القواعد الفقهية الكلية المشتركة وأثرها في حفظ كليات الدين

القواعد الفقهية الكلية المشتركة وأثرها في حفظ كليات الدين

القواعد الفقهية الكلية المشتركة وأثرها في حفظ كليات الدين /ذ. عبد الرحمان العضراوي رئيس المجلس العلمي المحلي بني ملال
القواعد الفقهية الكلية المشتركة وأثرها في حفظ كليات الدين /ذ. عبد الرحمان العضراوي رئيس المجلس العلمي المحلي بني ملال

[نسخة المداخلة الأصلية PDF]

 تهدف العناية بعلم القواعد الشرعية في أي علم من العلوم إلى تفسير خطاب الشرع تكليفا ومعرفة، وبيان صورة الاجتهاد في المشترك والمختلف فيه في القضايا الاجتهادية، المتعلقة بمعرفة الله تعالى والتدين السليم. فليست القواعد الشرعية إلا كليات مستقرأة ومستنبطة من نسقية الشريعة واكتمال نظامها التشريعي، تضبط جزئيات الشريعة وارتباطها المنطقي بكلياتها. وليس العلم بالقواعد الشرعية إلا محورا من محاور نظرية المعرفة الإسلامية التي تؤسس لطبيعة المعرفة وأصولها ومناهجها وتاريخها وكيفية تفاعلها مع الواقع الإنساني. فنظرية المعرفة الإسلامية قائمة على التكامل المعرفي بين النظام اللغوي البياني التفسيري، والنظام العقلاني البرهاني، والنظام الأخلاقي السلوكي المتعلق بالتزكية الإنسانية، فلا يتصور أي تجزيئ في هذه الثلاثية من حيث الأصل المعرفي المستمد من النص الشرعي وخطابه، فالعقلانية البرهانية في علم أصول الفقه مثلا لا تنفك عن علوم البيان والتأويل ولا عن علوم التزكية والعرفان الحق. وبهذا فالقواعد الشرعية منبنية على قصدية المشترك المعرفي الإسلامي في الحفاظ على كليات الدين التي لا تخرج عن حفظ الدين والإنسان والكون.

ويمكن القول إن مفهوم الكلية من المفاهيم المنطقية، التي استمدها علماء أصول الفقه من علم المنطق، بغض النظر عن الانتقادات المعرفية التي وجهت إلى إعماله في العلوم الشرعية وخاصة أصول الفقه وعلم الكلام. ومن تلك المفاهيم، الاستقراء والكلي والجزئي والقطعي والظني، والمقدمات… ولعل نموذج الشاطبي من النماذج الأصولية التي استفادت كثيرا من الدرس المنطقي، وعرفت كيف توظفه في إبداع المعرفة المقاصدية وأهميتها في تجديد النظر الفقهي، بجميع اتجاهاته المذهبية السنية خاصة[1]، واتجاهاته المذهبية عامة، واتجاهاته الإنسانية الموصولة بالفقه المقارن بين القواعد الشرعية والقواعد القانونية. فالمذهبية الفقهية رؤية منهجية موحدة في النص الشرعي وبالنص الشرعي وفق قواعد كلية توصل إلى العلم بأحكامه ومقاصده. والمذهبية الفكرية في السياق الفكري الحديث والمعاصر رؤية لتفسير الوجود والعالم خارج المنظور الديني.

وفي هذا السياق نتناول دراسة موضوع القواعد الفقهية المشتركة في المذهبية الفقهية وأثرها في حفظ كليات الدين الضرورية والحاجية والتحسينية..

المحور الأول:التفسير الأصولي للربط بين القواعد الفقهية وكليات الدين

المحور الثاني: المذهبية الفقهية السنية والقواعد الفقهية المشتركة

المحور الثالث:القواعد الفقهية المشتركة وصلتها بقواعد حفظ كليات الدين

المحور الأول: التفسير الأصولي للربط بين القواعد الفقهية وكليات الدين

يكشف الربط بين حفظ كليات الدين والقواعد الفقهية الكلية، قضية مقاصدية وفقهية مندرجة تحت علاقة الكلي بالكلي وعلاقة الكلي بالجزئي في نظام الشريعة، ولقد أثبت الإمام الشاطبي «أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد به أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما على جميع أنواع التكاليف والمكلفين وجميع الأحوال»[2] وهذا يدل من جهة أولى على أن مقاصد الشريعة كلية في الشريعة، فإن تنزلت إلى الجزئيات فعلى وجه كلي، وإن خصت بعضا فعلى نظر الكلي، ومن جهة ثانية يدل على كمال النظام في التشريع. ومما يقرر الكلي الثابت الجامع للمعاني الشرعية أمران:

أولا: يقرر الكلي الثابت بدليل عقلي أو نص شرعي أو دلالة لغوية لتعريف أحكام جزئياته، والتعرف على مجال تطبيقاته، وهكذا فإنه ينزل من أعلى إلى أسفل للتعرف على جزء أخفى من خلال كلي أعرف

ثانيا: يقرر الكلي بالمنهج الاستقرائي الذي يتم بتتبع الجزئيات للوصول إلى حكم كلي، وهو المعتمد في إثبات أن الشريعة جاءت لمصالح العباد

ويظهر الجمع بين التقريرين في قول الشاطبي: «إن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها، فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات. فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي والجزئي هو مظهر العلم به، وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة، وذلك تناقض. ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي، من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي – مع أنا إنما نأخذه من الجزئي- دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به، لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي، لم يأخذه المعتبر جزءا منه. وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاق دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع، لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك، والجزئي كذلك أيضا فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة»[3]، ويتبين من هذا أن الجزئيات لا تستغني عن كلياتها، إذ الواجب اعتبار تلك الجزئيات بكلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كله فقد أخطأ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه فقد أخطا. فإذا تتبعنا الأدلة الإجمالية التي هي حقيقة أصول الفقه نجدها في واقعها كليات وضعها الأصوليون وصاغوها من مصادر علم أصول الفقه، الكتاب والسنة واللغة العربية والنظر العقلي كما هو في علم الكلام والمنطق.. فللشريعة مقصدا كليا هو تحقيق مصلحة الإنسان، ولكل حكم من أحكام الشريعة مقصد قريب يندرج ضمن ذلك المقصد الكلي، ويكون تحقيقه جزءا من تحقيقه، وقد تكون بين المقصد الجزئي والمقصد الكلي درجات من المقاصد يندرج بعضها في بعض بحسب الجزئية والكلية حتى تنتهي إلى المقصد الأعلى وهو معرفة الله.

