أثر المذهب الأشعري فـي تحقيق التعايش السلمي فـي المجتمعات الإفريقية: مدرسة الشيخ الحاج مالك نموذجا

أثر المذهب الأشعري فـي تحقيق التعايش السلمي فـي المجتمعات الإفريقية: مدرسة الشيخ الحاج مالك نموذجا

أثر المذهب الأشعري فـي تحقيق التعايش السلمي فـي المجتمعات الإفريقية: مدرسة الشيخ الحاج مالك نموذجا /ذ. عبد العزيز كيبي عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية السنغال
أثر المذهب الأشعري فـي تحقيق التعايش السلمي فـي المجتمعات الإفريقية: مدرسة الشيخ الحاج مالك نموذجا /ذ. عبد العزيز كيبي عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية السنغال

[نسخة المداخلة الأصلية PDF]

الحمد لله الذي بحكمته خلق البشرية من سلالة واحدة ثم جعلها شعوبا وقبائل للتعارف، لا للتقاتل ولا للتدابر. وقال في محكم تنـزيله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾.

والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى المبعوث رحمة للعالمين ورضي الله عن الآل والصحابة أجمعين، ومن تبع هداهم إلى يوم المعاد.

إن البشرية في الأوقات التي نعيشها تعاني من مشاكل عويصة، بالنظر إلى التشققات العديدة في المجتمعات، خاصة الأفريقية. وسبب تلك التشققات كما لاحظناها يعود إلى استبعاد بعض الأفراد وتهميش آخرين، والادعاء بالتفوق لبعضهم على بعضهم الآخرين. وكل ذلك على أسس إيديولوجية أو دينية باطلة.

في مثل هذه الحالات، من المهم ان نستجوب مجددا أسسنا الاجتماعية والثقافية لاستخلاص الموارد التي تمكننا من تقديم أفضل الحلول لها. ولا شك أن الموارد الدينية الصحيحة من العوامل التي من شأنها أن تبرهن على مساهمة الإسلام في خلق جو التعايش والتسامح في بلداننا لأنه غالباً ما يُستخدم باطلا ديننا السمح، وخاصة الإسلام لتبرير التفاوتات والاستبعاد والتطهير العرقي، بحجة الدعوة والعمل الإسلامي. على هذه الدعاية تخلق المنظمات المتطرفة محيطا مواتيا للعنف والتفرقة بين المواطنين، وتبني روح الفكر الواحد التي تقوض أسس التنوع والتعددية والتسامح.

ومع ذلك، يعلمنا تاريخ بلداننا، في بعده الاجتماعي والإسلامي، أن الأسس العقائدية والفقهية التي أقيمت عليها، من خلال المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، سمحت بتأسيس مجتمعات مبنية على التعددية والتنوع والاحترام المتبادل. مما أدى إلى خلق ظروف للتعايش السلمي في جميع أنحاء المنطقة.

حتى أن جاءتنا للأسف، في السنوات الأخيرة، تيارات متطرفة وطائفية لتخلق تفاوتات تهدد هذا التعايش الجميل.

هدفنا في هذه الورقة هو معالجة الإشكالية التالية: ما هي الأدلة التي تبرهن على إسهام العقيدة الأشعرية في تأسيس ودعم مجتمع ودود في جو سليم من التعايش في السنغال؟ ونتناول مثال الشيخ الحاج مالك سي للوصول إلى النتائج المرجوة.

لذلك، سندعوكم إلى رحلة سريعة عبر التاريخ لتقديم مسار حياة الشيخ في الفصل الأول. وفي الفصل الثاني، سنتحدث عن مدرسته بناء على برنامجه ومنهجيته ثم نظهر في الفصل الثالث، انتماء الشيخ إلى العقيدة الأشعرية وما هي الأدلة التي تبرر إشكالية البحث.

الفصل الأول: الشيخ الحاج في بيئته

ولد العالم العملاق والمرشد الرباني، الشيخ الحاج مالك عليه رضا المالك، في زمن محوري عندما انتصر الاستعمار نهائيا على جميع المقاومة، ومنها الدينية. وقد تأثر بمعاناة الاحتلال وظلم القوى التقليدية «التجِّيدُّو» ورغبة السكان في استرجاع العدالة في حياتهم؛ حيث يتميز منتصف القرن التاسع عشر، الذي شهد ولادته،[1] بتصاعد الاستعمار في انتصاره على جميع القوى التي حاولت الوقوف أمامه.

