مصطفى البحياوي: عرض الأمانة بين ميثاق الفطرة وكمال الشِرعة
ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، يوم السبت 12 رمضان 1445هـ الموافق لـ 23 مارس 2024 بالقصر الملكي بمدينة الدار البيضاء، الدرس الثالث من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لسنة 1445 هـ.
وألقى الدرس بين يدي أمير المؤمنين، السيد مصطفى البحياوي، أستاذ كرسي التفسير بالكراسي العلمية، متناولا بالدرس والتحليل موضوع “عرض الأمانة بين ميثاق الفطرة وكمال الشرعة “.
نص الدرس الحسني الثالث من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية الذي ألقاه بين يدي أمير المؤمنين السيد مصطفى البحياوي، في موضوع عرض الأمانة بين ميثاق الفطرة وكمال الشرعة
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض بالحق وأرسل رسله بالدين الصدق وجعل مسك ختامهم سيدنا محمدا نبي الختام المرسل بشريعة التمام ومنهج القوام المبعوث بالبشرى والميسر لليسرى اللهم صل عليه في الأولى والأخرى وسلم.
فالسلام على المقام المُبجل، المؤيد بالمدد الأَجَل وأبقى الله سيدنا المنصور به للمكرمات ودرأ عنه العوادي والاعادي وكدر الملمات والبسه حلل العافية والالطاف الخفية بنفح هذه المجالس السنية التي تجمع الى عبق التأسيس انفاس التقديس في إشارة سنية الى ما يُراد بكم ولكم من العناية الربانية التي نبَّه عليه الحكمة القائلة {إذا أردت ان تعرف مقامك فانظر أين أقامك}. هذا وعن إذنكم الشريف يتناول العبد الضعيف موضوع حديثه المُقتضَب من قطوف رياض الذكر الحكيم ما يعرض الناظر والحاضر للهبات الموعودة على اجتماع الذكر.
مولاي أمير المؤمنين
غير خاف على شريف علمكم أن هذه الدروس الرمضانية عندما بدأت في مجلس جدكم محمد بن يوسف طيب الله ثراه كانت تسمى الدروس الحديثية، عنوانا لعناية أسرتكم الشريفة بالحديث الشريف وهي العناية الموصولة من جنابكم المنيف، ولكنها في الواقع ظلت مجالا يطرح فيه على بساط الدرس وإلى يومنا هذا شرح الأصلين القرآن الكريم والحديث، وما له صلة بهما من المباحث التي تهم الدين في ما يستوجب التبليغ والإرشاد، وقصدنا في هذا الدرس تخصيص الكلام لشرح آية من القرآن الكريم هي آية الأمانة: نجلي منها:
- متضمنها من أسرار البيان؛
- وتكريم الله للإنسان؛
- وجليل مقام الإنسان بين الأكوان؛
- وما يستوجبه تحمل الأمانة بين المسؤولية والحرية من الاقتران.
بسم الله الرحمن الرحيم {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}
إنها “مولاي” آية الأمانة كما أسماها أهل القرآن – يقصدون آية عرض حملها على الاكوان وضمنها الإنسان لغاية إقامة الميزان فكان من شأنها وشأنه معها ما حدثتنا به آيتها في إيجاز وإعجاز حيث عظمت أمر العرض بالإسناد للمتكلم المُعظَّم وجَلَّت المعروض عليه بما يُؤذن بجلاله وصرَّحت بحمل الإنسان لما عُرض أمام الإباء المشفق لتلكم العوالم من حملها كما ألمحت بدلالة الضد إلى مناط الائتمان والإختيان على سواء لتتولى آية التعقيب بمطالعها الثلاثة الكشف عن مصير الإنسان المُتحمِّل والمُتنصِّل والمُعرض والمُتعرِّض وذلك برسم الجزاء الوفاق وليفتح على الإثر باب المتاب للسُّباق الباب الذي لا يغلق حتى ترفع الأمانة كليا لتُرفع في الختم رسالة توسيم مُوَقَّعَة باسم الله الغفور الرحيم في إشارة بيِّنة الى الغاية– تحميل الإنسان الأمانة – والممثلة في تأهيله لمقام التكمُّل والتكميل والمدخل المتعين إلى ذلك منازلة وصفيه “ظلمه وجهله” والاستمداد من بركة الاسمين الكريمين لربه الغفور الرحيم سترا وجبرا لتدارك القصور والتقصير العارضين في السير سير المؤتمن في عالم استخلافه.
