الدرس العقدي الأشعري فـي المصنفات الفقهية
[نسخة المداخلة الأصلية PDF]
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد: تروم هذه المداخلة إبراز أهمية الدرس العقدي الأشعري في المصنفات الفقهية، باعتبار العقيدة الباب الأول من أبواب الشريعة، وقد عدها الفقهاء مفتتحا لازما للأبواب الفقهية. ذلك أن العقيدة والفقه يمثلان المرتكز الرئيس لأصول الدين.
ولعل اهتمام الفقهاء وخاصة المالكية، تضمين الدرس العقدي الأشعري ضمن المسائل الفقهية، هو منهج معتبر عند أئمة الفقه، الذين يجمعون بين المعرفة في مجال علم الكلام والمنطق، وبين التفقه في الدين عقيدة وشريعة.
وتجلى ذلك الاهتمام في البدايات الأولى، لما برزت تلك الأطياف الأيديولوجية السياسية والفكرية عند بعض الفرق الكلامية مثل الخوارج والمرجئة والمعتزلة، مما جعل الاعتقاد الديني السني عند علماء الشريعة من الأصوليين والفقهاء، يمتلك ناصية المعرفة الشاملة في أصول الدين، من أجل الرد الفقهي على الفكر المتطرف، في الاعتماد على السنة والدرس العقدي الأشعري.
وتميزت العقيدة الأشعرية، بمنهج فريد جمع بين العديد من المذاهب الفقهية، وخاصة المذهب المالكي والشافعي والحنبلي، وجمعت أيضا بين الصوفية والفقهاء. وبين أهل المنطق وعلماء الأصول.
ذلك أن المصنفات والأبحاث الفقهية والأصولية نجدها في معظمها تبدأ بمقدمات عقدية، تمتح من المنهج الأشعري، منهجا ومضمونا، كما نجدها تدرج ضمن تلك الجوامع مباحث كلامية، كجواز التكليف بما لا يطاق، ونفي الغرض عن أفعاله تعالى، وغير ذلك من المباحث التي تدل على أن العلماء كانوا حريصين على التعريف بالمعتقد الأشعري، ومناهضة التشويش على عقيدة أهل السنة.
وكما لا يخفى أن الدرس العقدي الأشعري مر بثلاث مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى: وتتسم بمنهج التدين الرصين عند المتقدمين، على طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وترتكز في مرجعيتها على أصول الإيمان الواردة في حديث جبريل عليه السلام، وتجب في حق كل مسلم ومسلمة ممن توفرت فيهم أهلية التكليف، حتى يُعرف ما يجب لله، وما يجوز وما يستحيل في حقه.
وقد أسهم الباقلاني بدور كبير في التنظير والتقعيد للدرس العقدي الأشعري، فهو الذي وضع مناهج الأدلة، وأرسى القواعد والمقدمات العقلية، التي تعتبر مبادئ رئيسة ينبني عليها المذهب، يقول ابن خلدون: «وأخذ عنهم أبوبكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، ومن أمثلة ذلك «إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض… وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول».
المرحلة الثانية: وهي مرحلة وسطى تم فيها تعديل بعض مضامين المنهج الأشعري، اعتمدها الإمام الجويني، يقول ابن خلدون: «ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني إمام الحرمين أبو المعالي، فأملى في الطريقة كتاب الشامل، وأوسع القول فيه ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماما لعقائدهم»[1].
المرحلة الثالثة: وتسمى طريقة المتأخرين، وتميزت بامتزاج مسائل علم الكلام بالفلسفة والمنطق، وفي نظر ابن خلدون أن أول من صنف وفق هذا المنهج، الإمام الغزالي والفخر الرازي، ومن جاء بعدهم يقول ابن خلدون: «ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة، وقرأها الناس، وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، يسبر به الأدلة منها، كما يسبر من سواها، ثم نظروا في تلك القواعد المقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدت إلى ذلك»[2].
والعقيدة عند المسلمين لا تخرج عن سياق التكليف فيما يجب على المسلم المكلف أن يؤمن به في حق الذات الإلهية من صفات الجلال والكمال، والإيمان بأركان الإسلام من توحيد لله عز وجل. والإيمان بحامل الرسالة المحمدية ﷺ، وما جاءت به هذه الرسالة من مسلمات تعبدية في العقيدة والشريعة، كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم.
وتدور محاور الدرس العقدي: في الاعتقاد بوحدانية الله، وتنزيهه عن المثيل والشبيه، وأنه هو الإله المعبود الذي لاند ولا شريك له.
وأدلة صفات العقيدة الصحيحة وردت في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كقوله تعالى: ﴿اٰمَنَ اَ۬لرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَالْمُومِنُونَۖ كُلٌّ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦۖ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۖ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اَ۬لْمَصِيرُۖ﴾ [البقرة: الآية: 284.]
أما الفقه الإسلامي في المذاهب السنية فقد حافظ على مرجعياته الدينية في بسط أمور الدين في العقيدة والفقه، وحافظ على توازنه السني على المنهج الأشعري، من أجل رد أقوال المبتدعة في الدين، والحفاظ على توازن الشريعة في مقام يسرها وسماحتها، ورفع الحرج على المكلفين.
وإن معظم المصنفات الفقهية في المذهب المالكي تنافح منافحة علمية، عن العقيدة الأشعرية ومناصرتها، لإدراكهم فضائلها ومقاصدها النبيلة، لذلك عندما نتصفح العديد من المصنفات الفقهية وخاصة المالكية، نجدها تجعل الدرس العقدي الأشعري مفتتحا للأبواب الفقهية، وأحيان أخرى خاتمة لتلك الأبواب. وحتى نتلمس جوانب الاهتمام بهذا المفتتح للدرس العقدي لدى الفقهاء سوف نترسم خطى المنهج الآتي:
- أولا: المفاهيم الافتتاحية لمصطلحي العقيدة والفقه
- ثانيا: المنهج الأشعري في الدرس العقدي امتداد لمناهج المذاهب الفقهية السنية
- ثالثا: الدرس العقدي الأشعري في مصنفات الفقهاء المالكية
- رابعا: مناهج الدرس الفقهي عند الممهتمين بالدرس العقدي
- خاتمة
أولا: المفاهيم الافتتاحية لمصطلحي العقيدة والفقه
إن البحث في المفاهيم اللغوية والاصطلاحية لمصطلحي العقيدة والفقه، يعد مفتتحا لازما في هذا الموضوع، لأهمية تلك المفاهيم والتعريفات في بسط العلاقة بين مصطلح عقيدة وفقه.
1 – مفهوم العقيدة لغة واصطلاحا:
– العقيدة لغة:[3] من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم.
والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقداً، ومنه عقدة اليمين والنكاح، قال الله تعالى: ﴿لَا يُوَ۬اخِذُكُمُ اُ۬للَّهُ بِاللَّغْوِ فِيٓ أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِنْ يُّوَ۬اخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ اُ۬لَايْمَٰنَۖ﴾ [المائدة: 91].