قضى الشيخ الحاج مالك طفولته وشبابه في بيئة العنف المؤسسي هذه، بسبب الحروب المختلفة بين الفصائل المتنافسة من الأسر الحاكمة من ناحية، ومن ناحية أخرى، حملات القوات الاستعمارية، لبسط سيطرة فرنسا على أقصى الأراضي. بين هاتين اللوحتين، تم تشكيل تحالفات وروابط مع بعض من فئات المشيخة التي كانت تسعى أيضًا إلى توسيع نفوذها على السكان، وحتى لتأسيس دولة إسلامية.

مع ذلك السنغال الجديد، نشأ زعماء مسلمون كارزميون تميزوا بنشر العلم والدين على نطاق الأراضي اليتيمة بالحكم الذاتي، حيث أسسوا مدارس ومراكز تربوية وروحية. وممن علا صيته وشهر علمه ومقدرته وشاع نفوذه، مولانا الحاج مالك سي بن عثمان تاب عليهما الرحمان وعلينا وعلى والدينا.

أدت الظروف الاجتماعية التي وصفها المؤرخون ونظر فيها الباحثون في منشوراتهم، إلى استقرار الحاج مالك في «تِوَاوَنْ»[2]. بعد أن أصبحت بلدية في عام 1904، اكتسبت أهمية ديموغرافية واقتصادية وثقافية لدرجة أنها أصبحت خامس أكبر مدينة في السنغال، وراء «سان لويس»، «داكار»، «غُورِي» و«رُوفِيسْكْ». بلدة صغيرة في قلب «كاجُورْ»، كثيراما كانت ساحة التآمرات والخطط والتحالفات في شؤون السلطة التقليدية[3]. وكانت في نفس الوقت مكانا شهيرا للإلهاء واللقاءات الترفيهية حيث المتعة تُرْفَع إلى أعلى قممها. وأصبحت بلمسة الشيخ الحاج مالك، مكانًا عاليًا للروح والثقافة، حيث يستيقظ الوعي وتنتشر النعمة. يصف ابن قافا هذه المدينة التي حَوَّلَها الحاج مالك بصورة شاملة، على شاكلة يثرب الذي شاعت شهرتها وفاقت مكانتها، لَمَّا حلها رسول الله، الحبيب المصطفى ﷺ، في هذه الأبيات:

خَليلَيَّ عُوجا وَاٌنْزِلا بِتِواوُونِ *** تِواوُونُ فيها الْيُمنُ لِلْمُتَيامِنِ
فَما طَارَ فِيهَا طَائِرٌ مُتَشَائِمُ *** ولَكِنَّها ذَات اٌلطُّيورِ اٌلْمَيامِنِ
جَزى الله سُفُنًا بَلغَتْنا لِأَرْضِهَا *** أَتمَّ جَزاءٍ مِنْ جَزاءِ السَّفَائِن
فَلَمْ يَكُ قَبْلاً فِي تِواوُونِ مَنْزِلي *** وَلا هِي مِن أَرْضِي وَلا مِن مَواطِني
وَلَكِنَّها صَارَتْ مَدِينَةَ مَالِكٍ *** وَمَا مَالِكٌ إِلَّا كَرِيمَ اٌلمَدائِنِ.

غَيَّر الحاج مالك ملامح «تِوَاوَن» من مدينة دُوّارِ النَّفس إلى مدينة ذات روحانية عالية، حيث الأرواح تطوف حول كعبة الوحدانية. فكما يقول بَرِّيسْ:

«هناك أماكن تستمد الروح من خمولها، وأماكن ملفوفة بالأسرار، يتم اختيارها من الأزل إلى الأبد لتكون مقر المشاعر الدينية[4]».

