الحوار بين الأديان وأهميته في بناء السلام والعيش المشترك
خطبة صلاة الجمعة لشيخ الأئمة عثمان جاكيتي في اليوم الختامي لأشغال الندوة الدولية حول حوار الأديان التي نظمها المجلس الأعلى للأئمة والمساجد والشؤون الإسلامية ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع: “الرسالة الخالدة للأديان”، وذلك أيام 21 و22 و23 رجب 1443 هـ الموافق لـ 23 و24 و25 فبراير 2022م بأبيدجان.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده حمدا يليق بجلال عزه وكرم سلطانه، وأستعينه استعانة معترف بفضله ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والدين الحق ليظهره على الدين كله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى رسالة الأديان الخالدة، وإصلاح البشرية، وسراجا على مسالك العلوم الكونية والإنسانية، ومنيرا طريق العارفين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد،
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى، وأذكركم ونفسي بقوله تعالى: (قُلْ يَٰٓأَهْلَ اَ۬لْكِتَٰبِ تَعَالَوِاْ اِلَيٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُۥٓ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اَ۬للَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـٔاٗ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً اَرْبَاباٗ مِّن دُونِ اِ۬للَّهِۖ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اُ۪شْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَۖ) [سورة آل عمران، الآية:64].
عباد الله،
إن للحوار بين الأديان دورا عظيما ومكانة مرموقة في بناء السلام والوئام والعيش المشترك داخل المجتمع، فهو اليوم من أهم مجالات الحوار الفكري والثقافي، وذلك لما للدين من أهمية في صياغة الشخصية الحضارية لكل أمة، ولما للدين من أثر في النزاعات بين البشر سواء من حيث إذكاؤها وتأجيجها، أو من حيث العمل على تجاوزها وحلها.
وهذا ما دعا الإسلام إلى العناية بالحوار، ومعالجة قضاياه معالجة شافية، ويكفي لبيان أهمية الحوار بين الأديان في الإسلام أن نستحضر آيتين كريمتين من القرآن الكريم:
- الأولى رسمت منطلقات الحوار
- والثانية حددت القواعد المهمة له.
أما الآية الأولى، فهي قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاٗ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَ۬لْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ وَلَا تَتَّبِعَ اَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ اَ۬لْحَقِّۖ لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةٗ وَمِنْهَاجاٗۖ وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَجَعَلَكُمُۥٓ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِے مَآ ءَات۪يٰكُمْۖ فَاسْتَبِقُواْ اُ۬لْخَيْرَٰتِۖ إِلَي اَ۬للَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاٗ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَۖ) [المائدة 48].
إن التأمل في هذه الآية الكريمة يرشدنا إلى المنطلقات الأساسية التي يجب أن يقوم عليها الحوار الديني، وهي التالية:
إن الإسلام جاء بكتاب مصدّقا لما بين يديه من الكتب السابقة المنزلة من عند الله تعالى، وهذا يعتبر تأكيدا لوحدة المصدر الذي تعود إليه الأديان السماوية، بل إن الإسلام يعتبر أن الدين في جوهره واحد، لأن ما أنزله الله على سائر رسله إنما هو تقرير وتذكير بوحدة الأصل والمنبع، وهو أنه من عند الله تعالى، وإن تنوعت الشرائع في بعض أحكامها بحسب ما اقتضته حاجات الناس المختلفة من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى أخرى، ولذلك سبق في الآية قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)؛ وختمت الآية الكريمة بقوله سبحانه: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)، وفي هذا تذكير العباد بأن الله تعالى هو الذي سيحاسبهم يوم القيامة، ذلك اليوم الذي سيُرجعون إليه جميعا، فيبين لهم حقيقة ما تنازعوا فيه، وهل هناك أعدل من الله تعالى وأعلم منه بالحق الذي يختلف فيه عباده؟
ولا شك أن تأكيد هذه الحقيقة الإيمانية مما يطمئن المؤمن الذي هو على يقين بأن الله تعالى سيظهر الحق، فليس له أن يضيق صدرا بما يواجهه من إنكار المنكرين وإعراض المعرضين، وما عليه سوى إبلاغ ما عنده بالحكمة والرفق واللين، ويترك حسم الأمور ليوم الدين.
وأما الآية الثانية التي حددت منطلقات الحوار بين الأديان، فهي قوله تعالى في سورة العنكبوت ـ الآية 46: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمو ن).
إن التأمل في هذه الآية الكريمة يرشدنا إلى منطلقَين مهمَّين في مجال الحوار الديني:
المنطلق الأول: طبيعة الخطاب الذي يجب أن نمارسه في حوارنا مع أهل الكتاب، ووصفته بوصف عام بأنه (بالتي هي أحسن) ليشمل بذلك كل ما من شأنه أن يتسم بالحسن واللين والرفق، الذي يشرح صدر المخاطب ويجعله مُقبلا ومتفاعلا مع الحوار بموضوعاته وأهدافه.
المنطلق الثاني: مضمون الخطاب في قوله تعالى: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمو ن) وفي هذا تعليم للمسلمين في محاورتهم لأهل الكتاب أن يبدؤوا بالتركيز على القواسم المشتركة التي تجمعهم مع المحاور، من حيث أن الإله واجد، ومصدر الكتب السماوية واحد، فالقرآن الكريم منزل من عند الله، والكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) منزل من عند الله؛ لأن البدء بذلك يُشعر الطرف الآخر بأن دائرة الخلاف لا تشمل كل شيء، وإنما هناك قضايا هي محل الاتفاق، ولو كان ذلك جزئيا.
أيها المؤمنون والمؤمنات،
إن المجتمع الإيفواري بجميع فصائله وأديانه وأحزابه رئيسا وحكومة وشعبا سعيد جدا باستقبال هذا الملتقى الدولي العلمي الفريد في نوعه، حول حوار الأديان بعنوان” رسالة الأديان الخالدة” التي تهدف إلى تعزيز السلام والوئام والعيش المشترك داخل المجتمعات الأفريقية، ولا شك أن البيان المشترك بين مختلف أتباع الديانات المصطلح عليه ببيان أبيدجان، وكذلك النتائج والتوصيات التي ستثمرها هذا الملتقى العلمي الدولي سيكون نبراسا لتعزيز بناء السلام وتطويره داخل الأسر والمدارس ومناهج التربية ووسائل التواصل المعاصرة وغيرها، كما ستنير طريق الحوار ليجعله حوارا هادئا بناء محققا للأهداف المنشودة، والغايات المقصودة.
لكل هذا فلا يسعنا إلا أن نتقدم بجزيل الشكر والعرفان بالجميل إلى أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس ـ نصره الله وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، رئيس مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، والسيد الحسن وتارا رئيس جمهورية كوت ديفوار، على قيادتهما الحكيمة وعلى تفانيهما في خدمة الإنسانية بصفة عامة، والإسلام والمسلمين في أفريقيا بصفة خاصة، في كوت ديفوار بالأخص، وعلى جهودهما الرامية إلى بناء السلم والسلام والتضامن والعيش المشترك في جميع الأنحاء المعمورة، فاللّه أسأل لهما دوام نعمتي الصحة والعافية، والتوفيق والسداد في القول والعمل. واللّه أسأل للجميع حسن الرجوع إلى أهاليهم سالمين غانمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.