الطريقة المختارية: الأصل والامتداد
تأسيس الزاوية المختارية (الطريقة المختارية)
بعد انتهاء المدة التي قضاها المختار الكنتي بجانب شيخه علي بن النجيب، أشار عليه هذا الأخير بزيارة أهل أزواد، ومن هنا يتضح أن الشيخ المربي هو الذي أذن له بتأسيس زاويته ، وكذا المنطقة المواتية لهذا التأسيس. ويتأكد ذلك إذا علمنا أن قرية كناتة بمنطقة ازواد، التي سينزل بها المختار الكنتي، تعتبر مركز عبور أساسي لتجارة القوافل الذاهبة من سجلماسة إلى تمبوكتو، وأن الشيخ ينتمي إلى قبيلة كنت، دون أن ننسى أن هذه الأخيرة كانت دائما تحظى بالزعامة الدينية، في منطقة أزواد، بل وبقيادة أجداد المختار الكنتي نفسه[1] مما يعني أن استقرار الشيخ المختار بها سيجعل أسرته وكنت تحافظان على تلك الزعامة، إلى جانب ما كانت تخوله هذه الزعامة الروحية للقبائل الأخرى من حماية معنوية تجاه الخصوم. ولعل هذا ما سهل من مأمورية الشيخ الكنتي “الجديد”، وساعد بالتالي، على انتشار طريقته الصوفية ، ليس في أزواد وحسب، وإنما على طول الطرق التجارية في اتجاه المغرب الأقصى شمالا، والسودان جنوبا. لكن هناك عاملا آخر ساهم بدوره في انتشار طريقته الصوفية، ويتعلق الأمر بمميزات هذه الطريقة، كما سنرى لاحقا.
أصل الطريقة المختارية الكنتية
تعد الطريقة المختارية امتدادا لأقدم الفروع التي تفرعت عن الطريقة القادرية وهي البكائية التي تنسب إلى الشيخ أحمد البكاي الذي ينتمي إلى آل كونتا الذين استقروا بإفريقيا الغربية منذ القرن التاسع الهجري/15م[2] حيث أسس هذه الطريقة في القرن العاشر الهجري/16م وقام بنشر الإسلام في البلدان الإفريقية ولم تنقطع صلته بالقادرية المغربية. وحسب أوديت دو بويغودو Oditte De Puigaudeau في كتابها “الماضي المغربي لموريطانيا” قد قدموا أصلا من سبتة، وأنشأ عمر ولد البكاي ورده الخاص بعد أن درس على يد المغيلي بتوات وبلغت القادرية الكنتية أوجها على يد الشيخ المختار الكنتي[3] بمساهمة عدة عوامل من بينها الدور الهام الذي قام به الشيخ مما أعطى لطريقته مميزات.
خصائص الطريقة المختارية الكنتية
يتضح مما سبق أن الشيخ المختار الكنتي صوفي سالك وقادري الطريقة والانتماء والخرقة. لكن الظاهر أن طريقته كانت من بين الطرق القادرية التي هي أشد الطرق متنا والتزاما واعتدالا، على حد قول محمد بن المختار الكنتي: ” من خصائص طريقتنا هذه (الطريقة المختارية) خلوها عما في غيرها من الشطح والتماوت والتغاشي والرقص، ورفع الصوت بأذكار المستغفرين: “كهوهو، وياهو، وياه ياه، والله الله” ونحو ذلك من الإنشادات والسماع، وإن كان كثير من مشايخ السلسة لا يأبى السماع ولا ينكره إلا أنه لا يتعاطاه، ولا يؤخذ عنه طريقا وليس فيها إلباس الخرقة وإن صح عن الشاذلي والحسن البصري، ففي غير طريقتنا هذه”[4]. ولعل هذه السيرة هي التي أهلته ليحمل لقب القطب من بين سائر شيوخ زمانه في المنطقة، وجعلت طريقته المختارية “من أشهر الطرق في المغرب …. والسودان”[5]، كما يشهد بذلك صاحب “فتح الشكور” حيث يقول: “الشيخ سيدي المختار القطب الرباني والغوث الصمداني الولي الصالح ذو البركات الشهيرات، شيخ أشياخ السادات ساقي المريد وعمدة أهل التوحيد، شيخ المحققين ومربي السالكين، أبو المواهب السنية، صاحب الأخلاق المرضية…. كان رحمه الله وليا زاهدا”[6]، وفي تعبير آخر: “من أفراد عصره علما وصلاحا”[7]. هذا وقد ذهب بعض المؤرخين أبعد من ذلك عندما اعتبره فاتحا ومجددا للدين الإسلامي بإفريقيا[8].
