دور المرأة المغربية في صناعة النخب الدينية والسياسية: السيدة خناثة بنت بكار نموذجا
امعة القاضي عياض- مراكش
يزخر تاريخ المملكة المغربية العريق بنماذج فريدة من النساء الرائدات في مجال صناعة النخب والقيادات البارزة في الحقلين السياسي والديني بالمغرب، كما هو الحال بالنسبة للسيدة فاطمة الفهرية مؤسسة أول جامعة إسلامية في العالم بمدينة فاس، والسيدة زينب النفزاوية زوجة قائد الدولة المرابطية يوسف بن تاشفين، فضلا عن السيدة الحرة التي تزعمت الحركة الجهادية بشمال المملكة، والسيدة خناثة بنت الشيخ بكار المغافري التي أسهمت بشكل لافت في رسم مسار تاريخ حكم المملكة المغربية وسياستها الخارجية.
ويرجع تاريخ السيدة خناثة بنت الشيخ بكار الملقبة ب “أم السلاطين” إلى مرحلة عاشتها المملكة المغربية في ظل حقبة حكم السلطان المولى إسماعيل، حينما قدمت عليه وفود من بعض القبائل الساحلية القاطنة بجنوب المملكة المغربية لتقديم فروض الطاعة والولاء له، وكان من ضمن الوفد الشيخ بكار المغافري والد السيدة خناثة التي قدمها إلى السلطان المولى إسماعيل ليتزوج بها سنة 1680م[1]. بيد أن وفاة السلطان المولى إسماعيل سيقحم المغرب في دوامة أزمات حادة لكثرة أبنائه وتعدد نسائه؛ كادت مقاليد السلطة على إثرها أن تنفلت من قبضة أبناء السيدة خناثة التي تعرضت لمحن وشدائد عدة في سبيل ضمان استقرار المغرب.
أولا: السيدة خناثة بنت بكار والحقل الديني المغربي
أدرجت عدة مصادر تاريخية السيدة خناثة بنت الشيخ بكار المغافري ضمن مصاف النساء العالمات والأديبات، حيث حفظت القرآن في سن مبكرة وأحسنت القراءات السبع، وشهد لها مؤرخون بالعلم الغزير بالحديث والتفقه في العلوم الشرعية والتصوف والشعر بالنظر إلى الوسط الاجتماعي والعلمي الذي ترعرعت فيه في ظل كنف والدها الشيخ بكار بن علي بن عبد الله المغافري الذي كان أميرا للبراكنة، وشيخا حريصا على تدين أبنائه، ومنهم السيدة خناثة بنت بكار.
هذا وتمكنت السيدة خناثة من حجز مكانة متميزة وسط البلاط العلوي بحظوتها العلمية والفقهية وبنسبها المغافري، الذي تنحدر منه أيضا أم السلطان مولاي إسماعيل «للا مباركة». كما وقفت السيدة خناثة وراء اقتراح بناء المسجد المسمى خناثة بنت بكار في مدينة مكناس.
من هنا تميزت السيدة خناثة بنت بكار ضمن النساء كعالمة وفقيهة ومتصوفة، وسياسية محنكة يرجع لها الفضل في استمرار شجرة أبنائها على رأس مقاليد حكم المملكة المغربية الشريفة. كما أن جمال خناثة لم يثنها عن تكبد عناء طلب العلم، بل راحت تعمق مداركها العلمية والفقهية حيث كانت تجالس العلماء وتستفسرهم عن الإشكالات الفقهية التي تعترضها، وتناقشهم فيما يعرضونه عليها من آراء وأفكار، وكانت تقبل آراء معينة وترفض أخرى وتتوسط لهم لدى السلطان لقضاء حاجياتهم، فتعمقت علاقاتها بالفقهاء، وصارت لها مكانة خاصة بالنسبة لهم، لدرجة أنهم تدخلوا لدى السلطان أبي الحسن الأعرج للإفراج عن حفيدها وعنها لاحقا، في فترة محنة حبسها.