يسير الشيخ أحمد تجان سي في نفس الاتجاه:

نَزَلْنا نُزولًا لا رُجُوعَ بُعَيْدَهُ *** بظِلِّك يا خَيْرَ اٌلْقُرى وَالْمَدائِن
وَفيك وَجَدْنا مَا اشْتَهَتْه نُفوسَنا *** وَجَدْنا خَيْرَ مَا فِي المَواطِن
تَوَطَّنَك الْفَرد الَّذي عَمَّ الْوَري *** بِآلائِه تَعْميمَ أَجْوَدِ هَاتِن
وَحُفَّتْ بِمأْواك الْمُبارَكِ خُشَّعًا *** مَلائكةُ الرَّحْمانِ حَفَظُ الأمِاكِنِ.

إلى أن يقول:

غِذاءُك ذِكْر الله جَلَّ جَلالُهُ *** وفي ذِكْرِه فَوْزٌ لِضَيْفٍ وقاطِن.

الفصل الثاني: مدرسة الشيخ الحاج مالك

إذا أردنا قصة لهذه المدرسة الشهيرة هيّا بما نصه ديستينغ إثر زيارته لها. هذا دِيسْتِينْغْ  (Destaing)مدير «المِدِرْسَة»[5] بـ«سان لويس» يعتبرها مركزًا مهمًا إلى حد ما للدراسات الإسلامية. في حديثه عن الشيخ الحاج مالك، قال بشكل قاطع «إن الشيخ الأكثر نفوذاً هو «سي الحاج مالك» (كذا)». زاره عندما كان عمره 45 عامًا ورسم في ملفه الشخصي مرشدا يحترم قواعد الإسلام الأرثوذكسي، «يتجنب الانخراط في ممارسات غير الأُرثُودُكْسِية مثل بعض الشيوخ، صنع التمائم، وإعداد المشروبات السحرية، إلخ.»

هناك، في «تِواوَنْ»، قام بتنصيب الجامعة الوحيدة في عصره، في جميع أنحاء المنطقة. هل كانت لديه المهارات والمعرفة اللازمة؟ سيستجيب تلاميذه بشكل إيجابي بالطبع. لكن نظرة عن بعد، نظرة مدير المِدِرْسَة Medersa de Saint-Louis، تؤكد في كلماته:

«من حيث المعرفة، أعتقد أنني أستطيع أن أقول إنه من بين جميع الشيوخ في «كاجُورْ»، فإن «سي الحاج» هو الأكثر تعليماً والأفضل قدرة على تقديم ما حصل عليه بوضوح. يتحدث اللغة العربية الأدبية بصواب ونقاء يحسده عليه العديد من المعلمين المغاربة، ويكتبها بوضوح وأناقة قد نتمناها للعديد من الكاتبين العرب. أجرى دراسات نحوية مكثفة في موريتانيا، وهناك اكتسب معرفة معمقة في العقيدة والفقه الإسلامي. إنه يواكب المستجدات في العالم الإسلامي. يمتلك سيدي الحاج [مالك سي] مكتبة ممتازة، حيث يوجد إلى جانب طباعات ذات جودة من القاهرة وبيروت وفاس، عدد من المخطوطات غير المنشورة. لقد أوصلني الشيخ بعضًا بسخاء. وسيتعين إعداد فهرس مكتبته بما يعود بالنفع الكبير على الدراسات الإسلامية.»

قلنا أن «تِواوَنْ» كانت في ذلك الوقت الجامعة الوحيدة في المنطقة لكونها الكيان الوحيد الذي توجد فيه جميع التخصصات، وجميع دورات التدريس في نفس الوقت كانت هناك بالتأكيد مراكز تدريس، في أماكن أخرى لكنها لم تشمل جميع التخصصات في الموقع، وعلى جميع مستويات التعليم.

