الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء ، تاريخ تراث ديني مشترك
الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج
إن وزن الماضي في إفريقيا والمغرب معروف وموثق؛ فالتاريخ نفسه رسم لهما المسار وعمد إلى تعيين محطاتهما الكبرى. إن الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء وتشكيلته الفريدة (السنية، المالكية والصوفية) لا يمكنها أن تخفي عناصر هذا التاريخ، وإنما تعيد موقعه ووضعه في السياق فقط. إذ إن الإسلام في إفريقيا هو معطى ثابت، لا يمكن تجاوزه بأي شكل من الأشكال. إنه الامتداد الموضوعي لعلاقات يؤرخ لها بالعقود والقرون.
وإذا كان المغرب قد اختار صيغة التعاون عن قرب في المجال الديني، مع إفريقيا، فلوعيه العميق بالتنوع الذي يميز هذا المجال، من منظور المعتقدات والطقوس والممارسات.
لقد اختار، عن قصد، أن يقوي جانب الحوار الديني، لكن مع الحرص على احترام معتقدات السكان القديمة. الأمر مرتبط هنا وبقوة، بضرورة صيانة الاستقرار وصون السلم الاجتماعي القائمين[1].
إن الوزن الديموغرافي للمسلمين في إفريقيا، وفي إفريقيا الغربية على وجه الخصوص، هو عنصر جيو/استراتيجي أساس؛ فإذا كان الاستقرار غالبا ما يدرك بالقوة الشرعية (العسكرية ضمن مصادر قوة أخرى) ضد التيارات التي تنشد العنف والترهيب[2]، فإن الاستقرار إنما يمر أيضا وفي الآن ذاته، عبر تنوير العقول واستمالتها، ثم من خلال تقوية البعد الروحي[3]، وتثمين الطابع الاجتماعي الذي حمله الإسلام لإفريقيا من مدة بعيدة.
إسلام جنوب الصحراء وإفريقية المغرب
إن إضفاء لون ما على الإسلام في إفريقيا، هو استعادة لتصنيفات المعرفة الكولونيالية التي سادت، أو لا تزال مضمرة بشكل من الأشكال في بعض الكتابات، شأنها في ذلك شأن الأدبيات التي سادت، أو لا تزال، حول المركزية الأوروبية. إنها كتابات وأدبيات لم تتوقف يوما. لقد غدت من مدة، مصدر إلهام لمجموعة من «المستشرقين الموسميين» الجدد.
للإسلام في بلدان جنوب الصحراء تاريخ طويل ذلك أن هذا الدين القادم من خارج المنطقة حظي بقبول أهلها فتملكوه وأقبلوا عليه وخضعوا لتعاليمه وأحكامه، فتموطن في القلوب والأذهان بيسر وسهولة.
فالإسلام لم يفرض على إفريقيا، وإنما تم استقباله وأقبل الناس عليه وعملوا على إدماجه في حياتهم[4]، دون أدنى حاجة لاستحضار الاندفاعات الثقافوية المحيلة على المسيحية أو على التوفيقية، أو على «عروبة» الشمال، مصدر الظاهرة وموطنها الأصلي.
ما الذي نفيده من محاولة فهمنا لهذا الإسلام إذا عمدنا إلى اختزاله في بعض الشكليات الثانوية أو وضعناه في سياق مميزات إثنوغرافية متجاوزة؟ ولماذا لم تعتمد الكثير من الأدبيات الجادة شعارا للحديث عن إسلام القارة الآسيوية؟ هذا مستوى جانبي صرف، لا مجال للتوقف عنده بالمرة.
وصل الإسلام شمال إفريقيا ابتداء من القرن السابع الميلادي، في ظل حكم الأمويين. ثم عمد خلفاء معاوية الأول، فيما بعد، إلى توسيع نطاق حدود خلافة الهندوس[5] حتى الجزيرة الإيبيرية وبلدان المغرب العربي.
