جوانب من العلاقات التاريخية بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء
جوانب من العلاقات التاريخية بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء* – سمو الأمير محمد السنوسي لاميدو الأمير الرابع عشر لمدينة كانو في جمهورية نيجيريا الاتحادية
الحمد لله رب العالمين، حمدا جامعا لسائر وجوه المحامد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
إن من سنن الله تعالى في خلقه أن زوجهم ذكورا وإناثا، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، فقال عز من قائل: ” يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ” (الحجرات 13)، ولله في خلقه شؤون، يبدي منها ما يشاء ويخفي ما يشاء، وكان من آياته كذلك اختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وجعل مناط الشرف والكرم والأفضلية بينهم جميعا في التقوى قائلا: ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير “.
وحديثنا اليوم عن جوانب من العلاقات التاريخية التي تربط المغرب بإفريقيا جنوب الصحراء، وهو حديث طويل وأصيل تعود بويضاته إلى العهد القرطاجي بالمغرب (814-146 ق م) كما يرى كثير من المؤرخين، وذلك لما ثبت تاريخيا من سيطرة القرطاجيين على الملاحة في البحر المتوسط الغربي والمحيط الأطلسي معا، مما أومأ بوصولهم إلى مصب نهر السنغال وتعاملهم مع سكانها، ثم تأكدت هذه العلاقة وتوطدت في العهد الروماني ( قبل الإسلام ) كما يقول محمد الغربي : ” إن العهد الروماني هو العهد الذي ظهرت فيه الوشائج الإفريقية، ولا نقول العلاقات فقط، بين المغرب والسودان على نحو ما يمكن تأكيد أهميته ونطاقه، فلم يعد الأمر يقتصر على التجارة وحسب، بل أصبحت للحركات الديموغرافية أهميتها في خلق تواصل دموي أو تساكني امتد فيما بعد زمانيا ومكانيا “.
لكن الإسلام -كدين ومنهج حياة- هو الذي قوى هذه العلاقة وقومها، ونفخ فيها الروح فغدت علاقة روح وفكر وثقافة بعد أن كانت مجرد علاقة تجارية ذات بعد مادي بحت، فأخذت إفريقيا الإسلام من المغرب، كما أخذت أيضا كثيرا من النظم الحياتية، والموازين الشرعية وضوابط الوقت وغيرها، أما ترى كيف أن المنهج المتبع في التعليم هو نفس النظام المغربي، ولا تزال المعاهد العلمية العتيقة تسير عليه ” ابتداء من الدخول إلى الكتاب والبدء في حفظ القرآن على رواية ورش إلى تعلم الكتابة بالخط المغربي المعروف المتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه، ثم يستقل الطالب لحفظ المتون العلمية الفقهية واللغوية والأدبية “.
وهذه المداخلة ستركز على الجوانب الثقافية والروحية التي تربط بين البلدين، وهما وإن لم تكونا أولى العلاقات بين القطرين إلا أنهما أهم من غيرهما وأقوى من سواهما، هما اللتان بقيتا إلى الآن أقوى ما يمكن أن يكون.
المدخل الأول: العلاقات الثقافية
لقد تبين أن العلاقة الوطيدة بين القطرين كان بعيد الجذور جدا، وأنه كان في بدايته تجاريا وأنه كان ساذجا وأنه أيضا كان أفقيا، ولكنه بوجود الإسلام سرعان ما اصطبغ بصبغة الدين، وانفتحت أبعاد أخرى هي الثقافية والروحية، وأضحت بعد ذلك أشبه بعلاقة الراعي مع رعيته، حيث يمكن القول بدون أي غضاضة أن مساعي المرابطين والموحدين وسائر الأسر المغربية الحاكمة في نشر الإسلام هي التي أفرزت عن أسلمة إفريقيا جنوب الصحراء، ومن وقتها صارت علوم الإسلام وتعاليمه كلها تأتي إلى إفريقيا من المغرب، ويلخص عبد العزيز بن عبد الله رسالة المغرب تجاه إفريقيا ذلك الوقت قائلا : ” فرسالة المغرب الإفريقية قد تبلورت آنذاك في إشعاع بلغ تخوم النيجر،…. وفي الوسع التصور بأن حسن النية في العلاقة بين القطرين قد تُرجم إلى عمل مثمر وغير مباشر، وتمثل في إعمار المدن التي كانت تمر بها القوافل نحو السودان والمغرب، بل وبناء مدينة بكاملها لهذا الغرض، هي مدينة تمدلت بسوس، وتنصيب أحد الأمراء الأدارسة عاملا عليها “.
وإن ولاء الممالك والدول الإفريقية المسلمة للخلافة الإسلامية المغربية ” يمتد قدما إلى عصر المرابطين الذين امتدت حدود دولتهم إلى السنغال والسوادان، كما كانت بعض الدول الإفريقية تدعو للسعديين لزهاء ثمانية عقود، وكانت الخطبة تتم باسم السلطان المغربي في تمبكتو التي بقي أهلها أوفياء لبيعتهم وبقي العهد موصولا إلى عهد المولى عبد الرحمن.