إن العلاقة بين الجزئي والكلي كما صاغها الإمام الشاطبي، تبرز أهمية القواعد الفقهية في مجال كليات الدين باعتبار الشريعة قد انبنت على قصد المحافظة عليها، سواء تحددت في المراتب الثلاث الضروريات والحاجيات والتحسينيات المتعلقة بمجموع أبواب الشريعة وأدلتها، غير مختصة بمحل دون محل، ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة، أو تحددت بكونها مقاصد عليا للوحي نحو التوحيد والتعمير والاستخلاف، فإن النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى، لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها. يقول الشاطبي «سواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا، إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة، وقد تمت، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما وخصوصا»[4]. وإذا كان هذا الاتصال بين الجزئي والكلي متعلق بكمالية الدين وخاتميته وصدقيته في بيان تكاملية جزئيات الشريعة وكلياتها، فإنه يكشف نسقية الشريعة في تعالق القواعد في جميع القواعد الشرعية الفقهية والأصولية والمقاصدية والاجتماعية والكونية، تعالق يفرض قراءة معرفية تجمع بين قراءة الوحي القرآني والسنة النبوية الشريفة، وقراءة الإنسان في تحولات التاريخ، وقراءة الكون واستثمار المسخرات الظاهرة والباطنة فيه. وهذه القراءة المعرفية الثلاثية لها صلة بفلسفة التجدد في منطق الفهم لكليات الدين، وجعلها منطلقا تأسيسيا لتجاوز أزمات الإنسان الأخلاقية والقيمية وإرجاعه إلى إنسانيته القرآنية المتميزة بلباس التقوى والأكرمية وعالمية الرحمة.

ويبدو أن القواعد الشرعية في إجمالها نظام كلي، وإجرائية نسقية تهدف إلى جعل المكلفين قادرين على التخلق الفعلي بمعاني الخطاب الشرعي، فمدار القواعد الشرعية على الكلية، لكنها كلية تتمايز بحسب الموضوع والغاية، كما هو الشأن بالنسبة للقواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد جعلهما القرافي أصلين من أصول الشريعة فقال «إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا، اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح نحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للعموم وما خرج عن ذلك إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

القسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل. وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع»[5]، فهذا التمييز بين أصلين شرعيين كليين من القواعد الأصولية والفقهية يفيد من جهة المصطلح الخاص اختصاص كل منهما بموضوعه والغاية منه في الاستنباط الفقهي. ومن جهة الاصطلاح العام أنهما مرتبطتان مع القواعد المقاصدية في الحفاظ على كليات الدين الضرورية والحاجية والتحسينية، وفي هذا السياق الترابطي تطور التقعيد الفقهي استنباطا واستقراء عند جميع المذاهب الفقهية، الذي كانت له أهمية بالغة في بيان أن نظام التشريع الإسلامي لا تناقض فيه ولا اختلال بين كلياته وجزئياته في جميع مجالات التشريع المتعلقة بالعبادات والمعاملات والعادات، وتتمثل هذه الأهمية في:

أولا: إسهام التقعيد الفقهي في تيسير مناهج الوصول إلى معرفة أحكام الله تعالى لأفعال العباد.

ثانيا: حفظ عقلانية نظام الشريعة من خلال المنهج العلمي، فلم تتسرب إليها الأباطيل والأوهام والتأويلات الفاسدة.

ثالثا: الإسهام في تكوين الملكة الفقهية القادرة على استنباط الأحكام الشرعية ومعرفة قواعد التعارض والترجيح داخل المذاهب وفيما بينها من الخلافات الفقهية.

رابعا: تأسيس قدرة على استنباط الأحكام الشرعية للنوازل المستجدة في أي عصر من العصور.

ويتبين من خلال هذه الأهمية أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، فلا يصل المجتهد لفهم مقصود الشارع من النص ما لم يجمع بين كليات القواعد الفقهية النصية نحو قوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ﴾ [سورة المائدة 1]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزْرَ أُخْر۪يٰۖ﴾ [الأنعام 166]، وكليات القواعد الفقهية الاستقرائية نحو الضرورات تبيح المحظورات والأدلة الجزئية الخاصة بمسألة من المسائل الفقهية ﴿وَأَحَلَّ اَ۬للَّهُ اُ۬لْبَيْعَ وَحَرَّمَ اَ۬لرِّبَوٰاْۖ﴾ [البقرة 274]، فيتوجب عليه استحضار كليات الشرع ومقاصدها العامة أو الضروريات في الاستنباط من الأدلة الجزئية، فالنظر الفهمي تركيبي تفاعلي، يقول الشاطبي «فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع، وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب، فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار»[6]، ويكشف الشاطبي أن هذا هو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد، ويقدم قياسا للمجتهد الفقيه على الطبيب في اعتبار هذا المنهج فيقول «إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما، والجزئي محكوم عليه بالكلي، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي، لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة، فإن الإنسان يشتمل مثلا على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره، فالكلي صحيح في نفسه، وكون جزئي من جزئياته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج، ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي أو عدم جريانه، وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك، فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب، وكذلك بالعكس، فالشارع هو الطبيب الأعظم، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس، وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه، حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار، فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة، بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره، مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط، فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية وحكموا بها على الجزئي، واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع المعارض، لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء، فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء أو فيه شفاء»[7]. فهذا نوع من أنواع النظر في الجزئيات من خلال ما تقرر في الكليات.

إن مقتضى الربط بين القواعد الفقهية وكليات الدين، يفرض أن أي قاعدة من القواعد الفقهية يتوجب عرضها على المقاصد الكلية الضرورية في حفظ الدين والإنسان والكون، وفي حفظ الأخلاق والتعمير والاستخلاف، فإن الذي يقتصر في فهمه على منطوق القاعدة الفقهية، سيكون عرضة للقصور والاختلال عمن يدرك أهميتها في سياق إعمال مقاصد الشريعة في حفظها للمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية.

المحور الثاني: المذهبية الفقهية السنية والقواعد الفقهية المشتركة

إن إدراك حقيقة مفهوم المذهبية الفقهية السنية، لا يتحقق إلا في سياق الحركية المعرفية التي أحدثها الوحي القرآني في العقل المسلم لبناء النموذج الاستخلافي المحقق لمقاصد الوحي الدينية والدنيوية. فقد أبان الوحي عن التكريم الإنساني في سياقات معرفية عديدة منها:

أولا: إظهار أهمية العقل في الإسلام ووظيفته في كسب المعرفة وتطويرها في تاريخ الاجتماع السياسي الإسلامي، وذلك من خلال:

ثانيا: إبراز أهمية المنهج العلمي في تحرير العقل من سلطات التقليدية والآبائية والأهوائية والجهلية، لينقله إلى سلطان العلم والمعرفة والاجتهاد الحضاري،

ثالثا: الكشف عن مقاصد الوحي المتعلقة بحفظ كليات الدين ومنها كلية حفظ العقل وحفظ الإنسان

رابعا: إفراغ الجهد في الوصول إلى المعرفة الشرعية أحكاما فقهية ومعارف شرعية بالاستنباط مباشرة من الوحي أو بالاجتهاد فيما لا نص فيه، بإعمال القواعد الأصولية والفقهية والمنطقية واللغوية.