بعد ذلك، امتد الإسلام، تارة بالوسائل السلمية وتارة بالقوة، إلى أغلب بلدان إفريقيا الغربية (السنيغال، مالي، غينيا، تشاد، النيجر… إلخ)، ثم إلى إفريقيا الوسطى والشرقية (السودان، أثيوبيا، كينيا، تنزانيا… إلخ) ثم إلى بلاد شنكيط (موريطانيا الحالية).
في القرن الحادي عشر، كان الموحدون هم أول من نشر الإسلام في إفريقيا من خلال ما استمدوه من معين قاعدتهم المذهبية القوية داخل المدرسة السنية/المالكية. لقد حشدوا لقضيتهم جزءا كبيرا من أفارقة مجموعة «توكولورز،» المنحدرة من هضبة نهر السنيغال. بيد أن المغرب عرف موقفا واضحا في وجوده بإفريقيا الغربية في عهد الدولة المرابطية، كون هذه الأخيرة راهنت أكثر ومنذ البدء، على إفريقيا الشمالية وعلى شبه الجزيرة الإيبيرية.
في عهد أمبراطورية غانا (القرن الثامن)، دخل الإسلام إفريقيا الشرقية لأول مرة، وبصورة سلمية، على يد التجار العرب/البرابرة القادمين من إفريقيا الشمالية، ومن المغرب على وجه التحديد. كانت المجموعات الإفريقية الأولى التي دخلت الإسلام، وفق بعض المصادر الإفريقية، من سلالة إثنية «سونينكيس»؛ فتجار سونينكيس، الملقبين ب «ديولا»، هم الذين بدأوا، ولأول مرة، في نشر الإسلام، بصورة سلمية أيضا، ضمن سكان «واغادو»، نواة إمبراطورية غانا[6].
أما في باقي بلدان إفريقيا، فقد تكفل الأفارقة المعربون (وإن من أصول غير عربية) بمسألة نشر الإسلام، لا سيما في ربوع ومحيط السودان، من خلال الفتوحات. بعد ذلك، تمت أسلمة تشاد، انطلاقا من أمبراطورية «كنيم- بورنو»، على الرغم من أن التأثيرات الشرقية كانت جد قوية بهذه الجهة من جهات إفريقيا. ثمة تفاصيل تاريخية دقيقة تقف وتفسر مصدر وخاصيات هذه الفوارق البسيطة بين بلد وآخر.
بيد أن المجال لا يسمح هنا بالتوقف عندها كلها بالتفصيل[7].
ابتداء من القرن الرابع عشر، وخلال فترة حكم أمبراطورية مالي، اعتنق العديد من الزعماء والملوك الإسلام، تحت تأثير مبعوثين مسلمين، قدموا من شمال القارة ومن المغرب على وجه الخصوص. لذلك عمدت العديد من ممالك إفريقيا الغربية، إلى ضم ممثلين عن المسلمين بحكوماتهم، على الرغم من محدودية عدد هؤلاء ضمن الساكنة العامة.
ومع ذلك، فإننا لا نستطيع أن نجزم بوجود عملية أسلمة ممنهجة للسكان في هذه الفترة. ولم يصبح الأمر كذلك حقا، إلا مع وصول أمبراطورية «سونغهاي»(مملكة الـ«أسكيا»)، التي خلفت أمبراطورية مالي الكبير، حيث تسارعت وتيرة «سياسة الأسلمة» بما لا يدع مجالا للشك.
يجب أن نشير، من ناحية أخرى، إلى أن ظاهرة الأسلمة هاته، لم تسلم من المنافسة أو من المزايدة والتضييق. لقد كانت تظهر في محيط بدأ يزداد في ظله مد الحركات التبشيرية، إيذانا باقتراب دخول القوى الأوروبية للقارة، ومن ثمة احتلالها. إنه معطى جوهري وأساس في اعتقادنا، على الأقل من زاوية أن واقع الخارطة الدينية الحالية لإفريقيا، إنما هو نتاج ترسبات ماضي ذي حمولة تاريخية شديدة الخصوصية.