ومنذ ذلك الزمن أسرعت الممالك والشعوب من العمق الإفريقي إلى مبايعة إمارة المؤمنين والانضواء تحت لوائها، ومن أقدم تلك البيعات بيعة الإمبراطور إدريس الثالث 1582م، التي كتبت بفاس ونقلت إلى مقر الإمبراطور الكانيمي فأشهد على نفسه وعلى أتباعه بمنطوقها وتبعاتها، وجاء في نص البيعة الطويل ” تدارك الله سبحانه الوجود وأعز العالم الموجود واستطارت الأنوار المضيئة للأغوار والنجود بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمامة الهاشمية العلوية ففاضت على أديم البسيطة أنوارها وارتفع إلى السما والفرفدين منارها وتبلج بالأصباح نهارها ولاح في سماء المجد بدورها… مولانا أمير المؤمنين وخليفة الله في الأرضين وسليل خاتم النبيين ووارث الأنبياء والمرسلين المفترضة طاعته على جميع العالمين… أمير المؤمنين المنصور بالله أبو العباس… فإنه إمام الجماعة حقا، المستوفي شروطها والوارث للخلافة النبوية والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها “.
وليس يكاد يحصى عدد العلماء المغاربة الذين دخلوا إفريقيا لغرض نشر العلم، ولعل أشهرهم العلامة محمد بن عبد الكريم المغيلي صاحب أكبر الأثر في تنظيم الإدارة بسلطنة كنو زمن محمد رمفا، وأبو القاسم التواتي والشيخ محمد القوري أحد تلاميذ الشيخ أحمد زروق، ومنهم أيضا القاضي عبد الله بن أحمد الزموني المؤرخ الكبير وشارح كتاب الشفا، تتلمذ عليه قاضي تمبكتو وعدد غير قليل من علماء مالي، أما عبد الرحمن القصري فقد أوغل في إفريقيا حتى دخل أرض كنو وكشنه الواقعتين في نيجيريا الحالية، وحدث بمحضر ملوكها وأجلوه على الفرش الرفيعة ووصلوه الصلات الجزيلة من جوار وغيرها، حتى لقد ولد له من أهلها، وبعد جولته في بلاد الهوسا عاد إلى فاس وتقلد منصب الإفتاء فيها إلى أن توفي بها سنة 956 هـ.
وإن أنصف ما يمكن قوله إذا أردنا عزو الدعوة الفودية لمصادرها فهو أن هذه الحركة الإصلاحية المباركة لتمثل ابنا شرعيا وحصادا أصيلا لما ابتث في مؤلفات الإمام عبد الكريم المغيلي، فعليه اعتمد العلامة عثمان بن فوديو في تنظيم شؤون إمارته إداريا وسياسيا وتدبير شؤون الحكم والجهاد، وقبل ذلك في التنظير للأسس الفكرية التي قامت عليها الدولة الفودية، لدرجة أن بعض الدارسين يرى بأن الشيخ عثمان لم يتأثر بشخصية واحدة تأثره بالمغيلي، وهذا جلي في كل ما ألف وخلف، وقد تتبع أحد الباحثين المغاربة مصادر الشيخ عثمان بن فودي من مؤلفاته التي تربو على مائة فوجدها جميعا مصادر مغربية إلا في النزر اليسير.
وإن مدينة كنو التي أعتز بالانتساب إليها قد نالت نصيب الأسد، واستفادت من العلاقة دينيا وثقافيا وفنيا حتى، فقد ذكر المؤلف البندقي (جيوفاني لوينزو) بناء على معلومات استفادها عام (5151 م) أن مدينة ” كنو كانت تعد بجانب فاس والقاهرة من أهم مدن إفريقيا، حتى إن الزائر لها حسب المغاربة لا يعدم بها أي شيء يطلبه، وهي تقع على رأس مثلث قاعدته فاس والقاهرة وتبعد عنهما بنفس المسافة “.
وإن هذه المدينة (كنو)، كبرى المدن الإسلامية جنوب الصحراء، قد أعيد تصميمها على غرار مدينة فاس بفضل المعماريين الوانغربين الماليين الذين تخرجوا على عبقري العمران المغربي أبي إسحاق إبراهيم الساحل، وكان الفن المعماري الذي بني عليه قصور كنو هو نفس الفن والهندسة التي بني بها قصور الدولة المغربية العلية بفاس، فغدت وكأنها نسخة من الأخرى.
وأما زيارة العلامة محمد بن عبد الكريم المغيلي إلى كنو في القرن التاسع الهجري فتعد فتحا جديدا ليس لكنو فحسب ولكن لولايات الهوسا جميعا، حيث كانت للمغيلي اليد الطولى في رسم خطوط السياسة الشرعية في هذه الولايات، فدلهم على تعيين القضاة وإقامة الحدود وإصلاح أمور المجتمع عن طريق الحسبة والنظم التعليمية وتكوين الأئمة والمرشدين، ومحاربة ظاهرة التعري الذي لم يزل متفشيا في بعض الأوساط إلى ذلك الوقت، حتى لقد ذكر مؤلف كتاب ( الآثار الكنوية ) بأن القفاطين والعمائم والقمصان المفضفضة التي تعتبر الآن الزي التقليدي لجميع القبائل المسلمة في نيجيريا إنما عرفت في زمن ملك كنو محمد رمفا الذي استقدم الإمام المغيلي، وهو أمر يؤكد ما نظنه من أن كل ذلك كان بفضل هذا العالم الرباني الذي ينتمي إلى المغرب الكبير.
