كلمة العلماء المغاربة بمناسبة انعقاد المجلس الأعلى لـمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في دورته الأولى
الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، المملكة المغربية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين.
يسعد علماء المملكة المغربية أن يعربوا عن عظيم سرورهم، وعميق سعادتهم بانعقاد المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في دورته الأولى، سائلين الله تعالى أن يكلل أعماله بالتوفيق.
ولعل من يمن طالع هذا الملتقى العلمي المبارك تزامنه مع ظرف زماني وظرف مكاني لهما قدرهما ووزنهما في وعي المسلمين لما يرمزان إليه من معان سامية.
فمن حيث زمان انعقاده يصادف احتفاء الأمة الإسلامية قاطبة بإحياء ذكرى ميلاد نبيها الأكرم، ورسول رب العالمين الأعظم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما المكان، فبنزوله ضيفا مبجلا على فاس، عاصمة المغرب العلمية، وحاضنة جامعة القرويين كهف الإسلام، وحصنه، علما ولسانا ودينا. رابطت جامعة القرويين في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي أكثر من ألف ومئتي عام، أو تزيد، وما تزال كالعهد بها شامخة شموخ شواهق الجبال، في عزم وإصرار على تكييف نفسها ومناهجها مع مستجدات العصر، وتسارع متغيراته.
حضرات السيدات والسادة
لا شك أن توقيت انعقاد هذا اللقاء العلمي المتميز برمزية الزمان والمكان له معناه ودلالته المعنوية المصاحبة، إن لم تنجل لدينا صورتها اليوم، فقد تكون لها تجليات لاحقة، إذ لا يجليها لوقتها إلا الله الذي له غيب السماوات والأرض.
ومع هذا الاقتران المبارك الذي تتسع معه دائرة تفاؤلنا بمستقبل هذه المؤسسة، وأهدافها الإصلاحية البعيدة المدى، فإن هذه الثقة تتعزز باستحضار سابقة لها شبه قليل أو كثير بها من حيث البدء والإنشاء، وتزيدنا يقينا إلى يقين بأن فعل المخلصين الصالحين لا يذهب أدراج الرياح، بل يثمر ثماره عاجلا أو آجلا، ومهما طال الزمان.
أذكر بالمناسبة أن جد عاهلنا المغفور له مولانا محمد الخامس، كان -رحمه الله- مسكونا بهاجس الغيرة على قارته الإفريقية، غيرة لا تقل عن غيرته على وطنه ورعاياه في مملكته، وآية ذلك أنه بمجرد عودته من منفاه، وحتى قبل أن يرتب شؤون مملكته بعد رحيل الاستعمار، سعى ومعه ثلة تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة من زعماء هذه القارة، سعى إلى عقد لقاء بمدينة الدار البيضاء تمخض عنه وضع لبنة الأساس لمنظمة الوحدة الإفريقية، التي صارت اليوم منظمة ذات شأن كبير ،يحسب لها ألف حساب، ذلك لأن مشاريع العظماء المخلصين تعيش وتعظم مع الزمان ولو مات واضعوها، تعيش لتكون شاهدا على عظمتهم. وأما العقول الصغيرة فإن ما ترتجله من أعمال تموت حتى قبل موت أصحابها.
ونرى اليوم العاهل الحفيد مولانا أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، بما يشغل باله من أمر قارته الإفريقية، وما يحرص عليه من إقامة شراكات مثمرة مع دولها ستعود بالخير العميم، وما إنشاء هذه المؤسسة للعلماء إلا من تجليات ذلك الحرص الشامل على علاقات المملكة المغربية الشريفة بباقي بلدان القارة الإفريقية.
حضرات السيدات والسادة
إن سمع عالم اليوم وبصره أصبح مشدودا إلى هذه القارة على نحو يختلف عما اعتاد أن ينظر ويسمع «يحس وكأنها تبحث عن ضيء فقدته في وقت ما» فهي تقلب صفحات الزمن ابتغاء العثور عليه بين ثناياها، إنها تبحث عن معناها بعد أن داستها أقدام الاستعمار دوسا عنيفا، بعثر مكونات هويتها ومعه عنوانها، وهو وإن رحل عن ساحتها ببعضه فإن بعضه الآخر، وهو أسوأ أبعاضه، ما يزال ناشبا أظفاره فيها، ولا يمكنها التخلص منه إلا باسترجاع ما أتلفه زمن المحنة، وهو يحتاج إلى استدعاء ذلك الماضي البعيد ليقص عليها من خبرها وشأنها، وأصلها وفصلها، ما يمكن أن تصنع منه لقاحا يعيد لخلاياها المستهلكة بعض حيويتها، حتى تدب الحياة الكريمة في أوصالها من جديد ولا شك أن تجربتها زمن المحنة ستعينها على تفادي السقوط من جديد في قبضة الاستعمار الجديد المنصوبة شباكه التي تصطاد مواطن الهشاشة.
