الكلمة التوجيهية لسماحة الشيخ الشريف إبراهيم صالح الحسيني في الجلسة الافتتاحية لندوة التراث الإفريقي الإسلامي بين الذاكرة والتاريخ بأبوجا
ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “التراث الإسلامي الإفريقي بين الذاكرة والتاريخ” أيام 22-23-24 ربيع الأول 1443 هـ الموافق لـ 29-30-31 أكتوبر 2021 م في العاصمة النيجيرية أبوجا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه وأحبه ومن والاه.
أصحاب المعالي، والسمو، والسعادة، والفضيلة من جميع الحضور في هذه القاعة، والمتابعين لهذه الجلسة الافتتاحية المباركة عبر الفضاء الأثيري، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، أينما كانوا، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد،
فإننا بأرقى مشاعر الفخر والاعنزاز بديننا الإسلامي العظيم، وبأسمى آيات الود، والولاء، والوفاء لنبينا الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، نجدد لأنفسنا، وللمسلمين، وللبشرية جمعاء في جميع أنحاء المعمورة التهنئة بذكرى ميلاد سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين سائلين الله تعالى، أن يمن علينا بمحض فضله، وجوده، وكرمه تحمل أمانة الإرث النبوي الشريف والذي نجتمع خلال هذه الأيام الطيبة وفي هذا الشهر المبارك للمدارسة في جزء يسير من جوانبه وكيفية المحافظة عليه إن شاء الله.
لقد دخل الإسلام إلى ربوع القارة الإفريقية على أيدي الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، منذ القرن الأول الهجري. وكان المسلمون آنذاك مسلمين حقيقيين لا تنفك أقوالهم عن مطابقة أفعالهم، وأحوالهم، وكانوا أمثلة حية للفتوة، والعطاء، والإباء، والتضحية بكل غال ونفيس من أجل إيصال دعوة الحق إلى كافة الأمم والشعوب والتي تعتبر مستهدفة بالإسلام الذي هو دين السلام. يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس:25].
وكان المسلم إذا ألقى تحية الإسلام على أخيه المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، فإنما يعني بذلك أنه سيكون منه سالما آمنا في دينه، ونفسه، وعرضه، وعقله، وماله، وحتى في بيئته من كل أمر يكدر طيب الحياة. هذا السلوك الإسلامي الرفيع هو الذي جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، إذ يقول الله تبارك وتعالى في ذلك : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]. وقول صلى الله عليه وسلم في حديث شريف : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وكان سلوك المسلمين في سوادهم الأعظم منضبطا انطبق عليهم قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [ آل عمران: 110].
حافظ العلماء الأوائل من أسلافنا في هذه القارة على ميراث سيدنا رسوله الله صلى الله عليه وسلم، حفاظا حقيقيا في المعنى والمبنى. وعملوا بما علموا فتفجرت في قلوبهم ينابيع العلم والمعرفة، وفاضت أقلامهم بدرر وكنوز عظيمة في جميع الفنون والعلوم، حُقَّ للبشرية أن تعتز وتفنخر بها.
فمن العلماء الذين خلفوا آثارا مشرفة في بلادنا نيجيريا المجدد الشيخ عثمان بن فوديو، وهذا هو حفيده صاحب السمو الحاج/ محمد سعد أبوكر الثالث، سلطان صكتو، بين ظهرانينا، وكذلك أخوه العلامة الشيخ عبد الله بن فوديو، وغيرهم من أكابر العلماء الذين جاءوا من بعدهم في مدينة كانو، كصحاب الفضيلة العلامة الراسخ الشيخ مجنيوا، والعلامة المحقق المدقق، الشيخ سلغ، وصاحب الفضيلة صاحب البركات الظاهرة، والفيوضات الباهرة مولانا العارف بالله الشيخ أبو بكر عتيق، وفضيلة العلامة الفقيه الماهر، الشيخ ثاني كافنغ، وفضيلة العلامة العارف الغارف الشيخ عثمان القلنسوي، وفضيلة العلامة، الملحوظ بالعناية الربانية العارف بالله الشيخ أحمد التجاني عثمان الكنوي، وكذلك أعجوبة الزمان، المشار إليه بكل بنان، فضيلة الشيخ ناصر كبرا، رحمهم الله عليهم، جميعا وجزاهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
كما أن هناك علماء خلفوا آثارا نفيسة في كاتسنا، وغزرغمو، التابعة لإمبراطورية كانم برنو، كالشيخ محمد الأمين الكانمي، والشخ الطاهر بن فيرمة، وغيرهم كثيرين ذكرناهم في كتابنا المخطوط “الاستذكار لما لعلماء كانم برنو من الآخبار والآثار”. كما أن كثيرا من البلدان الإفريقية: النيجر، ومالي، والسنغال، وموريتانيا، وتشاد، واسودان وغيرها حافلة بنفائس قيمة. ولكن مع تعاقب الأزمنة وتعرض الحياة لسنن التغيير في الكون، ومع تقدم التقنية، كان لا بد لحماة الإسلام أن يتفقدوا هذا الإرث النبوي الشريف، ويتعهدونه بالرعاية، والصيانة بكل السبل والوسائل المتاحة.