وتمثل هذه السياقات الإطار المرجعي لتأسيس العلم الإسلامي ابتداء من مدينة النبي ﷺ إلى البصرة والكوفة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان والقرويين والأندلس، قرونا متلاحقة في بيان حركة العقل المسلم أو حركة الاجتهاد الإسلامي ومنه الاجتهاد الفقهي والاجتهاد الأصولي.. وقد حفلت الكتب الفقهية والأصولية والتفسيرية والكلامية والصوفية بإبانة تلك الحركة الاجتهادية وبالأخص الفقهية منها، التي عرفت تحولات متسارعة في تاريخ الاجتهاد الفقهي منذ عصر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عصر الخلفاء الراشدين إلى عصر التابعين إلى الأئمة الكبار، وهو العصر الذي عرف تطورات واقعية من الصراع السياسي والاجتماعي والفكري الذي أسهم في تشكيل الدولة الشرعية التي تحرس الدين والدنيا ويكثر بها العمران وتعظم الحضارة[8]. وفي هذا السياق حصل النضج في الاجتهاد الفقهي والتأليف فيه، ومن ملامحه اتساع تدوين العلم وظهور الخلاف العلمي بين مذهبي أهل الحديث بالحجاز لكثرة ما بين أيديهم من الأحاديث والآثار ويعتبرون أنفسهم امتدادا لمدرسة الصحابة الذين كانوا يخشون مخالفة النص الشرعي، وأهل الرأي بالعراق وكانوا يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى فيكثرون من إعمال القياس والبحث عن العلل والمصالح وربط الأحكام الشرعية بها. وارتباطا بالتفكير العقلاني الحريص على تجاوز الخلاف بين المذهبين، ظهر تأليف الإمام مالك توفي 179ه كتاب الموطأ وتأليف الإمام الشافعي توفي 204ه كتاب الرسالة الذي أوضح به منهجا وسطيا يجمع بين أهل الحديث وأهل الرأي، فاعتبر أول مؤلف في علم أصول الفقه بطريقة الشافعية التي امتد فيها التأليف إلى الإمام الشاطبي وغلب عليه التسمية بمذهب المتكلمين أو مذهب الجمهور الذي انتهجه الشافعية والمالكية والحنابلة والمعتزلة، وهؤلاء وإن اشتركوا في تقديم بعض المباحث الكلامية نحو الحاكم والحسن والقبح وحكم الأشياء قبل الشرع وشكر المنعم، وسلكوا في تقرير قواعد الأصول مسلكا استدلاليا قائما على تقرير القواعد من غير عناية كلية بالفروع أم يراعوا تطبيق الفروع عليها، فإنهم أثبتوا المختلف فيه الذي ينفردون به عن بعضهم ويبينون ما يخالف قواعدهم بنفس المنهج الاستدلالي. وذلك نحو المعتمد للبصري والبرهان للجويني والمستصفى للغزالي والمحصول للرازي والإحكام للآمدي…

وقد انتهج الحنفية طريقة أخرى في التأليف الأصولي سميت بمذهب الفقهاء، سلكوا فيه تقرير القواعد الأصولية على مقتضى الفروع المنقولة عن أئمتهم، فالقاعدة مستنبطة من الفروع الدائرة حولها، لا العكس. نحو أصول الفقه عند أبي زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي…

وقد أسهم المذهبان في اتساع العناية بالفقه الإسلامي، إلى جانب التحولات السياسية في العهد العباسي وما تفاعل معها من التطورات الفكرية العميقة التي برزت في الصراع بين ثنائيات عدة نحو الظاهر والباطن، النقل والعقل… قد دفعت في اتجاه صعود مفهوم التقليد لاجتهادات بعض الأئمة، بدل متابعة الحرية في الاجتهاد الفقهي، فصار الأصوليون يتحدثون عن قضية الاجتهاد والتقليد، يقول ابن خلدون «إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين، باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه، واتسع ذلك في الملة اتساعا عظيما، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم، ثم لما انتهى الأمر إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم، ومنعوا من تقليد سواهم، لذهاب الاجتهاد، لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده، باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة، فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة، وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية»[9]، ولعل في إشارة ابن خلدون إقامة المذاهب الأربعة على أصول الملة، ما يبين أن كل ما استنبطوه واستقرؤوه من القواعد الفقهية قائم على المحافظة على الضروريات المصلحية الكلية التي لا ينتظم عيش الدنيا إلا بتحصيلها في الوجود الإنساني، وهي كما أبان عنها الشاطبي بقوله «ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة». فكانت هذه المصالح الكلية قاعدة كلية لا اختلاف فيها بين المذاهب الأربعة أو غيرها، إذ هي قطعيات مستمدة من قطعية الوحي القرآني الثبوتية والدلالية، وإنما مجال الاختلاف في الظني الشرعي الذي هو محل الاجتهاد فيه، من جهة ثبوته أو دلالته أو في كليهما أو ما ليس فيه نص شرعي.

وقد استقر مفهوم المذهب لما تمايزت الاجتهادات الفقهية باختياراتها المنهجية في الاستدلال على الأحكام الشرعية واستنباطها من الأدلة الإجمالية، ومن خلال تنوع تلك الاجتهادات وتباينها تكشفت أسباب الاختلاف، وتحدد علم الخلاف بكونه الكيفية التي يتم بها إيراد الحجج الشرعية والعقلية ودفع الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية لإثبات حكم شرعي في مسألة من المسائل أو في نازلة من النوازل. وهذا هو الاختلاف المحمود المقبول الجاري على اختلاف الفهوم والدعوة للاجتهاد في دائرة المحافظة على الكليات الشرعية. أما الاختلاف المرفوض شرعا فهو ما كان في غير الظنيات بل في القطعيات الشرعية وكليات الملة بالعمل على التشكيك فيها وهدمها، نحو ما يقرره أهل الأهواء المنازعين لشرعية الدين ومشروعيته، ومن أهل البدع الذين يخالفون منهج أهل السنة بمعناه العلمي الواسع.

