سد الذرائع : المفهوم والمشروعية
سد الذرائع
والذرائع في اللغة جمع ذريعة، وهي الوسيلة إلى الشيء وسدها يعنى منعها. وفي اصطلاح أهل الشرع: “الذرائع هي الأمر الذي ظاهره الجواز، إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع”، أو هي على ما اختاره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 2/57-58: “عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع”، أو بعبارة المقاصديين: الذريعة هي التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
ومثالها المشهور: نحو أن يبيع السلعة بمائة إلى أجل، ثم يشتريها بخمسين نقدا ليتوصل بذلك إلى بيع خمسين مثقالا نقدا بمائة إلى أجل.
والمجتهد في تأمله لهذا المثال يستنتج أمرين أحدهما: أن السلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل.
والثاني وهو الأهم أن المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء. لذلك فكل وسيلة أفضت إلى مفسدة فهي ممنوعة ولو كانت في نفسها مباحة، فسد الذرائع يعني منع جميع الوسائل المؤدية إلى المفاسد ولو كانت هذه الوسائل جائزة في ذاتها.وقد أخذ الإمام مالك بهذا الأصل فمنع الكثير من الأمور المباحة في ظاهرها كبعض بيوع الآجال… بل أكثر من ذلك كره حتى بعض الأمور التي تعتبر عند مذاهب أخرى مستحبات كصيام الستة أيام من شوال…
مشروعية الأخذ بسد الذرائع
واستدل العلماء على مشروعية هذا الأصل بعدة أدلة، منها:
الآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى:(وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم)، الأنعام، الآية:108، فحرم الله سب آلهة المشركين ـ مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم ـ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى.وقوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ)، النور، الآية: 31، فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ اَلِيمٌ)، البقرة ،الآية: 104، نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة ـ مع قصدهم بها الخير ـ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وسبهم الله تعالى. ومن القرآن الكريم كثير من هذا المعنى.ومن الوقائع النبوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم، امتنع عن قتل من ظهر نفاقه وقال:”أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”، وذلك لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه.
ومن اجتهادات الصحابة كثير ومن أمثلة ذلك:
نهي عمر رضي الله عنه حذيفة عن التزوج بالكتابية، بالرغم من أنه جائز بنص الكتاب (انظر الآية: 5 من سورة المائدة)، وذلك مخافة أن يتخذ قدوة في ذلك ويتزوج المسلمون الكتابيات وكفى ذلك فتنة للمسلمات.عزل عمر رضي الله عنه خالد بن الوليد رضي الله عنه مخافة أن يفتن به المسلمون ويوكلوا إليه.ومثل هذا كثير فقد أحصى ابن القيم تسعا وتسعين وجها كلها دائرة على أصل اعتبار المآل وانتهى إلى القول “وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف”.
ومن أمثلة اعتبار سد الذرائع في المذهب المالكي:
كراهية الإمام مالك صيام ستة أيام من شوال مباشرة بعد العيد بالرغم من أنها مندوبة حسب أدلة من السنة، وذلك خوفا من أن يعدها الناس من رمضان، وقد وقع هذا في بعض الأقطار الإسلامية كما حكى ذلك الشاطبي في الاعتصام حيث قال: “إن الذي خشي منه مالك رضي الله عنه قد وقع بالعجم، فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم، والبواقين، وشعائر رمضان إلى آخر الستة أيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد… وكذلك شاع عند عامة مصر أن الصبح ركعتان إلا في الجمعة فإنه ثلاث ركعات، لأجل أنهم يرون الإمام يواظب على قراءة سورة السجدة في يوم الجمعة في صلاة الصبح، ويسجد فيها، فيعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة”.
ولأجل هذه الأمور بالغ الإمام مالك في سد الذرائع تفاديا للمآلات غير الشرعية التي تفضي إليها.