التصوف والسلم الاجتماعي في إفريقيا
مداخلة بعنوان “التصوف والسلم الاجتماعي في إفريقيا” للأستاذة هويدة يوسف محمد محاسبة منظمة الدعوة الإسلامية، مكتب سيراليون مكلفة بالشؤون المالية بفرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية سيراليون خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439هـ الموافق لـ 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يعتبر التصوف نتاج تجربة روحية تختلف من صوفي إلى آخر، ولذلك تعددت تعريفاته، إلا أنها تدور حول محاور أربعة هي: النفس، والأخلاق، والزهد، والمعرفة. فذهب ابن خلدون إلى أن التصوف هو العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد على الخالق للعبادة.
وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.
وقيل: التصوف هو طريقة سلوكية قوامها التقشف والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل لتزكو النفس وتسمو الروح، وأعلى مراتبه الفناء.
وعرّفه الجنيد بأنه تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الربانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، واستعمال ما هو أولى على السرمدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلّم في الشريعة.
وعرفه معروف الكرخي بقوله: «التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق».
وبناء على ما تقدم من تعريفات –وغيرها كثير- يمكن أن نخلص إلى أن التصوف الإسلامي في جوهره شوق إنساني ذو طابع روحاني غير محدود بزمان أو جنس أو لغة، وأنه استبطان منظم للتجربة الدينية ونتائج هذه التجربة في النفس.
وأساس الطريق الصوفي وفلسفته هي تصفية النفس وتطهيرها من أدران البدن.
دور التصوف في نشر الإسلام في أفريقيا
انتشر الإسلام في معظم أفريقيا بفضل السادة الصوفية منذ القرن الحادي عشر الميلادي؛ وهم أصحاب دعوة متكاملة اعتمدت في الغالب على جهودهم الذاتية، ولم يكن لمعظمهم أي دعم من أي نوع أو من أي جهة رسمية سواء في الدولة الإسلامية أو المماليك التي كانت قائمة في هذه المناطق، فاستطاع علماء الصوفية بإمكانياتهم المتواضعة أن ينشروا الإسلام في ربوع أفريقيا .
وتأسست دعوة الصوفية إلى الإسلام بإفريقيا على برامج تبدأ من الخلوة القرآنية -ما يعرف في العالم العربي بالكتاتيب- التي انتشرت من المغرب إلى موريتانيا والسنغال ومالي وغينيا كوناكري وما بعدها إلى المحيط، كما انطلقت الدعوة الإسلامية من الخلاوي والزوايا في ليبيا إلى تشاد ونيجيريا ونيجر وبوركينا فاصو ،حيث أقنعوا الأهالي هنالك بإرسال أولادهم من كلا الجنسين إلى هذه المدارس الصغيرة التي تبنى من العيدان والأخشاب، وبعد أن يكمل الطفل حفظ القرآن يبدأ في تلقي الدروس العلمية المبسطة في العلوم الشرعية واللغة العربية ،ليتخرّج داعية يرشد الناس إلى أمور دينهم .
وقد اتبع الصوفية -إلى جانب ما سلف ذكره- نظام الطرق المعروفة في التربية، حيث ينظم المريدون في سلك إحدى الطرق فيتلقون التربية الروحية والأخلاقية ،وبفضل الله ورحمته تأتى لهذه الطرق حفظ هوية المسلمين الدينية في أفريقيا .
ويتميز التصوف في أفريقيا بخصوصية تاريخية فريدة؛ إذ يعتبر خير سبيل لاعتناق الأفارقة الدين الإسلامي الحنيف، ولذلك يحظى الشيوخ الصوفية بالتقدير والإجلال من قبل المسلمين الأفارقة باعتبارهم دعاة وهداة بالحكمة والموعظة الحسنة.
والتصوف في أفريقيا لا يدعو إلى التواكل والانقطاع والنأي بعيداً عن نمط الحياة العامة، بل يحث على التوكل والعمل والإسهام في رقي المجتمع ونهضته، والتضحية بالنفس والنفيس دفاعاً عن ثوابته، وعلى هذا الأساس انتشرت زوايا التصوف في كثير من القرى والمدن والضواحي في غرب أفريقيا وغيرها..
التصوف والسلم الاجتماعي في أفريقيا
في ضوء ما سبق يتضح لنا أنّ التصوف تربية روحية تتجلى في سلوك الفرد المتصوف، ثمّ تنتقل إلى من حوله ومن يعيشون معه ويحيطون به.
ومن صفوة السادة الصوفية الداعين إلى الله على بصيرة، والذين أسهموا في استتاب الأمن الروحي والسلم الاجتماعي؛ الإمام الجنيد، وذو النون المصري، وأبو طالب المكي صاحب كتاب «قوت القلوب»، والإمام القشيري صاحب «الرسالة»، والسهروردي صاحب «عوارف المعارف»، وعبد القادر الجيلاني صاحب «الفتح الرباني»، وعبد الوهاب الشعراني صاحب «الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية»، وابن عطاء الله السكندري صاحب «الحكم العطائية»، وأبو الحسن الشاذلي، وأبو العباس المرسي، وأحمد الرّفاعي، وأحمد البدوي، وأحمد التيجاني.. وجميع هؤلاء كانوا أئمة وشيوخاً ومربين لهم مريدون كثر عم نفعهم وبلغ الآفاق.