في وطيس هذه الملحمة النضالية ضد الهشاشة المادية والمعنوية يتموقع مشروع العلماء المنوط بهم حراسة الثغور المعنوية، والنهوض بالعمل الجاد من أجل تمنيع الإنسان وتنمية قدراته الروحية التي لا تستطيع الأمة أن تحلق في أفق العزة والكرامة إلا بجناحيها معا: المادي والمعنوي.
حضرات السيدات والسادة
إذا كان علماء الأمة هم الذين ينتظر منهم أن ينفوا عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فإن ذلك يفرض عليهم المرابطة في الثغور المعنوية وملازمة الحصون التي يخضى على أمن الأمة أن يؤتى من قبلها، خصوصا عندما تضطرب أمور الناس في حياتهم، وفي ليلهم ونهارهم، وحين يكثر فيهم أدعياء الدين وقطاع طريقه، وقراصنة سفينته، كما هو واقع في كثير من البلدان حيث يتحول جوهر الدين كفضائل وأخلاق وتعاون وإخاء، ورحمة ومودة، وعمل نافع وأمن شائع، إلى مجرد أشكال مظهرية لا تنفع في تزكية الناس ولا تكفي علامة لإيمانهم.
في هذه الحالة يتعين على ولاة أمر الأمة ومن ورائهم علماؤها أن يعبئوا الكافة للوقوف في وجه الفساد وأهله، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ولعل هذا هو التحدي الأكبر الذي يتعين على علماء الأمة وعالماتها أن يتجردوا لكسر شوكته، ودحض حجته، بما هم مؤهلون له من تعليم المسلمين لحقائق الدين ومبادئه وقيمه وفضائله ومكارمه. ومع هذا التحدي ما تتعرض له هذه القارة المرجوة لكل خير، من غزو مذهبي اختلط فيه الأصيل بالدخيل، والصحيح بالمغشوش.
هذا، وإن إخوانكم من علماء المملكة المغربية، وهم جزء لا يتجزأ من أسرة هذه المؤسسة المحمدية العتيدة، كما أن هذا الوطن المغربي هو جزء لا يتجزأ من الأسرة الإفريقية الكبيرة، فإن إفريقيا هي وطننا الكبير، يسعدهم أن يؤكدوا أنهم جنود مجندون، كإخوانهم من علماء إفريقيا، للانخراط في ميثاق رفع التحدي عن أوطاننا وقومنا، والوقوف بالمرصاد لكل الضالين المضلين.
كما يلتزمون بأن يضعوا تجربتهم، ومناهج عملهم في الاشتغال والصيانة والتنمية رهن إشارة إخوانهم من علماء إفريقيا. وبالمقابل سيكونون ممنونين بالتعاون والتناصح والاستفادة من كل ما يمكن أن يتفضل به إخواننا من علماء مؤسسة محمد السادس الرائدة في هذا الباب من الأفكار والنظريات والمقاربات.
أمنيتنا أن نكون قادرين على حمل الأمانة الموضوعة على عاتقنا أوفياء لها مخلصين في أدائها. سائلين من البارئ تعالى العون والتوفيق، أن يحقق فينا رجاء مبدع هذه المؤسسة أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورجاء أمتنا، وإنسان قارتنا، وأن ينبت في تربة هذه القارة التي صبرت وصابرت، وجاهدت وانتصرت، من يجدد للأمة أمر دينها، في يسره واعتداله وصفائه وسماحته.
وإن أملنا الكبير في أن تتمخض هذه الدورة العادية للمجلس عن وضع برنامج للعمل جامع، يكون قاعدة ومرجعا تنطلق منه مسيرة الإصلاح، ابتغاء بناء نموذج ينال الرضا والقبول من الكافة، وينشرح له صدر أمير المؤمنين مولانا محمد السادس الذي وضع اسمه الشريف تاجا على رأس هذه المؤسسة.
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب).
آمين: والحمد لله رب العالمين.