مولاي البشير أعمون: الأبعاد الروحية للصلاة وبعض جزئياتها في الفقه المالكي
نص الدرس السادس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية والذي ألقاه بحضرة أمير المؤمنين الأستاذ مولاي البشير أعمون، عضو المجلس العلمي المحلي بتمارة، متناولا بالدرس والتحليل موضوع ” الأبعاد الروحية للصلاة وبعض جزئياتها في الفقه المالكي” انطلاقا من قول الله تعالى “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين”.
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لله شارح صدور المؤمنين للتفقه في الدين، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
مولاي أمير المؤمنين
إن القرءان الكريم الذي نزل في هذا الشهر على جدكم الأكرم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام جاء بإقامة الصلاة وهي أعظم هدية للناس، إمكان لا يضاهيه إمكان، وزمان معمور بوصل لا تماثله مشاغل الزمان، وقت قرب ومناجاة وموقف تعرض وتذلل لا تشوبه المباهاة.
وإذا كانت دروسكم الحسنية يا مولاي مجالس لما أمر الله به من التعلم والعلم والتفكر فإن الكلام فيها عن الصلاة استدرار لرحمتها وشكر على فضلها وتحدث بنعمتها، وإن كان معظم الناس لا تخفى عليهم حقيقتها. والحال أن العلم كله غايته الصلاح أما الصلاة فهي الصلاح ذاته تجمع بين كونها وسيلة إليه وغاية في آن واحد.
بعد إذنكم السامي يا مولاي أتشرف بتناول موضوع: “الأبعاد الروحية للصلاة وبعض جزئياتها في الفقه المالكي”، وسأتحدث إن شاء الله عن ذلك في خمسة مباحث:
- معاني الصلاة
- منزلة الصلاة ومكانتها
- معنى الإقامة
- أمثلة من فقه الصلاة
- الأبعاد الروحية للصلاة
المبحث الأول: معاني الصلاة
الصلاة منقولة من الدعاء الذي تشتمل عليه. قال عياض وتسمية الدعاء صلاة معروف في كلام العرب فأضاف الشرع إلى الدعاء ما شاء من أقوال وأفعال، وقيل منقولة من الصلة، وهي ما يربط بين شيئين فهي صلة بين العبد وربه، وافترضها الله تعالى ليلة الإسراء وذلك بمكة قبل الهجرة بسنة وكان الفرض قبل ذلك ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي. وهي من أعظم العبادات البدنية وأشرفها. جمع الله فيها لبني آدم أعمال الملائكة كلهم: من قيام وركوع وسجود وذكر وقراءة واستغفار ودعاء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصنافا مهمة من أعمال بني آدم. لأنها متوقفة على بذل ثمن ما يستر به عورته ويتطهر به من الماء وذلك يجري مجرى الزكاة، وفيها الإمساك عن الأطيبين الأكل والشرب وهو يجري مجرى الصيام. وإمساك في مكان مخصوص يجري مجرى الإعتكاف. وتوجه إلى الكعبة يجري مجرى الحج ومجاهدة النفس في مدافعة الشيطان يجري مجرى الجهاد. وذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يجري مجرى الشهادتين. وفيها زائدا على ذلك ما اختصت به من وجوب قراءة القرآن والسجود وإظهار الخشوع وغير ذلك. ولذلك قيل فيها إنها من الدين كالرأس من الجسد.
إن الصلاة عبادة مشتركة بين الديانات وهي لون من ألوان الابتهال إلى الله. وهي الصورة المعهودة من العبادة التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: وهي أقوال وأفعال يُقصد بها تعظيم الله وشكره وهي مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم بشروط خاصة. فمن ورودها دعاء قوله تعالى: “وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم” أي دعواتك طمأنينة لهم. وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء الناس بصدقاتهم يدعو لهم قال عبد الله بن أبي أوفى جئت مع أبي بصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم صل على آل أبي أوفى…أي باركهم.
