دور الطرق الصوفية في انتشار الإسلام بإفريقيا
مداخلة بعنوان “دور الطرق الصوفية في انتشار الإسلام بإفريقيا” للأستاذ أحمد بن أحمد بدوي بن صالح جمل الليل مساعد صاحب المقام بمسجد الرياض لامو كينيا ومدير مركز النجاح الإسلامي ماليندي بكينيا خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439هـ الموافق لـ 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغر الميامين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،
فإني أحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره جلَّ جلاله أن وفقني لحضور هذه الجلسة الحسنية المباركة في هذا الشهر الفضيل شهر البركة والغفران والبر والإحسان.
عنوان هذه المداخلة: «دور الطرق الصوفية في انتشار الإسلام بإفريقيا»
وإنه لمن الصعب استيعاب هذه الدقائق المعدودات والمحدودة الكلام في هذا الموضوع المهم، وذلك لأمور:
أولها: أن إفريقيا التي تعد ثاني أكبر قارة في العالم؛ دولها متباينة، ولغاتها مختلفة، ففيها دول وولايات ومماليك وإمارات، ولكل منها عاداتها وطقوسها وأساليبها في المعيشة والتعامل فيما بينها.
وثانيها: أن طرق الصوفية بفروعها العديدة المنتشرة، وأصحابها حملة هذا التصوف الصافي المعين العذب ﴿لَا يصُدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا ينُزفُونَ﴾[1]، ﴿وَسَقَاهُمْ رَبهُّمْ شَرَاباً طَهُورًا﴾[2].
وَكُلُّهُم مِن رَسُول الله مُلتَمِسٌ غَرْفاً من البَحْر أو رَشْفاً من الدِّيَمِ[3]
فالحديث عن كل هذه الطرق أمر غير يسير.
ثالثها: أنني لستُ من فرسان هذه الميادين، ولا من شجعان هذه المضامير لولا امتثال الأمر، وقديما قالوا: «امتثال الأمر خير من سلوك الأدب»، و «ما لا يُدرَك كله لا يترك جله»، و «المعسور يسقط بالميسور».
أقول وبالله التوفيق:
إن التصوف بهذا الاسم المصطلح عليه -ولا مشاحّة فيما اصطلح عليه- أحد أركان الدين الأربعة: الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، فهو الركن الثالث من أركان الدين الأربعة كما في حديث سؤال جبريل: «إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»[4].
وقد حمل المسلمون رسالة الإسلام بهذا المفهوم الشمولي إلى كافة أرجاء المعمورة، ولم يهملوا ركناً واحدا من أركان هذا الدين، وبهذا المفهوم والضوابط المحكمة انطلقت شعلة الإسلام إلى الناس كافة.
وزاد الإسلام انتشاراً بقيمه السمحة التي تحث على الإحسان بجميع المخلوقات من إنسان وحيوان وجماد، فكان بذلك الإسلام نوراً وهداية يقرب حامليه ويوصلهم إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وكلما نخر جسد الأمة الجهل والكراهية والفرقة إلا وبعث فيها من يجدد لها أمر دينها من العلماء المجددين المربين؛ وهم الذين أخبر عنهم الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: «يَرِثُ هذا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُونَ عَنْهُ تَأوِيلَ الجَاهِلِينَ، وَانتِحَالَ المُبطِلِينَ، وَتَحرِيفَ الغَالِينَ»[5]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى أْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»[6]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن مجددي سلف الأمة الأخيار لركن الإحسان السلوكي؛ الإمام الحسن البصري الذي أدرك سبعين صحابيا بدرياً كلُّهم يلبسون الصوف؛ شعار الزهد، واجتناب ملذات الدنيا الفانية والتقرب الى الله بكل وسيلة؛ ﴿ ا۟وْلَٰٓئِكَ اَ۬لذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَيٰ رَبِّهِمُ اُ۬لْوَسِيلَةَ أَيُّهُمُۥٓ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراٗ﴾[7]. ولا يعنينا في هذا الموضوع إنُ كان لبس الصوف هو سبب التسمية بالتصوف، وإنما الذي يعنينا هو ما تحويه هذه التسمية من مضامين الإحسان والإيثار، واحترام الذات، والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالعلم والعمل والذكر والأوراد والتسامح..
ومن عُمد هؤلاء الصوفية الأخيار قول الله سبحانه: ﴿ وَأحْسِنْ كمَا أحْسَنَ اللَه إِليْكَ﴾[8]، وقوله تعالى: ﴿وَالله يحِبُّ الْمحسِنِينَ﴾[9]، وقوله عز وجل: ﴿ لِّلذِينَ أَحْسَنُواْ اُ۬لْحُسْن۪يٰ وَزِيَادَةٞ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۖ ا۟وْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لْجَنَّةِۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾[10]، وقوله جل وعلا: ﴿ وَقُولوُا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[11]. إلى غير ذلك من جواهر آيات الإحسان. ومن عمدهم كذلك قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[12]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شيْءٍ..»[13]. فعلى هذا الأساس المتين تأسست الطرق الصوفية وانتشرت ورفرفت أعلامها في كل أرجاء المعمورة بما في ذلك إفريقيا كما سيأتي.