ابتداء من القرن الخامس عشر، بدأت موجات المعمرين الأوروبيين الأوائل تصل لإفريقيا. لقد تزامن دخول المسيحية لإفريقيا الوسطى مع وصول البرتغاليين، فكانت إمبراطورية الكونغو أول محطة «تجريبية» لهم، استخدموا فيها الأدوات السلمية ولم يترددوا في استعمال القوة العسكرية، عندما كانت تتعذر عليهم أو تعوزهم سبل الترغيب.
لقد دخلت المسيحية لإفريقيا مع العبيد المحررين من لدن الأوروبيين في «فريتاون» في العام 1797م، ثم في منروفيا من طرف الأمريكيين، في العام 1842م[8].
انتشرت المسيحية في البدء، انطلاقا من الموانئ الإفريقية، لا سيما تلك المشيدة على ضفاف أنهار السنيغال والنيجر والكونغو وزامبيز. ثم ظهرت البعثات الكاثوليكية والبروتستانتية ونشطت على تخوم هذه الأنهار. بالتالي، فلم يكن ثمة من سبيل للحد من اندفاعها حقا، إلى حدود الأراضي التي كان للإسلام بها وجود قوي[9].
بدأنا نلحظ ما بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلاديين، تقدم ما يسمى ب «الحملات التبشيرية الإسلامية» المضادة، والتي كانت تقوم بها بعض المجموعات الإفريقية المتأصلة، من قبيل «توكولورز» أو بعض جماعات «بولس وهاوسا» بالسينغال ومالي وغينيا وساحل العاج وبوركينافاسو ونيجيريا وبنين وشمال الكاميرون وغيرها.
أما القرن التاسع عشر، فقد عرف ميلاد العديد من «الأوتوقراطيات» الإسلامية، بمعظم بلدان إفريقيا الغربية. لكنها لم تعمر طويلا، وكانت جد مراقبة من لدن الـ «توكولورز» والـ «بولز»، لا سيما أحمادو باري بماسينا (منطقة في مالي)، الحاج عمر طال، من السنغال الشرقية، حتى تخوم مالي، عصمان دان فوديو بنيجيريا، موديبو أداما في شمال الكامرون… إلخ. أما ساموري توري، ديولي من واسولو، فقد كان مسؤولا، في ظل حكم إمبراطورية واسولو، عن الأسلمة الواسعة والمكثفةل «مانديك». لقد انضموا جميعا خلف ظاهرة الأسلمة الواسعة لمعظم الغرب الإفريقي.
برزت مع نهاية القرن التاسع عشر، موجة جديدة من التبشيرية الإنجيلية، طالت معظم بلدان إفريقيا، نتيجة السياسة التوسعية للقوى الاستعمارية في حينها. لقد طالت معظم بلدان إفريقيا الوسطى، والاستوائية والجنوبية، وطالت إفريقيا الغربية أيضا، حيث غزت المسيحية بقوة، بلدان بوركينافاسو وساحل العاج ونيجيريا.
برزت الحركة التبشيرية المسيحية في ليبيريا في العام 1914م، وفي بوركينافاسو الحالية في العام 1921م. لقد تكفل الأفارقة أنفسهم بالكنائس الإنجيلية، لا سيما في البلدان الأنجلوفونية كغانا ونيجيريا، ثم انتشرت التجربة لتطال بعض البلدان الفرانكفونية المجاورة، كساحل العاج وبنين والطوغو وغيرها.
في الستينات والسبعينات، اتسعت الحركة الإنجيلية وذاع صيتها، على الرغم من كون المسيحية الإحيائية العنصرية هي التي كانت تتوفر على النصيب الأكبر بمقياس النفوذ. كما امتدت لكينيا وأثيوبيا وأوغندا وتنزانيا… إلخ[10].
تضم إفريقيا اليوم حوالي 165 مليون مسيحي، أي ما يناهز ربع عددهم في العالم[11]. هذا المعطى جوهري وأساضي في نظرنا، لأنه يشير، بالنسبة للإسلام الوسطي تحديدا، إلى حتمية مباشرة الحوار مع دين له في قلوب الأفارقة مكانة تاريخية وراهنة مميزة.