فالصلاة هنا جاءت بمعنى البركة. وتأتي كذلك بمعنى الاستغفار ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم” وقد فسره في رواية أخرى فقال، أمرت أن أستغفر لهم. وأول عمل ينظر فيه يوم القيامة، روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: “أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله”. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة فإن قبلت ينظر في بقية عمله وإن لم تقبل لم ينظر في شيء من عمله. وفي الحديث القدسي “إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ولم يستطل على خلقي ولم يبت مصرا على معصيتي وقطع النهار في ذكري ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب. ذلك نوره كنور الشمس أَكْلؤُه بعزتي واستحفظه ملائكتي وأجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة حلما. ومَثَلُه في خلقي كَمَثَل الفردوس في الجنة”. أخرجه البزار عن ابن عباس. والصلاة تحمل على الطاعة وترد عن المعصية. قال تعالى “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر” وهي أول ما أوجبه الله من العبادات وبدون واسطة وتلقاها النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة من الله تعالى في حضرة القدس. فهي عهد بين العبد وربه. فقد روى أبو داوود والنسائي عن عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عَهْدٌ على الله أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه”، رواه أبو داود.
والمحافظة عليها سبب لمغفرة الذنوب والخطايا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا”، رواه الخمسة إلا أبا داود. وكثرة السجود والمحافظة على الصلوات سبب تكفير السيئات ورفع الدرجات عند الله تعالى. فعن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي “سل، فقلت أسألك مرافقتك في الجنة. قال أو غير ذلك؟ قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود”، رواه الخمسة إلا البخاري.
المبحث الثاني: منزلة الصلاة ومكانتها بين العبادات
ومما لا جدال فيه أن فريضة الصلاة في الإسلام من أمهات الفرائض بل هي الأساس المتين لهذا الدين. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله في الإسلام؟ قال “الصلاة لوقتها”. والصلاة عماد الدين من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة. وهي أبرز أركان الجانب العملي في بنيان الإسلام، فهي تقوي العقيدة بما يتمثل للإنسان فيها من جلال الله وما يجده من لذة المناجاة التي تجعله أهلا لأن يحب الله عز وجل ويحبه الله. وهي نور للقلوب والبصائر يهديها إلى الحق ويرشدها إلى الطريق القويم ويبعدها عن الموبقات والمهلكات والشرور والآثام. ونظرا لما لها من هذه القيم المتميزة وغيرها كانت إحدى الإستعانتين لقوله تعالى: “واستعينوا بالصبر والصلاة” وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر أو نالته شدة فزع إلى الصلاة ويقول: “أرحنا بها يا بلال” هذا وإن في فرضية الصلاة خمسا إشارةً إلى أنها معراج روحي يعرج به روح المسلم في كل وقت من أوقاتها قانتا خاشعا لربه خمس مرات في اليوم والليل تمكينا له من الراحة التامة لتحول بينه وبين الانفعالات النفسية والعواطف المثيرة التي تدفعه إلى المغالاة في فرحه فيرتكب المحرمات أو تدفعه إلى المغالاة في حزنه فيحيط به اليأس والوسواس. وكيف لا يكون للصلاة حفظ الإنسان من هاتين الحالتين وهي التي تتميز بكونها لم تفرض في الأرض بل فرضت في السماء في كوكبة من الملائكة، وفي جذوة من الإشراق والنور فمن شاء أن يتحرر من عالم المادة والإرتكاس في طينها، ومن أراد أن يعرج بنفسه إلى عالم الروح والسمو، فليحافظ على أدائها في أوقاتها، كاملة في أركانها، تامة في أحوالها، لتُسْري به إلى أنبل معاني الخير والحب والفضيلة وتَعْرُجَ به إلى عالم الجبروت والأسرار القدسية. ولأجل ما لها من هذا الشأن العظيم كتبها الله تعالى على الأمم السابقة كما كتبها على الأمة المحمدية فهذا سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة السلام يدعو ربه فيقول: “رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي” وهذا سيدنا موسى على نبينا وعليه السلام يقول الله له: “وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري” وهذا سيدنا إسماعيل على نبينا وعليه السلام يقول الله في حقه: “وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة” وهذا سيدنا عيسى على نبينا وعليه السلام يقول: “وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا” وهذه سيدتنا مريم عليها السلام يأمرها الله بقوله: “اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين”. وهكذا كانت أكبر وشيجة بين العبد وربه.