هذا:
ومن أُفق الاجمال الى بساط التفصيل في كتاب أُحكمت آياته ثم فُصِّلت، -نعم- منه إلى منهج تدبر مقارب بنظرنا لآي كتاب وصف بالمُتشابِه والمَثنَوِيَّة والتشَابهُ هنا قمة تناسب في نظم كلمه وفواصله وفصوله، والمَثنَوِيَّةُ الطَيُّ(الثني) الدَالُّ وضم المتقابلات العوال جمعا بين الحِكمة والحُكم وعرض الاضداد لمزيد استجلاء، وعليه فلا مَندوحَة لناظرٍ متدبرٍ قاصد من أن يُعدِدَ مداخله إلى آي الكتاب فلكل آية حد ومقطع ومَطلع أو مُطَّلع خصوصا فيما يرجع لنِسب النص الثلاثة فرقاناً وكتاباً وذكراً، إذن فآيتنا كنظائرها من مقاطع التمام لها وَضْع بيان في الفرقان ومَوضِع نظم في نسق الديوان وموضوع باعتبار مُتناوَلِها ضمن مقاصد القرآن.
وسنتناول الجوانب الآنفة ثلاثتها موضوعا ووضعا وموضعا تناولا نراوح فيه وندرج نظرا لتداخلها. فنقول:
إنَّ آية الامانة من حيث موضوعها تُعرِّف بأنباء غيب مُوغل في القِدم مُتصل بتاريخ الدين ووحدته مُنوِّهة من خلال ذلك بعرض الأمانة (هكذا ب “اَلْ” التي للعهد والكمال أي أنها أمانة مَعهودة معهود بها لمعهود بقصد تكميله ) عرضها على العوالم الماثلة و ضمنها العوالم العاقلة للفت النظر إلى وصفين مُتأصِّلين في آدمي من تم العَرضُ عليه، وصفين شكلا عائقا في طريق تحمله وائتمانه – ظلمه اللصِيق وجهلِه العميق- {إنه كان ظلوماً جهولاً} أو قل فجوره المُزدوج اقتحامه بجهالة فيما حقه أن يتأنى فيه وتعديه فيما شأنه أن يتوقف عنده وفيه- فجور صد المعظم عن الائتمان الأعظم.
وننظر آيتنا لمزيد فسر من مَثنوِيةِ موضوعها بحثاً عن نظائرها في الكتاب الحكيم ننظرها على امتداد فصول الكتاب فإذا نحن بصدد آيات ثلاثة بضَميمتها هي كالتالي على ترتيب نزولها:
- آية الأعراف {وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى…………}. الآية
- آية الاستخلاف {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة …..} الآيات.
- آيتنا ولنسمِّها بوحي عنوان صورتها (آية سورة تآمر الأحلاف على قيم الاستخلاف)
ووُكْدُ المُفاد المُراد منها جمعا مما هدى اليه التدبر:
- أولاً التنبيه إلى قِدم العرض (وأنه تم حقيقة بخطاب أفهمَ الله المعروض عليه الخطاب وأنطقه بالجواب ومكنه بما يتأتى به الإباءُ والإشفاق والانسحاب) إذ تم في عالم الذَّر ويشهد لهذا حديث مسلم ومؤداه أنه تعالى حين أنزل آدم مسح ظهره بلطف خرق ورفق فنثر ذريته كالذَّر وخاطبهم مشهدا اياهم على أنفسهم بقوله {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}.
- ثانيا تقرير أصالة الاستخلاف وشرف المُستخلَف وأهليته بالتلقي المُزدوج تلقي الأسماء كلها في إشارة إلى أن هذا المتلقي قابل للتعلم إلى غايته كما أنه مؤهل لتلقي المتاب إلى أن يوصد الباب.
- وثالث المعاني المُفادةِ ما ألمح إليه العرض من تعريض مثنى – تعريض به وتعريض له وهذا الأخير على حد قول المثل الشهير (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) – وهو من ألطف أساليب الخطاب وأنجعها أثراً في متلقيه خصوصا في مقام التحميل والعتاب أما التعريض به فبلفت نظره إلى ما فيه مما يفتأ يقطعه أو يصرعه، والتنبه بالمقابل الى اسرار عروجه عبر مدارج العلم والعدل ضدا على الظلم والجهل، وبهما كما يقول أهل التزكية تصح العين ويرتقي المتقدس إلى مقام المصطفين.