ثانيا: السيدة خناثة بنت بكار والنظام السياسي المغربي
كان للسيدة خناثة بنت بكار تأثير كبير في حقبة السلطان المولى إسماعيل الذي دام حكمه حوالي 55 سنة، حيث استطاعت أن تتميز وسط العدد الكبير من زوجاته[2] بعلو كعبها في ميدان السياسة والفقه والأدب، فضلا عن أنها ساهمت بشكل مؤثر في تولي ابنها السلطان المولى عبد الله مقاليد الحكم بعدما عزل عدة مرات بسبب الأوضاع السياسية المضطربة التي سادت عقب وفاة والده السلطان المولى إسماعيل في فبراير سنة 1727م.
وفي سياق الدور السياسي البارز الذي اضطلعت به السيدة خناثة بنت بكار في إرساء دعائم حكم ابنها السلطان المولى عبد الله، تعرضت السيد خناثة بنت بكار لوابل من المحن والشدائد ابتداء من نفيها مرورا بسجنها وانتهاء بمطاردتها وسلب أموالها، إذ إنه مباشرة بعد العزل الأول لابنها المولى عبد الله قام أبو الحسن الأعرج الذي تمت مبايعته من طرف سالم الدكالي أحد كبار قواد جيش البخاري، باعتقال السيدة خناثة بنت بكار رفقة حفيدها سيدي محمد بن عبد الله [3].
وخلال البيعة الثالثة للمولى عبد الله في 15 من ذي القعدة عام 1152ه، تعرضت خناثة بنت بكار لفصول أخرى من المحن في خضم التقلبات والأحداث السياسية بالمغرب، حيث دخلت لسنين طوال في صراع مع جيش البخاري وسجنت ثم نفيت. بيد أنه لم يتمكن خصومها من التخلص منها، وظلت صامدة في وجه كل من أراد أن ينازع أبناءها مقاليد السلطة.
كما أسهمت السيدة خناثة بنت بكار بشكل بارز في إبرام اتفاق الصلح بين ابنها السلطان المولى عبد الله مع قبائل الودايا عام 1153هـ [4]، بالنظر إلى عدة محددات تتعلق بنسبها الاجتماعي الذي يتقاطع مع نسب قبائل الودايا بمن فيهم أهل السوس والمغافرة، فضلا عن إشعاعها العلمي والأدبي كأديبة وفقيهة تنحدر من أسرة دينية عالمة من مشايخ وعلماء جنوب المملكة المغربية.
ويكاد العديد من المؤرخين والباحثين يختزلون الصراع السياسي لتلك الحقبة التي عاصرتها السيدة خناثة بنت بكار بين طموحات القوتين العسكريتين جيش البخاري[5] وقوات الودايا وبين مراكزهم بأعيانها وعلمائها وفقهائها في فاس ومكناسة، إذ شكل جيش الودايا الغطاء السياسي والاجتماعي لتكريس نفوذ السيدة خناثة بنت بكار.
من هنا، خلدت السيد خناثة بنت بكار ذكرها ضمن الأحداث السياسية التي شهدها المغرب بداية القرن الثامن عشر خلال عهد السلطان المولى إسماعيل، حيث كان يستشيرها في كثير من القضايا إلى درجة وصفها من قبل بعض المؤرخين بالوزيرة الخاصة لزوجها المولى إسماعيل. وحين توفي المولى إسماعيل وقفت خناثة بنت بكار إلى جانب ابنها السلطان المولى عبد الله، وساندته في كل الأزمات التي تعرض لها في فترة حكمه، فلقد أقاله جيش البخاري ست مرات، وفي كل مرة كانت خناثة تتدخل، وتتمكن بمعية أقربائها من جيش الودايا، وبدعم من العلماء، من إعادته إلى الحكم. كما تكلفت بتربية حفيدها الأمير محمد، وعلمته، وسهرت على تكوينه، ولم يكن يفارقها في طفولته، حتى إنه دخل معها السجن في عهد السلطان أبي الحسن الأعرج فضلا أنه رافق جدته خناثة لأداء مناسك الحج سنة 1143هـ [6].
