التصوف و الاستقرار الروحي في المغرب وإفريقيا
التصوف و الاستقرار الروحي في المغرب وإفريقيا
لا يمكن أن نتحدث عن تاريخ المغرب الديـني بمعزل عن مكوناته الثلاثة في الاعتقاد والعبادة والسلوك وهي ما يصطلح عليها بالثوابت الديـنية للمغرب حيث أشار إليها عبد الواحد بن عاشر في منظومته فقال:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
فالمغاربة اختاروا مذهب الأشاعرة عقديا، نظرا لما وجدوا فيه من درء للتشبيه، والتعطيل، ولما لمسوا فيه من حفاظ على جوهر العقيدة السليمة والتوحيد الخالص، فالفكر الأشعري ارتبط ارتباطا قويا بتاريخ المغرب، وعرف تقعيدا وتـرسيما منذ القرن الخامس إلى اليوم حيث عمل المغاربة على احتضانه، والالتـزام به في تناغم وانسجام متكامليـن مع روح مبادئهم السنية، وفقههم المالكي، حتى أصبح ثابتا من ثوابتهم الديـنية، ومكونا من مكونات ثقافتهم الإسلامية، فأسهم بذلك في تحصيـن المعتقد الإسلامي على طريق أهل السنة والجماعة.
كما اختار المغاربة المذهب المالكي فقها، وعبادة لما وجدوا فيه من خصوصيات حيوية ومرونة، تعتمد الفهم الحق للعقيدة الإسلامية، إذ تضع أصوله وقضاياه في خط اجتهادي ومن خلال مقاييس جديدة، تسعى إلى التوفيق بيـن الحكم الشرعي وبيـن واقع الحياة المتطور، وكذلك لتميزه بالوسطية والاعتدال، حيث إن العقل تابع للنقل، والاجتهاد مقيد بنصوص الشرع، والرأي ملجم بالكتاب والسنة.
وبهذا تكون العقيدة الأشعرية إلى جانب الفقه المالكي أسهمت في خلق انسجام مذهبي وعقدي في المغرب، جنبه كثيـرا من المهاتـرات والفتن التي كانت سائدة في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب الخلافات العقدية.
وإلى جانب العقيدة الأشعرية والفقه المالكي كان لابد من منهج سلوكي رباني يقيم صرح الأخلاق ويحفظ مقام الإحسان بعد مقامي الإسلام والإيمان فأدرك المغاربة منذ اعتناقهم الإسلام أن روح الديـن هو تـزكية النفوس، وتطهيـرها من عيوبها وتحليها بمكارم السلوك فأقبلوا على التصوف؛ ذلك الإرث التـربوي المؤسس على المكابدة الروحية والممارسة العملية التـربوية الارتقائية في مداج الكمال اليقيـني والمعرفي، والتحرر الباطني من ربقة التعلق بالأشياء الفانية، والاتصال الدائم مع الله تعالى.
وقد ارتأيت أن أتحدث في هذه الورقة عن المكون الثالث للتديـن المغربي الذي ساهم بقسط وافر في تمتيـن الروابط بيـن المغرب وإفريقيا. وذلك في نقط محددة ومقتضبة تشمل تعريف التصوف، ودوره في إشاعة الاستقرار الروحي في كل من المغرب وإفريقيا.
-
تعريف التصوف لغة
سأتجاوز الاشتقاق اللغوي لكلمة «تصوف» لما حام حولها من اختلافات وانتقادات واعتـراضات حسم فيها الإمام الهجويـري بقوله:
«ولا تخضع هذه الكلمة للاشتقاقات اللغوية المعروفة إذ أن الصوفية من الرفعة بحيث لا يكون لها أصل تُشتق منه»[1]، ونفس المعنى ذهب إليه الإمام القشيـري حيث قال «إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعييـنهم إلى قياس لفظ أو استحقاق اشتقاق» [2].