بماذا تتميز الجامعة عند المتخصصين المعنيين بالأمر؟ تتميز الجامعة بالجمع بين ثلاثة أنشطة: التدريس والبحث والنشر. إنه كيان يتم تعريفه من خلال إمكانية الوصول إليه للجميع بسهولة، حتى لأولئك الذين ليس لديهم المستوى المطلوب من العلم. المحاضرات مفتوحة من حيث المبدأ لجميع الجماهير، شريطة احترام القواعد. كما تتميز بتنوع التخصصات التي يتم تدريسها، والمستويات التي تتراوح من التعليم الثانوي إلى التعليم العالي. وتوفر فرصًا لاكتساب المعرفة العامة وفرصًا للتخصص. وفقًا للدكتور بْرَايَانْ دِينْمِين: «الجامعة هي مؤسسة تعليم عالي مجمعة، مخولة رسميًا بتقديم ومنح درجات عالية المستوى في ثلاثة تخصصات أو مجالات دراسية على الأقل.»[6]

هذا التعريف، مع مفهومه المعاصر، يتناسب جيدًا مع الجامعة الشعبية في «تِواوَنْ» التي أنشأها وشيدها الحاج مالك سي. والسمة الأخيرة للجامعة هي انخفاض تكلفة التدريس. لأن إمكانية الوصول ليست جغرافية فحسب، بل إنها مالية أيضًا لأن تبليغ المعرفة لا ينبغي أن يكون في تناول الأغنياء والأرستقراطيين واستثناء الآخرين. يجب إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة لكي يستفيد المجتمع من مجموعة مهمة من العلماء والمثقفين الصالحين. إذا كانت الأمور على هذا الترتيب فذلك يبشر بالخير لمدينة تميل نحو التقدم البشري.

في هذا المستوى، دعونا نلقي نظرة على جامعة «مَاوْدُ»[7]، وفقا للمعايير المحددة أعلاه.

وسيكون لدينا شهادة إلى الأبد، من شخصيتين بارزتين من أبرز تلاميذه الذين شهد الناس، العلماء منهم أعني، على إتقانهم لهذه التخصصات، والذين دَرَّسُوا هذه المواد العلمية دون شك. كلاهما كانا سكرتيره وأصبح أحدهما، الشيخ محمد الهادي توري، صهره[8]. دعونا نستمع إلى الشيخ علي غِيْ، يَعُدُّ التخصصات التي كان «مَاوْدُ» يُدَرِّسُهَا إياهم:

وَمَن لي بِإخْراج الْحَقائق ناصِحًا *** وَمَن لي بِتَدْريس الْكِتاب وَمُسْنَد
وَمن لي بِوَرْشٍ، بَلْ جُنَيْدٍ وَالْأَشعَري *** وَمن لي بِآدابٍ وَضَرْبِ المُعَدَّد
وَمن لي بِبَذل الفِقْه والنَّحوِ مَنْطِق *** بَيان مَعانيها بَديع بِمسعد
ومَن لي بِنَجْمٍ فِي النُّجوم وَموصِل *** أُصولا عَروضًا سِيرة البَحْر مِقْود
ومَن لي بِبَحْر يُسْتَغاثُ بِوِرْدِه *** وَأَمْواجِه يُرْوَى بِها غِلَلُ السد
ومن لي بِأُسْتاذ يُرَبِّي مُريدَه *** بِلا خَلْوةٍ، بَلْ هِمَّة مِثْل أَحْمَدِ(9)
وَمَن لِي بِتَألِيفٍ يَذْكُرُ مَن مضى *** قَدِيمًا على نَهْجِ الرَّسُول مسدد.

الشهادة الأخرى التي تشهد على الطابع الشامل لتعليم «مَاوْدُ» قدمها لنا الشيخ محمد الهادي تُورِي:[9]

مُدَرِّسًا كُلَّ عِلْمٍ كان مُنْدَرِسًا *** بَيْنَ المَدارس بِيضانًا وَسُودانا
مُوَضِّحًا كُلَّ إشْكالٍ عَلى الْفُقَها *** مِن الشَّريعة حَتَّى بَيِّنًا كانا
وفارقًا كُـلَّ أحوالٍ مُشـابَـهة *** مِن الحَـقيقة لِلصُّوفي فُـرْقانا
مُبَيِّنًا كُلَّ مَعْنًى دَقَّ مَنْظَرُه *** مِن الطَّريقة لِلسُّلَّاك تِبْيَانا
فَأصْبَح الْيَومَ دِينُ الله مُنْتَصِرًا *** وَشاكِرًا سَعْيَك الْمَشْكور جَزلْانا.

