاني المرادة منسجمة مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فاستعمل ما شئت من الألفاظ والأسماء والمصطلحات، أما إذا كانت المعاني المرادة مخالفة للشرع الحنيف كتابا وسنة وإن أُلبست بألفاظ قرآنية فهي مرفوضة؛ فالتصوف مصطلح ولا مشاحة في الاصطلاح، والمعنى المراد من التصوف السني أن يكون إسلام المرء مُهيمنا على قلبه بعد اليقين العقلي المسيطر على عقله، فيصل إلى حالة السجود القلبي لله وطرد الأغيار من هذا القلب، وهذا النوع من السجود إذا بلغه العبد لا يرتفع منه أبدا ولا ينفصم عن مص مذاقه سرمدا، كما قيل لسيدي سهل بن عبد الله التستري: «إذا سجد القلب لا يرتفع أبدا». والتصوف بهذه الصفة ليس علما يحفظ فحسب ولكنه حال يصطبغ بها القلب فتفيض أنواره على الجوارح والعوالم المحيطة بمن تحقق به أو بها، ولو كان التصوف علما يكتسب بالدراسة فحسب لكان المتخصصون فيه في الجامعات الغربية من أكابر الصوفية، والحال أنهم ليسوا كذلك.
وفيما يخص تعريف التصوف، فإنه ليس بالإمكان إيراد ثبت حصري أو قائمة كاملة بالتعريفات التي حد بها التصوف، ويكفي أن نشير في هذا المقام إلى أن الإمام أحمد زروق البرنسي في كتابه «القواعد» والإمام القشيري في رسالته ذكرا أن التصوف قد حد ورسم وفسر بأكثر من ألفي وجه يدور كله حول تطهير القلب وتمتين علاقة المسلم بربه. والتعريف الذي أختاره من بين كل هذه التعريفات أو التعاريف هو تعريف سيدي أبي بكر الكتاني رضي الله تعالى عنه، الذي ذهب إلى أن التصوف: صفاء ومشاهدة، وهو الذي اختاره الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق؛ لأن هذا التعريف يشمل في الحقيقة الغاية والوسيلة، يشمل المنهج ويشمل الهدف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.