-
تعريف التصوف اصطلاحا
لقد تعددت تعريفات التصوف بتعدد مقامات أهل السلوك ومعارج سيـرهم إلى الله تعالى إذ كل تكلم فيه من مشربه ومدركه، ومعلوم أن السيـر الى الله تعالى لا منتهى لطريقه ﴿وَأنَّ ِإلى رَبكِّ المنتهى﴾[3] ويقول الشيخ زروق «وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه
تبلغ نحو الألفيـن، لكن مرجعها كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى وإنما هي وجوه فيه»[4] وهذا التعدد يتصل بمقام كل متكلم في التصوف، يقول الإمام القشيـري: «وتكلم الناس في التصوف ما معناه، وفي الصوفي من هو؟ وكل عبـر بما وقع له»[5]، ومهما تعددت هذه التعاريف فإنها لا تخرج عن المستوى السلوكي والأخلاقي للتصوف سواء في علاقة المريد بالحق أو في علاقته بالخلق. وإليه أشار الكتاني بقوله «التصوف خلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف»[6]وحدده سيد الطائفة الإمام الجنيد 297هـ بقوله: «هو الخروج عن كل خلق دني، والدخول في كل خلق سني»[7] فالصوفية أهل علم وأخلاق، أي كلهم أهل سنة وصفات وأصل تسميتهم، أن المسلميـن بعد رسول الله ﷺ، لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله ﷺ، إذ لا فضيلة فوقها فقيل لهم سمة الصحابة، ولما أدرك أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة التابعيـن، ورأوا ذلك أشرف، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعيـن، ثم اختلفت الناس وتبايـنت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الديـن الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بيـن الفرق، فكل فريق ادعى أن فيهم زهادا، وعبادا، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، والحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابـر قبل المائتيـن من الهجرة[8].
الاستقرار الروحي
لا يوجد مصطلح الاستقرار الروحي في المعجم الصوفي، ولكن غياب المصطلح لا يعني غياب دلالة المعنى في التـربية الروحية، لأن الأمن الروحي وما يـندرج تحته من قيم، الطمأنيـنة، والسكيـنة، والتواد، والمحبة، والتسامح… كلها قيم جمالية تـزخر بها المعاجم الصوفية، وإذا كان مفهوم الاستقرار في اللغة هو الثبوت والهدوء والسكون فإن الاستقرار الروحي هو الطمأنيـنة والسكيـنة، والسادة الصوفية لم يـنحصر فهمهم للاستقرار الروحي في إدراك المعنى فقط أو في الإيمان بالمعنى فحسب وإنما دعوا إلى التخلق بالسكيـنة والطمأنيـنة. فالتصوف وما يحمله من مقومات قيمية وسلوكية وروحية استطاع أن يقدم معالم سامية وهادية في باب الأمن والاستقرار الروحي، ونجح في أن يـرسم صورة مشرقة عن روح التسامح والتعايش التي يدعو إليها الإسلام وذلك بالتمثل الرشيد للمنهج النبوي القائم على المحبة، والرفق، والليـن، والرحمة للعالميـن.
وتكمن خصوصية المنهج الصوفي في تأسيسه لمعالم الاستقرار الروحي انطلاقا من تـركيزه على بناء الشخصية الإنسانية وذلك عن طريق تخليتها من الكراهية، والحقد والحسد، ونوازع الشر، وكل العيوب النفسية، والأمراض الباطنية. وبهذا يكون قد وضع الأسس والمقومات لبناء إنسان السلام الذي يساهم في التأسيس للاستقرار، والدعوة له دعوة عملية سلوكية.
دور المؤسسات الصوفية في تـرسيخ قيمة الاستقرار الروحي
لقد نجحت المؤسسات الصوفية (زوايا وثكايا ورباطات) في أن تقدم لنا نماذج حضارية متميزة، كان لها الدور الهام، والفعال في إشاعة روح السلم والاستقرار، حيث رسخت هذه المؤسسات في النفوس قيما سلوكية راقية، كان لها الأثر الكبيـر في تفعيل ثقافة الأمن الروحي على أرض الواقع، عبـر رؤية تكاملية للديـن تحتـرم مقاماته الثلاثة: إسلام وإيمان وإحسان.