ومن حسن حظنا نحن العلماء في إفريقيا، في هذا العصر أن قيض الله تبارك وتعالى، لنا من يهتم بأمر هذا الدين، ويعتني بورثته للقيام بدورهم الرباني وعلى رأس هؤلاء بكل فخر واعتزاز صاحب الجلالة مولانا أمير المؤمنين الملك محمد السادس، أيده الله ونصره، مواصلا بذلك مسيرة آبائه الأماجد رحمهم الله وأسكنهم فراديس الجنان آمين.
ومن باب الاهتمام اللائق بإرث جده الأعظم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهه الله عز وجل إلى تأسيس هذه المؤسسة العريقة وجعل من أهم أهدافها، كما جاء ذلك في نظامها الأساسي ضرورة إحياء التراث الإسلامي المشترك، والتعريف به، وتعهده بالمحافظة والصيانة والنشر. ومما هو معلوم بالضرورة أن العلاقات المغربية الإفريقية خاصة في المجال الثقافي والعلمي قديمة جدا وها هو التاريخ يعيد نفسسه لتجديد ظاهرة تلك الحركة العلمية النشطة بين المغرب وبلدان إفريقيا. والدليل على ذلك مبادرة لجنة إحياء التراث الإسلامي الإفريقي والتي سنشهد نشاطها على مدى يومين كاملين إن شاء الله تعالى، وسيقدم لنا فيها الأساتذه المختصون أوراقا علمية دقيقة، تفتح لنا آفاقا جديدة في مجال المعرفة، نرجو أن نفيد منها جميعا، وأن يستفيد السادة الذين يشاركون في الورشات العلمية الخاصة المصاحبة لهذه الندوة من خبرة الأساتذة الأجلاء الذين لم يشاركوننا في هذه المناسبة إلا لتعليمنا كيف نحافظ على النفائس التي ورثناها من أسلافنا فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
وننتهز فرصة هذه المناسبة لتوجيه نداء حار إلى إخواننا العلماء في إفريقيا، والعالم أجمع، بأنه كما يجب علينا المحافظة على تراثنا المخطوط وغيره من موروثنا الحضاري يجب علينا أن نهتم بالسير على سنن أسلافنا من حيث التمسك بثوابتنا المشتركة والمحافظة عليها في مجال العقيدة، والمذهب المالكي السائد في معظم أنحاء البلدان الإفريقية، والسلوك عقدا، وقولا، وعملا حتى تتغير هذه الصورة المشوهة التي تمثل سلوكيات فردية، ولا تمثل الإسلام في حقيقته وجوهره، ومع ذلك ذلك يحاول الكثيرون في هذا العصر إلصاق تلك النقائص، وذلك العجز الظاهر بالإسلام، والإسلام على النقيض من كل تلك السلبيات.
وإذا أردنا الانتصار فعلينا أولا بإشاعة روح المحبة والتسامح بيينا نحن المسلمين، وبيننا وبين جيراننا من أتباع الديانات الأخرى ممن اقتضت حكمة الله البالغة أن نعيش معهم في بلدان واحدة. فالله سبحاته وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
وقال أيضا: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22].
يجب علينا أن نستفيد من هذا التنوع والاختلاف في التقدم المعرفي، والتعاون في جميع المجالات لا أن يكون سببا للتنافر والاحتراب والإفساد في الأرض. يجب أن نكون قدوة حسنة لغيرنا، وأن نسعى لتحقيق الوحدة بين المسليمن كما أمرنا الله تعالى بذلك في قوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
هذا، ومن حسن الحظ أيضا أن هذه القاعة الآن تعتبر صورة مصغرة للمجتمع المسلم المتعاون المتحابب؛ فهي تضم جميع أنواع الفئات في المجتمع المسلم والتي يجب أن تتعاون فيما بينها لتحقيق النصر. فبيننا أهل الحكم من التنفيذيين، والتشريعيين، وبيننا الأمراء حماة التراث الإسلامي، والعلماء الداعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ورجال الأعمال الذين يساعدون في تقوية المجتمع، وبيينا الشباب بسواعدهم القوية والتي يجب أن تستخدم للبناء والتعمير لا للإفساد والتدمير كما هو مشاهد في كثير من البلدان.
وختاما، نسأل الله تعالى لولاة أمورنا؛ فخامة الرئيس محمد بخاري، وصاحب الجلالة مولانا أمير المؤمنين أيده الله ونصره، كل التوفيق والسداد فيما يسعيان لتحقيه من خيرات عميمة لجميع الأمم والشعوب الإفريقية، كما أن نسأل الله تعالى، أن يديم علينا وعلى بلداننا كلها نعم الأمن، والسلام، والاستقرار آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.