وإلى جانب شهرته العلمية والتزامه الشديد بالسنة، كان للشيخ، وخصوصا في بداية أمره، موقف سلبي اتجاه الأغراض الدنيوية. وقد عبر الشيخ المختار عن ذلك بنفسه في قوله: “تعرضت إلي الدنيا مرة في زي امرأة حسناء تخاطبني، وتقول جئتك لأخدمك، وأكون تحت أمرك، فأقول مالي ولك. ولقد قطعت العلائق بيني وبينك، فلا تخدميني ولا أخدمك، ولا يجمعني وإياك طريق، وتروي المصادر أنه كان من أبناء الآخرة، وليس من أبناء الدنيا. وهو في ذلك المقام الأسمى والمحل الذي لا يرقى فوقه ولا يسمى، بالإضافة إلى ما كان عليه من خشونة العيش وعزوف النفس عن المأكولات، وعدم الإيثار من شيء من المرغوبات”[9].
على أن أهم ما ميز طريقة المختار الكنتي القادري الطريقة، هو انفتاحها على الطرق الصوفية الأخرى، ونقصد بذلك الشاذلية التي كانت تعتبر، إلى ذلك الحين الطريقة الرسمية في المغرب الأقصى، هذا على الرغم مما كان بين الطريقتين القادرية والشاذلية من تنافس في المجال السياسي بالخصوص[10].
صحيح أن الانفتاح ظهر منذ عهد الشيخ عمر بن أحمد البكاي، عندما أسس زاويته الكنتية سنة 960 ه/52-1553م[11]، لكن تأثير الشاذلية لم يتضح إلا في عهد الشيخ المختار الكنتي في القرن الثاني عشر/ 18م وبداية 19م، مما يعني أن انفتاح المختارية القادرية على الطريقة الشاذلية لا يعني التفريط في المبادئ الأساسية للطريقة القادرية، فالشيخ عبد القادر الجيلاني في المقام الأول، بينما الشاذلي بعد ذلك. وحسبنا دليلا على ذلك قول محمد ابن المختار، بمناسبة حديثه عن سند طريقتهم ومميزاتها: “… إن لطرق إسنادات القوم وسائط عقود تعرف بالإنتساب إلى تلك الوسائط تلك الطرق، كطريقة القادرية وطريقة الشاذلية وطريقة النقشبندية وطريقة البدوية، وكانت طريقتنا من بينهم طريقة القادرية التي هي أشد الطرق متنا، وأشدها دون العوائق والبوائق حصنا، وردها أجل الأوراد قدرا، وأوفرها ذخرا، وأكثرها أجرا وأشيعها ذكرا. ومن أعظم فوائده أن صاحبه لا يموت إلا على أحسن حال، وسنده أقوى الإسناد وأعلاه، وأكمله رجالا، وأتمه اتصالا”[12].
وعلى كل حال، فقد كانت طريقة المختار الكنتي نتاجا للجو الديني والروحي العام الذي ساد المغرب الأقصى خصوصا، وغرب العالم الإسلامي عموما، خلال القرن الثاني عشر الهجري وبداية الثالث عشر / 18-19 م والمتمثل في عودة القادرية إلى بسط نفوذها بالمغرب الأقصى، بعد طول غياب، انفردت خلالها الشاذلية بالزعامة الروحية منذ القرن العاشر الهجري /16م[13].