ويشير المدلول اللغوي لكلمة -عقيدة- إلى ما انعقد عليه القلب وتمسك به وصعب تغييره، سواء نتيجة لوهم زائف أو نتيجة لدليل صادق. كذلك يصح استخدام -عقيدة- لغويًّا بمعنى الاقتناء فيقال: «اعتقد ضيعة أو مالًا» أي: اقتناهما. [4] لأجل ذلك تدور مادة (عقد) في اللغة على اللزوم والتأكيد والاستيثاق.[5]
وأصل العَقْد نقيض الحل، ثم استعمل في جميع أنواع العقود في البيوعات وغيرها.
– العقيدة اصطلاحا: هي الأمور التي يجب أن يصدق بها القلب، وتطمئن إليها النفس؛ حتى تكون يقيناً ثابتاً لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك. أي: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده، ويجب أن يكون مطابقاً للواقع، لا يقبل شكاً ولا ظنا؛ فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة. وسمي عقيدة؛ لأن الإنسان يعقد عليه قلبه.
والعقيدة: هي «الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده،[6] وهي في الدين ما يقصد به الاعتقاد؛ كعقيدة وجود الله وبعث الرسل. والجمع: عقائد وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به؛ فهو عقيدة، سواء كان حقاً، أم باطلاً»[7]
وهي عند المسلمين: الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح. والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع، ولرسوله ﷺ بالطاعة والتحكيم والاتباع.[8]
2 – مفهوم الفقه لغةً واصطلاحاً:
– الفقه في اللغة: الفهم، ومنه قول الله تعالى: ﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيراٗ مِّمَّا تَقُولُ﴾ [هود: 91.] وقوله عز وجل: ﴿وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمُ﴾ [الإسراء: 44.]
– والفقه في الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية. وقد يطلق الفقه على الأحكام نفسها.
موضوع الفقه: هو أفعال المكلفين من العباد على نحوٍ عام وشامل، فهو يتناول علاقات الإنسان مع ربه، ومع نفسه، ومع مجتمعه. ويتناول الأحكام العملية، وما يصدر عن المكلف من أقوال، وأفعال، وعقود وتصرفات، وهي على نوعين:
الأول: أحكام العبادات: من صلاة، وصيام، وحج، ونحوها.
الثاني: أحكام المعاملات: من عقود، وتصرفات، وعقوبات، وجنايات، وضمانات وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم مع بعض.
ويمكن حصر هذه الأحكام فيما يلي:
1- أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها، وتشمل: أحكام الزواج، والطلاق، والنسب، والنفقة، والميراث ونحوها.
2 – أحكام المعاملات المالية المدنية: وهي المتعلقة بمعاملات الأفراد، ومبادلاتهم من بيع، وإجارة، وشركة ونحوها.
3 – الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وجنايات، وما يستحقه عليها من عقوبات.
4 – أحكام المرافعات والقضاء: وهي المتعلقة بالقضاء في الخصومات، والدعوى، وطرق الإثبات ونحوها.
5 – الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة، وتشمل الجهاد والمعاهدات.[9]
ثانيا: المنهج الأشعري في الدرس العقدي امتداد لمناهج المذاهب الفقهية السنية
يراد بالدرس العقدي الأشعري الأصول المرجعية لأصول الدين، والمقصود بها أصول الإيمان الستة المذكورة في قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ اَ۬لْبِرُّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَ۬لْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنِ اِ۬لْبِرُّ مَنَ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِ وَالْمَلَٰٓئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيٓـِٕۧنَ﴾ [البقرة 177]. وهو المعنى المتضمن في جواب النبي -ﷺ- لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان، فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» [10]. وهي الأصول الستة التي يقوم عليها إيمان العبد، وتصح بها عبادته.
ولعل أول من استخدم هذا المصطلح مسمى للعقيدة، هو الإمام الشافعي رحمه الله «تـ204هـ»؛ واستخدمها أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري «تـ 329هـ»، حين وسم كتابه الذي أبان فيه عن عقيدة أهل السنة والجماعة بـ«الإبانة عن أصول الديانة». وأبو حاتم الرازي «تـ328هـ» في كتابه «أصل السنة والاعتقاد في الدين»، ومن بعدهما عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري «تـ378هـ» في كتابه: «الشرح والإبانة عن أصول الديانة»، وهو الكتاب الذي يعرف بـ«الإبانة الصغرى». وعبد القاهر البغدادي «ت429هـ» في كتابه «أصول الدين». وغيرهم. وتسمية العقيدة بـ«أصول الدين» تمييزا لها عن الفروع[11].
ويعتمد الدرس الأشعري على مناهج البناء والاستدلال: «والمقصود به المنهج المرتكز على البحث الكلامي، الآخذ بالمقدمات العقلية البرهانية والحجاجية الإقناعية، في تقريب أصول وفروع العقيدة والدفاع عنها بمنهج جدلي يعتمد المزاوجة بين العقل والنقل»[12].
وبهذا يعد المنهج الأشعري امتدادا لمناهج المذاهب الفقهية السنية، باعتبار الأول مسمى عند بعض المذاهب بالفقه الأكبر، وأول من استخدم هذا المصطلح الإمام أبو حنيفة؛ النعمان بن ثابت (تـ150هـ).
ويعد كتاب الفقه الأكبر من أقدم وأهم المصنفات في أصول الدين عند أهل السنة والجماعة، صنَّفه الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأصبح مع باقي رسائله العقدية «كالعالم والمتعلم»، و«كالوصية»، و«كالفقه الأبسط» المرجع الرئيس؛ الذي يعتمد عليه الأحناف الماتريدية في أصولهم، وقد ذكر أبو منصور البغدادي أنه صُنِّف في الأصل للرد على القدرية.
وسَمّى الإمام أبو حنيفة كتابه «بالفقه الأكبر» تمييزاً له عن «الفقه الأصغر»؛ ذلك أن الأصغر يعني الفروع المطلوبة من المكلف الإتيان بها وتحصيلها؛ امتثالاً للأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وهذه متعلقة بالأفعال والأقوال التي تبنى عليها الأفعال، كصيغ العقود مثلاً. في حين أنّ الأكبر هو المتعلّق بأصول الدين من العقائد التي لا تصح الفروع إلّا بسلامتها، وهي مباحث الألوهية وما يندرج فيها؛ كالإيمان بوجود الله تعالى، ووجوب صفاته، وأنه الخالق المختار، ومباحث النبوات وفيها البحث في حقيقة المعجزة، وجهة دلالتها على صدق النبي، وما يتفرع على مباحث النبوة من السمعيات التي هي أخبار الرسول.[13]
أما الفقه فيطلق في القرون الأولى على العلم بأحكام الشريعة كلها. ومنه قوله -ﷺ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.»[14] وكذا دعاؤه -ﷺ لابن عباس -رضي الله عنهما-: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».[15] عاما في الدين كله، عقيدة وشريعة. بل خص العلماء المتأخرون اسم «الفقه» بمعرفة مسائل الحلال والحرام، في مجال العبادات والمعاملات.