إن الصلوات الخمس هي المرتكزات الأساسية لصلة الإنسان بالله وإحياء معاني الإيمان في قلبه: فبالصلاة يتذكر الإنسان الله رب العالمين من مبدئها إلى منتهاها. وبها يتذكر الإنسان اليوم الآخر “ملك يوم الدين” وبها يتذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. “السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله إلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله” وبها يتذكر الكتاب والطريق الذي هدى إليه “اهدنا الصراط المستقيم” كما يتذكره أثناء تلاوتِه شيئا منه أو سماعِه، وعلى هذا فالصلوات هي المظهر العملي للإيمان بالغيب وقد عبر عنها القرآن بلفظ الإيمان في قوله تعالى: “وما كان الله ليضيع إيمانكم” لذلك كان فعل الصلاة دليلا على الإيمان.
وعلى قدر ما تكون العقيدة واضحة في نفس الإنسان وعلى قدر ما يكون الإيمان يقظا في قلبه تكون استقامته على أمر الله. ولما كانت الصلاة هي التي تحيي عقيدة الحق في القلب، فإنها هي السبب المباشر الذي يجعل الإنسان مستقيما.
وإذا كانت الصلاة رمز العبودية لله وهي التي تعطي المومن يقظة الإيمان الدائمة، فإنها كذلك ليست سهلة على الإنسان إلا إذا وجد الإيمان العميق بالله واليوم الآخر فمن لم يكن إيمانه عميقا بالله واليوم الآخر كانت الصلاة صعبة عليه قال تعالى: “وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون”. إن الإنسان الذي استقر في قلبه الإيمان باليوم الآخر واستشعر لقاء ربه ورجوعه إليه هو الذي تصبح الصلاة له قرة عين كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام “وجعلت قرة عيني في الصلاة” وفزعه إليها وإلى الاستغفار كلما تغشى قلبَه الغبن إنما كان ذلك لأنها مشاهدة له صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نرى أن الصلاة هي الوسيلة العظمى في تزكية النفس، وهي عَلَم وميزان لهذه التزكية فهي وسيلة وغاية في آن واحد، وهي تعميق لمعاني العبودية والتوحيد والشكر وهي ذكر وقيام وركوع وسجود وقعود، فهي إقامة للعبادة في الهيئات الرئيسية لوضع الجسد، وإقامتها قطع لدابر الكبر والتمرد على الله، واعتراف لله بالربوبية والتدبير. فإقامتها على كمالها وتمامها قطع لدابر العجب والغرور والمنكر والفحشاء ويكفي من عظم شأنها قوله صلى الله عليه وسلم: “إن في الصلاة لشغلا” رواه الشيخان وأبو داود وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وناهيكم من شرفها وجعلها محلا للارتقاءات كونه صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره كما صح به الخبر. فقد جمعت من إحرامها إلى سلامها أصناف جميع العبادات ومن ندائها و إقامتها إلى انقضائها كافة أسرار الإسراء والمعراج. فما من طاعة تعبدنا بها الله تعالى إلا وهي مشار إليها في الصلاة من ذكر الله وتلاوة كتابه ودعائه ومنع الكلام بغير ذكره وهي ساعة الأنس بالله تعالى، ووقوف العبد في صلاته لمناجاة ربه وهي ساعة من ساعات وقوفه بعرفات للدعاء وطلب ما عند الله. وفيها الدعاء للمسلمين وهو نوع من واجب الصدقات على أهل الحاجة من عباد الله.