ففي مصر برز الولي القطب شيخ العرب الملثم سيدي أحمد البدوي الصوفي الكبير، أتى إلى طنطا بمصر المحروسة كنانة الله في أرضه ليستقر هناك في نشر محاسن الإسلام، وبرز سيدي الولي إبراهيم الدسوقي، وسيدي الولي أبو الحسن الشاذلي، ومن معهم من أصحابهم وتلامذتهم ومريديهم يهدون الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وفي العراق سطع نجم معروف الكرخي، والفُضَيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم ،وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والإمام الجنيد، وسهل التستري، من المتقدمين، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان ،وغير هؤلاء في العراق وغيره أدوا نفس العمل الدعوي ونجحت دعوتهم لنشر الإسلام لا بالسيف ولا بالرماح، ولكن بحسن الأخلاق والسماحة.
قد استولى الإحسانُ يا رِفَاقِي بغير سَيفٍ ودمٍ مهراق
ومن هنا دخلت الطرق الصوفية إلى إفريقيا من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، حاملة للبشرية مشاعل الإحسان والمحبة؛ إلى الحبشة وإلى السودان (القادرية، والميرغينية، والسمانية، والخلوتية)، ولن أتكلم كثيرًاً عن الطرق بشمال إفريقيا والمغرب الأقصى وليبيا وتونس حيث السيد محمد بن السنوسى، والسيد عمر المختار، والسودان وموريتانيا وتشاد وغيرها من الدول المجاورة؛ لأن آثارها في الزوايا التي فيها الخبايا والكتاتيب والخلاوى ما زالت إلى الآن ماثلة للعيان تشهد بالدور الفاعل لهذه الطرق، ولا يزال عملها مستمرًّا بإخلاص وصدق في نشر الإسلام لا يرجون أجرًاً ﴿إِن اجَرِیَ إِلَّا عَلىَ ٱلله﴾[14]، ينفقون في سبيل نشر الإسلام بالإحسان وتهذيب النفوس كل نفيس وغال لترتقي إلى الملك القدوس، لا يريدون جزاء ولا شكورا إنما كل ذلك لوجه الله .
ومن منافذ الحبشة التي احتضنت النور الإسلامي وأصبحت أول مهاجر المسلمين؛ وهضاب السودان ومسالك شمال إفريقيا، ومن حضرموت اليمن ،وصلت الطرق الصوفية إلى الصومال، وإلى زنجبار، وجزر القمر، ومدغشقر ،وكينيا، وأوغندا، وبخاصة الطرق القادرية، والشاذلية، والنقشبندية، وطريقة آل باعلوي.
فالطريقة الشاذلية نشطت بالسيد الولي محمد المعروف من آل الشيخ أبي بكر بن سالم المدفون بمدينة «مرونى» عاصمة جزر القمر، وانتشرت إلى زنجبار ودار السلام عاصمة تنزانيا، وكيلوى، وكان يحملها آل غسان؛ وفي المقدمة الشيخ الولي الحسين الغساني والد الشيخ نور الدين الشاذلي اليشرطى، وأوغندا وغيرها في بلاد شرق إفريقيا .
وانتشرت الطريقة القادرية في هذه البلاد عبر الشيخ الولي أويس وتلقاها مشايخ مقديشوا من آل السادة: آل النضير، وآل الطائي والوائلي، والسادة: آل إسحاق وآل قلتين؛ أمثال السيد علي قلتين آل النضير وإخوانه، والسيد أحمد بن حسين آل الشيخ أبى بكر بن سالم في زنجبار، والشيخ عثمان العمودي وأولاده، والشيخ حسن بن عمير الشيرازي في دار السلام تنزانيا، وغير هؤلاء كثير فليس بالأمر اليسير تعداد أقطاب هذه الطرق واحداً واحداً.
وفي زنجبار وما حواليها من الجزيرة الخضراء (بيمبا)، وتخوم مدغشقر، وجنوب إفريقيا كان الحبيب أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن سميط، وولده الحبيب عمر، والشيخ عبد الله با كثير الذي أرسله الحبيب عمر بن احمد بن سميط إلى «كاب تاون» جنوب إفريقيا للصلح وفك النزاع هناك، فاستقبلوه، وإحسانا منهم أغدقوا عليه بالأموال. وردّاً للإحسان تبرع بهذه الأموال كلها لبناء مدرسة هناك حملت اسم «مدرسة با كثير»، ولا تزال هذه المدرسة موجودة حتى الآن. وقام كذلك سائر آل جمل الليل، وآل الشيخ أبي بكر بن سالم، والشيخ دحمان العمودي تلميذ الحبيب أحمد بن سميط وغيرهم من السادة الصوفية ينشرون مختلف العلوم، وعلم تزكية النفوس الذي هو التصوف.