ويؤكد تقرير دِيسْتِينْغْ، مدير المِدِرْسَة في سان لويس، الأبيات المذكورة من قصيدة الشيخ محمد الهادي توري، فيما يلي:

«يدرس عشرون طالبًا تحت إشراف الشيخ عددًا من «العلوم» بما في ذلك القواعد في الكتب التالية:

الأجرومية؛

والألفية؛

ولامية الأفعال؛

مقدمة الفقه: وهو يفسر رسالة ابن أبي زيد ومختصر خليل وتحفة ابن عاصم؛

المنطق، في كتاب الأخضري المعنون بالسلم

البلاغة في جواهر المكنون للأخضري

في الأدب، يشرح الشيخ مقامات الحريري

الشعراء والمعلقات، كتاب بن مهيب.

بالنسبة للتفسير القرآني، يستخدم قبل كل شيء تعليقات الخازن وروح البيان[10]

– يوضح الشيخ محمد الهادي تُورِي، عليه رضا الملك، التلميذ العبقري والصهر المحترم، هذه السمة المميزة لمدينة النور، حاضنة الروح العليا:

أَهَّلْتَه بِجَبَّارِ النَّاسِ مَّنْـزِلَـةً *** عَوالِي الدَّهْر إِخْوانًا وَأَوْطانا
أُولِي المَشايِخ أَربابُ العُلومِ وَذِي *** هِيَ الزَّوايا ذَواتِ الذِّكْر إِعْلانا
مَا بَيْنَ حَوْصَ وَسَالُمْ قُلْ وَفُوتَ *** إِلى كَجُورِنَا كُلُّهُم يُحْيُونَ أَدْيانا
في الْكُلِّ مِنْهُم زَوايا مِنْك منْشأُها *** لها دَوِيٌّ بِـذِكْر الله مَــوْلانا

وهكذا، فإن «تِوَاوَنْ»، بفضل عمل التحويل القاطع الذي قام به الشيخ الحاج مالك، تعكس جيدًا هذه الصورة الخاصة للأماكن التي تستيقظ فيها الروح.

«ويبدو أن الواجب على هذه الأراضي، المكلفة برسالة خاصة، أن تؤثر، بشكل غير منتظم وحسب الظروف، لتكوين أناس متفوقين ودعم الأفكار الأخلاقية العالية. هذا هو المكان الذي تصنع فيه طبيعتنا أفضل شعرها بكل سهولة، شعر المعتقدات العظيمة. […] أماكن ذات السيادة، فالعيون المشتتة أو الضعيفة للغاية فقط هي التي لا تميز نيران هذه الشجيرات المشتعلة الخالدة فيها. بالنسبة للروح، تشكل المساحات مثل هذه طاقة على غرار الجمال أو العبقرية. ولا يمكنها الاقتراب منهم دون التعرف عليهم. فهناك أماكن تنفخ فيها الروح[11]

خَلَقَ الشيخ الحاج مالك انطلاقا من ثقافة تتميز بالخضوع للشهوة والحيوانية، بيئة تساعد على إعطاء معنى للوجود.

الفصل الثالث: إنتماؤه إلى الأشعرية

تتميز جامعة تِواوَنْ بتسامحها ووسطيتها فيما يتعلق بالاختلاف. لم ترفض أبدًا المواجهة إذا دعت الحاجة إليها، لكن كان خيارها المواجهة بالأفكار وبالأدلة العقلية كي يتقدم المجتمع، بعيدًا عن الدوغماتية المثيرة للانقسام. لقد فوض الشيخ الحاج مالك مبدأ العقل والاعتدال في مدرسته، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لإثبات الهدوء اللازم للاستماع المتبادل والتعارف. وحتى في الجدل المدني، لتحرير نفسه من شياطين التطرف، اعتمد الشيخ على التعاليم القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ﴾.[12] [النحل الآية: 125.]