وإذا كان الاهتمام بأسباب الِاختلاف[10] في المذهبية الفقهية السنية، يحقق غايات منها الاطلاع على أصولها ومناهج الاجتهاد لديها، ومعرفة أدب الاختلاف المقبول الباحث عن المقصود الشرعي الحق بقواعده وضوابطه[11]، وكذلك التأدب مع أهل العلم في اجتهاداتهم، فإن العناية بتلك الأسباب بقيت في حدود النص الشرعي بالنظر إلى أن الظني في الشريعة متوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم النقل الشرعي أو العادي وعدم الإضمار وعدم التخصيص للعموم، وعدم التقييد للمطلق وعدم الناسخ وعدم التقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي فكلها أمور ظنية[12]، وكذلك في أن أسباب الاختلاف راجعة إلى الاختلاف في ثبوت النص الشرعي، وفي الجمع والترجيح بين النصوص، وفي القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط. (الاختلاف في حجية عمل أهل المدينة وفي مفهوم المخالفة وفي حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد). ولم يتم تجاوز هذه الحدود النصية إلى محيط النص الشرعي السياسي والاجتماعي وكيفية تأثيره في الاختلاف بين الفقهاء كما رام ذلك ابن خلدون في مقدمته. ولعل هذا من الدواعي التي دفعت الشاطبي إلى التجديد في علم أصول الفقه ليكشف قواعد أخرى من أسباب الاختلاف، متعلقة بكون الشريعة مبنية على اعتبار مصالح العباد من حيث وضعها الشارع. ولذا اشترط في المجتهد أن يتصف بوصفين «أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها» [13]. وقد يكون الوصفان مدخلا تأسيسيا للبحث في التقعيد الفقهي وأثره في اختلاف الفقهاء[14]، فيخرجه من التركيز على اعتماد القواعد الفقهية إلى مصاحبتها بالقواعد المقاصدية المقررة لأهمية مراعاة المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، بغاية استثمار فهم المقاصد الشرعية في أبعادها العلمية والسياسية والاجتماعية في الواقع التاريخي للمسلمين، ومن تلك الأهمية تعميق التدبر في النص الشرعي ودفع أسباب نشوء التقليد والجمود على مناهج النظر في النص الشرعي في المذهبية الفقهية.

فإذا كان المذهب قائما على مناهج مستقلة في معرفة دليل الأحكام الشرعية، فإن التقليد هو أخذ القول من غير معرفة دليله، وهو واجب على غير المجتهد في الفروع، والأخذ بغير دليل هو عين التمذهب بمذهب معين، وذكر الحجوي «أن محض التقليد لا يرضى به رشيد وليس بحرام معرفة الدليل على من هو أهل، ونوجب على العامي تقليد العالم»[15]، وهو ما يثبت كون التقليد سائغا أو واجبا للضرورة، فإذا انتفت الضرورة وجب ذمه فإنه ليس بعلم عند أهل العلم، والتقليد المذموم كما بينه ابن القيم ثلاثة أنواع[16]:

  • الإعراض عن نصوص الشرع وعدم الالتفات إليها اكتفاء بالتقليد؛
  • النظر فيها وظهور أدلتها في حكم من الأحكام، ثم يترك ما أداه اجتهاده إليه مع أهليته للاجتهاد إلى التقليد من هو أهل لأن يقلد؛
  • تقليد من لا يعلم أنه أهل لأن يؤخذ بقوله عند عدم قدرة المقلد على الاجتهاد.

وإذا صح التزام مذهب معين على من لم يبلغ درجة الاجتهاد ويعتقد أنه أرجح دون تتبع للرخص داخل المذاهب الأخرى الراجحة أيضا. فإنه قد يكون أسلم من أن يبقى غفلا من التعبد على منهج مشهود له باتباع سنة رسول الله ﷺ. وهذا لا يسمى جمودا بالمعنى العلمي الذي علاقة بتأخر الأمة وضعفها، بل حصرا للجهل بأحكام الشرع، ولا يكون كذلك إلا إذا اتخذه من هو في مرتبة الاجتهاد، فيكون مدعاة لنشوء الجمود الحضاري واستنبات التقليد المذموم.

ولعل التمذهب في أصول التشريع ما ترسخ في الأمة بعد الأئمة الأربعة إلا ليدفع مفاسد التفرق والتنطع والانتحال، الذي برز من أمثال الخوارج والروافض والجهمية وأشباههم ممن تكلموا بالشبه في قطعيات الدين. وبهذا نظريا لا يستقيم أن تكون المذهبية الفقهية القائمة على الاجتهاد داعية للتقليد أو التعصب. إذ المذاهب السنية الأربعة ليس بينهم خلاف عقدي أو سلوكي وإنما هو خلاف في الفروع، وليس في كلها، بل المشترك بينهم أكثر من المختلف فيه. وبهذا فإن التعصب والتقليد المذموم لا يرجعان إلى المذهبية في حد ذاتها، بل إلى أسباب تاريخية متعلقة بالتحولات السياسية والاجتماعية التي عرفها المشرق والغرب الإسلامي، جعلت جهات في جغرافية العالم الإسلامي تتجه إلى اختيار مذهبي سني ينضاف إلى اختيار عقدي وسلوكي. فليس الحامل على التمذهب الهوى والتعصب أو التقليد المذموم، وإنما تحقيق مصلحة راجحة، وهي رفع التنازع والتمزق في جهة جغرافية مخصوصة. وقد يكون في تقرير هذه المصلحة الشرعية بيان أن التقليد الفقهي ليس أمرا مستحدثا في الأمة بعد عصر الأئمة الأربعة، فقد كان التقليد المحمود محروسا بحركية الاجتهاد لكي لا يتحول إلى تقليد مذموم. وهذا يتوافق مع رفض الأئمة المجتهدين لفرض اجتهاداتهم، ومنا ما تواتر عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال له هارون الرشيد إنه يريد أن يحمل الناس على ما في الموطأ، فنهاه عن ذلك.

ويمكن القول إن مقولة غلق باب الاجتهاد التي لا تستقيم مع خاصية التصديقية والديمومة لتنزيل الوحي في الواقع التاريخي، لم تكن خاصة بالفقه فقط بل عامة في كل الإسهام الحضاري الذي غلب عليه الجمود بأسباب متعددة منها انفصال السلطة العلمية عن السلطة السياسية، والاستبداد السياسي والجدل الفكري والفقهي الذي لا ينتج معارف علمية تحفظ المصالح العامة وترتقي بالنظام المجتمعي، وجمود مناهج الاستمداد من الوحي واعتباره مصدرا لا ينقطع للمعرفة الإنسانية في الحياة.

إن الأخلال التي علقت بالمذهبية السنية وأنها سبب الجمود تحتاج لمزيد من البحث في سياق ما لحق الاجتهاد الحضاري بمجمله في الأمة، فليس الحامل على التمذهب محض إشاعة التعصب والتقليد[17]، أو هجر الكتاب والسنة، أو تعقيد الفقه وتطويله وإثقاله بشروح المختصرات والتلخيصات والتهذيبات… إذ من شأن هذا الطعن في الأئمة المعتبرين بوجه من أوجه الطعن، أو ادعاء ما لا يمكن إغلاقه وهو قاعدة الاجتهاد.. وإنما ينظر ذلك في علم عمران الأمة الإسلامية وصلته بمستقبل حفظ كلية الدين وحفظه للتدين في المجتمعات المسلمة بل في العالم كله، فكلياته هي التي تحفظ العلم الإسلامي ومنه علم أصول الفقه والقواعد الفقهية الجامعة للمتفرقات الفقهية في المذاهب والاجتهادات الفقهية في النوازل المستجدة في كل زمان. القواعد الفقهية المشتركة وصلتها بقواعد حفظ كليات الدين.