المبحث الثالث: معنى الإقامة
أما إقامة الصلاة فلم يذكر القرآن الصلاة التامة غالبا إلا ومعها لفظ الإقامة في كل أمر بها أو خبر عنها دون بقية الفرائض، فإن القرآن لم يلتزم بشيء مكان الإقامة في ذكر الزكاة أو الصوم أو الحج وذلك لمكان الصلاة في الدين. بل وجد من الأئمة من قال: إن مجرد لفظ الإقامة في القرآن فإنما يراد به إقامة الصلاة كالذي جاء في سورة الشعراء من قوله سبحانه وتعالى: “الذي يراك حين تقوم” فإن ابن عباس وغيره يرون أنه حين تقوم للصلاة، وقد جاء ذلك في روايات أكثر المفسرين، وأبو العباس المرسي رضي الله عنه، يقرر أن كل موضع ذكر فيه المصلون بالمدح فإنما جاء مقرونا بإقامة الصلاة. إما بلفظ الإقامة بمعنى يرجع إليها. وقد ورد ذلك في مثل قوله تعالى: “الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة” أو “رب اجعلني مقيم الصلاة” أو “وأقم الصلاة” أو “والمقيمين الصلاة”. وقد جهد الفقهاء أن يجعلوا للإقامة صفات تعرف بها، فاتجهوا إلى آداب الخشوع والاطمئنان واستحضار القلب والذهن وتوفية العدد بلا نقص أو مجاوزة. وقد رأى أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن أن الإقامة تعني إدامة فعلها – أخذا من اللغة التي تقول في الشيء الدائم إنه قائم- وذلك مع إتمام أركانها واستيفاء أقوالها وأفعالها أخذا من المعنى الذي أشار إليه عمر بقوله: “من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع” وذهب العارفون بالله إلى أن إقامة الصلاة غير وجودها، ويقولون إن الله لم يأمر إلا بإقامة الصلاة لا بإيجاد صورتها. ورأوا أن الإقامة تكون في حركة القلب لا حركة الجسم وفي خضوع الروح لا سجود الجباه، فهي من غير القلب والروح خاوية ميتة. بل هي إلى جلب العقوبة أقرب منها إلى استحقاق الثواب قال تاج الدين ابن عطاء الله في الحكم: “ليكن همك إقامة الصلاة لا وجود الصلاة فما كل مصل بمقيم” ومعنى ذلك أن المطلوب حضور الأرواح. فإقامتها إتقانها بآدابها، ثم الغيبة عنها برؤية من تعبده. فالنفس مستقبلة للقبلة والقلب مستقر في حقائق الوصلة. فما كل مصل مقيم، وضد الإقامة الإخلال والتفريط. من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا، فالمصلون كثيرون والمقيمون قليلون. فخشوع الصلاة ثلاث مراتب: خشوع خوف وانكسار للعباد، وخشوع تعظيم وهيبة وإجلال للسالكين المريدين، وخشوع فرح وإقبال للواصلين.
وإقامة الصلاة تكون بترك كل ما أمر بتركه فيها، وبفعل كل ما أمر بفعله فيها. وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الرجل ليصلي الصلاة وما له منها إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها… إلى آخر الحديث الذي رواه أحمد وغيره. وقال عمر على المنبر إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاة قيل وكيف ذلك؟ قال لا يتم خشوعه ولا تواضعه وإقباله على الله فيها”، والقرآن خص الصلاة بلفظ الإقامة تنبيها إلى أن المقصود من فعلها توفية حقوقها وشروطها. لا الإتيان بهيئتها فقط. قال تعالى: “وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين” في هذه الآية يأمر الله بإقامة الصلاة في طرفي النهار وهي صلاة الفجر والعصر كما يأمر بإقامة الصلاة في أوقات متفرقة من الليل قريبة من آخر النهار وهما صلاة المغرب والعشاء. لأن الصلاة تطهر النفوس فتتغلب على نزعة الشر لأنها تمحو آثار السيئات التي قلما يخلو منها البشر. وإقامة الصلوات الخمس في جماعة سر الدين وكفارة ذنوب المومن، وتمحيص الخطايا والذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: “الصلوات الخمس كفارة لما بينهن من الخطايا إذا اجتنبت الكبائر”. ومن أقام الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة وجميع المقامات والأحوال زبدتها الصلوات الخمس في جماعة. أما الخشوع في الصلاة فهو وسيلة لتنمية ملكة حصر الذهن في الإنسان والتي يترتب عليها أكبر الأثر في نجاحه وفوزه في هذه الحياة عملا بقوله تعالى: “قد أفلح المومنون الذين هم في صلاتهم خاشعون” فالمصلي الذي يحاول بكل قدرته أن يحصر فكره طيلة الوقت الذي تستغرقه الصلاة وهو ما يسمى بالخشوع لاشك بأنه تنمو فيه ملكة حصر الذهن وتصبح له أكبر معين في سائر الأعمال التي يزاولها، ففي الصلاة يعمل العقل والجسم معا في حركات وأحوال تبقى متنوعة حسا ومعنى.