ثالثا: الدرس العقدي الأشعري في مصنفات الفقهاء المالكية
إن الفقهاء المالكية، وخاصة المؤسسون لأصوله الفقهية على منهج الإمام مالك، اهتموا بالدرس العقدي الأشعري مفتتحا جامعا لأصول العقيدة في العديد من المصنفات الفقهية، فصدروا كتبهم بأبواب العقيدة باعتبارها الأصل الأول في الدين، وعليه تدور أصول الشريعة الإسلامية، وخاصة الفقه وما يحمل من أبواب شتى تتسع لكل مرتكزات الإيمان والإسلام في التدين.
والبحث في هذا المجال ساقنا للوقوف على العديد من المصنفات الفقهية وخاصة المالكية، التي اهتمت بالدرس العقدي بابا رئيسا في كتبهم الفقهية، وهذه جملة منها سنقف عندها، لنتعرف منهج مؤلفيها في هذا المنحى:
– متن الرسالة، لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي، القيرواني، المالكي (تـ 286هـ)
افتتح ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله رسالته بالباب الأول في العقيدة وسماه «باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات» وقال في مفتتح هذا الباب : «من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء لا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون ،يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد .وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. على العرش استوى وعلى الملك احتوى وله الأسماء الحسنى» إلى آخر ماذكر من أصول الاعتقاد في هذا الباب.
وقد اشتمل هذا الباب على نحو مائة عقيدة[16]، وترجع في التفصيل إلى ثلاثة أقسام: قسم فيما يجب لله تعالى، وقسم فيما يستحيل عليه، وقسم فيما يجوز في حقه.
وقد جعل باب العقيدة كلية من كليات الدين تتأسس عليها فروعه من العبادات والآداب العامة والخاصة.
ثم ثنى باب العقيدة بما يجب منه الوضوء والغسل. ثم سرد بقية الأبواب الفقهية التي عليها مدار العبادات.
– الدر الثمين والمورد المعين (شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين) لمحمد بن أحمد ميارة المالكي[17].
وهي شرح لمنظومة ابن عاشر[18] ،افتتحه المؤلف بثلاث مقدمات في العقيدة:
– الأولى: مقدمة لكتاب الاعتقاد معينة لقارئها على المراد
– الثانية: كتاب أم القواعد، وما انطوت عليه من العقائد
– الثالثة: مقدمة من الأصول معينة في فروعها على الوصول
ففي المقدمة الثالثة، قال محمد بن أحمد ميارة: «ذكر الناظم في هذه الترجمة الحكم الشرعي وأقسامه، وأفاد أن هذه المقدمة مأخوذة من الأصول أي من أصول الفقه، وأنها معينة، أي يستعان بمعرفتها في فروع الأصول، التي تذكر بعد هذه الترجمة، على الوصول إلى معرفة حقيقة حكم تلك الفروع الآتية، فإذا خاض فيها وقيل له هذا واجب مثلا أو مندوب، علم من هذه الترجمة حقيقة الواجب المندوب، وأن الأول ما طلب طلبا جازما، والثاني ما طلب غير جازم، وهكذا في المحرم والمباح. وكفى بذلك إعانة هذا مقصوده والله أعلم».[19]
ثم أعقب هذه المقدمات بأبواب العبادات وختم مؤلفه: بكتاب مبادئ التصوف، قال ميارة: «ختم هذا النظم بمبادئ علم التصوف وفاء بما وعد به صدر النظم في قوله: «وفي طريقة الجنيد السالك»، وتفاؤلا لأن يكون السعي في تصفية القلب وتطهيره خاتمة الأمر»[20]
-القوانين الفقهية، لأبي القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي (تـ ـ741هـ).
استهل ابن جزي رحمه الله كتابه القوانين الفقهية بمقدمة شاملة افتتحها بقوله «فَهَذَا كتاب فِي قوانين الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ومسائل الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة على مَذْهَب إِمَام الْمَدِينَة أبي عبد الله مَالك بن أنس الأصبحي رَضِي الله عَنهُ، إِذْ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أهل بِلَادنَا بالأندلس، وَسَائِر الْمغرب اقْتِدَاء بدار الْهِجْرَة وتوفيقا من الله تَعَالَى ،وَتَصْدِيقًا لقَوْل الصَّادِق المصدوق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا يزَال أهل الْمغرب ظَاهِرين على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة» ،ثمَّ زِدْنَا إِلَى ذَلِك التَّنْبِيه على كثير من الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف الَّذِي بَين الإِمَام الْمُسَمّى وَبَين الإِمَام أبي عبد الله أَحْمد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَالْإِمَام أبي حنيفَة النُّعْمَان ابْن ثَابت وَالْإِمَام أبي عبد الله بن حَنْبَل، لتكمل بذلك الْفَائِدَة ويعظم الِانْتِفَاع.
فَإِن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة هم قدوة الْمُسلمين فِي أقطار الأَرْض، وأولو الأتباع والأشياع، وَرُبمَا نبهت على مَذْهَب غَيرهم من أَئِمَّة الْمُسلمين كسفيان الثَّوْريّ، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وعبد الله بن الْمُبَارك، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأبي ثَوْر وَالنَّخَعِيّ وداوود بن عَليّ إِمَام الظَّاهِرِيَّة. وَقد أكثرنا من نقل مذْهبه. وَاللَّيْث بن سعد وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ. فَإِن كل وَاحِد مِنْهُم مُجْتَهد فِي دين الله ومذاهبهم طرق موصلة إِلَى الله»[21].