إن الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء قد ولد من رحم الإسلام القادم من الشمال. لقد تم ذلك في عهد المرابطين، بفضل صوفية عبد الله بن ياسين، الذي نجح في نشر المالكية بمعظم ربوع إفريقيا الغربية[12].
وهو ما استمرت على نهجه معظم العائلات الحاكمة، التي توالت بعد ذلك على حكم المغرب، من مرابطين وموحدين ومرينيين ووطاسيين وسعديين وعلويين. لقد سارت جميعها على طريق إرساء قواعد وأسس الإسلام السني المالكي والصوفي، ونشره في معظم بقاع إفريقيا الغربية. لقد كانت مدينتا فاس ومراكش، عاصمتا الإمبراطوريات المغربية المتتالية، تتكلفان بتكوين النخب الدينية لهذه الأصقاع، بالتنسيق التام والمباشر مع أمبراطوريات وملكيات إفريقيا جنوب الصحراء.
في حينه عرفت هذه العلاقات الدينية الفريدة تطورا منقطع النظير، بلغ مستويات جعل من بلاد شنكيط ومالي محطتين حقيقيتين بين فاس/مراكش ومجموع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
لم يكن ثمة ما يكدر صفو هذه العلاقات التاريخية حقا. بيد أن تزايد الأطماع الكولونيالية، لا سيما بعد مؤتمر برلين، أدّى إلى تقسيم إفريقيا إلى قطع وأجزاء وأطراف، وعمل على تمزيق كيان الوحدة الترابية للإمبراطورية الشريفة من لدن فرنسا وإسبانيا، ثم حذر وسن «حدودا» صارمة على تجارة القوافل وعلى انسيابية الحركة العلمية والثقافية بين شمال إفريقيا وباقي بلدان القارة جنوب الصحراء.
وعلى الرغم من ذلك، فقد بقيت ذاكرة الأفارقة، في الشمال كما في جنوب الصحراء، حية ومتقدة. لقد بقي الارتباط الروحي بين الطرفين قائما وثابتا، وبقي الولاء لإمارة المؤمنين متجذرا في الأذهان، بصرف النظر عن موقف السلطات السياسية السائدة، الكولونيالية كما تلك التي تلت مرحلة الاستعمار والاحتلال والحماية على حد سواء.
ولعل الصوفية في إفريقيا جنوب الصحراء، والمرتبطة عضويا بالمغرب، هي من العناصر التي بقيت مؤتمنة على هذا «التلاحم» مع إمارة المؤمنين، وعلى هذا الترابط مع المغرب. والسر في ذلك لا ينبني فقط على المعتقدات المشتركة والتمثلات المتقاسمة، بل يأتي أيضا وبالأساس من باب الاعتراف، الجلي والمضمر، بالمصادر الروحية التي تستقي منها الصوفية جذورها[13].
إن ماضي الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء معروف، محدد من ناحية الكرونولوجيا التاريخية وموثق إلى حد كبير؛ ميزاته هي من ميزات ديانة سماوية لا تجد صعوبة أو حرجا في أن تتعايش مع المعتقدات التقليدية المحلية، ومع الأشكال الثقافية للتنظيم الاجتماعي التضامني. ولذلك، فهي لم ترفض الصوفية ولا حذرت من دعاتها. لقد حمتها وصانتها حتى بتنا اليوم، في معظم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، بإزاء صوفية متنوعة، متعددة المشارب الروحانية، متأقلمة ومتعايشة مع العديد من المعتقدات والطقوس والممارسات.
في الآن ذاته، فإن الواقع الديني الإسلامي، القائم من بين ظهراني المجتمعات الإفريقية، هو أيضا واقع متمحور حول إسلام في تفاعل مستمر مع الدولة. إنها تديره، كما تدير باقي مكونات الشأن الديني، بما يضمن استقلالية الجماعة وأمنها الروحي، لكن ضمن حدود احترام الحد الأدنى من متطلبات الأمن العام الداخلي، الذي يعتبر من المهام التقليدية والحصرية للدولة دون منازع.