وإذا كانت تمبكتو عاصمة الثقافة الإسلامية للمدن الإفريقية فإن وراء ذيوع صيتها مركزين لا تقل شهرتهما عن شهرة جامعتي القرويين والزيتونة في فاس وتونس، وهما جامعتا سنكوري وسيدي يحيى، والأولى حصيلة العلماء المغاربة الذين وفدوا إلى الديار الإفريقية لغرض الإفادة ودرسوا فيها، والأخيرة لسيدي يحيى وهو عالم مغربي من سوس، بنى المسجد وأنشأ فيه حلقات علمية يقصدها الطلاب والعلماء، وعندما توفي دفن بجوار المسجد”.
وقد حفظ التاريخ بعض الزعماء الأفارقة الذين تلقوا علومهم بالمغرب، منهم الشيخ محمد الأمين الكانيمي الذي أقام في فاس سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان، وبعد عودته إلى كانم برنو قام بأدوار جليلة في نشر العلم وقلد منصب إمارة مملكة كانم برنو في وقت كانت فيه من أعظم الممالك الإسلامية في العالم وأوسعها رقعة، واشتهر بعلمه وعدله وورعه وسفاراته إلى البلاد العربية ومساجلاته مع زعماء الممالك الإسلامية المتاخمة والبعيدة.
المدخل الثاني: العلاقات الروحية
إذا كان قد ثبت أن الإسلام وجد مكانه اللائق في إفريقيا ولقي تعاليمه القلوب الصاغية بفضل الدعاة المغاربة وجهود أمراء المؤمنين بها من كافة الأسر السالفة، فإن العلاقة الروحية بين البلدين لا يحتاج إلى كبير عناء أو طويل بيان، فالمغرب العربي قد قام بدوره الأبوي تجاه إفريقيا حتى غدت إفريقيا من الناحية الروحية والثقافية مثل قطعة أخذت من خريطة المغرب، بعقيدتها الأشعرية السنية، ومذهبها المالكي البهيج، وتصوفها السني الشفيف.
وقد اعتنق بعض أمراء الدولة الغانية الإسلام وانضووا تحت الإمارة المرابطية مع أتباعهم من السراكولي والونغارا والديولا والمادينغا، وأصبحوا يقومون نيابة عن المرابطين بحملات لنشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية من الهبل والهوسا.
وما تشرف به إمارة المؤمنين إفريقيا هذه السنوات تحت رعاية صاحب الجلالة، أمير المؤمنين الملك محمد السادس، نصره الله وأيده من تأسيس لمعاهد وملتقيات حاضنة لإفريقيا علمائها وطلابها وشعبها العام مما لم يسبق له مثيل في تاريخ القارة لأمر فوق التصور، ولا نستطيع إلا أن نفسره بحديث سيد الأولين والآخرين * حيث قال : ” سيد القوم خادمهم “.
وقد بلغت العلاقة الروحية بين المغرب وإفريقيا أوجها، عند قيام الطريقة التجانية بزاويتها في فاس على يد مؤسسها مولانا أبي العباس أحمد بن محمد التجاني الذي بذل المولى سليمان كل تالد وطريف في تيسير واجب الدعوة له، فعمت طريقته ربوع القارة، وظل الولاء للدولة العلوية السنية من أكبر سمات أتباع هذه الطريقة أينما وجدوا، وصارت زواياهم امتدادات روحية لهذا التعلق. وما زال التجانيون متمسكين بهذا الولاء للدولة العلوية الشريفة، وقد أكد هذه البيعة والولاء شيوخ ومقدمو الطريقة في الجمع الأخير للمنتسبين إلى الطريقة التجانية الذي انعقد بفاس عام 2007 م كما أشادوا بالدور الرائد لإمارة المؤمنين في تعزيز الروابط الروحية بين المغرب وإفريقيا وجددوا بيعتهم لأمير المؤمنين وأقروا باتخاذهم مدينة فاس العاصمة الروحية والثقافية لهم أينما كانوا.
وفي الزيارة الرسمية الأخيرة التي قمت بها إلى الدولة المغربية شهر مارس لهذا العام (مارس 2022)، في وفد تجاني رفيع المستوى يضم أكبر قادة للطريقة التجانية، وممثلي كبرى الزوايا التجانية بالبلاد، جددت بيعتي لمولانا أمير المؤمنين، حاملاً، معي بيعة كافة المسلمين المنتسبين للطريقة التجانية قياما بالدور السامي الذي كلفني به الله وائتمنني عليه لخلافة القيادة التجانية وريادة الإخوة التجانيين.
والحمد لله رب العالمين.
*ألقيت هذه المداخلة برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط يوم 02 فبراير 2023.