ثم أعقب هذه المقدمة بسبعة أبواب في العقيدة جعلها كالآتي:
– الباب الأول في وجود الباري جل جلاله
– الباب الثاني في صفات الله تعالى عز شأنه وبهر سلطانه
– الباب الثالث في أسماء الله تعالى الحسنى
– الباب الرابع في توحيد الله تعالى
– الباب الخامس في تنزيه الله تعالى
– الباب السادس في الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله
– الباب السابع في الإيمان بالدار الآخرة وتشمل على اثنتي عشرة مسألة
وبعد التوسع في بسط مضامين أبواب العقيدة، ضَمَّن الكتاب الأبواب الفقهية الخاصة بقسم العبادات والمعاملات. وحجته في تقديم الكلام في العقيدة على الفقه قوله: «اعْلَم أنني افتتحته بعقيدة سنية وجيزة، تَقْدِيمًا للأهم، فَلَا جرم أَن الْأُصُول أهم من الْفُرُوع، وَمن الْحق تَأْخِير التَّابِع وَتَقْدِيم الْمَتْبُوع. ثمَّ قسمت الْفِقْه إِلَى قسمَيْنِ أَحدهمَا فِي الْعِبَادَات وَالْآخر فِي الْمُعَامَلَات»[22]
– الجامع لمسائل المدونة لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي[23] (تـ 451 هـ)[24]:
صنف المؤلف هذا الجامع على منهج عدة كتب، جعلها حوالي أربعة وتسعين كتابا في أصول الدين، معظمها في المسائل الفقهية، افتتحه بكتاب الطهارة، وختمه بكتاب الجامع لأصول الدين، وضمن «كتاب الجامع» تسعة وعشرين بابا، خص الباب الأول إلى غاية الباب السابع منه بأبواب العقيدة، وهذا ذكر لمسمياتها:
1 – الباب الأول: باب ما يجب على المكلفين اعتقاده
2 – الباب الثاني: باب البيان عن إثبات الرسل
3 – الباب الثالث: ذكر ما أنعم الله على خلقه بالإدراك الحسي
4 – الباب الرابع: ذكر البيان عن طرق الأدلة التي يعلم بها الحق
5 – الباب الخامس: باب ترتيب المكلفين، وتنزيل جميع فرائض الدين
6 -الباب السادس: باب القول في البيان عن الإسلام والإيمان ومعنى ذلك
7 -الباب السابع: باب في التوحيد والأسماء والصفات وسائر الاعتقادات
أما منهجه في بسط أبواب جامعه، فقد بينه رحمه الله تعالى في مقدمة الكتاب قائلا: «أما بعد: يسرنا الله لهدايته، وهدانا إلى توفيقه: فقد انتهى إلى ما رغب فيه جماعة من طلبة العلم ببلدنا في اختصار كتب المدونة، والمختلطة، وتأليفها على التوالي، وبسط ألفاظها تيسيراً، وتتبع الآثار المروية فيها عن النبي – ﷺ – وعن أصحابه رضي الله عنهم، وإسقاط إسناد الآثار، وكثير من التكرار، وشرح ما أشكل من مسائلها، وبيان وجوهها، وتمامها في غيرها من الكتب، فسارعت إلى ذلك رجاءَ النفع به، والمثوبة عليه إن شاء الله تعالى.
وأدخلت فيه مقدمات أبواب كتاب الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى وزياداته، إلا اليسير منها، وطالعت في كثير منها ما نقله في النوادر، ونقلت كثيراً من الزيادات من كتاب ابن المواز، والمستخرجة ولم أخل من النظر إلى نقل أبي محمد واختصاره فيها، وعملت على الأتم عندي من ذلك، وربما قدمت، أو أخرت مسائل يسيرة إلى شكلها؛ لئلا تفوت قراءتها قارئ موعده في الأمهات، ورأيت العناية بذلك محمودة، والخير فيه مأمول، وكل ينتهي من ذلك إلى ما يسر إليه، وأعين عليه بمن الله وفضله، وتسديده، وتوفيقه.»[25]
– المقدمات الممهدات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (تـ 560هـ).
ضمن الإمام ابن رشد كتابه «المقدمات الممهدات «مبادئ أصول الدين، وشملت أبواب جامعة في العقائد وأصول الفقه ومسائل الفقه. وغايته في ذلك بناء فروع الفقه الأصغر على أصول الفقه الأكبر.
واستفتح الكتاب بعد المقدمة بفصل في «معرفة الطريق إلى وجوب التفقه في الوضوء وغيره من الشرائع» ثم ثناه بفصل في «معرفة شرائط التكليف»، وجعل الفصل الثالث منه «في وجوب الاستدلال»، والرابع في «وحدانية الله عز وجل وما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله». ثم جاء بفصل في «تحرير القول في الإيمان والإسلام». ثم فصل في «زيادة الإيمان ونقائصه» وهكذا إلى أن أتى على تحرير فصول متتاليات في الأبواب الفقهية المعهودة في العبادات والمعاملات.
وغايته في هذا الدمج بين أصول الديانات من العقائد والفقه وأصول التشريع أن لا طريق إلى المعرفة بوجوب الفقه من الطهارة والصلاة وغيرها من أبواب العبادات إلا بعد المعرفة بالله تعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله.
وهذا ما بينه في مفتتح الفصل الأول في معرفة الطريق إلى وجوب التفقه في الوضوء قائلا: قال الله عز وجل: ﴿شرَعَ لَكُم مِّنَ اَ۬لدِّينِ مَا وَصّ۪يٰ بِهِۦ نُوحاٗ وَالذِيٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِۦٓ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنَ اَقِيمُواْ اُ۬لدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۖ﴾ الشورى: 11.
والدين الذي أمرنا بإقامته هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله سواه. قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اَ۬لدِّينَ عِندَ اَ۬للَّهِ اِ۬لِاسْلَٰمُۖ﴾ آل عمران: 19، وقال: تعالى: ﴿وَمَنْ يَّبْتَغِ غَيْرَ اَ۬لِاسْلَٰمِ دِيناٗ فَلَنْ يُّقْبَلَ مِنْهُۖ وَهُوَ فِي اِ۬لَاخِرَةِ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ﴾ آل عمران: 84. وإقامته تفتقر إلى التفقه في شرائعه التي شرعها الله لعباده، وأوجبها عليهم في محكم كتابه، من الوضوء والصلاة والزكاة وسائر شرائع الدين، والتفقه فيها لا يستقيم إلا بعد المعرفة بوجوبها، ولا طريق إلى المعرفة بوجوبها إلا بعد المعرفة بالله تعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، أو ما يقوم مقام المعرفة من الإيمان والتصديق، على القول بأن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى؛ لأن المعرفة بوجوب الواجبات وحظر المحظورات مع الجهل بموجبها والجحد له من المستحيل في العقل، فلا يعلم الله تعالى إلا بالنظر في الأدلة التي نصبها لمعرفته والاستدلال بها عليه. ولا يصح النظر والاستدلال إلا ممن له عقل ينظر به ويستدل.
وقد جعل الله تبارك وتعالى لمن أراد تكليفه من عباده عقولا يعرفونه بها بما نصب لهم من الأدلة على معرفته، ويعقلون بها ما خاطبهم به وشرعه لهم في كتابه وعلى ألسنة رسله»[26].
– النَّوادر والزِّيادات على مَا في المدَوَّنة من غيرها من الأُمهاتِ، لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي، القيرواني، المالكي (تـ 386هـ)
ألف ابن أبي زيد القيرواني «النَّوادر والزِّيادات» وصنفه على منهج كتب في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات، وافتتحها بكتاب الطهارة ثم كتاب الصلاة وكتاب الزكاة، وهكذا إلى غاية آخر كتاب سماه «كتاب المرتدين «ضمنه جملة من أبواب في موضوعات العقيدة منها
– فصل فيمن سب الله سبحانه وتعالى أو أحدا من ملائكته، أو أنبيائه أو رسله.