فالجلوس بعد كل فاصل من ركعتين أو في آخر الصلاة: إشارة إلى مقام استقرار العلم بعد التنقل في الأحوال التي هي الوقوف والركوع والسجود. وبعد العلم بهذه الأحوال والمرور بها يصل الإنسان إلى المقام الشامخ والقرار الراسخ. وفي ترتيب أركانها من الاستقامة إلى الركوع والسجود سيرٌ من الأبعد للأقرب وترقية من الأدنى إلى الأعلى. ولما كان السجود أعلى الحالات فكأنما قصد لذاته. فكان الوقوف في الركعة واحدا والركوع واحدا ثم كان السجود مكررا للتأكيد، ثم جعل وحده جبرا للسهو من الخطأ والنسيان وترغيما لأنف الشيطان.
المبحث الرابع: أمثلة من جزئيات فقه الصلاة
انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: “مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم” رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم، ومعنى الطهور الوضوء. وحكى عن الجنيد أنه قال لكل شيء صفوة. وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى. وإنما كانت التكبيرة صفوة لأنها موضع النية وأول الصلاة. وكيفية الدخول في الصلاة هو أن نقبل على الله تعالى إقبالنا عليه يوم القيامة، ووقوفنا بين يدي الله ليس بين يدي الله وبيننا ترجمان. فمن الناس من إذا قال: الله أكبر غاب في مطالعة العظمة والكبرياء. وامتلأ باطنه نورا وصار الكون بأسره في فضاءِ شرْحِ صدره كخردلةٍ بأرضٍ فلاة. ثم تُلْقَى الخردلة، فما يخشى من الوسوسة وحديثِ النفس مثلُ هذا العبد. والقلب يتميز بالنية، فتكون النية موجودةً بألطف صفاتها مندرجةً في نور العظمة اندراجَ الكواكب في ضوء الشمس. وفي ذلك سر خفي يكاشَفُ به من وراء أستار الغيب، ويقيم الصلاة بصدر منشرح بالإسلام، وقلب منفتح بنور الإنعام، فتخرج الكلمة من القرآن من لسانه، ويسمعها بقلبه، فتقع الكلمة في فضاء قلبي ليس فيه غيرها، فيتملكها القلب بحسن الفهم، ولذيذ نعمة الإصغاء، ويتشربها بحلاوة الاستماع وكمال الوعي. ويدرك لطيف معناها وشريف فحواها. ومعاني القرآن الباطنة التي يكاشف بها من الملكوت قوتُ القلب وتختص إلى الروح المقدس إلى أوائل سرادقات الجبروت بمطالعة عظمة المتكلِّم وبمثل هذه المطالعة يكون كمال الاستغراق في لجج الأشواق.
مسائل جزئية في فقه الصلاة يجب مراعاتها والتوحد عليها
ثم إن أداء الصلاة تامة صحيحة على ما يوافق المذهب المالكي الذي ميز تدين المغاربة منذ دخول الإسلام إلى المغرب. يستوجب من المصلي الالتزام بالضوابط والأحكام الفقهية المرتبطة بالصلاة من أركان وسنن ومستحبات، وما يترتب على تركها من كيفية جبرها وإصلاحها مما هو مبسوط في كتب الفروع. لكن الحفاظ على وحدة المذهب يقتضي منا الإشارة إلى بعض المسائل الجزئية في فقه الصلاة يجب مراعاتها والتوحد عليها وتطبيقها وهي:
-
دعاء الاستفتاح وهو قول المصلي: “إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا…إلخ
يكره الدعاء بعد تكبيرة الإحرام أي قول: الله أكبر للدخول في الصلاة، وقبل قراءة الفاتحة على القول المشهور في المذهب المالكي لعمل أهل المدينة، قال ابن حبيب هذا الدعاء أي دعاء الاستفتاح يندب بين الإقامة والتكبير، ويكره بعد التكبير.
-
البسملة أي قول بسم الله الرحمان الرحيم:
والمصلي يقرأ الفاتحة بعد التكبير مباشرة لكراهة الفصل بينهما في المذهب المالكي، فلا يتعوذ ولا يبسمل ولا يدعو، لحديث سيدتنا عائشة رضي الله عنها، وفيه: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين”. وعن الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها. وهنالك أقوال أخرى في البسملة لم نذكرها اكتفاء بالقول المشهور في المسألة.