هذا الخط الأوسط، الذي دعا إليه القرآن والنموذج النبوي، هو مذهب الأشعرية الذي ينتمي إليه الشيخ الحاج مالك سي وجامعته. إنه مبدأ توازن يدحض التطرف ويرفض التكفير بحجة الإهمال فيما يتعلق بالعبادة، أو الاختلاف في المسائل الدينية. يضع هذا المذهب قضايا الإيمان والممارسات الدينية في أبعادها الصحيحة. وبالتالي، فإن أتباعه لا يستبعدون أحداً من دائرة الإسلام، على أساس الإخلال أو الإهمال الديني. فيبقى التقصير في أمور الدين كما هو، ابتعاد أو فجوة ولا غير. ويبقى الاختلاف في الرأي كما هو، تفاوت في الإدراك والفهم. ويبقى الحكم الوحيد في كل هذا هو الله. ونُقِلَ في «الإبانة» ما يلي:

«وَنُدينُ بِأَنْ لا نُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بَذَنْبٍ يَرْتَكِبُه مَا لَمْ يَسْتَحِلْهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.»[13]

وبالمثل، فإن قبول التنوع في التصورات مع التسامح في الاختلافات عند مدرسة «ماودو» يتوافق مع مبادئ العقيدة الأشعرية، إذا رجعنا إلى قول الامام الأشعري نفسه وهو على فراش الموت، كما قصه علينا الإمام السرخسي:

«اِشْهَدْ عَلَى أَنِّي لا أُكَفِّرّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْكُلَّ يُشِيرُون إلى مَعْبُودٍ واحِدٍ، وَإِنَّمَا هذا الكُلُّ إِخْتِلافٌ في الْعِباراتِ.»

وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ الحاج مالك كان من أتباع ووريث العلماء الذين سبقوه في العمل الإسلامي في غرب إفريقيا. ولا يخفى على أحد أن المذهب المالكي الذي يشكل العامل الرئيسي في مجال العلوم الفقهية في هذه المنطقة، كان مصحوبا بالأشعرية في مجال العقيدة. ويكفي دليلا على ذلك ذكر أحد أسلافه اللامعين، عثمان دَانْ فُودِي، الذي يصف نفسه:

«قَال الفقيرُ المُضْطَرُّ إلى رَحْمَةِ رَبِّه عُثْمان بن فُودِي الفُولانِيُّ نَسَبًا والْمَالِكِيُّ مَذْهَبًا والأَشْعَرِيُّ إعْتِقادًآ…»

ويذهب الشيخ الحاج مالك على نفس الطريقة إذ أعلن انتماءَه إلى الأشعرية. في «فاكهة الطلاب»، يذكر هويته مشيرا إلى مسقط رأسه، «صِينْ جُولُوفْ»، الواقع في غرب إفريقيا، قبل أن يحدد مذهبه في الفقه، المالكية، والأشعرية في العقيدة. يقول:

«يَقُولُ أَفْقَرُ الْعَبِيدِ الصِّينى *** راجِيَا عَفْوِ المَانِعِ الحَصِين
اَلْمَغْرِبِيُّ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِيُّ *** سُمِيُّ مَالِكِ الإمامُ الأَشْعَريُّ».

في موضع آخر، في «هداية الولدان»، يوضح المبادئ الأشعرية. يتناول فيه مسألة العقيدة والمذاهب المختلفة المتعلقة بها: الكلام، القضاء والقدر، مسؤولية الإنسان عن أفعاله وحرية الإختيار، الشرك وخفاياه، وما إلى ذلك. وبادئ ذي بدء، يعلن انتماءه إلى هذا المذهب:

«قال الفقيـر الملجــئ الـمـريد *** لرحمة الفعال ما يـريـد
الأشعري المالكي مالك *** أعانه فـيما انـتـهاه مـالك».

لكن هذا المذهب في العقيدة، الأشعرية، ليس فقط خاصا بالمالكية وغرب إفريقيا. لقد كان لفترة طويلة من قبل، مذهب أولئك الذين منحوا أنفسهم لقب أهل السنة والجماعة، الذين استخدموا نهجه وحججه، للدفاع عن عقيدتهم. ويمكن مراجعة ما يرويه القاضي عياض في «ترتيب المدارك» كما هو من الضروري التذكير بأن الإمام الغزالي كان من أبرز ممثلي هذه العقيدة. ومثله قد تميز الشيخ الحاج مالك باعتباره تابعا مخلصا للأشعرية، بممارسة إيمان خالص من كل ما من المحتمل أن يدنسه أو يغيره. لقد أظهر حكمة كبيرة من خلال مواقفه العادلة، بل والمتحفظة، فيما يتعلق بممارسات الآخرين.