ويظهر تشبت المختار الكنتي بالقادرية وانفتاحها على غيرها من الطرق الصوفية الأخرى، من خلال الأذكار التي عكف على تلاوتها على مريديه في رحاب الزاوية، حيث نجد الأوراد القادرية على رأس تلك الاذكار، ولكن دون الاقتصار عليها وهي كالتالي:
– أوراد من تأليف الشيخ عبد القادر الجيلاني، كالورد الذي يبتدئ بالقول: “بسم الله وصلى الله على عبده من لا نبي بعده. وكيفية العمل به هو القول بالله ثلاثا، ثم ينحرف القائل عن يمينه ويقولها كذلك، ثم ينحرف عن شماله ويقولها كذلك، ويدعو بالدعاء التالي: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم أسألك بقوة جلال هيبتك، يا الله يا الله يا الله وبعد ظلال بهاء سطع لمع برق لمعان نور وجهك يا الله يا الله يا الله وبهيبة عزيز برهان سلطان قدس تقديس أفعال أحوال ربوبيتك…” ويتلى هذا الورد جماعة من طرف جميع الاتباع دون تخصص، وذلك بعد صلاة الصبح والمغرب”[14].
-أحزاب منقولة كذلك عن السلف، منها حزب لتدمير الظالم والاستنصاف منه[15] ويتلى أثناء الركوع والسجود بعد الصلاة أربعين ركعة بسورة الفيل والفاتحة لمدة ثلاثة أيام قبل الاستعمال. ثم يشرع المظلوم في دعائه قائلا: “اللهم إنك تعلم ضعفي وفاقتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، ويذكر اسم المستهدف له هذا الدعاء أو أسماءهم، إلى أن يقول فخذ لي بالثأر منهم أو منه، فإني استغني بقوته واعتمد على نخوته فاجعله عبرة، وامنحه حجاب الغيرة واسلبه جلباب الرحمة، وارمه بحجارة النقمة يا منتقم يا جبار”[16].
– ومن الأدعية التي تتلى صباحا ومساء وفي جوف الليل كذلك، دعاء يسمى بدعاء الطير ومطلعه: ” اللهم يا من لا تراه العيون ولا تخالفه الظنون ولا يصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث والظهور … أسألك أن تجعل خير عملي خواتمه…”[17]. وكذلك الدعاء المسمى عند شيوخ الطريقة “بسيف الحكماء”[18]، ويكون بعد الصلاة على النبي مائة مرة وألف، ولفظه يا الله يا الله.
– ومن القواعد المألوفة عند أتباع هذه الطريقة، بغض النظر عن مستواهم الفكري، ترديد كلمة الشهادة، بعد كل فريضة مائة مرة، وقد رويت ثلاث هيئات: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله الحق المبين، ولا إله إلا الله (بالتجريد)”[19].
– ومن قواعد ورد الشيخ كذلك “الحسبلة” ومؤداها: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، كل يوم مائة مرة أو مائتين[20]. إلى جانب دعاء ما بعد التهجد، وهو: اللهم إني أسألك إيمانا دائما، اللهم إني أسألك يا ذا الأسماء الحسنى والصفات العليا إيمانا دائما[21].
من خلال السرد لبعض الأوراد المختارية وقواعد تلاوتها، يمكن القول إن هذه الأوراد كان الشيخ يخص بها أتباعه من عامة وخاصة بسبب بساطة لفظها وسهولة النطق بها. بينما خص نفسه وبعض الخاصة من أتباعه ومريديه بورد يسمى “حزب المشايخ”، ومطلعه: “أمسينا لله أضيافا، وأضياف الله لا يخافون خوفا إلا لله. وأسندنا إلى الله، وفوضنا جميع أمورنا إلى الله، يا عالم السر منا، لا تكشف دفترك عنا، يا الله يا رب المشرق والمغرب، لا إله إلا أنت اتخذناك وكيلا…”[22].