ثالثا: السيدة خناثة بنت بكار والسياسة الخارجية المغربية
عندما أصبح حفيد السيدة خناثة، المولى محمد، سلطانا على المغرب، كانت معالم توجيهات خناثة وتربيتها له واضحة، إذ تميز بالرزانة والفراسة وبعد النظر، فاجتهد في الحفاظ على المغرب وتأمين وحدته وتعزيز العلاقات الخارجية مع الخارج، من خلال انفتاحه على أوروبا، ووضع لبنة المغرب الحديث، كأول دولة في العالم تعترف بأمريكا كدولة مستقلة.
ولم تقتصر مساهمة السيدة خناثة بنت بكار في صنع القرار السياسي والديني بالمغرب فقط، بل صارت امرأة ذات إشعاع عالمي، ووصلت شهرتها إلى الشرق والغرب في القرنين السابع والثامن عشر حيث كانت امرأة استثنائية تتمتع بقسط واسع من الدهاء والفطنة ولها رصيد مهم في مجال تشييد ركائز الدولة العلوية وتوطيد العلاقات الخارجية للمغرب مع دول أوروبية.
وفي هذا الصدد، سلط العديد من المؤرخين الأجانب الضوء على الدور الدبلوماسي الهام الذي لعبته السيدة خناثة في تثبيت اتفاقية السلام والتجارة التي وقعت بمكناس بين الإيالة الشريفة المغربية ودولة إنجلترا سنة 1721م، ناهيك عن تدخلها لدى السلطان المولى إسماعيل للإفراج عن عدد من الأسرى الإنجليز بناء على طلب من ملوك أوروبا الذين كانوا يتوددون إليها لتتوسط لهم عند السلطان ليطلق سراح بعض أسراهم. كما تحتفظ بعض المتاحف بمخطوطات تاريخية تعكس الدور الذي كانت تقوم به السيدة خناثة في سبيل استتباب أمن المغاربة وطمأنتهم تجاه المخاوف التي كانت تراودهم من قبل العثمانيين في المغرب الأوسط.
وعلى العموم، وانطلاقا من المقولة الشهيرة “وراء كل رجل عظيم امرأة”، فقد شكلت السيدة خناثة بنت بكار نموذجا فريدا للمرأة المغربية التي ساهمت بشكل فعال في صناعة نخب سياسية وقيادات دينية وازنة في تاريخ المملكة المغربية إلى غاية أن وافتها المنية سنة 1159ه (يونيو 1746 للميلاد)[7]، مخلدة اسمها في مسار تاريخ يكاد يكون ذكوريا بامتياز، وفي دواليب الحكم والسياسة، أو في مضمار العلم والفكر والأدب، وغيرها من المجالات [8].
الهوامش
[1] للمزيد انظر: أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، مطبعة دار الكتاب بالدار البيضاء، سنة 1997م.
[2] -وبجانب خناثة بنت بكار، كانت هناك عدة زوجات للمولى إسماعيل سيصل أبناؤهن إلى عرش الإيالة الشريفة كعائشة مباركة الرحمانية أم السلطان أبي الحسن، والسيدة معزوزة مالكية أم السلطان المولى عبد المالك، والسيدة عودة الدكالية أم السلطان المولى المستضيء، إضافة إلى الكثير من أمهات الأمراء والأميرات تختلف أنسابهن من حيانية وزعرية وورديغية ودليمية وشاوية وسفيانية وسلاوية وتادلاوية وبخارية وكناوية وحصينية ومنبهية وزمورية ودرعية..