ثُم إنَّ وضع آيتنا بيانيا يُشكل بلاغاً كاملا في مجلى بلاغةٍ فاصلة تجعل من النص الكريم كوثر معانٍ لا يتناهى، ومن أجلى مآخذ ذلك من النص الكريم تخير الأسنى من الألفاظِ الجامعةِ ً : كلفظ العرض الذي يحتمل الانتداب بخطاب أو بخلق أسباب, ولفظ الأمانة الذي يصدق على ما يؤتمن به وما يؤتمن عليه، ولفظ الحمل في {وحملها} والذي تتسع دلالته للأقل والاجل إلى حُذوفٍ مقدرة بدلالة الاقتضاء والاحتباك إلى أسلوب الاستخدام والاعتراض المُوهم بالوصل إلى اعتماد أسلوب يتسع للمعاني الثلاثة في المورد الواحد.
ونرفع الطرف تدبرا من وضع الآية إلى مطلع نظمها علما بإن أوفى تدبر للكتاب العزيز ما خص نظم كلمه وآيه وفصوله بفضل تدبر وراعى مناسباته للوقوف بذلك على دقائق علم الكتاب.
إن آيتنا مُصحفياً توجد ضمن سورة الأحزاب الثالثة والثلاثين في ترتيب التلاوة بين السجدة والحامدتين وهي سورة ندائية مدنية وموقعها هذا ببادئ الرأي بين السجود والحمد يشير بدلالة السجود والحمد الى أن كمال الانقياد عن كمال الاعتقاد، هما مناطُ الحمل المُوفق، أما نظم آيتنا في النزول ثامنة سور الكتاب بين سورتي النور وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيعطي ابتداء من وحي الموقع أنَّ الأمانة واقعة بين نورين نور الله المومن الذي ائتمن وأعان وفتن وكلف ولطف وامتحن وبين نور النبوءة الهادية بأنموذج محامدها المخلصة من ظلمات الارتكاس اثما وظلما ووهما فقد كان صلى الله عليه وسلم فعلا مؤتمنا بالحق عليه ومرشدا بالهدى اليه, والوراثة من بعده بشرطها موصولة بالمدد الأسنى وسر الأسماء الحسنى” هذا.
ونقرأ في مستهل سورة آيتنا هذا النداء الائتماني العلي {يأيها النبي اتق الله} والمنوه بنبوءته وسرها وهي أمانته التي حملها ومثلها بما أنه أجلُّ أمناء الوحي الإلهي (والمشاد بأمانتهم بشهادة الله) {وإنك لتهدي…} {إنك على الحق المبين}.
ومن لطيف نظمها أنها تسلسلت بنداءات علية كلها مُنوه ومُنبه إلى ما يقتضيه الايمان جذر الائتمان ففِيها نداء النبي بالنبوءة ونداء نسائه بشريف الإضافة إليه {يا نساء النبي} ونداء اتباعه باسم الايمان الذي يجمعهم به ويقتضيهم الوفاء – لتتصل سلسلة النداءات بخاتمتها الجامعة المذيلة {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا….} إنه نداء باسم الإيمان إلى أمور تمثل مِلاك الائتمان وأسه الذي لا بد منه لأي انسان. فالضمير الذي حَيِيَ بتقوى الله ومراقبته ومعه سداد التعبير لسانا ينطق بالصدق حين يحدث ويخبر وبالعدل حين يقضي يحكم وبالرفق حين يعمل ويتناول لأن استقامة الجَنان إذا انضافت إلى استقامة اللِّسان فقد استوت سفينة الأمانة على جودي نجاتها. ولذا رتب القرآن على هاتين الصفتين كمال ثمرتهما -صلاحا للعمل والتجاوز عن الخلل لتُوصل جملة الوعد بجملة الشرط {ومن يطع الله ….} مصرحة بعظيم حظ هذا الأمين المستقيم الذي أصلح من قلبه وقوم من لسانه فسُددت خطاه بالتوفيق وعداً وبالتجاوز عن الخلل رفداً ليفتح له باب الاقتراب باسم الله الوهاب التواب {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات…}
ومِن دُرر بحر سورة آيتنا-مما له صلة بموضوع – ذلكم التنويهُ اللافتُ المُعرِّف بمقام سيدنا رسول الله وبمتبوَّإ الوارثينِهُ، نقرأ فيه {إن الله وملائكته يصلون على النبي}، نصادف آية الصلاة في أعطاف آيات تعرضت لما ناب النبي صلى الله عليه وسلم من صُنوف الإيذاء من الاحلاف المتآمرة، فناسب ان تزف إليه البشرى بصلاة الله الكبرى أي أنه مُصلىً عليه منه في الملأ الأعلين ومُسلم عليه من قبله في المصطفين، وبصحبتها آية الإشادة بمقام القيادة { لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة } مضمومة إليها آية الولاية { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وازواجه امهاتهم}، وتحت هذا الأفق العلي الوَضِيء نجد ذكرا لصلاة الله على أهل الذكر بصِلتهم بنبيه والتنويه بمقام صدقهم في صحبته {يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا…….}.