والمطلع على تاريخ المغرب، يقف على حقيقة تتمثل في الحضور القوي والعميق لهذا البعد الروحي، حيث أدرك المغاربة منذ البداية أن التصوف هو لب الإسلام، وحقيقته وروحانيته؛ لأنه يجسد مقام الإحسان بعد مقامي الإسلام والإيمان، فنجد الصوفية عبـر التاريخ حملوا هذه الرسالة ومثلوها بكل أبعادها، وتجلياتها في كل المجتمعات، والعصور تأكيداً للهدف الأسمى الذي يطمح إليه الديـن الإسلامي، وهو تحقيق وتـرسيخ مبادئ السلم والسلام والحوار والتعارف والتعايش والتسامح، وكلها قيم وأسس رسخها التصوف في النفوس، والقلوب والسلوك، والاعتقاد، والتداول بيـن الناس في مناخ مفعم بالتعايش السلمي والاستقرار الروحي بيـن اختلاف وتنوع الهويات، والديانات، والخصوصيات، مع نبذ لكل أشكال التطرف والعنف والتدميـر.
فهذا الاستقرار الروحي هو الدعامة الأساسية لتحقيق الأمن الحضاري، وهو ما يقوم عليه المنظور الصوفي الذي يجمع بيـنهما في توافق، وتـرابط، وتلازم، وتكامل.
والتصوف من الدعامات الكبـرى التي حافظت على الأمن الروحي للمغرب؛ لأن أهله تمسكوا بثوابت الهوية الديـنية اعتقادا، وعبادة، وسلوكا، فالاعتقاد نشر التسامح، وعدم تكفيـر أهل القبلة، والعبادة أنتجت السعة، والتجديد، والقدرة على مواكبة مستجدات العصر، والسلوك أثمر الروحانية، والوسع، والرحمة، وقبول الآخر، فتميزوا بصناعة النماذج الصالحة والقدوات الحسنة، التي بصمت تاريخ المغرب بآثارها الخالدة، والناصعة والمرصعة بأخلاق الوسطية والاعتدال، والتسامح، وحسن الكرم، وقبول الآخر، والانفتاح على مختلف الحضارات وحسن التعايش، والتساكن مع مختلف الديانات السماوية.
امتداد التصوف المغربي في إفريقيا
تعود علاقة المغرب مع إفريقيا إلى قرون شكل فيها البعد الروحي أهم دعامات هذه العلاقة، بسبب امتداد وتأثيـر العديد من الزوايا التي انتشرت فروعها في كثيـر من دول إفريقيا، حيث حرص العلماء وشيوخ الطرق، على الاستفادة من التجربة الروحية للمغرب.
وقد ساهم امتداد هذه الطرق الصوفية ذات المنشأ المغربي إلى إفريقيا في دعم الروابط الديـنية، والروحية بيـن البلديـن، حيث انطبعت التجربة الصوفية الإفريقية بالطابع المغربي، واتسمت بخصائصه التي تجمع بيـن العلم والعمل، فأعلام البيوتات المغربية غالبا ما يكونون من أهل الصلاح، والاستقامة، ومن أهل العلم والدراية[9]، كما أن معظم رجال التصوف ودعاته من أهل العلم بأصول الديـن وفروعه[10].
فالمشيخة المغربية شكلت رافداً أساساً لأسانيد التـربية الصوفية في بلدان إفريقيا، بحيث انتشرت التـربية الروحية مع الشيوخ الذيـن يفدون على تلك البلدان عبـر رحلات ديـنية أو علمية أو تجارية، فأصبح لهذا التواصل دور هام في امتداد السند الصوفي المغربي إلى إفريقيا بحيث انتشرت الطريقة التجانية والقادرية والشاذلية بمدارسها وأورادها وأحزابها.
«فكان لهذا الامتداد التـربوي الروحي المغربي دور هام في مقاومة الغزو الأجنبي الدخيل، والتصدي لكل الدعوات المغرضة والهادفة إلى تفكيك شعوب المنطقة، حيث توطدت العلاقة بيـن المغرب الأقصى وبلاد السودان منذ أن أزاح المرابطون أمراء غانة الوثنييـن عن عروشهم وأدخلوا إلى الإسلام الطبقة الحاكمة بالسودان الغربي في القرن الحادي عشر، وربط الملوك الماندييـن بالنيجر الأعلى مع سلاطيـن المغرب علاقات دبلوماسية قارة، وتبادلوا معهم الهدايا، ولما حل محلهم سنغاي النيجر الشرقي عمد المغرب الأقصى طيلة ما يقرب القرن إلى بسط هيمنته الفكرية والديـنية على السودان، وذلك بإرسال العلماء، ورجال الديـن والصلحاء الدعاة، وتغلغلت الحضارة المغربية بمدن ولاته وتومبوكتو وديـني دغاو»[11].