المحور الثالث: القواعد الفقهية المشتركة وصلتها بقواعد حفظ كليات الدين

لقد كشف الربط بين القواعد الفقهية والمذهبية الفقهية وكليات الدين، أنه متعلق بكمال النظام في التشريع، وكمال النظام يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح، والمصالح المستجلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث وضعها الشارع في الجزئيات الفقهية المتفرقة التي تدرك الروابط بينها بفضل الوقوف على العلل الجامعة بينها، وهذا ما تنتظمه القواعد الفقهية في كليات تساعد على إدراك مقاصد الشريعة في حفظ الاجتهاد العقلي وترشيده وتصحيح مساراته وإقامة العدالة العلمية، وهي مظنة تقويم العقل العلمي والعقل المنهجي، اللذان هما مناط التكليف والإنتاج المعرفي.

إن المتتبع لتعريفات القاعدة الفقهية[18] يجد تناولها من جهات عدة لا تكشف حقيقة المركب الإضافي، فهناك من تناولها من جهة الاصطلاح العام، ومن تناولها من جهة الاطراد، ومن تناولها من جهة الأغلبية أو الكلية، ومن تناولها من جهة كونها قضية أو حكما شرعيا. وقد تفرد عن هذه الجهات ما ذهب إليه أبو عبد الله المقري في بيان ماهية القاعدة الفقهية دون الوقوف على بعض سماتها في التعريف فقال إنها «كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة»[19]، فالقاعدة الفقهية أخص مما تستند إليه من الأصول الشرعية النقلية والعقلية، وهي أعم من الضابط باعتباره أخص منها لارتباطه بباب من الأبواب، وتتميز عن النظرية الفقهية باعتبارها بناء عاما ذات مفهوم واسع مشترك. ويمكن بيان تلك السمات في قول محمد الروكي أنها «حكم كلي مستند إلى دليل شرعي مصوغ صياغة تجريدية محكمة منطبق على جزئياته على سبيل الاطراد أو الأغلبية»[20]،

السمة الأولى: الاستناد إلى دليل شرعي، فالقاعدة الفقهية حكم كلي مستنبط من الأدلة الشرعية، غير متعلق بحكم جزئية واحدة، كالذي يستنبط من نص شرعي واحد كتحريم الربا المستنبط من قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اَ۬للَّهُ اُ۬لْبَيْعَ وَحَرَّمَ اَ۬لرِّبَوٰاْۖ﴾ البقرة 275، وإنما حكم القاعدة الفقهية كلي متعلق بمجموعة من الجزئيات.

السمة الثانية: الصياغة التجريدية والجازمة، بمعنى كونها من جوامع الكلم البعيدة عن الالتباس ولا ترتبط بأعيان الجزئيات نحو الإكراه يبطل العقد، كل عقد فاسد مردود إلى صحيحه.

السمة الثالثة: الانطباق على الجزئيات باعتبار الاستيعاب والشمول، فتستوعب كل الجزئيات وتنطبق عليها نحو قاعدة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة

السمة الرابعة: الاطراد أو الأغلبية، فالأصل في حقيقتها أن تكون مطردة في انطباقها على كل جزئياتها دون تخلف أية جزئية، فتكون بذلك متتابعة يتبع بعض فروعها بعضا في الحكم الجامع، لكن قد يتخلف فيها عنصر الاطراد فتنتقل إلى مرتبة الأغلبية فالغالب كالمحقق، وإذا لم يكن في القاعدة اطراد ولا حكم أغلبي فإنها لا تستحق أن تكون قاعدة بالمعنى العلمي.

إن القاعدة الفقهية تعبير عن تطور العقل الفقهي والتشريعي في صياغة أحكام شرعية كلية موجزة وجامعة مستخرجة من الأدلة الإجمالية وتأخذ مجرى المثل في شهرتها ودلالتها في ضبطها للجزئيات الكثيرة، وتستخدم في التعليل والترجيح في الدراسات الفقهية والدراسة المقارنة بين المذاهب الفقهية والتنظير الفهمي والتنزيلي من خلال التمكين من تخريج الفروع واستنباط الأحكام للنوازل المستجدة وتكييفها بحسب المآلات والسياقات. فالمقصود الكلي من تقعيد القواعد الفقهية ضبط كل أصل من أصول الشريعة بقواعد تنزل منزلة القطب من الرحى والأس من المبنى ويمكن تحديد منهجين للتقعيد منهج الاستنباط، ومنهج الاستقراء.

أولا: الاستنباط كالاستخراج وهو قدر زائد على مجرد فهم اللفظ لخفاء فيه، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، وذلك لأن فهم موضوع اللفظ وعمومه وخصوصه مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، بينما في الاستنباط يتم من لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدوده، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد. وإذا كانت القاعدة الفقهية حكما شرعيا كليا، فإنه لا يتم إثباته إلا بالاستنباط، انطلاقا من تدبر عميق في ظاهر النصوص الشرعية ومعقولها، أي في دلالاتها اللغوية وتراكيبها وسياقاتها ومن دليل عقلي نحو القياس والاستصحاب والاستصلاح.. وهنا تبرز أهمية القواعد الأصولية في إثبات القواعد الفقهية، من باب إثبات الكلي للكلي الذي ينطبق على جزئيات عديدة، نحو أثر القواعد الأصولية: قاعدة الأمر المطلق يفيد الوجوب، وقاعدة القياس حجة شرعية معتبرة، وقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إن كان مقدورا، وقاعدة يستحيل الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد، في تقعيد القاعدة الفقهية المشقة تجلب التيسير

ثانيا: الاستقراء: وهو المنهج الثاني في تقعيد القواعد الفقهية، قال الغزالي إنه «عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات»[21]، وقال عنه أيضا «أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به»[22]، والاستقراء تام وناقص، فالتام هو أن يثبت الحكم في كل جزئي من جزئيات الكلي، وهذا لا يكون إلا في العقليات وهو الاستقراء المنطقي ويفيد القطع عند من يعتبره. والاستقراء الناقص ومعناه أن يثبت الحكم في الكلي لثبوته في أغلب جزئياته، وهذا هو المقصود عند الفقهاء، وهو المشهور عندهم بإلحاق الفرد بالأعم والأغلب، ويفيد الظن، ولكن هذا الظن يختلف في درجته وقوته باختلاف الجزئيات كثرة وقلة، فكلما كانت أكثر كان الظن أغلب وأقوى. واستقراء الفروع الفقهية لاستنباط قواعد أصولية أو قواعد فقهية منهج مشترك بين المذاهب السنية، وإن اشتهر به المذهب الحنفي، ويسمى تخريج الأصول من الفروع، ويكشف عن أصول وقواعد الأئمة من خلال فروعهم الفقهية وتعليلاتهم للأحكام. وتخريج الفروع على المناسبات الجزئية دون القواعد الكلية سيؤدي إلى تناقض أحكام الفروع وتختلف.