ومع ذلك، يجب أن نعترف، عندما نكون بصدد الحديث عن الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء ، بأن ثمة تباينا حقيقيا على مستوى الوضعيات، وتعددية واسعة على مستوى واقع حال الحقل الديني الإسلامي هناك. إن الإسلام السني هو إسلام الأغلبية الساحقة من السكان المسلمين في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، بيد أننا لا يجب أن نغفل أيضا أن ثمة بداخل هذه البلدان، لا سيما في السنين الأخيرة، «اندفاعة» غير مسبوقة للغلو والتطرف (السلفي/الجهادي وغيره) وتزايدا غير مسبوق للنفوذ الشيعي، خصوصا منذ دخل «الفقه الشيعي» على الخط، عن طريق دياسبورا مالية لبنانية نشيطة منذ زمن بعيد، في هذه الجهة من القارة.
بالقدر ذاته، لا يجب أن نغض الطرف عن حقيقة أن الوزن الديموغرافي لكل بلد أو مجموعة بلدان (تجمعات اقتصادية مثلا) هو الذي بات يحكم هذا التنوع، ويضفي على هذا التعدد بعدا جيو/استراتيجيا جليا.
إن التوقف من جديد، عند المونوغرافيات المحينة، متعددة التخصص، يبدو اليوم أمرا ضروريا وحيويا؛ فالدراسات الأنتروبولوجية مطالبة بدورها، بأن تضع في سلم أولوياتها هذا التحيين للظاهرة الإثنو/دينية التي لا تزال حية بإفريقيا. إذ إنه، منذ القرن التاسع عشر، عمدت القوى الاستعمارية إلى تقسيم المجالات الجغرافية الإفريقية بالمقص والبركار، مدمرة بذلك، وبصورة قسرية غير مسبوقة في تاريخ الدول والشعوب، التحام المجموعات الإثنية التي كانت، ولقرون عدة مضت، متلاحمة ومتراصة ومتعايشة[14].
إن المبدأ الزائف المتمحور حول «عدم المساس بالحدود»، لا يصمد إلا صمود وصلابة الحدود الترابية المصطنعة التي أقيمت على أنقاض مبدأي الامتداد والتجانس. لذلك، فقد كان من الطبيعي أن تكون مرحلة ما بعد الاستعمار وإلى حدود يومنا هذا، مصدرا للحروب الطائفية، وتكون القارة مسرحا للتناحرات ذات الطبيعة الإثنو/دينية، التي أمعنت عن قصد، في تدمير المدمر وتفتيت المفتت[15].
مسلمو إفريقيا: المدى الجيو/استراتيجي
تقدر الساكنة المسلمة في إفريقيا الغربية بأكثر من 260 مليون نسمة. يُمكّننا تحليل توزعها على مختلف بلدان الجهة، من قياس نطاق ذلك بالنسبة لكل دولة، ويمكننا أيضا من استخلاص الوزن الجيو/سياسي لجهة من القارة مكونة من بلدان عدة، مخترقة من لدن شبكة فاعلين يتجاوز نفوذهم الحدود الوطنية ليطال جهات بأكملها[16]. الزوايا الصوفية هي من ضمن هؤلاء الفاعلين ذوي الحضور العلمي المميز.
إن وزن الزوايا، الروحي والتجاري في هذه الجهة من إفريقيا، لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عن أثره وتأثيره. لقد مكنها من الالتفاف على السلطة السياسية القائمة، لمواجهة الاستعمار، لمناهضة الحملات التبشيرية، لكن مع البقاء ضمن حضن الدولة الواحدة والموحدة. إن تدويل الزوايا بإفريقيا إنما كان معطى قائما وثابتا. وهذا أمر لم تغفله الكتابات، سواء الكولونيالية منها، أو التي قام عليها «أبناء البلد.»