هذا الموقف المعتدل ناتج من تطبيق مبادئ هذا المذهب في العقيدة التي تقوم، من بين أمور أخرى، على تجريد الإيمان بالله من كل ما يمكن أن يلطخه، مؤكدة في كل ظرف فردانية الله من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإنه يعلم إيمانا ثابتا بعظمة الله وتمجيده. فلنضيف الاعتدال في ميدان المعتقدات، وفي العلاقات مع الآخرين. لكن قبل كل شيء يمتنع عن تكفير الناس بحجة أنهم يهملون ما يلزمهم في أمور الدين.

هذا التصرف العادل للعقيدة يعرض الإنسان وحده أمام مسؤوليته عن أفعاله، التي يجزى بها حسنة كانت أم سيئة، كما يقول القرآن، في عدة أماكن، هذا الأمر هو خاص الخالق؛ لذلك يمتنع المرء عن الحكم حتى على مرتكب الكبيرة، لأنه بالنسبة للأشعري وأتباع مذهبه بما فيهم الحاج مالك، فإن الحكم لله فقط.

الهوامش

[1] لن نطيل في تاريخ ميلاده لان البروفيسور روحان امبي عالج السؤال على نطاق واسع في كتابه المخصص لحياة الشيخ وأعماله : «العالم العظيم الحاج مالك سي، الفكر والعمل»، البراق 2003. على جانب آخر سيتمكن القارئ من الاطلاع على السيرة الذاتية المخصصة له من قبل ابنه وخليفته الثالث، الشيخ الحاج عبد العزيز سي الدباغ تحت عنوان : « أوضح المسالك في التعريف بحياة ومناقب الشيخ الحاج مالك». وترجمه البروفيسور روحان امبي بالفرنسية. أنظر ديوان الشيخ الحاج عبد العزيز سي الدباغ. البراق، 2016، ج 2، ص 171-344.

[2] يرسم البروفيسور الحاج روحان مبي لوحة موضوعية في مؤلفه الرائع العالم العظيم الحاج مالك سي، الفكر والعمل، المجلد 1: الحياة والعمل، ص 178-181.

[3] كانت تِواوَنْ جزءًا من مملكة كاجُورْ. يذكرها ألفيز كاداموستوفي مذكراتها في القرن الخامس عشر. المصدر: ويكيبيديا.

[4]BARRÉS (Maurice) : Extraits de La colline inspirée، Plon éditeurs، in LAGARDE et MICHARD، XXe siècle، Les grands auteurs Français-Anthologie et histoire littéraire. p. 128.

[5]Médersa de Saint-Louis

[6] دينمين: كيف تحدد جامعة القرن الحادي والعشرين ؟

In Higher education policy and management، 2005/2 (n0 17)، p. 31-35

[7] لقب عاطفي للشيخ الحاج مالك ويعني في اللغة الفولانية، الكبير، الزعيم.

[8] الشيخ محمد الهادي توري، ابن الشيخ سيسي توري، كان سكرتيرًا للحاج مالك سي هو الشيخ علي غِييْ. تزوج بالسيدة عائشة ياسِنْ (أيد ياسن) سي ابنة الشيخ الحاج مالك. وهذه الأخيرة هي والدة الشيخ الحاج مالك (مَوْدُ) توري والشيخ عبد العزيز توري، مدير المعهد الإسلامي دار الأرقم بفاس توري.

[9] الشيخ أحمد التجاني صاحب الفيض الرباني مؤسس الطريقة التجانية الإبراهيمية المحمدية.

[10] «أنظر كتاب «المسلمون والمسيحيون في السنغال» مرجع سابق.

[11] المرجع نفسه.

[12] المرجع نفسه

[13] الإبانة عن أصول الديانة للإمام أبو الحسن الأشعري.

[نسخة المداخلة الأصلية PDF]

كلمات مفتاحية : ,