المذهب الحنفي
تقديم
إن المذهب الحنفي كان يشمل على تحقيق مناهج شيوخ المذهب كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولم يكن قاصرا على منهج أبي حنيفة بالذات..يقول “الموفق المكي “بعد أن ذكر كبار أصحاب أبي حنيفة: ” وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهادا منه في الدين، ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين، فكان يلقي المسائل مسألة مسألة، ويسمع ما عندهم، ويقول ما عنده، ويناظرهم شهرا أو أكثر، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول كلها ،وهذا يكون أولى وأصوب، وإلى الحق أقرب، والقلوب إليها أسكن .. من مذهب من انفرد، فوضع مذهبه بنفسه، ويرجع فيه إلى رأيه” (1). ويؤكد الأستاذ “علي الخفيف” هذه الحـقيقة بقولـه: ” لقد أطلق هذا الاسم (المذهب الحنفي) على مجموعة الأحكام التي عرفت عن أبي حنيفة وأصحابه. وإنما نسب المذهب إلى أبي حنيفة لأنه كان عميدهم وأستاذهم وإن كانوا جميعا من أهل الاجتهاد المطلق يستوون فيه.”(2)
- لقد تظافرت عدة أسباب جعلت المذهب الحنفي هو ذلك المزيج من الآراء التي رويت عن أبي حنيفة وأصحابه.. ويرجع الشيخ ” محمد أبو زهرة” أسباب هذا المزج إلى :
إن أقوال الإمام عندما رويت لم ترو مفصلة متميزة بحيث يمكن استخلاص أصول الإمام منفردة، وتكوين وحدة فكرية خالصة له من كل الوجوه من غير اقتران أقوال أصحابه به.. - ومن الأسباب أيضا ما كان يعمد إليه أبو حنيفة عند دراسة المسائل العلمية المختلفة، واستخلاص حكم الوقائع، أو الأمور الفرضية، إذ كان يعرض المسائل، ويسمع آراء تلاميذه ويجادلهم ويجادلونه، وينازعهم القياس، وينازعونه ويفرضون الحلول..
- ولم تكن الرابطة الجامعة بين آراء أولئك الأعلام هي تلك الصحبة التي جعلت آراء كل واحد معروفة عند الآخر، بل إن التلمذة، ثم الصحبة، ثم تدارس الأقوال من بعد؛ جعل تلك الأقوال مهما تختلف أو تتحد تنتهي إلى أصول واحدة، فالأصول التي كان يسير عليها أبو حنيفة هي نفس الأصول التي ارتضاها تلامذته في حياته، أو من بعده، على اختلاف يسير في بعضها، واختلاف في تطبيقها(3)..
من هذا المنطلق، فإن المقصود عند العلماء بالمذهب الحنفي هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحباه، باعتبارهم ساهموا جميعا في إرساء قواعد هذه المدرسة وأصولها. يقول “ولي الله الدهلوي” في كتابه “الإنصاف”: ” وإنما عد مذهب أبي حنيفة مع مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى واحدا، مع أنهما مجتهدان مطلقان، مخالفتهما غير قليلة في الأصول والفروع، لتوافقهم في هذا الأصل، ولتدوين مذاهبهم جميعا في “المبسوط” و”الجامع الكبير”(4).
منهج الحنفية في التأليف
كتب المتأخرون مؤلفات مفصلة في فروع المذهب الحنفي وأصوله ونسبوها إلى أئمتهم، فقالوا هذا الأصل هو رأي أبي حنيفة، وذاك رأي صاحبيه، وذلك رأيهم جميعا، وهكذا. يقـول” ولي الله الدهـلوي”: ” ومنها أني وجدت بعضهم يزعم أن جميع ما يوجد في هذه الشـروح الطويلة وكتـب الفتـاوى الضخمة، هو قول أبي حنيفة وصاحبيه، ولا يفـرق بين القـول المخرج، وبين مـا هو قـول في الحقيقـة، ولا يحصل معنى قولهم على تخريج الكرخي كذا، وعلى تخريج الطحاوي كذا، ولا يميز بين قولهم: قال أبو حنيفة: كذا، وبين قولهم جواب المسألة على مذهب أبي حنيفة أو على أصل أبي حنيفة كذا، ولا يصغي إلى ما قاله المحققون من الحنفيين..”(5)
ويـضيف قائـلا: ” ومنها أني وجدت بعضـهـم يزعم أن بناء الخلاف بيـن أبي حنيفـة والشـافعي على هذه الأصول المذكورة فـي كتـاب البـزدوي ونحوه، وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم، وعندي أن المسألة القائلة بأن الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وأن لا ترجيح بكثرة الرواية، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي.. وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنه لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، وأنه ليس المحافظة عليها والتكلف في جواب ما يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطاتهم كما يفعله البزدوي وغيره، أحق من المحافظة على خلافها عما يرد عليه.”(6)
إن هذا الكلام يدل -بلا ريب- على أن الأصول التي يذكرها الحنفية – وهي أصول المذهب الحنفي، أو الأصول التي بنى عليها أئمتهم استنباطهم- ليست من وضع أئمتهم حتى يقال إنهم وضعوها، وقيدوا أنفسهم بالاستنباط على أساسها، بل هي من وضع العلماء في ذلك المذهب، الذين اتجهوا إلى استنباط القواعد من الفروع المأثورة، فهي جاءت متأخرة عن الفروع.