-
سدل اليدين
قال الإمام عبد الواحد ابن عاشر رحمه الله في المرشد المعين: “سدل يد” معناه ويندب سدل اليدين وإرسالهما للجنبين من حين تكبيرة الإحرام، ويكره قبضهما في الفرض لمخالفة عمل الصحابة والتابعين من أهل المدينة. واستحبابُ السدل مشهور عند مالك رضي الله عنه، والسدل هو الأصل في القيام على الجبلة والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو سنة عملية موروثة عند المغاربة توارثتها الأجيال أبا عن جد كابراً عن كابر، منذ دخول الإسلام إلى المغرب وانتشار المذهب المالكي في هذه الربوع إلى اليوم. والناس صاروا يقلدون ويعملون خلاف السدل جهلا بأصله في السنة.
-
جلسة الاستراحة
إن المصلي إذا نهض من السجود للقيام فإنه ينهض على صدور قدميه. وعليه الجمهور ومالك وأحمد وأبو حنيفة، والأوزاعي والثوري وأصحابه يقولون: ينهض على صدور قدميه ولا يجلس. وقال صاحب الرسالة ولا يقوم من جلوس بل ينهض إلى القيام مباشرة من السجود.
-
التسليم
الواجب تسليمة واحدة بصيغة (السلام عليكم) في آخر الصلاة وتمت الصلاة بها إجماعا. ففي الأبي شارح مسلم: أجمعوا على أن من يسلم واحدة تمت صلاته، وقال النووي في شرح مسلم أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، ومعها الالتفات جهة اليمين.
وقال ابن بطال في شرح البخاري: قال المهلب لما كان السلام تحليلا من الصلاة وعلما على فراغها دلت التسليمة الواحدة على ذلك، فقد مضى العمل بالمدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تسليمة واحدة.
-
التأمين، أي قول آمين
ومن مندوبات الصلاة قول المنفرد والمأموم آمين بعد الفاتحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه”، وذكرها ابن عاشر في مندوبات الصلاة، فقال (تأمين من صلى) وقال الشيخ خليل وإسرارهم به، أي قوله سرا لا جهرا لأنه دعاء وقال في الرسالة: فإذا قلت ولا الضالين فقل آمين إن كنت وحدك أو خلف إمام وتخفيها.أي تُسرُّ بها لأنها دعاء قال الله تعالى: “ادعوا ربكم تضرعا وخفية”، وآمين وأمين بالمد وغيره فيه لغتان اسم فعل أمر بمعنى استجب.
إن الذي نريد بيانه من الإشارة إلى هذه الجزئيات، ليس لأن مخالفتها تبطل الصلاة بل لأن الإجماع عليها يقوي الوحدة من جهة، ولأن أدلتها قوية في السنة من جهة أخرى.
المبحث الخامس: الأبعاد الروحية للصلاة
وانطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم “المصلي يناجي ربه” فإن مقام المناجاة مقام كبير عبر عنه من عاشه من العُباد العارفين. فهو مقام أدب أهل الخصوصية من أهل الدين في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار، ووفاء بالعهود وحفظ للأوقات وقلة الالتفات إلى الخواطر والعوارض. ومن أذواق العارفين في الصلاة قولهم: الصلاة سر المعراج، وهو معراج القلوب، والتشهد مقر الوصول، بعد قطع مسافات الهيئات على تدريج طبقات السموات والتحيات سلام على رب البريات. ومن الأبعاد الروحية للصلاة أخذ المصلي حظه من مسرى فرضيتها، فكان له حظ ونصيب من جميع مسراه صلى الله عليه، فطهارة المصلي وإسباغ وضوئه وتهيئته للوقوف بين يدي ربه هو حظه من شرح صدره صلى الله عليه وسلم وغسله بماء زمزم ومَلْؤُه إيمانا وحكمة كما صح في الخبر أنه وقع ليلة الإسراء. ومنتهى المصلي من بيته إلى المسجد هو حظه من سيره صلى الله من مكة إلى بيت المقدس، وخلع المصلي نعله بباب المسجد ومبادرته لتحية المسجد