ومن آية التنويه الى الآية المجلية لقيم الائتمان وجواهر عقده العشرة مرتبة على ما عليه بناؤها وسط السلسلة موصولة بالثمرات والمتممات ومذكرة بأسرار الاستمرار والترقي ومردها إلى ثلاثة: إسلام وإيمان وشُعَبِهما الإحسانية تعلقت بلسانٍ أو جنان أو أركان وفيها يقول الله تعالى {إن المسلمين والمسلمات ….} الآية، وهي آية سردت بأسلوب إطناب بين لغرض تعميم الصفات على الصنفين نساءً ورجالاً في إشارة إلى أن الأمانة لا تختلف بالتذكير والتأنيث (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) مع بسط لتجلية قيم الائتمان ومراجعه مستوعبة والصفات العشرة هذه هي قيم التزكية عند النظر إلى قيمتين أولاهما كمال المعرفة والثانية كمال الصفة – أي الاتصاف بما تقتضيه معرفة العارف من التطابق او المقاربة- فالمسلم ذاك المُنقاد بظاهره لكلمة الشهادة والمؤمن هو المُصدِّق لمعانيها بقلبه والقانت هو مُديم الطاعة والصادقُ المخلصُ فيها بترك الرياء والصابرُ هو ذلكم المُتحمِّل لمشاق العبادة والاستقامة ثم الخاشعُ لربه برؤية قصوره وتقصيره في أعماله وعبادته إلى قيم الصون الثلاثة (أصول العفة) تعلقت بيد أو جوف {والمصدقين والمصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات} وهؤلاء هم أولئك الذين تخلصوا من إكراهات المُنفصل والمتصل وبحصول التزكية بهذه القيم يرتقي من قامت به الى سماء الذاكرينَ الله كثيراً ولذلك ذكرت اخيرا ترقيا إليها اذ هي كناية عن المحبة البالغة فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره ومن ثَمَّ عوملوا من محبوبهم بما هو مذهب المحبة ستراً وجبراً وفي الحديث {فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به …..}، إذن فمن المناسب نظماً أن تختم سورة حفلت بتلكم المضامين ببلاغٍ موجه للمؤمن المؤتمن لتحسيسه بأنه مُتميز غاية بِحُريةِ إرادته وعقله فليس هو من جنس مخلوقات تحكمها غرائز لا انفكاك منها ولا هو من قبيل ملائكَ معلومٌ مقامها على حد قوله تعالى على لسانهم {وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ} وإنما هو من جنس من هم من نطفة أمشاج للابتلاء ونفسٍ مسواة على مقاس {فألهمها فجورها وتقواها}، إنه بهذه النفس، أن يمتنع وأن يطيع، أن يستقيم وأن يهيم، وهنا سِرُّ الاستخلاف ومعنى حمل الأمانة وهو حين يدرك سر الحق فيه من خلال ما أودعه لديه ودعاه إليه فينفتح على المعرفة المُنَمِية للإدراك ويقبل بمسألة التدارك وساعتها (يدركه اللطف الخفي الحفي من ربه الذي ولاه وتولاَّه حين علم ضعفه فبسط إليه اليدين ونبهه بالملاحظتين لكي يرتقي إلى مقام المصطفين) – ملاحظة التقصير منه وملاحظة المنة من ربه.
نعم إن ختم آية العرض بما يذكر بمهمة الإنسان ووظيفته في الوجود باعتباره الحر المسؤول وأنه وضعا واقع بين عالمين يتجاذبانه بالعرض والطول مؤهل للتسامي والإسفاف والاستقامة والانعطاف وكذا الإنصاف والاعتساف، ذلك موقعه وتلك أمانته فليراعي المقام ليحظى بطيب المقام المصرح به في سني الكلام {من عمل صالحا من ذكر أو انثى ….}.