[3] -يقول محمد بن عبد السلام الضعيف الرباطي في كتابه تاريخ الضعيف (دار المأثورات، سنة 1986م): «فبعثت تطلب العلماء بعد أن دخل دارها واستولى على ما فيها… وطلبت أن يتكلموا على شأن حفيدها سيدي محمد على أن يخرج من السجن لأنها امرأة مسنة واتقت أن يتكشف عليها من أجل الضيق، وادعت أيضا أن حفيدها صغير السن (13 سنة) وما فعل ذنبا يستحق عليه العقوبة والسجن، وها أنا في السجن حتى يحكم الله بيني وبينه، ثم بعد ذلك تكلموا مع السلطان مولاي علي الأعرج فسرح حفيدها من السجن». نفس الحدث سينقله الناصري في الاستقصا (مرجع سابق)، يقول: «ولما استقر السلطان المولى أبو الحسن بمكناسة قدمت عليه الوفود ببيعاتهم وهداياهم من جميع البلدان فأجازهم وفرق المال على الجيش إلى أن نفد ما عنده واحتاج فقبض على الحرة خناثة بنت بكار أم السلطان المولى عبد الله، فاستصفى ما عندها ثم امتحنها لتقر بما عسى أن تكون أخفته فلم يحصل على طائل.»…
[4] -يقول الضعيف الرباطي (مرجع سابق): “وفي ضحوة يوم الخميس موافق ثلاثين من ربيع الأول عام 1154ه جاءت خناثة بنت بكار هاربة من مكناسة الزيتون ودخلت فاس الجديد خوفا على نفسها من العبيد لما سمعته من عزل ولدها، وفي الغد جاء ولدها السلطان المولى عبد الله من مكناسة هاربا ونزل برأس الماء وخرج إليه الودايا وأهل فاس واستعطفهم كثيرا، فأجابوه بنصره وفي القيام معه والقتال دونه وفرح بذلك غاية الفرح جاوز النهاية.”
[5] -هو الجيش الذي أسسه المولى إسماعيل ليوطد به أسس دولته الجديدة، وليحمي به سلطانه، وليكون له كما كان جيش الإنكشارية لدى العثمانيين. انظر كتاب الناصري “الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى”. مرجع سابق.
[6] -قام بتسجيل هذه الرحلة الوزير أبو محمد عبد القادر الجيلاني الإسحاقي، ويصف حج السيدة خناثة بنت بكار بقوله:
«وصلت ليلة السادس من ذي الحجة إلى مكة المشرفة بعد العشاء وعليها السكينة مرفرفة، وهي في جلالة عظيمة وسيادة فخيمة، في محفل من الأجناد، وجمع من الأجواد، ولهم زجل بالتلبية والأدعية، فطافت طواف القدوم، وطلعت إلى دارها المكري المعلوم، ثم إنها طلعت إلى عرفات ولها دويّ بالتسبيح والتقديس، وكانت الوقفة يوم الخميس، ثم نزلت إلى منى فأقامت ثلاثة أيام وأكثرت من الهدي، وبذلت الشراب والطعام، ثم نفرت إلى مكة وجاءت بعمرة الإسلام، تكثر من الصدقات على الدوام، وبذلت بغير حصر، وأعطت عطاء من لا يخاف الفقر… فقوبلت بحفاوة كبيرة من أهل الحرمين وفرقت هناك على المحتاجين وذوي البيوتات ما يزيد على مائة ألف دينار وأكرمها العلماء ومدحها الشعراء . »
[7] — دفنت السيدة خناثة بنت بكار بروضة الأشراف من المدينة البيضاء بفاس الجديد.
[8] -ولقد كان لها بعض الإسهامات العلمية، حيث تتواجد مخطوطات وتعليقات لخناثة بنت بكار على كتاب “الإصابة في تمييز الصحابة” لابن حجر العسقلاني، وهي محفوظة في الخزانة الملكية بالرباط.