الإسلام في منطقة المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية[17]
يمثل الإسلام، بناء على الجدول أعلاه، حوالي 54 بالمائة من ساكنة إفريقيا الغربية، أي ما يناهز ال 261 مليون مسلم، غالبيتهم سنة أشعريون مالكيون. وتعتبر نيجيريا أكبر بلد إسلامي في إفريقيا جنوب الصحراء على الإطلاق.
تربط كل هذه البلدان علاقات تعاون من أجل التنمية، مع المغرب، يضاف إليها تلك التي بوشر فيها من مدة قريبة، مع باقي البلدان المجاورة الأخرى (نيجيريا على وجه الخصوص)، ومع مجموعات إفريقيا الوسطى والاستوائية والشرقية وما سواها.
صحيح أن انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية قد كان له وقع سلبي كبير على هذه العلاقات، بيد أن التعاون الثنائي سرعان ما استأنف وتيرته الاعتيادية، لا سيما منذ يناير من العام 2017م[18]. في سياق هذه الحركية الجديدة، استعادت العلاقات المتمحورة حول المجال الديني كل دينامياتها، وباتت يوما عن يوم أداة سلم وأمن حقيقين، بل إن النموذج المغربي قد أضحى مقبولا ومطلوبا ومرغوبا فيه.
إن إفريقيا جنوب الصحراء، بساكنتها الهامة (حوالي 261 مليون نسمة) وبفضائها الجغرافي الشاسع، الممتد على مساحة مليون ونصف مليون كلم مربع (أي حوالي17 بالمائة من المساحة الإجمالية للقارة الإفريقية) قد أضحت حقا وحقيقة، من
«الأقاليم» الإفريقية الوازنة على المستوى البشري والاقتصادي والتجاري.
إن العنصر الديني، المبني على التضامن بين المجموعات، هو أساس الهوية التي تلتحم وتلتئم حولها المجموعات البشرية. أما العنصر الثقافي، فهو عنصر جوهري إضافي يرمي إلى قياس تأثير «الاقتصاد الثقافي»[19] ومشتقاته الصناعية والتجارية.
بيد أن الانسجام بين البعد الاقتصادي (المبادلات البي/إفريقية) والانتماءات الدينية، من شأنه أن يكون ذا أهمية كبرى بالنسبة للتحليل.
توزيع الساكنة الإفريقية حسب الديانات والمعتقدات الأساسية [20]
ستوجب هذه النسب العامة بعض الحذر. بيد أنها وعلى الرغم من ذلك، تعبر عن خصوصية كل حقل ديني على حدة. وتعبر، من جهة أخرى، عن تنوع ديموغرافي لانتماءات غنية بالعبر، فيما يتعلق بتحديد جوانب التعاون البي/إفريقي في المجال الثقافي والديني.
وإذا كانت النخب الدينية (نخب العلماء حصريا) تراهن على تقوية جانب التعاون في المجال الديني، وتخص الزوايا الصوفية الشريفة المعترف بها في هذا البلد أو ذاك، بدور ما في هذا الرهان، فإن النخب الاقتصادية تبدو بدورها متشبثة بالخلفية الدينية التي تنحدر منها.
هذا الطرح مهم وأساسي في نظرنا، لأنه لا يشي فقط بوجود «مسالك موضوعية» بين الفضاء الديني والفضاء الاقتصادي، بل أيضا بوجود اختيارات مجتمع، معتمدة وسارية من بين ظهراني هذا البلد أو هذه المجموعة من البلدان[21]. ولعل مثال نيجيريا خير دليل على صواب ومصداقية هذا الطرح. بيد أن إتمام الصورة يستلزم قراءة إضافية من زاوية طبيعة وأنماط الانتماءات الدينية للنخب الاقتصادية؛ قراءة من هذا القبيل من شأنها المساعدة على فهم التداخل والتعايش داخل حقل ديني ما، بين المسيحيين والمسلمين.