أما الطريقة آل باعلوي فكانت موجودة في زنجبار تنزانيا وجزر القمر، ونشطت وانتشرت وقويت بيد الحبيب صالح بن علوي جمل الليل عبر الحبيب علي بن محمد الحبشي شيخ الفتح للحبيب صالح، وقد أسَّس الحبيب صالح مسجداً سمَّاه «مسجد رياض العلم» في «لامو كينيا»، مثل المسجد الذي بناه الحبيب علي الحبشي المذكور ب «سيؤون» حضرموت. كما أسَّس الحبيب صالح رباط العلم في «لامو كينيا» أيضاً، وفتح هذا الرباط كل أبوابه للعلم فتدفَّق إليه طلاب العلم من كلِّ حدبٍ وصوب، فاغترفوا مناهل العلم والعرفان ورجعوا إلى بلادهم ينشرون أمانة العلم ورسالة الإحسان بالحكمة والموعظة الحسنة.
كذلك كان الأمر مع الحبيب صالح السيد أبوبكر بن عبد الرحمن آل الشيخ أبي بكر بن سالم، الذي تبرع بقطعة من أرضه وجعلها وقفا لبناء «مسجد رياض العلم»، وقام معه كثير من السادة الأهدليين ومشايخ «لامو» يناصرون الحبيب صالح، ووقفوا معهم صفّاً واحدا في أداء هذا الواجب حتى ازدهرت «لامو» وأصبحت بمسجد الرياض مركز إشعاع نور الثقافة الإسلامية. كما ازدهرت طريقة آل باعلوي بالحبيبين الصديقين الوفيين؛ الحبيب احمد المشهور بن طه الحداد، والحبيب الشريف سعيد بن عبد الله البيض، وغيرهما أمثال الحاج خميس سليمان البلوشى، والشيخ مظفر النبهاني تلميذ الحبيب العلامة السيد علي احمد البدوي جمل الليل، والشيخ شعيب، والسيد عبد القادر الجفري، وعلى يد هؤلاء أسلم الكثير من أهالي «يوغنده» وغيرها إلى جنوب السودان «جوبا».
وختاماً، هكذا كان إسهام الطرق الصُّوفية الكبير في نشر الإسلام السمح بكل أمانة وإخلاص، حتى بلغ العمق الإفريقي وظل يزيد في الانتشار والرسوخ؛ لأنه مؤسس على أصول وقواعد متينة مستمدة من القرآن الكريم وصحيح السنة الشريفة.
الهوامش
[1] سورة الواقعة، الآية: 21.
[2] سورة الإنسان، الآية: 21.
[3] الكواكب الدرية في مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم (البردة) لأبي عبد الله محمد بن سعيد الصنهاجي البوصيري، مكتبة الآداب، القاهرة، مصر، ص .10.
[4] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، رقم: 8.
وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، رقم: 50. واللفظ للإمام مسلم.
[5] أخرجه الإمام البيهقي في سننه، رقم: 20911.
[6] أخَرجْه الإمَام مسلم في صحَيحه، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلى الحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالفَهُمْ، رقم:1920.
[7] سورة الإسراء، الآية: 57.
[8] سورة القصص، الآية: 77.
[9] سورة آل عمران، الآية: 134.
[10] سورة يونس، الآية: 26.
[11] سورة البقرة، الآية: 82.
[12] تقدم تخريجه.
[13] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، رقم: 1955.
[14] سورة يونس، الآية: 72.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- الأقلية المسلمة في أفريقيا، لسيد عبد المجيد بكر، سلسلة دعوة الحق42، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة ،1405هـ، 1985م.
- تاريخ الإسلام، لحسن إبراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر ،ط.14: 1416هـ / 1996 م.
- الدعوة إلى الإسلام، سير توماس ارنولد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر.
- شمس الظهيرة، لعبد الرحمن بن محمد المشهور، تحقيق: محمد ضياء شهاب ،عالم المعرفة، جدة، ط.1: 1404هـ / 1984م.
- طي المراحل في تاريخ السواحل، لمحمد بن سعيد البيض، (مخطوط.)
- كتاب الأربعين النووية، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، دار السلام، القاهرة ،مصر، ط.4: 1428هـ / 2007 م.
- > المسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا، د. عبد الله عبد الرزاق إبراهيم ،سلسلة عالم المعرفة 139.