– وفصل في الحكم في القدرية والخوارج وأهل البدع.
– وآخر في ذكر القدر والأسماء والصفات والاستواء على العرش ومجانبة أهل البدع[27].
– فتاوى ابن رشد لأبي الوليد محمد بن أحمد القرطبي المالكي / تحقيق الدكتور المختار بن الطاهر التليلي.
تعد فتاوى ابن رشد المالكي مدونة فقهية تبين منهجه في تقرير الأحكام الشرعية، في القضايا والمسائل التي عرضت عليه استفتاء. أبرز فيها إحاطته بالروايات واطلاعه على المؤلفات، كما بين فيها حججا للرد على المخالفين أو المتعالين، وأخرى دافع بها عن رأي مالك، وعن أئمة الأشعريين وعن مالكيتهم. فكان مما ساقه في هذه المدونة العديد من الأجوبة بشأن العقيدة الأشعرية وشأن علمائها.
ومن أمثلتها ما كتب إليه الأمير أبو إسحاق بن أمير المسلمين من مدينة إشبيلية سائلا عن أئمة الأشعريين هل هم مالكيون أم لا؟ وهل ابن أبي زيد ونظراؤه أشعريون أم لا؟ وهل أبو بكر الباقلاني مالكي أم لا؟
فأجابه على ذلك بما نصه : قال: «لا تختلف مذاهب أهل السنة في أصول الديانات، وما يجب أن يعتقد من الصفات، ويتأول عليه ما جاء في القرآن والسنن والآثار من المشكلات، فلا يخرج أئمة الأشعرية بتكلمهم في الأصول، واختصاصهم بالمعرفة بها عن مذاهب الفقهاء في الأحكام الشرعيات، التي تجب معرفتها فيما تعبد الله به عباده من العبادات، وإن اختلفوا في كثير منها، فتباينت في ذلك مذاهبهم، لأنها كلها على اختلافها مبنية على أصول الديانات التي يختص بمعرفتها أئمة الأشعرية، ومن عني بها بعدهم، فلا يعتقد في ابن أبي زيد وغيره من نظرائه أنه جاهل بها، وكفى من الدليل على معرفته بها ،ما ذكره في صدر رسالته مما يجب اعتقاده في الدين.
وأما أبو بكر الباقلاني فهو عارف بأصول الديانات وأصول الفقه على مذهب مالك رحمه الله وسائر المذاهب، ولا أقف هل ترجح عنده مذهب مالك على سائر المذاهب أم لا؟ لأن المالكي إنما هو من ترجح عنده مذهب مالك على سائر المذاهب، لمعرفته بأصول الترجيح، أو اعتقد أنه أصح المذاهب من غير علم فمال إليه، والعالم على الحقيقة هو العالم بالأصول والفروع، لا من عني بحفظ الفروع، ولم يتحقق بمعرفة الأصول».[28]
فأقر في مقالته هاته اهتمام الفقهاء المالكية بالدرس العقدي الأشعري وأنه جزء لا يتجزأ من أصول الديانات في مجال العقائد والعبادات.
وفي مسألة أخرى كُتِب إليه من مدينة فاس بالسؤال عن الأشعرية، وعن أبي الحسن الأشعري، وعن أبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورك، وأبي المعالي الجويني، ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام، ويتكلم في أصول الديانات، ويصنف في الرد على أهل الأهواء، أهم أئمة رشاد وهداية، أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما القول فيمن يسب الأشعرية وينتقصهم، ويسب كل من ينتمي إلى مذهبهم، ويكفرهم ويتبرأ منهم، ويعتقد أنهم على ضلالة وخائضون في جهالة؟ ماذا يقال لهم، ويصنع بهم، ويعتقد فيهم؟ أيتركون على أهوائهم أم يكف على غلوائهم؟ وهل ذلك جرحة في أديانهم ودخل في إيمانهم؟ وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا؟
فأجاب – رحمه الله- بما نصه: «تصفحت السؤال، ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، ممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات، فهم، لمعرفتهم بأصول الديانات، العلماء على الحقيقة لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينتفي عنه، إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول، فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عنى النبي عليه السلام- والله أعلم- بقوله: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[29].
فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل، أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم، وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق، وقد قال الله عز وجل : ﴿وَالذِينَ يُوذُونَ اَ۬لْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا اَ۪كْتَسَبُواْ فَقَدِ اِ۪حْتَمَلُواْ بُهْتَٰناٗ وَإِثْماٗ مُّبِيناٗۖ﴾ [الأحزاب الآية 58]، فيجب أن يبصر الجاهل منهم، ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مشتهرا ببدعته، فإن تاب وإلا ضرب أبدا حتى يتوب كما فعل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بصبيغ المتهم[30] في اعتقاده من ضربه إياه حتى قال له يا أمير المؤمنين :إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي، فخلى سبيله.»[31]
والاستشهاد بهاتين المسألتين في الموضوع، يؤكد حضور الدرس العقدي، في المسائل الفقهية، كما هو وارد عند ابن رشد في مدونته الفقهية.
– أسهل المسالك في مذهب الإمام مالك (ضمن مجموع الرفعة في بعض متون فقه المذاهب الأربعة) لمحمد بن حسن بن علي بن سالم البشار الرشيدي[32] (تـ 1161 هـ)
إن كِتَاب «أَسْهَلِ الْمَسَالِكِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ» هو نَظْمٌ في الفقه لِمَتْن «تَرْغِيبِ الْمُرِيدِ السَّالِكِ إِلى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ» لِلشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ السُّهَائِيِّ الْأَزْهَرِيِّ المتوفى سنة1080هـ. وَقَدْ سَارَ فِي نَظْمِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ. وقام بشَرح هَذِهِ الْمَنْظُومَةَ عُثْمَانُ بْنُ حَسَنَيْنِ بَرِّي الْجُعَلِيُّ فِي كِتَابِ: «سِرَاجِ السَّالِكِ شَرْحِ أَسْهَلِ الْمَسَالِكِ.»
أما منهج المؤلف في منظومته المذكورة، أنه ألفها على منهج الأبواب الفقهية في العبادات والمعاملات، وافتتحها بباب من أبواب العقيدة سماه «بَابُ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ» وفي مطلع هذا الباب قال الناظم:
أَوَّلُ وَاجِـبٍ عَـلَـى الْمُكَـلَّفِ: | *** | مَعْرِفَــةُ اللهِ يَقِينًـا فـَاعْرِفِ |
وَإِنَّمَا الْعَالَــمُ طُرًّا حَادِثُ | *** | وَاللهُ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَارِثُ |
وَقَـائِــمٌ بِنَـفْســِهِ وَذُو غِـنَــا | *** | مُخَالِفٌ لِخَلْقِهِ لَهُ الثَّنَا |
وَوَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَفِـي الصِّفَـةْ | *** | لَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ فَاعْرِفَهْ |
لَهُ: كَلَامٌ قُدْرَةٌ سَمْعٌ بَصَرْ | *** | إِرَادَةٌ عِلْمٌ حَيَــاةٌ جَــا الْخَبَرْ |
وَكَوْنُهُ حَيًّا مُرِيدًا قَادِرَا | *** | وَمُـتَكَـلِّمَا سَمِـيـعًا مُـبْـصِرَا |
وَعَـالِمًـا جَــلَّ عَـــنِ التَّـمْـثِيلِ | *** | وَالطَّبْعِ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّعْطِيلِ» [33] |
– حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني لأبي الحسن علي بن أحمد بن مكرم الصعيدي العدوي[34] المتوفى سنة1189هـ.