ولذلك، فإن اختيار مشاريع التعاون المشتركة إنما تكون في العديد من الحالات، رهينة حساسيات دينية وسياسية، نابعة من طبيعة انتماء أصحاب الرساميل، ومن وزنهم الاقتصادي والاعتباري داخل مجموعاتهم الوطنية أو المحلية[22].
عن تنوع الديانات في إفريقيا: ثلاث عبر
أولا: للإسلام مقام وازن في إفريقيا. إذ على الرغم من تباين منسوب وجوده بين هذا البلد أو ذاك، فإن مكانته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية بالقارة، هي مكانة متميزة بكل المقاييس.
بيد أنه إذا كانت المالكية السنية تمثل تقليديا، البنية الأصلية للإسلام في إفريقيا الغربية، فإنه من الواجب ملاحظة أن حقلها الديني قد بات اليوم «مخترقا» أكثر من أي وقت مضى، من طرف متغيرات مذهبية متعددة أخرى، تناهض الإسلام الوسطي، السني والصوفي، المعتدل والمسالم والمتسامح. يروم التلميح هنا إلى الحركة الوهابية ومشتقاتها السلفية/الجهادية التي تنشد العنف والترهيب[23]، ويروم أيضا إلى المذهب الشيعي الإثني عشري الإيراني ذي الطموحات الإيديولوجية الهدامة[24].
ثانيا: إن الحملات التبشيرية التقليدية قد كانت من فعل الكاثوليكية الرومانية بالأساس (الفاتيكان ومستوياته المختلفة)، ثم إن الإنجيليين الأمريكيين قد انضموا هم الآخرون، لهذا المد، وبدأوا منذ مدة، يستثمرون فيه، بل ونجحوا في ذلك بالعديد من بلدان إفريقيا (في أوغندا مثلا). إنهم يشكلون تحديا حقيقيا للإسلام السني المتواجد والمتجذر تاريخيا في معظم جهات إفريقيا.
ثالثا: لا تزال المعتقدات التقليدية، صامدة بقوة، بل ولا تزال تمثل مكونا مركزيا من مكونات هذا الحقل الديني أو ذاك؛ إنها تتعايش وتتساكن مع منظومات الزوايا، دون منغصات تذكر. صحيح أن تأثيرها على الممارسات الدينية المرتبطة بالإسلام أو بالمسيحية، هو أمر قائم ولا يمكن إغفاله، إلا أن خطورته محدودة ومداه غير ذي تبعات كبرى.
الهوامش
[1] – راجع:
Triaud. J. L, La relation historique maghrébo-africaine : une dimension islamique, Cultures Sud, n° 169,
[2] -يتحرك المغرب، عندما يستوجب الأمر ذلك، في إطار منظمة الأمم المتحدة. إنه يساهم في حفظ الأمن والسلام من خلال إرسال وحدات عسكرية لهذا الغرض (جمهورية إفريقيا الوسطى، ساحل العاج… إلخ). كما أنه ينشد التعاون الاقتصادي، من أجل النهوض بتنمية المجتمعات الإفريقية. العنصر الديني هو من العناصر الكبرى والأساسية في الدبلوماسية المغربية.
[3] راجع:
.Adriana. P, Les voies du soufisme au sud du Sahara, Paris, Éd. Karthala, 2006
[4] لقد تمت أسلمة البقاع الإفريقية جنوب الصحراء انطلاقا من المغرب العربي، ومن المغرب على وجه الخصوص، خلال انطلاقة الأمبراطوريتين المرابطية والموحدية، والأسر الحاكمة التي تلتهما: المالكية السنية، ثم صوفية الزوايا، هما الامتداد المنطقي والطبيعي الذي ترتب عن كل ذلك.
[5] -نشأت حضارة هضبة الهندوس في فترة ما قبل التاريخ. يمتد نطاقها الجغرافي لمجمل هضبة وادي الهندوس في شبه القارة الهندية (حول دولة باكستان الحالية).
