التصوف السني على طريقة الإمام الجنيد
التصوف السني العملي ثابت من الثوابت الدينية المغربية، فقد ظل التفقيه في الدين في المغرب ينطلق في أصوله من العقيدة الأشعرية، وفي فروعه من فقه المذهب المالكي، وفي التصوف السني من طريقة الإمام الجنيد.
وحقيقة التصوف كما عرفه العلماء هو علم يعرف به كيفية تصفية الباطن من كدرات النفس؛ أي عيوبها. وبتعبير آخر: هو علم يعرِّف بالله تعالى وبحقوقه على عباده، ويعين على سلوك الطريق الأسلم والأرشد للقيام بهذه الحقوق وحمل النفس على الالتزام بها والتأدب مع الله تعالى وحسن التعامل مع خلقه.
وللتصوف أهمية بالغة في حياة المسلم؛ إذ هدفه النبيل هو تربية القلب ومجاهدة النفس للارتقاء بها من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، وذلك بملازمة الطاعة والبعد عن المعصية.
إن للتربية آثارا مهمة وعظيمة على القلوب والنفوس، فهي وحدها الكفيلة بعد الإيمان بالله تعالى بالارتقاء بالعباد، وبتهذيب مشاعرهم، وتقوية أسباب المحبة بينهم حيث تعمل على جلب المنافع الآتية:
- التخلية والتحلية: المراد بها مجاهدة النفس على التخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل التي من أعظم أصولها: الإخلاص، والصدق، والأمانة، والتقوى، والاستقامة، والعفة، والصبر، والرحمة….
- المواظبة على الفرائض والواجبات: وهي باب من أبواب التحلية، فالمدخل إلى التحلي بالفضائل هو الالتزام بفعل الفضائل والواجبات والمواظبة عليها وعدم الانقطاع عنها، فذلك ينبوع الفضائل ومفتاح الخيرات.
- ترويض النفس على نوافل الطاعات: وهي باب آخر من أبواب التحلية يكمل الأول ويفضي إلى ما بعده.
وكلها أركان لها أصل ودليل من الكتاب والسنة؛ فضلا عن تلقي السواد الأعظم من المسلمين لها بالقبول منذ زمن شيخ مذهب الصوفية الإمام الجنيد أبي القاسم بن محمد البغدادي (ت 297 هـ) الذي أخذ عنه أهل المغرب، ودرج على منهجه جِلة من العلماء والفقهاء، فكان بحق مصدر خير ارتوى منه أتباعه من أبناء هذا البلد، وعدّوه ثابتا من ثوابتهم الدينية إلى جانب العقيدة والفقه وإمارة المؤمنين، فالتزموه بالتقيد بواجبات الدين على أساس الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح.
فالتصوف المغربي ليس تصوفا فلسفيا نظريا ولا غنوصيا مغاليا، وإنما هو تصوف سني عملي، مندمج في التدين اليومي لكل مغربي؛ فهو منهج للتزكية المحررة المبنية على أدلة الكتاب والسنة، يمكن من الترقي في منازل سير العبد إلى ربه، ويفعّل العلم بتوظيفه فيما جعل له من تزكية نفسه؛ ذلكم المنهج الذي تناوشته سهام السلفية المعاصرة، اعتقادا منها ملازمته للبدع جملة وتفصيلا؛ جهلا منهم بأصالة منشئه، وسلامة أصوله وقواعده، وغفلة عن أن الابتداع في صلته به ظلي لا أصيل، وذلك لأجل أنه عارض وطارئ نتيجة تفشي الجهل الذي هو معدن كل انحراف، شأن العقيدة والفقه اللذين شابهما أيضا ما خدش رونقهما من صور الانحراف.
وقد اختاره المغاربة عنصرا أساسيا في ثوابتهم المتوارثة لتعظيم جناب خالقهم، وإظهار الافقار إلى بارئهم، والاعتراف بالعجز عن أداء حق سيدهم، وتهذيب سلوكهم وضبط علاقتهم بغيرهم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، والتنافس في مجالات الإحسان القولية والفعلية عن طريق الإمام الجنيد، عمدة المدارس وقدوة أئمتها بلا نزاع.
وقد جلّى المغاربة هذا الثابت في التقيد بواجبات الدين والتسليم لأحكام سيد المرسلين، والتنافس في أنواع المبرات والتزام المنتقى من طيب الأذكار وصادق الدعوات ونوافل الصلوات ومبارك الصدقات وصنوف القربات المجمّلة بإظهار شواهد الإخلاص في محبة مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي يجددونه كل سنة بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي اعتادوا على إقامته مظهرا شعبيا منذ أيام العزفّيين السبتيين للتعريف بسيرته، والتذكير بشمائله، وخصائصه، والتعريف بدلائله ومعجزاته، والتنويه بما ظهر من الآيات الباهرة في مولده. ومنها تقدير أهل الفضل واحترامهم، والاقتداء بهم، والدعاء لهم لأداء واجب شكرهم على خدمتهم، والثناء على عليهم وعلى نفعهم وعطائهم، والترحم عليهم مقابل آثارهم بما يوجب رفع درجاتهم، وإعلاء مقاماتهم، وذكر مناقبهم، ومواقفهم، وطاعتهم، والاقتداء بتصرفاتهم المجمّلة للدين والمزينة لتنزيله في نظر الآخرين.