وقد أضحت التربية الصوفية موضع اهتمام في الدروس الفلسفية والنفسية والاجتماعية والدينية بسبب الانفلات السلوكي الذي أصاب كثيرا من المجتمعات الإسلامية، لأنّ السلوك الصوفي له سمات وملامح ثابتة تظهر في القول والعمل؛ وهو سلوك تصالحيّ مع الذات ومع الآخر ومع المجتمع ومع العصر، يقول مريد إحدى الطرق الصوفية: «الأذكار التي نلتزم بها صباحا ومساء تُعطينا نوعا من التوازن، فالطريقة تدعونا إلى التحلي بالأخلاق والتسامح مع مختلف المعتقدات، والصوفي هو ابن زمنه، يعيش عصره بمتطلبات روح العصر لكن بتوازن روحي». وهذا السلوك السلمي التصالحي هو نتيجة جهد تربوي منهجي ذي مبادئ ومفاهيم وقيم وأهداف بعيدة عن العنف والتطرف.
ويحظى التصوف اليوم بتقدير واحترام في المشهد السياسي العالمي والمحلي ،لمنهجه الدعوي والتربوي الإصلاحي الذي يحث على السلم والمحبة والتسامح ،ولالتزام الطرق الصوفية بعدم التدخل في الشؤون السياسية المحلية والدولية معلنة حيادها في العمليات السياسية وخصوصاً الانتخابات.
وقد نجحت الطرق الصوفية في دول أفريقيا باعتمادها على رسالتها السلمية وعلى منهجها الروحي والعلمي والإصلاحي في ترابط المجتمع، مع الحفاظ على السلم الاجتماعي والابتعاد عن العنف وأسبابه.
إن العالم المعاصر ليحتاج إلى أكثر من وقفة لتهذيب الأخلاق وتزكية النفوس اعتمادا على المنهج التربوي الصوفي، لكن تنزيله في واقع الناس يتطلب رفقاً وتدرجاً، واعتباراً لمستويات الناس المعرفية وفئاتهم العمرية، وياحبذا لو تمّ إدخال مادة التربية الروحية في المناهج التعليمية، كل مرحلة بما يناسبها.
دور الطرق الصوفية في تعزيز السلم الاجتماعي
ذكرنا فيما تقدم أن التصوف هو نتاج تجربة روحية تختلف من صوفي لآخر وتدور حول النفس والأخلاق والزهد والمعرفة، وأن التصوف طريقة سلوكية قوامها التقشف والتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل لتزكو النفس وتسمو الروح بالطريقة السلوكية.
أما السِّلم فهو من السَّلام؛ وهو اسم من أسماء الله الحسنى، وقال الله تعالى:﴿ ياَ أِيَهُّا الذِّينَ آمَنُوا ادْخُلوُا فِي السِّلمِ كاَفَّةً﴾[1] وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تقولوُا لمِنْ ألَقى ِإِليْكُمُ السَّلمَ لسْتَ مُؤمْنًا﴾[2]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬لسَّلْمِ وَأَنتُمُ اُ۬لَاعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾[3].
والسَّلام والسِّلم يستعملان بمعنى الأمان والأمن؛ أي: السلامة والتسليم والاستسلام، والصلح والبراءة من العيوب، وبالأحرى هو حالة من التوافق تتحقق من طرفين أو أطراف إذا توافر الانسجام وعدم وجود العداوة.
وإذا ساد السلام والأمان والاستقرار المجتمع عاد إيجابا على الأسر والأفراد، فيتحقق بذلك التطور والازدهار للجميع.
والمعنى الذي نريده هو غياب الحرب والنزاعات والصراعات ليعم السلام والتعايش والعدل الاجتماعي. وهذه هي الثقافة عند الصوفية التي تدعو إلى الروحانية فتسمو الروح ومعها النفوس بالتزكية، والأجساد بالارتقاء عن الدنيا، فالسلام نتيجة ارتقاء الروح فتسلم من كل الأمراض فينعكس السلام على المجتمع كله ،ويظهر هذا في التحية؛ لأنّ تحية المسلم لأخيه المسلم ولغيره من الناس سلام، كما أنها تحية أهل الجنة﴿ وَتحِيتهُمْ فِيهَا سَلَٰم﴾[4]، وتحية المسلم في صلاته على النبي الخاتم الذي جاء بالإسلام دين المحبة والسلام، فهذه المفاهيم هي التي تؤسس السلم الاجتماعي.
ومن المفاهيم المتصلة بمفهوم السلام الاجتماعي:
- صنع السلام: وهو مساعدة أطراف النزاع للوصول إلى اتفاق.
- حفظ السلام: وهو منع أطراف النزاع من الاقتتال.
- بناء السلام: وهو تشييد ظروف المجتمع حتى يستطيع أن يعيش في سلام دائم ،وذلك بالتربية والممارسة، والتنمية الاجتماعية، والإصلاح السياسي، والتكافل الاجتماعي.
- إشاعة السلام: وذلك بالتنمية والديمقراطية، والأمن السياسي، ونبذ العنف وإنهاء المظاهرات، والحوار السلمي والإقناع.
- تنمية المجتمع: وذلك بتخفيف مظاهر الفقر والأمية والجهل.
- حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
- قبول الآخر والتعايش معه.
وهذه المفاهيم هي التي يتربى عليها الصوفية علما وعملا ومشاركة من أجل مجتمع يسوده الأمن والسلام.
خاتمة
إن الطرق الصوفية إحدى أهم قواعد بناء المجتمعات الآمنة في نفوسها وفي أهلها وفي سربها، إذ تعمل على تحقيق قيمة العبودية الحقّة والخالصة لله رب العالمين، وتقوم بواجب التبليغ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، من أجل إشاعة السلم الاجتماعي والأمن الجماعي تحت إشراف شيوخ الطرق الذين يعدون مرجعية محترمة عند الناس من أهل الحي والمنطقة والقرية.
الهوامش
[1] سورة البقرة، الآية: 206.
[2] سورة النساء، الآية: 93.
[3] سورة محمد، الآية: 36.
[4] سورة يونس، الآية: 10.