والحاشية هي شرح لكتاب «كِفَايَةِ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ» ،وهو مؤلف في الفقه المالكي، قال المؤلف في مطلع هذه الحاشية مبينا موضوع الكتاب : «فَيَقُولُ الْفَقِيرُ لِرَحْمَةِ مَوْلَاهُ عَلِيٌّ الصَّعِيدِيُّ الْعَدَوِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَمَّا أَرَادَ الْمَوْلَى جَلَّ جَلَالُهُ وَعَظُمَ شَأْنُهُ بِالْمُذَاكَرَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ فِي كِفَايَةِ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ، وَظَهَرَ بَعْضُ تَقَايِيدَ أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهَا لِنَفْسِي، وَمَنْ هُوَ قَاصِرٌ مِثْلِي، جَعَلَهَا اللَّهُ خَالِصَةً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ بِجِنَانِ النَّعِيمِ»[35].
رتب حاشيته على الأبواب الفقهية المعهودة في العبادات والمعاملات، وافتتحها بباب في العقيدة وسماه: «باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة» وضمنه تنبيهات هامة، جعل التنبيه الأول في: إيمان المقلد. والتنبيه الثاني في: الإيمان والإسلام واحد. ثم استرسل في شرح متن كفاية الطالب في المادة الفقهية.
– فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لمحمد بن أحمد بن محمد عليش[36]، أبو عبد الله المالكي (ت 1299هـ).
وهذا كتاب آخر في مسائل الفقه المالكي صنفه مؤلفه على الأبواب الفقهية، ونبه على منهجه في مطلع التحرير فقال: «إنَّ أَوْلَى مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْعَاقِلُ اللَّبِيبُ، وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكَامِلُ الْأَرِيبُ، التَّفَقُّهُ فِي دِينِهِ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَوْضِيحِهِ وَتَبْيِينِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْفَتْوَى مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُعْتَنَى وَأَجَلِّ مَا يُقْتَنَى لِنَوْعِ بَنِي الْإِنْسَانِ. قَيَّدْتُ مَا وَقَعَ لِي مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَجَمَعْتُهَا وَرَتَّبْتُهَا عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ بَعْدَ أَنْ هَذَّبْتُهَا وَنَقَّحْتُهَا، وَسَمَّيْتُهَا : «فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ فِي الْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ» رَاجِيًا مِنْ اللَّهِ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – التَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ، سَائِلًا مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُثِيبَنَا دَارَ الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهَا الطُّلَّابَ وَيَجْعَلَهَا عُمْدَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ إنَّهُ وَلِيُّ الْإِجَابَةِ وَإِلَيْهِ الْإِنَابَةُ»[37].
والكتاب مختص بمسائل الفقه غير أن المؤلف اهتم فيه أيضا بمسائل العقيدة، فافتتحه: بباب سماه: «مسائل العقائد» ثم ثناه «بباب مسائل أصول الفقه» ثم استتبعه بأبواب مسائل الفقه.
رابعا: مناهج الدرس الفقهي عند المهتمين بالدرس العقدي
وكما اهتم الفقهاء بإدراج جوامع العقيدة في المصنفات الفقهية، اهتم أيضا علماء العقيدة بالدرس الفقهي، وجعلوه من مشمولات العقائد:
واعتبروا اتساع دائرة العبادة بقدر امتداد النية لتشمل حياة الإنسان كلها، فقسموا العبادة ضمن مصنفاتهم الاعتقادية إلى أقسام:
– أولا: عبادات اعتقادية: وهي اعتقاد ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه، وأخبر رسوله ﷺ عن ربه؛ من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه… امتثالا لقول الله عز وجل: ﴿لَّيْسَ اَ۬لْبِرُّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَ۬لْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنِ اِ۬لْبِرُّ مَنَ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِ وَالْمَلَٰٓئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيٓـِٕۧنَ﴾ [البقرة: 177].
– ثانيا: عبادات قلبية: وهي أعمال القلوب؛ كمحبة الله تعالى، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، ورجائه، وإخلاص العبودية له، والصبر على أوامره ونواهيه وأقداره، والرضا به، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطمأنينة به، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله عز وجل. امتثالا لقول تعالى: ﴿وَعَلَي اَ۬للَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّومِنِينَۖ﴾ [المائدة: 25]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنِيبُوٓاْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ﴾ [الزمر: 51]، وقوله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ﴾ [آل عمران: 200].
– ثالثا: عبادات قولية: ومن أجلِّها: النطق بكلمة الإخلاص «لا إله إلا الله»، والدعاء إلى الله والذب عنه، والقيام بذكره عز وجل، وتبليغ دينه، وقراءة القرآن، ونحو ذلك.[38]
امتثالا لقول الله عز وجل: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُۖ﴾ [النحل: 125]، وقوله عز وجل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ اُ۟دْعُونِيٓ أَسْتَجِبْ لَكُمُۥٓ﴾ [غافر: 60].
-رابعا: عبادات بدنية: وتشمل أعمال الجوارح؛ من صلاة، وجهاد، وحج، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك. امتثالا لقوله الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪رْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ اُ۬لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ﴾ [الحج: 77]، وقوله عز وجل: ﴿ثُمَّ لِيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ اِ۬لْعَتِيقِۖ﴾ [الحج: 27]. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِنْ يَّوْمِ اِ۬لْجُمُعَةِ فَاسْعَوِاْ اِلَيٰ ذِكْرِ اِ۬للَّهِ وَذَرُواْ اُ۬لْبَيْعَۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ﴾ [الجمعة: 9].
-خامسا: عبادات مالية: وتشمل إخراج الزكاة من المال، والوفاء بالنذر، والجهاد بالمال في سبيـل الله عـز وجـل امتثـالا لقولـه عـز وجـــل: ﴿وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٞۖ﴾ [البقرة: 109]. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿اِ۪نفِرُواْ خِفَافاٗ وَثِقَالاٗ وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ﴾ [التوبة: 41]، وقول الله عز وجل: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماٗ كَانَ شَرُّهُۥ مُسْتَطِيراٗۖ﴾ [الإنسان: 7].