إن البحث عن الحكم الكلي في القواعد الفقهية ومصادرها المستمدة منها، يكشف عن القدرة العقلية التجريدية التي وصل إليها فقهاء المذاهب من خلال إدراكهم العميق لأهمية التعليل في نظام الشريعة، وعن كون القدرة التجريدية تمثل قاعدة من قواعد التأسيس لاستكشاف مقاصد الشارع ومقاصد المكلف في البناء الأصولي لعلم الفقه، إذ لا مقاصد دون تعليل[23]، فالقواعد الفقهية تستمد من الفروع والجزئيات المتعددة بمعرفة الترابط بينها وبين معرفة مقاصد الشريعة، فنجد سمة الكلية في المقاصد الشرعية وقواعدها محققة في القواعد الفقهية من حيث إنها عامة في معانيها لا تختص بزمان دون زمان ولا بشخص دون شخص ولا بموضوع دون موضوع.

ويمكن القول إن تطور الصياغة التجريدية للقواعد الفقهية لم يخرج عن تأثير قواعد علم أصول الفقه في الأدلة والدلالات، إلى أن يتأثر بما انضاف إليها من القواعد المقاصدية الضابطة لمراعاة المصالح في الشريعة، التي توضحت مع تنظير أبي إسحاق الشاطبي لعلم مقاصد الشريعة ووجوب تحققه في الاجتهاد الفقهي. ولا يتحقق هذا بذكر مجموعة من القواعد المقاصدية من لدن الفقهاء، نحو درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما.. لأن المراد هو تأسيس القواعد الفقهية على حفظ مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.

وقد يبرز عدم التأثير هذا بالنظر فيما تم وضعه من أصول للقواعد الفقهية الكلية[24] المشتركة بين المذاهب السنية وهي:

  • قاعدة الأمور بمقاصدها، ومن أصولها قوله ﷺ «إنما الأعمال بالنيات»[25]،
  • قاعدة اليقين لا يزال بالشك، ومن أصولها قوله ﷺ «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»[26]
  • قاعدة المشقة تجلب التيسير، ومن أصولها قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اُ۬للَّهُ بِكُمُ اُ۬لْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ اُ۬لْعُسْرَۖ﴾ [البقرة ]184 وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِے اِ۬لدِّينِ مِنْ حَرَجٖۖ﴾ [الحج 76]، وقوله ﷺ «بعثت بالحنيفية السمحة» [27]
  • قاعدة الضرر يزال شرعا، ومن أصولها قوله ﷺ «لا ضر ولا ضرار»[28]
  • قاعدة العادة محكمة، ومن أصولها قوله ﷺ «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن»[29]

فإن هذه الأصول من النص الشرعي قرآنا كريما وسنة نبوية شريفة، دالة بمفردها على مضمون القواعد، لكن لا تصل درجة قوة دلالتها إلى درجة قوة أصل حفظ كليات الدين الضرورية والحاجية والتحسينية، التي ثبتت باستقراء الشريعة في منقولها ومعقولها. وهي درجة استدلالية عالية في إثبات القواعد المقاصدية من جهة وتأسيس القواعد الفقهية العامة والخاصة من جهة ثانية. ولنأخذ نموذج قاعدة الأمور بمقاصدها، في سياق التأسيس المقاصدي لها بروح الشريعة، لتحصيل جلب المصالح ودرء المفاسد، وترتيب المصالح والمفاسد، وتحقيق مصالح التيسير ورفع الحرج، والتمييز بين المقاصد والوسائل، و التفكير في إنجاز مصالح شرعية عبر مراعاة مآلات الأفعال.

لفد تناول الفقهاء قاعدة الأمور بمقاصدها بتحديد أن تركيبها على تقدير مقتضى أحكام الأمور بمقاصدها، لأن غايتهم التوصل إلى معرفة أحكام الأمور لا ذواتها، وما دام أن الأمور جمع أمر، وهو لفظ عام يراد به الأقوال والأفعال كلها، فإن المقاصد متعلقة بأحكام الأقوال والأفعال. وانطلاقا من تحديدهم لأصل القاعدة، اعتبروا أن مقاصد الأمور هي النيات والإرادات التي توجهها، قال ابن رجب إن «النية في كلام العلماء تقع بمعنيين أحدهما تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العادات من العبادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم. والمعنى الثاني بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو الله وحده لا شريك له أم الله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين» [30]، وبناء على المعنيين تم التمييز بين النية والإرادة، يقول ابن رجب «وإنما فرق من فرق بين النية والإرادة والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك»[31]، ففي قوله تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِے كَثِيرٖ مِّن نَّجْو۪يٰهُمُۥٓ إِلَّا مَنَ اَمَرَ بِصَدَقَةٍ اَوْ مَعْرُوفٍ اَوِ اِصْلَٰحِۢ بَيْنَ اَ۬لنَّاسِۖ وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَٰلِكَ اَ۪بْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اِ۬للَّهِ فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ (113) وَمَنْ يُّشَاقِقِ اِ۬لرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اُ۬لْهُد۪يٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اِ۬لْمُومِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلّ۪يٰ وَنُصْلِهِۦ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراًۖ﴾ [سورة النساء 113-114]، قال ابن رجب «فنفى الخير عن كثير مما يتناجى الناس به إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس لعموم نفعها، فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا. وأما بالنسبة إلى الأمر فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته كان خيرا له وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له ولا ثواب عليه، وهذا بخلاف من صلى وصام وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد اقتداء به في ذلك»[32]. وقد بين العز بن عبد السلام الإخلاص في العبادات وأنواع الطاعات فقال: «الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصا لله وحده لا يريد بها تعظيما من الناس ولا توقيرا، ولا جلب نفع ديني ولا دفع ضرر دنيوي، وله رتب منها أن يفعلها خوفا من عذاب الله، ومنها أن يفعلها تعظيما لله ومهابة وانقيادا وإجابة ولا يخطر له عرض من الأعراض بل يعبد مولاه كأنه يراه، وإذا رآه غابت عنه الأكوان كلها وانقطعت الأعراض بأسرها. وأمر العابد أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يقدر على تقدير نظره إلى الله فليقدر أن الله ناظر إليه ومطلع عليه فإن ذلك يحمله على الاستحياء منه والخوف والمهابة وهذا معلوم بالعادات»[33]