«فتاريخ الإسلام بإفريقيا، ولا سيما في بلدانها جنوبي الصحراء، يؤكد أن هذا الديـن لم يـنشر إلا بفضل مشايخ الطرق الصوفية، والتجار المسلميـن المغاربة الأتقياء، والدعاة بالتي هي أحسن إلى مكارم الأخلاق»[12].
لقد عمل شيوخ الصلاح المغاربة على تـرسيخ قيم التسامح والتعايش ورفع التحديات والأخطار التي تهدد القارة السمراء، كما ساهموا في تقوية الروابط الروحية والأخلاقية في أفق إشاعة قيم الإسلام المعتدل، وحرص المغرب عبـر التاريخ على مواصلة رعاية المنتسبيـن إلى الطرق الصوفية بهذه البقاع والعناية بهم، وذلك من خلال العمل على الحفاظ والارتقاء بالرابطة الروحية والتعاقد الوجداني الذي يجمع سكان المجتمعات الإفريقية بمؤسسة إمارة المومنيـن وفي هذا الصدد جاء في الرسالة الملكية «وبوصفنا أميـر المومنيـن، وحاميا لحمى الملة والديـن، فإننا متمسكون بالحفاظ على هذه الرعاية لكم، والارتقاء بها الى ما تستحقه من سابغ العناية، حريصيـن على تـرسيخ الروابط الروحية والأخوية بيـن بلدانكم الشقيقة وقيادتها الحكيمة وبيـن المغرب، لا نبتغي من ذلك سوى تحصيـن الإسلام السني السمح النقي من البدع الضالة، ومن التطرف الأعمى، والتسييس المغرض»[13].
نخلص من هذا إلى أن التصوف، هذا الإرث التـربوي الروحي، قد ساهم في نشر وتـرسيخ قيم السلم والتسامح والوسطية والاعتدال ليحصل اليقيـن والاطمئنان والسكيـنة والاستقرار. وهذه هي أهم مقومات الأمن الروحي المرتبط بالقيم الأخلاقية التي تنتج النموذج المتحقق والمتخلق، وهذا ما جعل النموذج الديـني المغربي يتبوأ مركز الريادة في الوسطية والاعتدال، والانفتاح على الآخر، والتسامح دون تمييز بيـن الأجناس والأعراق والطبقات الاجتماعية؛ لأن السادة الصوفية كما قال الإمام الجنيد «كالأرض يطأها البـر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي كل شيء»[14].
فالنموذج الديـني المغربي في ظل الثوابت الثلاثة عقيدة، وفقها، وتصوفا محروسيـن بإمارة المومنيـن التي تضمن الحماية والحصانة لهذا النموذج الديـني المعتدل، الذي بوأ المغرب مكانة جعلته يستقطب ثلة من الطلبة المنحدريـن من الدول الإفريقية إلى جانب طلبات واردة من دول أوروبية قصد تكويـنهم داخل معهد محمد السادس للأئمة المرشديـن والمرشدات لتلقي المبادئ الديـنية وفق منهج معتدل وسطي يحقق السلامة والسلم والأمن والأمان.
الهوامش
[1] كشف المحجوب ص: 55.
[2] الرسالة القشيرية ص: 27.
[3] سورة النجم الآية: 41.
[4] قواعد التصوف ص: 21.
[5] الرسالة القشيرية ص: 279.
[6] الرسالة القشيرية ص: 281.
[7] المصدر نفسه.
[8] التشوفالى رجال التصوف لابن الزيات ص: 35.
[9] مؤرخو الشرفاء: بـروفنصال، تـرجمة القادري الخالدي: ص 56.
[10] التصوف الإسلامي: علال الفاسي ص: 21.
[11] تاريخ افريقيا الشمالية، شارل أندري جوليان، تجمة محمد المزالي والبشير بن سلامة ج2 ص: 154.
[12] مقتطف من الرسالة الملكية الموجهة الى المشاركين في الاجتماع العام للطريقة التيجانية27 يونيو 2007م بفاس.
[13] مقتطف من نفس الرسالة الملكية.
[14] الرسالة القشيرية، ص: 281.