[6] -راجع:
.Iniesta. F, Aixela. Y, L’Islam de l’Afrique noire, Paris, Éd. L’Harmattan, 2012
[7] -راجع:
Robinson. D., Schmitz. J, Triaud. J.L, Les sociétés musulmanes africaines: configurations et trajectoires historiques, Paris, Éd. Karthala, 2010
[8] راجع:
Bujo. B, Le christianisme africain et sa théologie, Revue des sciences religieuses, n° 84, février 2010 –
[9] -راجع:
Baur. J, 2000 ans de christianisme en Afrique : Une histoire de l’Église africaine, Kinshasa, Éd. Paulines,
[10] -نشأت حركة «البونتكوت» في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتميز بطابعها المتمحور حول المسيح، ثم حول مسألة الفصل بين الدولة والكنيسة. هذه الجزئية أساسية في اعتقادنا لأنها تبين «سر» التنوع الديني الملاحظ في إفريقيا الغربية.
[11] -راجع:
Luneau. R (Dir.), Chemins de la christologie africaine, Paris, 2001
[12] -راجع:
Roche. C, L’Afrique noire et la France au XIXe siècle : conquêtes et résistances, Paris, Éd. Karthala, 2011
[13] -راجع:
Triaud. J. L, Robinson. D (Dir.), La Tidjaniya, une confrérie musulmane à la conquête de l’Afrique, Paris, Ed.
Karthala, 2005
[14] -راجع:
Adu Bouahen. A (Dir.), Histoire générale de l’Afrique : l’Afrique sous domination coloniale (1880-1935),
.Paris, Éd. Unesco, 2000
[15] -لا نعدم الأمثلة في ذلك، منذ الستينات وإلى اليوم، في الكونغو (زايير سابقا)، في نيجيريا وفي رواندا وفي غيرها.
[16] -الماضي العميق لإفريقيا هو ماضي الإثنيات بامتياز. ثم هو ماضي الأمبراطوريات القديمة والحديثة، والتي لا تزال تميز واقعها الأنتروبولوجي إلى يومنا هذا. الدولة «مفهوم» حديث بإفريقيا. إنه فضاء «مصطنع»، يفصل بين نفس الإثنيات من هذا الطرف من الحدود ومن ذاك. إن لغة التخاطب والعادات والديانات والمعتقدات هي «ظواهر» ذات خاصيات عابرة للحدود وللأوطان. ولعل الجانب الاقتصادي هو الذي ساهم في تعميق حركات السكان، تماما كما فعلت ظروف الأزمات السياسية أو فترات المجاعة (الجوع، الجفاف، التصحر… إلخ).
[17] -معطيات من تجميع الكاتب.
[18] -لقد أثرت مسألة الوحدة الترابية للمغرب، منذ العام 1984م، على هذه العلاقات، بيد أن استئناف المغرب لعضويته بمنظمة الاتحاد الإفريقي في 31 يناير 2017م، أعطت لهذه العلاقات زخما جديدا.
[19] -لقد كانت منظمة مجموعة إفريقيا الوسطى ضيف الشرف في المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء من 9 إلى 19 فبراير 2017م.
[20] -معطيات من تجميع الكاتب.
[21] -راجع:
Hilgers. M, André. G (Dir.), Intimités et inimités du religieux et du politique en Afrique, Civilisations, Revue
Internationale d’Anthropologie et de sciences humaines, Vol. LVIII, n° 2, 2009.
[22] – راجع:
Kaag.M, Saint-Lary. M, Nouvelles visibilités de la religion dans l’arène du développement : L’implication des élites chrétiennes et musulmanes dans les politiques publiques en Afrique, Bulletin de l’APAD,
Association Euro-Africaine pour l’anthropologie du changement social et du développement, n° 33, 2011.
[23] – راجع:
Lugan. B (Dir.), Afrique de l’Ouest : Islam arabo-oriental contre Islam Africain, In Le jihadisme en Afrique, l’Afrique Réelle n° 76,2016.
[24] – راجع:
CIRT, Activités menées par l’Iran en Afrique de l’Est, voies d’accès au Moyen Orient et au continent africain, Centre d’Information sur les Renseignements et le Terrorisme, 29 juillet 2009.