فالعبادة على هذا الاعتبار تشمل جميع مجالات الحياة، في ارتباط تام بأسس العقيدة، والتوجه بإخلاص العبـادة لله عـز وجـل قـال سبحانـه: ﴿قُلِ اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْي۪آيْ وَمَمَاتِيَ لِلهِ رَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَ (164) لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُۖ وَأَنَآ أَوَّلُ اُ۬لْمُسْلِمِينَۖ﴾ [الأنعام: 164-165].[39]
ومن أمثلة مشمولات العقائد لبعض المسائل الفقهية:
– اخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ في بعض العبادات وهو على وُجُوهٍ:
مِنْهُ مَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْفِعْلَيْنِ حَقًّا مَشْرُوعًا، «كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى زَجَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ».
وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَحَلِّ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا قَدْ شُرِعَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ أَرْجَحَ أَوْ أَفْضَلَ، ثُمَّ تَجِدُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا أَوْجَبَ اقْتِتَالَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ عَلَى شَفْعِ الْإِقَامَةِ وَإِيتَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ! وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهَوَى لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخَرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ: مَا دَخَلَ بِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.[40]وهذا يدخل في عقيدة المبتدعة من أهل الأهواء.
– ومنه المسح على الخفين: وكان من أقدم الأئمة الذين قرروا تلك المسألة الإمام سفيان الثوري في عقيدته حيث قال مخاطباً من سأله عن معتقده: «يا شعيب بن حرب، لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك».[41]
بل قال سفيان الثوري: «من لم يمسح على الخفين فاتهموه على دينكم»[42] .وعند سهل بن عبد الله التستري المسح على الخفين من خصال أهل السنة»[43].
كما قرر ذلك أبو حنيفة، وأبو الحسن الأشعري في كتابه «الإبانة»، والطحاوي في عقيدته وغيرهم ممن اشتغل بالعقائد.
ووجه إيراد مسألة المسح على الخفين ضمن كتب الاعتقاد: مخالفة الروافض والخوارج الذين لا يجيزون المسح على الخفين، وكما قال الإمام محمد بن نصر المروزي: «وقد أنكر طوائف من أهل الأهواء والبدع من الخوارج والروافض المسح على الخفين»[44].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: «وقد تواترت السنة عن النبي ﷺ بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، كما تخالف الخوارج نحو ذلك»[45]
ولعل النماذج التي ذكرناها تدخل في مسائل الفقه لا في مسائل العقيدة؛ ولكن أُدْرجت في مسائل الاعتقاد للاستدلال على أن أهل السنة تميَّزُوا عن عدد من الفرق باتباع المنهج النبوي السديد، ومخالفة عقيدة طوائف من الخوارج والرافضة وغيرهم من أهل الأهواء والبدع الضالة.
خاتمة
وختاما فإن الدرس العقدي والدرس الفقهي يشكلان معا القواعد الأساسية في البناء التشريعي لأصول الدين، ذلك أن تضمين الدرس العقدي الأشعري ضمن الأبواب الفقهية، هو المنهج السديد والمعتبر عند أئمة الفقه، الذين يَجمعون بين المعرفة الدينية، في مجال العقيدة والشريعة.
كما أن الدرس الفقهي معتبر عند المهتمين بالدرس العقدي، لأن العبادة بهذا الاعتبار تشمل جميع مجالات الحياة، في ارتباط تام بأسس العقيدة، في التوجه بإخلاص العبادة لله عز وجل القائل سبحانه: ﴿قُلِ اِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْي۪آيْ وَمَمَاتِيَ لِلهِ رَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَ (164) لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُۖ وَأَنَآ أَوَّلُ اُ۬لْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 164-165].
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
[1] المقدمة: لابن خلدون :ج: 1: ص: 268.
[2] المرجع نفسه
[3] مقاييس اللغة لابن فارس ج:4/86ص:/ المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 576/ القاموس المحيط للفيروزابادي (ص: 300).
[4] تاج العروس، مادة: عقد.
[5] لسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروزابادي، مادة: عقد.
[6] القاموس الفقهي للدكتور سعدي أبو جيب / دار الفكر. دمشق – سورية /الطبعة: الثانية 1408 هـ – 1988م: ص: 256، مادة: عقد.
[7] الوجيز في عقيدة السلف الصالح، لعبد الله بن عبد الحميد الأثري/مراجعة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ/ وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية/الطبعة: الأولى، 1422هـ: ص:29
[8] المرجع نفسه: ص: 30
[9] الكتاب: الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة /المؤلف: مجموعة من المؤلفين/ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف /سنة الطبع: 1424هـ
[10] جزء من حديث جبريل عليه السلام: أخرجه البخاري: برقم 4777 /وأخرجه ابن حبان في صحيحه الحديث رقم: 173.
[11] المفيد في مهمات التوحيد/الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي/الناشر: دار الاعلام/الطبعة: الأولى 1422هـ-: ص: 14.
[12] مقومات الدرس العقدي الأشعري بالمغرب والسودان الشرقي: قراءة في معالم الوحدة والتشابه للدكتور يوسف بلمهدي / مقال ضمن مجلة العلماء الأفارقة.
[13] الفقه الأكبر مطبوع مع الشرح الميسر على الفقهين الأبسط والأكبر المنسوبين لأبي حنيفة تأليف محمد بن عبد الرحمن الخميس/المؤلف: ينسب لأبي حنيفة النعمان (ت 150هـ) / مكتبة الفرقان – الإمارات العربية /الطبعة: الأولى، 1419هـ – 1999م: مقدمة الكتاب.
[14] أخرجه البخاري في صحيحه /كتاب العلم باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين /حديث رقم: 71.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه /كتاب العلم باب: اللهم علمه الكتاب، حديث رقم: 75.
[16] الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني / لصالح بن عبد السميع الآبي الأزهري (ت 1335هـ) /المكتبة الثقافية – بيروت: ص:9.
[17] أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة: الفقيه الفصيح العبارة الإِمام العلامة المتبحر في العلوم الفهّامة الثقة الأمين المعروف بالورع والدين المتين، أخذ عن ابن عاشر وشاركه في غالب شيوخه منهم أبو الفضل بن أبي العافية وابن عمه أحمد بن أبي العافية وابن أبي نعيم: وعبد الرحمن الفاسي: والشهاب المقري وغيرهم وانتفع بصحبة أبي عبد الله محمد بن أحمد العياشي الولي الكامل الكثير الكرامات والفتوحات المتوفى قتيلاً سنة 1051هـ من كتبه : تنبيه المغتربين على حرمة التفرقة بين المسلمين/ انظر ترجمته في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد مخلوف.
[18] عبد الواحد بن عاشر تـ 1040 (هو أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي ابن عاشر الأنصاري، المعروف بابن عاشر، وهو من حفدة الشيخ أبي العباس ابن عاشر السلاوي (تـ765هـ، فقيه عالم من المغرب. يعد من أبرز علماء المذهب المالكي واشتهر بمنظومته «المرشد المعين على الضروري من علوم الدين» والتي نظم فيها الفقه المالكي، بالإضافة إلى باب العقيدة والتصوف انظر ترجمته: شجرة النور الزكية لمخلوف: ص299/ سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس لأبي عبد الله الكتاني ج: 310.