وعلى مشارف الطي نذكر بالرسالة المستصحبة من تدبر آية الأمانة المستوعبة، فنقول رسالة الآية تقرر:
- أولا ان الأمانة أودعت في جذر قلوب الناس حيث جذر الايمان نزوع فطري لدى الانسان وبمقتضاها كان متدينا اصالة فهو ينزع الى التوحيد بدل التعديد والى الحق عوض الباطل والى القصد ضدا عن التطرف والشذوذ وإلى النظام رفضا للفوضى والعبث مصداقا لقول الله تعالى في الحديث القدسي {إني خلقت عبادي حنفاء}.
- ثانيا ان هذا الجذر ككل جذر مستنبت في عالم الشهادة بحاجة الى ان يتعهد وتعهده هنا بما هو مناسب له-بالذكر علما وتزكية مددا وسندا والا ظل مهملا او مفتوحا على الخارج المضاد بفتنته وضلته فضاع او كاد وسبب ضياعه عموم الفساد.
- ثالثها ان الانسان متمدن بطبيعته وانسيته ” يأنس بجنسه” ومن ثم فهو قابل للتخلق بالأخلاق الفاضلة والمقابلة إنه أخلاقي بالفطرة بل مضطر إليها بما هو مدني بها.
- رابعا ينبغي للإنسان ان يرى ان الوجود المؤتمن بالتسخير ممثلا بالعوالم الماثلة انما نصب ليدل على الله بآياته وليصل الموصول منه بمدده وآلائه، إذن فالعوالم كلها مسبحة بحمد الله ساجدة لمجده، ومسرح وجودها من حول الإنسان يشكل محرابا وسيعا مهيأ لصلاته الجامعة الموحدة بصفها وقبلتها، وهو ما قصده صلى الله عليه وسلم وهو يعرف بخصائص شرعته بقوله: {وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا}.
- خامس -ما تنطق به الرسالة- انه ينبغي للإنسان ان يرى الوجود المؤتمن هو عليه ائتمان بالتخيير فيشعر بثقل الأمانة التي حملها وشرف المسؤولية التي وكلت إليه فيخشى من أن تغلب حريته امانته او تصادر أنانيته غيريته فيقطع عن سر الوصل ومدده المنبه عليه في آية الاستخلاف بالفعلين علَّم وتلَّقى فبالمعرفة وتدارك النقائص المتلفة سر انتهاضه للقيام بمهمته وفاء بأمانته.
- وخاتمة المستصحب انه ينبغي ان ينظر بعين الاكبار لهذا القرار الممثل بالانتداب برسم العرض الأسنى في حضرة العوالم ذات المعنى ليطلع منه الانسان على أنه هو “هو” منتدب من قبل ربه الذي هو “هو” منتدب لأمر كبر على الاكوان ان تحمله و ليشهد رحمة ربه به اذ دله على مكامن ضعفه، كما دله على ثنائي معراجيته بالتنبيه بضد وصفيه علما وعدلا وختم رسالته اليه بسر الحب لديه حيث قابل نعتي عبده ظلوما جهولا بوصفيه غفورا رحيما، الغفر ستر والرحمة جبر وبهما تمام امر العبد ورفع ذكره ودفع إصره فلله الحمد والمجد من قبل ومن بعد.
وإلى هنا تقف الكلمات هي الأخرى عن الخوض في لجة البحر الكبرى { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي}، تقف لِتسبح بحمد منزل الكتاب ومبقيه آياته على امتداد الاحقاب، تقف الكلمات لتبسط الايدي سائلة النوال من صاحب الافضال في زمن النفحات {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام}.
فاللهم ارحمنا بالقران رحمة تجبر الكسر وتعظم الاجر وتغفر الوزر وترفع القدر وتدرأ الضر، اللهم نور بالقران قلوبنا وسدد به خطانا واجمع به شملنا ودافع به عنا انت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة انا هدنا اليك.
وخص ببركة اسمك الأعظم “تبارك اسمك” مولانا المنصور بك بالفضل الاتم يا واسع الكرم واحطه بسرادقات حفظك ولطائف سر اسمك السلام المومن المهيمن وتغمد اللهم بوافر رحمتك وسابغ برك ومنتك الوالد المفدى أبا وجدا كفاء ما قدم وأسدى وقدس اللهم روحهما ونور ضريحهما واقر اللهم عيني مولانا بولي عهده المولى الحسن وأنبته اللهم النبات الحسن وشد أزره بصنوه المولى الرشيد إنك ولي التوفيق والتسديد والختم من مولانا.