كما خص الشيخ مريديه بمجموعة من الأدعية، منها ما كتبه لأحدهم قائلا: “مهما أردت التفسير والقراءة، فقل قبلها اللهم إنك أنت الذي أنعمت فعلمت، وأنت الذي فتحت فألهمت، فلك الحمد كما أكرمت، وعلم الانسان ما لم يعلم، قلت “وعلمناه من لدنا علما”، أسألك بفضلك من فضلك، أن تعلمني كما علمتهم، وتلهمني كما ألهمتهم، وتحفظ ما مننته علي كما حفظته عليهم، وقلت “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”[23].
هكذا كان للشيخ المختار الكنتي عدد كثير من الأحزاب والأدعية، لكن ما يمكن قوله: إن هذه الأوراد وتلك الأذكار كانت من بين العوامل التي ساهمت في التعريف بطريقته ونشرها ليس فقط بين قبائل الصحراء والسودان، وإنما في مختلف أنحاء المغرب، ويفسر هذا انتقال كثير من المغاربة إلى أزواد للأخذ عنه والاقتداء به، من جهة، وظهور مجموعة من الزوايا تسير على هديه وتتبع سنته، من جهة ثانية.
* محمد نعايم والسعدية أوتبعزيت
(مجلة دعوة الحق، العدد 415، ربيع الثاني 1437 ه/ فبراير 2016م)
الهوامش
[1] إن أول زاوية كنتية أسست في الصحراء يعود تاريخها إلى القرن 15م، واسست على يد أحمد البكاي الكنتي أصلا، القادري الطريقة.
راجع: عبد الحي القادري، الزاوية القادرية عبر التاريخ والعصور، مطابع الشويخ، تطوان، 1986، ص 9.
[2] عبد القادر القادري، نشر الإسلام والثقافة العربية في غرب وشرق إفريقيا ومقاومة التبشير والاستعمار، دعوة الحق، العدد 269، سنة 1988، ص 221.
[3] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج 3، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1985، ص 128.
عبد القادر القادري، نشر الإسلام والثقافة العربية، ص 222.
[4] محمد بن المختار الكنتي، الطرائف والتلائد، ج 1، ص 37-138.
[5] يوسف بن إسماعيل النبهاني، جامع كرامات الأولياء، ج 2، ص 210.
[6] محمد البرتلي الولاتي، فتح الشكور، ج 1، ص 152.
[7] احمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، بعناية فؤاد سيد، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، الشركة الدولية للطباعة، الطبعة الخامسة، 1425هـ/2002، ص 365.
[8] بابا أحمد بن حم الأمين، زاوية الشيخ المختار الكنتي بموريتانيا، ص 224.
[9] محمد بن المختار الكنتي، الطرائف والتلائد، ج 1، ص 25.
[10] George DRAGUE, Esquisse d’histoire religieuse au Maroc, confréries et Zaouias, Peyronnet, Paris, 1951, p :77.
[11] Ibid.
[12] محمد بن المختار الكنتي، الطرائف والتلائد، ج 1، ص 54.
[13] أحمد الوارث، الأولياء ودورهم الاجتماعي والسياسي في المغرب خلال القرن السادس عشر، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، كلية الآداب ظهر المهراز، فاس، مرقونة، 1988 ص 40.
[14] المختار الكنتي، نفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب، مخطوط بالخزانة الحسنية، الرباط، رقم 8427، ص 104.
[15] المرجع نفسه، ص 145.
[16] المختار الكنتي، نفح الطيب، ص 169.
[17] المختار الكنتين الكوكب الوقاد، ص 169
[18] نفسه، ص 2
[19] نفسه، ص 37
[20] نفسه، ص 20
[21] نفسه
[22] المختار الكنتي، نفح الطيب، ص 162
[23] المختار الكنتي، نفح الطيب، ص 106