هو حظه من نزوله صلى الله عليه وسلم عن براقه عند باب مسجد بيت المقدس وصلاته فيه ركعتين، ورمي المصلي أسباب الدنيا من يده وطرد شواغلها عن قلبه وتعلق همته بمناجاة ربه هو حظه من ارتحاله عليه السلام من عالم الملك إلى عالم الملكوت، وتكرير المصلي القراءة والركوع والسجود هو حظه من خرقه عليه الصلاة والسلام السبع الطباق فما فوق وما يفتح به على المصلي حال صلاته من فهم أسرار وشوارق أنوار هو حظه مما شاهده عليه الصلاة والسلام من آيات ربه الكبرى. ورفع همة المصلي عن الوقوف مع شيء مما يفتح به عليه وتعلق قلبه بربه هو حظه من عدم التفات نبيه صلى الله عليه وسلم إلى شيء من هواتف الكون وعجائب الملكوت حتى وصل حضرة ربه، واختلاف الأركان حظه مما تمنى صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته من تنوعات عبادة الملائكة لما رآهم ما بين راكع لا قيام له وقائم لا ركوع له وجالس لا قيام له وساجد لا جلوس له، فجمع الله له جميع ذلك بعبادة واحدة وهي الصلاة. ومدة اشتغال المصلي بصلاته من لدن تكبيرة الإحرام إلى الجلسة الوسطى هو حظه من ترقيته عليه الصلاة والسلام من عالم الملكوت إلى عالم العزة. ورجوع المصلي لتمام صلاته بعد التشهد هو حظه من مراجعته صلى الله عليه وسلم ربه يسأله التخفيف عن أمته فخفف عنها فلذلك خُفِّف آخر الصلاة بترك السورة، وجلوس المصلي للتشهد هو حظه من وقوفه صلى الله عليه وسلم في مقام قاب قوسين، وتشهد المصلي هو حظه من تحيته عليه الصلاة والسلام لربه. وهكذا نرى أن لكل ركن من أركان الصلاة بعدا روحيا وسرا معنويا يتجلى في كون الصلاة معراجا قلبيا لكل مصل يرقى عليه فوق شهوته ورغباته ويصعد به إلى ساحات القرب ومدارج الأنس حيث يناجي ربه ليس بينه وبينه واسطة ولا حجاب ولا سور ولا باب.
مولاي أمير المومنين
إن ما ذكرنا من شأن الصلاة وآدابها ومكانتها قليل من كثير، لأنها أكبر من وصفنا وأكمل من ذكرنا ولا سيما صلاة الجماعة لأنها من أهم وسائل التغيير في المجتمع، لذلك أولاها الدين الإسلامي أهمية كبيرة. وتهدف صلاة الجماعة إلى فائدتين أساسيتين: نفسية واجتماعية.
فالفائدة النفسية هي أن وجود الجماعة يسهل إتيان الصلاة أكثر مما لو كانت فرادى، ومنها الإيحاء للإنسان بالصفات الخيرة، ومنها أنها وسيلة فعالة في غرز الصفات الحسنة في الإنسان؛
وأما الفائدة الاجتماعية للصلاة في الجماعة فهي وسيلة للتعارف بين المومنين وإزالة الحقد والغل من قلوبهم وهدم الحواجز النفسيةالسلبية للفوارق الاجتماعية فيما بينهم، ثم تسهيل تبادل المنافع فيما يعود عليهم بالخير. وهكذا فإن من حافظ على الجماعة يتعلم كثيرا من الدروس في الأخلاق الكريمة التي امتاز بها الدين الإسلامي الحنيف، ويتعلم النظام والاحترام والآداب والتآلف والتعاون والتضامن والسكينة والأمن والطمأنينة. فالحمد لله على نعمتي الإيمان والإسلام وعلى نعمة الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي الذي تحقق في وطننا العزيز بقيادة أمير المومنين وحامي حمى الملة والدين، وبفضل توجيهاته السديدة وحرصه الشديد على تحقيق الوحدة بكل مكوناتها، ومن أسسها وحدة المذهب والعقيدة والسلوك.
فاللهم أدم علينا هذه النعم العظيمة وألهمنا شكرها وبارك لنا في عمر ملكنا الهمام جلالة الملك سيدنا ومولانا محمد السادس، اللهم زِدْهُ عزا وشرفا ونصرا وتوفيقا وتمكينا.
والختم من مولانا أمير المومنين