إن هذا التقيد بمذهب إمام من الأئمة والتففه عليه وتفريع الأحكام انطلاقا من أقواله وقواعده هو ما يسمى “بالتخريج”. وهذا يعني أن التخريج في نشأته ووجوده مرتبط بنشأة المذاهب وظهورها بعد عصر الأئمة اتباع التابعين.
ومن الأسباب التي كانت وراء ظهور “فقه التخريج” تمهيد القواعد وإرساء ضوابط الاستنباط وأسسه؛ فأئمة هذا المنهج يعتقدون أن أبا حنيفة هو أول من قعد القواعد الأصولية واعتبرها في اجتهاده تاركا إياها منثورة في ثنايا الفروع الفقهية، لذا نجدهم يرتبطون بهذه الفروع المأثورة عنه، وعن بقية علماء المذهب، لاستنباط القواعد الأصولية منها…
ومع أن هذه الأصول قد استنبطها المتأخرون ولم تؤثر عن الأئمة وتلاميذهم، فلابد من الإشارة إلى أمور ثلاثة وتقرير الحقائق بشأنها:
- إن أبا حنيفة، وإن لم تؤثر عنه أصول مفصلة للأحكام التي استنبطها، لا بد أن تكون له أصول لاحظها عند استنباطه، وإن لم يدونها كما لم يدون فروعه، فإن التماسك الفكري بين الفروع المأثورة – الذي يستبين عند ترديد النظر- يكشف عن فقيه كان يقيد نفسه بقواعد لا يخرج عن حدودها…
- إن العلماء الذين استنبطوا الأصول المدونة “كالبزدوي” وغيره كانوا يلتمسونها من أقوال الأئمة والفروع المأثورة عنهم، إذا نسبوا تلك القواعد للأئمة، ويذكرون أحيانا الفروع الدالة على صحة النسبة في هذه القاعدة، أو بالأحرى الدالة على أن هذه القاعدة كانت ملاحظة عند استنباط أحكام هذه الفروع، وما لا يذكرون فيه فروعا مسندة للأئمة تكون آراء لبعض الفقهاء في المذهب الحنفي كالكرخي، وكثيرا ما يكون ذلك في أمور نظرية (7) …
أصول المذهب الحنفي
وعلى هذا يمكن تقسيم أصول الحنفية إلى قسمين:
- القسم الاول ينسبونه إلى الأئمة على أنه القواعد التي لاحظوها عند الاستنباط، وهذا القسم يذكرون فيه الفروع الدالة على صحة هذه القاعدة، وهذا هو القسم الذي يهمنا في هذه الدراسة.
- والقسم الثاني: آراء فقهاء المذهب كرأي ” عيسى بن أبان” في رواية الواحد الضابط غير الفقيه إذا كانت مخالفة للقياس (8).
الهوامش
(1)- انظر كتاب: حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي “ لمحمد زاهد الكوثري ص13-15. دار الأنوار 1368هـ/ 1948م
(2)- محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء “ علي الخفيف- ص 269 بتصرف مطبعة الرسالة 1375هـ/1956م
(3)- أبو حنيفة -حياته وعصره آراؤه وفقهه “محمد أبو زهرة- ص 491-494 -بتصرف- دار الفكر العربي 1976م
(4)- الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف -ولي الله الدهلوي- ص 40-41. دار النفائس- الطبعة الثالثة: 1986م
(5)- حجة الله البالغة- لولي الله الدهلوي “ج1/336-337 “دار الكتب الحديثة “ بالقاهرة.
(6)- حجة الله البالغة : ج1/ ص 337
(7)- أبو حنيفة ص 264 -بتصرف-
(8)- انظر أبو حنيفة ص 264-265-بتصرف-