وقد يستنتج أن دلالة القصد لم تتعدّ الإرادة والنية المتعلقة بالذات الفاعلة إلى علة الفعل أو سببه أو الغاية منه أو الحكم فيه، أو الغاية المتوخاة منه والمصلحة المراد تحصيلها منه، وهي معاني ارتبطت بالبحث عن مقصود الشارع من الأحكام الشرعية، أي ما يترتب على تشريع الحكم من مصلحة أو دفع مفسدة، وهذا ارتبط بمفهوم العلة بكونها وصفا ظاهر منضبطا، قال الشاطبي: «وأما العلة فالمراد بها الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، فالمشقة علة في إباحة القصر، والفطر في السفر. والسفر هو السبب الموضوع للإباحة، فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنتها، كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة، وكذلك نقول في قوله عليه الصلاة والسلام «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فالغضب سبب، و تشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما، ولا مشاحة في الاصطلاح»[34]، وكما يفسر العلة بالمصلحة والمفسدة يفسرها بالمعنى، إذ يقول في سياق بيانه أن الأعمال معتبرة بكون الأحكام شرعت لمصالح العباد «الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى، هي معانيها وهي المصالح التي شرعت لأجلها»[35] استفادة من هذا يقول الطاهر بن عاشور معرفا المقاصد العامة «مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها»[36]. فإذا كانت النية هي القصد والغاية في قلب الإنسان وفي فطرته وفي العهد الإلهي، فإن المقاصد هي الغايات المصلحية التي جاءت الشريعة لتحقيقها للعباد

فيتبين أن المقاصد لا تنحصر دلالتها في النية والإرادة بل تتضمن العلة والمعنى والمصلحة والغاية، ولذا يتوجب دراسة قاعدة الأمور بمقاصدها في سياق هذه الدلالات ليتكشف صلتها بالمقاصد الكلية الحافظة للدين، وتتوسع دلاتها في فهم العقيدة والتزكية وفقه العبادات والمعاملات نحو المعاوضات والتمليكات المالية وإحراز المباحات والضمانات والأمانات والعقوبات. ويحقق ترابط مفاهيم النية والإرادة والمصلحة أثرا بالغا في جلب المصالح وذرء المفاسد حيث يسعى المؤمنون إلى تحقيق المصلحة الشرعية بنية خالصة وإرادة صادقة مع مراعاة القواعد الفقهية والقواعد المقاصدية في اتخاذ القرارات وإنجاز الأفعال. فعندما يتم توجيه الأفعال نحو تحقيق المقاصد الشرعية، تظهر وظيفة النية والإرادة في تحصيل المنافع. إذ تكون النية سببا يجعل الأفعال محققة لحفظ كليات الدين. فقاعدة الأمور بمقاصدها تتحقق في تطبيقات متنوعة تشمل:

  • الإخلاص في كل الأقوال والأفعال والتمييز بين العبادات وبين العبادات والعادات؛
  • تأويل النصوص الشرعية بناء على ما تحققه من غايات مصلحية عامة وخاصة وجزئية، مما يساعد على فهم عميق للدين ومصالحه الإنسانية والكونية؛
  • تأسيس التشريع الإسلامي على مراعاة تحقيق المصالح ودفع المفاسد، بما يحقق التكريم الإلهي والحرية والعدل وصيانة حقوق الله وحقوق الفرد والمجتمع؛
  • تدبير شؤون مصالح الأمة أو الشؤون العامة من خلال تنفيذ السياسة الشرعية الهادفة إلى تحقيق المصلحة العامة ورفع مستوى تحقيق الحياة الطيبة.

ويرتبط بقاعدة الأمور بمقاصدها قاعدة الضرر يزال شرعا، من حيث ضرورة إزالة المضار والمفاسد بقدر الإمكان فيما يتعلق بالفرد أو المجتمع، من أجل حفظ النفس والمال والعقل والنسل، وحفظهم حفظ للدين. وقدر الإمكان متعلق بقاعدة المشقة تجلب التيسير، بمعنى التخفيف الإلهي عن الناس في تحمل مسؤولياتهم، والعفو المقابل للصعوبات والمشاق التي يواجهها المؤمنون في تنزيل الأحكام الشرعية بحسب المقام والمآل. ومتعلق أيضا بقاعدة اليقين لا يزال بالشك في كون الأصل في الشك عدم الفعل، والأصل في الأشياء الإباحة، والأصل براءة الذمة، والأصل بقاء ما كان على ما كان. وهذا يفتح أبواب رفع الحرج والعنت لتسهيل الأمور وتخفيف مشاق التكليف عن العباد، ومن هذا قاعدة العادة محكمة، بشرط أن تكون العادات غير مخالفة للشرع أو معارضة له، فتكون العادات والأعراف الحقة مؤثرة في استنباط الأحكام الشرعية وتفسيرها، ومدخلا لفقه الواقع الإنساني وتيسير سبل إصلاحه وتغييره نحو الأقومية الشرعية. وكما يكشف هذا الترابط تكامل القواعد الفقهية والنية والمصلحة الشرعية يكشف أيضا تكامل القواعد الفقهية والقواعد المقاصدية البارز في صياغتها التجريدية من لدن الإمام الشاطبي في المقاصد التشريعية والتكليفية.[37]

ومن ذلك في المقاصد التشريعية:

وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل

القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ وإنما النسخ في الجزئيات؛

المصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا؛

المصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على العباد؛

المفسدة إذا كانت هي الغالبة إلى النظر في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي؛

المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة الناشئة عنها. وقد علم أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها.

الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني والأصل في أحكام العادات الالتفات إلى المعاني؛

المقاصد العامة للتعبد هي الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه.

وضعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها:

  • مشقة مخالفة الهوى ليست من المشاق المعتبرة ولا رخصة فيها البتة
  • الشارع لا يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه؛
  • إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد بحيث يحصل بها للمكلف فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة؛
  • العزيمة أصل والرخصة استثناء ولهذا فالعزيمة مقصودة للشارع بالقصد الأول والرخصة مقصودة بالقصد الثاني؛
  • الأصل في الأحكام الشرعية الاعتدال والتوسط بين طرفي التشديد والتخفيف، فإذا رأيت ميلا إلى أحد الطرفين فذلك لمقابلة ومعالجة ميل مضاد واقع أو متوقع في المكلفين.

