العقيدة الأشعرية والخصوصية المغربية
العقيدة الأشعرية والخصوصية المغربية
قيل الكثير عن دواعي اختيار المغاربة للمذهب المالكي، لكن المؤكد أن رؤية أهل المغرب للمذهب المالكي كانت رؤية شمولية، استوعبت منه قضاياه العقدية على نحو ما استوعبت منه قضايا الفقه العملي.
وقد استهوى المغاربة من المذهب المالكي أنه ليس مذهبا فقهيا فقط، وإنما هو مذهب يبرز من نصوصه حرص مؤسسه على إبراز موقفه الصريح من كبرى القضايا العقدية، وهو ما حدد انتماء المذهب إلى تيار أهل السنة والجماعة.
لقد كتب شهاب الدين القرافي في كتاب الجامع من الذخيرة بحثا مطولا استعرض فيه مجمل اعتقاد مالك في الله وفي الأنبياء والصحابة، وفي التقليد في العقيدة، وفي البدع الفكرية. و علق القرافي على هذا المبحث فقال: “هذا الكتاب يختص بمذهب مالك لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب” (1).
وقد أدرك الفقهاء المالكية أهمية ربط المذهب الفقهي المالكي بالجانب العقدي تحصينا لعقيدة الناس خوفاً من أن يتسرب إليها من شبهات الطوائف الأخرى ما يفسدها. فصدروا بعض كتبهم بمباحث العقيدة على الرغم من أن العقيدة تنتمي إلى مجال معرفي آخر، هو مجال الأحكام الأصلية، ونجد لذلك أمثلة واضحة في مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير، ومن مقدمة منظومة ابن عاشر، وكتاب الجامع من الذخيرة.
مثل التوجه العقدي للمذهب المالكي عنصر الممانعة والمقاومة الدائمة لكل الإنحرافات الفكرية التي حاولت فرض نفسها بديلا عن التوجه السني، فاصطدم التيار العبيدي الشيعي في تونس بعقيدة المالكية التي كانت ترى أفضلية عائشة على سائر نساء بيت النبوة، وهي القضية التي دعاها القاضي عياض “قضية التفضيل” (2 ) .
وقد أفسد هذا المعتقد دعوى أحقية العبيديين بالخلافة لانتسابهم إلى فاطمة الزهراء، التي اعتبروها أفضل نساء بيت النبوة، واصطدم التيار العبيدي مرة أخرى في اعتقاد المالكية بعدالة الصحابة، فواجهوا برنامج العبيديين الذي قام على التحامل على الصحابة، بل وعلى سبهم على المنابر، باستثناء علي بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبي ذر ( 3) .
لقد أحبط موقف فقهاء المالكية مشروع العبيديين الذي كان يطمح إلى اكتساح شمال إفريقيا.
وإثر تطور البحث العقدي تفرغ رجال كثير من المذاهب للتخصص في قضايا العقيدة، فاختار المغاربة لأنفسهم مذهب الإمام الأشعري الذي أصبح بجهود مؤسسه وتلامذته مذهبا متكاملا يمتلك قدرة فائقة على التأسيس والإقناع والمناقشة، فتمكن من مصاولة الأطروحات المغرية التي تبناها مذهب الإعتزال، فتغلغل في الثقافة الإسلامية من خلال قدرة رجاله على السجال والنقاش والإلتفاف على النصوص التي لا تخدم آراءهم.
لقد اختار المغاربة “مذهب الأشاعرة” لما لمسوه فيه من حفاظ على جوهر العقيدة، وحرص على درء التشبيه والتعطيل، ولما لمسوه فيه من وسطية تتجاوز القراءة الحرفية للنصوص، كما تتجاوز التأويل البعيد الذي يصادر دلالة النص من غير داع ملجئ إليه، وهكذا وقف الفكر الأشعري موقف العدل والاعتدال من كل القضايا التي بلغ التباين فيها حد التناقض.
فقد اختلفوا في قدم كلام الله، فقال بعضهم: إنه قديم حتى في أصواته ورسومه، و قالت المعتزلة: إنه مخلوق، لكن الأشعري توسط فميز بين الكلام النفسي الذي رآه قديما دون غيره.
واختلفوا في حرية العبد، فقالت الجبرية بانتفاء قدرة العبد، وجعلت نسبة الفعل مجازية، وقال المعتزلة بإثبات القدرة، لكن الأشعري قال بنظرية الكسب المثبت لفعل العبد، وخلق القدرة عند الكسب.
وقالت المشبهة برؤية الله بالأبصار في الآخرة، ونفتها المعتزلة، لكن الأشعري أثبت الرؤية ولكن من غير تحديد ( 4) .
لقد شكل المذهب الأشعري منظومة فكرية متكاملة، أسعفت جماهير الأمة الإسلامية بقدرة فائقة على الدفاع – الجامع بين النقل والعقل – عن جميع قضايا العقيدة، وتمكن المذهب الأشعري من وقف كثير من التيارات التي كانت تقدم نفسها للناس على أنها المتفردة بمخاطبة الفكر دون سواها.
مقتطف من دليل الإمام والخطيب والواعظ
الهوامش
1 – الذخيرة 13/213.
2 – ترتيب المدارك 5/118.
3 – رياض النفوس للمالكي 2/45، ترتيب المدارك 4/376.
4 – مذاهب الإسلاميين، د. عبد الرحمن بدوي 548-555-561.تيارات الفكر الإسلامي، د. محمد عمارة 168.