[19] الدر الثمين والمورد المعين (شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين) عبد الله المنشاوي
الناشر: دار الحديث القاهرة /سنة النشر: 1429هـ – 2008م/ص: 109.
[20] المصدر نفسه: ص:543.
[21] مقدمة القوانين الفقهية لابن جزي
[22] القوانين الفقهية المؤلف: أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي/ تحقيق ماجد الحموي / سنة 2013/ المقدمة
[23] هو أحمد أبو بكر بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي كان فقيهاً إماماً فرضياً أخذ عن أبي الحسن الحصائري القاضي وعتيق بن الفرضي وابن أبي العباس ألف كتاباً في الفرائض وكتاباً جامعاً للمدونة أضاف إليها غيرها من الأمهات جامع المذهب المالكي وموحد جهود فقهائه.توفي في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وأربعمائة .انظر ترجمته في : الديباج المذهب 1/ 274. انظر ترجمته في: ترتيب المدارك (8/11)، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون (ص: 369)، الوافي بالوفيات (4/227)، شجرة النور (ص: 111) .
[24] تحقيق مجموعة باحثين في رسائل دكتوراه/ الناشر: معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي – جامعة أم القرى/ الطبعة: الأولى، 1434 هـ – 2013م.
[25] الجامع لمسائل المدونة: لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي: تحقيق: مجموعة باحثين في رسائل دكتوراه/ معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي – جامعة أم القرى (سلسلة الرسائل الجامعية الموصى بطبعها/ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع/الطبعة: الأولى، 1434هـ – 2013م: المقدمة: من الصفحة 1إلى الصفحة 4.
[26] المقدمات الممهدات لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (تـ 560هـ) /تحقيق: الدكتور محمد حجي/الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان/الطبعة: الأولى، 1408هـ – 1988 م:ج: 1: ص: 12.
[27] النَّوادر والزِّيادات على مَا في المدَوَّنة من غيرها من الأُمهاتِ:ج: 14: ص:525. المؤلف: أبو محمد عبد الله بن (أبي زيد) عبد الرحمن النفزي، القيرواني، المالكي (ت 386هـ) تحقيق: ج ١، ٢: الدكتور/ عبد الفتّاح محمد الحلو/ج 3، 4: الدكتور/ محمَّد حجي/ج 5، 7، 9، 10، 11، 13: الأستاذ/ محمد عبد العزيز الدباغ/ج 3: الدكتور/ عبد الله المرابط الترغي، الأستاذ/ محمد عبد العزيز الدباغ/ج 8: الأستاذ/ محمد الأمين بوخبزة/ج 12: الدكتور//أحمد الخطابي، الأستاذ/ محمد عبد العزيز الدباغ/ج 14، 15 (الفهارس): الدكتور/ محمَّد حجي/دار الغرب الإسلامي، بيروت/الطبعة: الأولى، 1999 م
[28] فتاوى ابن رشد لأبي الوليد محمد بن أحمد القرطبي المالكي /تحقيق الدكتور المختار بن الطاهر التليلي/ الناشر: دار الغرب الإسلامي بيروت / الطبعة الأولى: سنة 1987 ج: 2: ص: 1060.
[29] أخرجه الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي هريرة في كتاب شرف أصحاب الحديث ص28 الحديث رقم 52.
[30] أخرجه مالك بغير هذا اللفظ في كتاب الجهاد باب ما جاء في السلب في النفل تنوير الحوالك ج2ص 12
[31] فتاوى ابن رشد: ج: ص: 805.
[32] هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ الْبَشَّارِ الرَّشِيدِيِّ وَرَشِيدُ: مَدِينَةٌ مِصْرِيَّةٌ سَاحِلِيَّةٌ تَقَعَ فِي الشَّمَالِ الْمِصْرِيِّ عَلَى مَصَبِّ النِّيلِ الْغَرْبِيِّ كَانَ فَقِيهًا مَالِكِيًّا، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. توفي سنة 1161على المشهور.
[33] أسهل المسالك في مذهب الإمام مالك (ضمن مجموع الرفعة في بعض متون فقه المذاهب الأربعة) محمد بن حسن بن علي بن سالم البشار الرشيدي/ جمع وترتيب الدكتور. توفيق بن إبراهيم ضمرة/الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع/الطبعة: الأولى، 1441 هـ -2020 م: ص: 328
[34] علي بن أحمد بن مكرم الصعيدي العدوي، أبو الحسن: يلقب بالعدوي نسبة إلى قرية «بَني عدي» بالقرب من منفلوط؛ حيث ولد. شيخ شيوخ فقهاء المالكية في عصره. وله اشتغال أيضا بالحديث وعلومه. من شيوخه: عبد الوهاب الملوي، سالم النفراوي، إبراهيم الفيومي، محمد الحفناوي، ومحمد ابن زكريا، وغيرهم. ومن تلاميذه: الدردير، البناني، الدسوقي، ويوسف بن سعد الصفتي، وغيرهم. من مؤلفاته: حاشية على كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني. وحاشية على شرح العزية للزرقاني. ترجم له صاحب شجرة النور الزكية في تراجم المالكية.
[35] حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني لأبي الحسن، علي بن أحمد بن مكرم الصعيدي العدوي تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي /الناشر: دار الفكر – بيروت / تاريخ النشر: 1414هـ – 1994م /ج: 1/ ص:3.
[36] هومحمد بن أحمد بن محمد عليش أبو عبد الله المالكي المتوفى 1299هـ، مُفْتِي السَّادَةِ الْمَالِكِيَّةِ بالديارالمِصْرية .
[37] فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، لمحمد بن أحمد بن محمد عليش، أبو عبد الله المالكي (تـ 1299هـ) /دار المعرفة: ج: 1: ص: 5.
[38] تجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص:117.
[39] المفيد في مهمات التوحيد/الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي: ص: 95-96.
[40] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (تـ 792هـ) /المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة التاسعة 1408هـ – 1988م: ص:514.
[41] انظر منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية لابن تيمية /تحقيق محمد رشاد سالم /الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/ الطبعة: الأولى، 1406هـ -1986م/ الجزء:4: ص: 151.
[42] أخرجه أبو نعيم في الحلية: ج:2: ص: 37.
[43] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي (تـ 418هـ) /تحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي/الناشر: دار طيبة – السعودية/الطبعة: الثامنة، 1423هـ / 2003م: ج: 1: ص: 33.
[44] المجموع للنووي: ج: 1/ص: 500.
[45] منهاج السنة النبوية: 4/ 174.
[نسخة المداخلة الأصلية PDF]