ومن ذلك في المقاصد التكليفية:

  • الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات؛
  • المقاصد أرواح العمال؛
  • قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع، وألا يقصد خلاف ذلك؛
  • من ابتغى في التكاليف ما لم تشرع فعمله باطل؛
  • من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساع في ضد تلك المصلحة؛
  • ليس للمكلف أن يقصد المشقة لعظم أجرها، ولكن له أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل؛
  • لا فرق بين القصد وعدم القصد في الأمور المالية والخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم على إتلافها؛
  • لا يلزم في تعاطي الأسباب من قبل المكلف القصد إلى مسبباتها وإنما عليه الجريان تحت الأحكام المشروعة لا غير.

إن المتتبع للقواعد المقاصدية يجدها مستوعبة للقواعد الفقهية، وأن القواعد الفقهية خادمة للقواعد المقاصدية، وبهذا يتضح ضرورة مراعاة المقاصد الشرعية في تقعيد القواعد الفقهية وتنزيلها، من أجل المحافظة على الكليات المصلحية التي لا بد منها لاستقامة الحياة الإنسانية، وعلى الحاجيات المفتقر إليها في التوسعة، وعلى التحسينيات في الأخذ بما يليق من محاسن العادات، إذ مجموع الحاجيات ومجموع التحسينيات هما بمثابة التكملة للضروريات، وشرط التكملة ألا تعود على الأصل بالإبطال. وأن مجموع القواعد الفقهية والقواعد المقاصدية جامع علمي بين مقاصد العقيدة والفقه والأخلاق، ولعل نموذج الاختيار المغربي في الجمع بين العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الجنيدي، ما يقرب صورة تكملة القواعد الفقهية للقواعد المقاصدية، وأن اختلال هذه الأخيرة ينتج اختلالا بالغا في القواعد الفقهية وأثرها في العقيدة والفقه والسلوك.

الهوامش

[1] لمفهوم أهل السنة إطلاقات منها الطائفة المنصورة، وأهل الحديث، والفرقة الناجية والجماعة. وقد ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة، وأبو منصور الماتريدي في كتابه التوحيد.. ويظهر ان أهل السنة هم المتمسكون بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ، وما أجمع عليه السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهذا ما يسوغ اتساع المفهوم وعدم تضييقه ليشمل اهل الحديث ومبادئهم الأدلة السمعية، وأهل النظر العقلي والصناعة الكلامية وهم الأشعرية والماتريدية، وأهل التصوف ومبادئهم الكشف والوجدان والكشف والإلهام، فلا تضييق مذهبي في العقيدة أو الفقه أو السلوك يحتكر مضمون أهل السنة، وإنما توسع شرعي موزون بقواعد الشرع.

[2] الموافقات 2/37.

[3] نفسه 3/ 9.

[4] نفسه 3/7.

[5] الفروق 1/3.

[6] الموافقات 3/15.

[7] نفسه 3/14.

[8] انظر ابن خلدون ص 344، في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك أن تعليم العلم من جملة الصنائع…

[9] نفسه ص 361.

[10] من المؤلفات في أسباب الاختلاف بين الفقهاء، الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف لعبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، الإنصاف في مسائل الخلاف لشاه ولي الله الدهلوي.

[11] انظر إعلام الموقعين لِابن القيم، تبادل الرسائل بين الإمام مالك والليث بن سعد.

[12] انظر الموافقات2/ 50.

[13] الموافقات 4/106.

[14] انظر نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء لمحمد الروكي، منشورات كلية الآداب 1994.

[15] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 4/ 471.

[16] إعلام الموقعين 2/ 188.

[17] كالقول بأن اللامذهبية هي الأصل من حيث إن مصطلح المذهبية لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، على الرغم من أن مضمونها العملي والمصلحي سائغ شرعا بناء على التأسيس القرآني لفاعلية التعقل والتفكر والتبصر ومبدأ الحرية من أي سلطة بشرية قاهرة.. فاللامذهبية في حقيقة ذاتها مذهبية قائمة على تصور ات منافية للضوابط العلمية الموضوعة شرعا لتنظيم علاقة الإنسان بالوحي. ومعلوم أن أضرار التقليد المذموم واضحة، وخطورتها برزت في تاريخ العلم الإسلامي الفقهي والكلامي والسياسي. وبهذا تتبين المسوغات الشرعية للمذهبية المرتبطة بالضوابط الشرعية في حرية التعقل ونبذ الهوى والتعصب، وفي التمسك بالوحدة المجتمعية الضامنة للاستقرار، وفي مراعاة الكليات المصلحية الشرعية.

[18] نحو تعريف الجرجاني «قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها» التعريفات ص 171، وتعريف الطوفي بأنها «القضايا الكلية التي تعرف بالنظر في قضاياها الجزئية» شرح مختصر الروضة 1/120، وعرفها سعد الدين التفتزاني» حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته لتعرف أحكامها منه» شرح التلويح على التوضيح 1/34.

[19] القواعد 1/ 212 تحقيق أحمد بن عبد الله بن حميد، مركز إحياء التراث الإسلامي جامعة أم القرى.

[20] نظرية التقعيد الفقهي ص 48.

[21] المستصفى 1/51.

[22] معيار العلم ص 160.

[23] كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده الشرعي، يقول ابن القيم ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه «إعلام الموقعين 2/86، وقد قال الشاطبي» والمعتمد هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره» الموافقات 2/6، على الرغم من أن الرازي يثبت أن الله تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد، مستدلا بأن الله تعالى «حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثا، والعبث على الله تعالى محال بالنص والإجماع والمعقول» المحصول 3/382، وهذا يثبت أن الأشاعرة يقولون بتعليل الأحكام الشرعية والموجودات، ولا تنفي التأثير الذاتي في ربط الأسباب بمسبباتها أو نفي التلازم الضروري بين الأسباب والمسببات مع إثباتها أن لا مؤثر في الكون إلا الله تعالى لضرورة التنزيه.

[24] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي وتفصيله في القواعد الخمس وأضاف إليها قاعدة الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. ص 16- 125.

[25] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي، رقم 1.

[26] أخرجه الإمام مسلم في كتاب الحيض رقم 99.

[27] أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة الباهلي رقم الحديث 22291.

[28] أخرجه ابن ماجة في سننه رقم الحديث 2340.

[29] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج رقم 412.

[30] جامع العلوم والحكم، ص 10.

[31] نفسه ص 10.

[32] نفسه ص 11.

[33] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/123.

[34] الموافقات 1/265.

[35] نفسه ص 385.

[36] مقاصد الشريعة الإسلامية ص 50.

[37] من المعالم الكبرى لبناء الرؤية المعرفية المقاصدية لدى الشاطبي الصياغة التجريدية للقواعد المقاصدية المنثورة في مجموع مسائل كتاب الموافقات، وتكشف الاستشراف المعرفي الذي قام به في تأسيس مفهوم جديد للاجتهاد من المنظور المقاصدي.

[نسخة المداخلة الأصلية PDF]

كلمات مفتاحية : , ,