مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

القرويين: من الجامع إلى الجامعة (بمناسبة مرور 1200 سنة على بناء الجامع 245 – 1445هـ)

د. حسن عزوزي
رئيس المجلس العلمي لإقليم مولاي يعقوب- المملكة المغربية

تعتبر المؤسسات الجامعية العريقة أحد أبرز مكونات ومقومات الحضارة الإسلامية التي أسهمت ولا تزال تسهم في النهضة الثقافية والعلمية للأمة الإسلامية، وبفضلها تمكنت الشعوب الإسلامية من أن تستحضر أمجادها ورموزها التاريخية وتترسخ لديها عناصر بناء هويتها الدينية وخصوصياتها الثقافية.  وتمثل القرويين جامعا وجامعة أبرز وأعرق الجامعات الإسلامية، فهي رمز من رموز الهوية الإسلامية وصرح من صروح الفكر والثقافة في العالم، جمعت بين الأصالة والمعاصرة والتجديد، وانتشرت منها أنوار المعرفة والحكمة والشريعة في كل أرجاء المغرب والعالم الإسلامي، كما اقتبست منها الحضارة الإنسانية روح المعرفة الدينية المتفتحة وأسس الانتعاش الحضاري.

واليوم، وبمناسبة مرور اثني عشر قرنا (245 – 1445هـ) على بناء جامع القرويين، ووفاء لجامعة القرويين التي انبثق صرحها من حلقات الدرس وكراسي العلم برحاب الجامع نرى من الواجب التذكير بمكانة القرويين ودورها التاريخي في البناء الحضاري للأمة الإسلامية والحضارة الإنسانية.

ولقد شهد معظم الباحثين والمؤرخين في الشرق والغرب بالدور التاريخي الذي قامت به جامعة القرويين في البناء الحضاري، الممتد بين الحضارة الإسلامية من جهة والحضارة الإنسانية من جهة أخرى، وحيث إن الإنسان صانع الحضارة وموجهها فإن إقامة البناء الحضاري عملية شاملة ومركبة أسهمت فيها المؤسسات الجامعية العريقة بقوة، وكان للقرويين حظ بالغ في ذلك، حيث إن مكانتها ترجع أساسا إلى الدور الذي اضطلعت به على امتداد قرون عديدة من الحفاظ على العلوم الإسلامية وحماية الثقافة العربية الإسلامية وتأسيس البحث في علوم الطب والحساب والفلك وغيرها من العلوم الدقيقة، وكذا إلى الدور الذي قامت به في استقبال الطلاب وعشاق العلم والمعرفة من مختلف البقاع والأصقاع.

وقد كان أثر القرويين في البناء الحضاري الإنساني تاريخيا امتد قرونا من الزمن لأن مفهوم الحضارة مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ الذي هو الزمن، والثمرات الحضارية التي أفرزتها جامعة القرويين كانت تحتاج إلى زمن لكي تطلع وتبرز. أما الحضارة الإسلامية التي أسهمت جامعة القرويين في تكوين لبناتها فقد ازدهرت لعدة قرون وأثرت في العالم بأسره وحافظت على التراث الإنساني، وهذا بطبيعة الحال لم يتم من فراغ بل كان نتاج المؤسسات التعليمية المختلفة من جوامع ومدارس ومكتبات أسهمت جميعها في تأسيس علوم متقدمة ومزدهرة أسهمت كثير منها في نشأة الحضارة الأوروبية.  وكانت هذه المؤسسات التعليمية هي النواة الأولى لنشأة الجامعات كما حصل مع جامعة القرويين بفاس. ومما يجدر ذكره أن المسلمين لم يستخدموا فيما مضى من العصور مصطلح الجامعة، وإنما أطلقوا اسم المدارس على معاهد التعليم العالي، وسواء أطلق على هذا النوع من المؤسسات اسم مدرسة أو جامعة أم تم التدريس في الجامع أو غيره فإن العبرة ليست بالاسم، وإنما بالمسمى، وقد كانت فعلا معاهد للتعليم العالي في أرقى صوره.

وإذا كنا نشهد اليوم تطور العلوم والتكنولوجيا في البلدان الغربية بفضل جامعاتها ومعاهدها البحثية مما سمح ببروز حضارة غربية متطورة ومهيمنة، فإن الأمر كان كذلك في تاريخ الحضارة الإسلامية التي برزت بقوة بفضل ما طورته الجامعات والمدارس الإسلامية من علوم وفنون حمل مشعلها علماء كبار أبانوا عن قدرة فائقة في الاجتهاد والإبداع.

لقد كان للتربية الإسلامية في مسيرتها الحضارية وسائلها وكانت لها أيضا مؤسساتها التي تم فيها ” إنتاج” طاقات بشرية على قدر عال من الكفاءة العلمية مما مكنهامن أن تسلك على طريق التطور البشري مجرى حضاريا تجمعت فيه أروع الروافد وأغزرها.

هذه المؤسسات هي الجوامع والمدارس التي انتشرت في ربوع العالم الإسلامي شرقا وغربا لا تعرف حدودا سياسية أو جغرافية ولا جنسيات يقسم إليها الطلاب. فكانت نظامية ومستنصرية بغداد، وأزهر القاهرة، وزيتونة تونس، وقرويين فاس، وغيرها “جامعات” متميزة بحكم ما رسمته من وظائف وما قامت به من أدوار وما حققته من رسالات.

ولم ينحصر دور هذه الجامعات الإسلامية في نطاق العالم الإسلامي، وإنما امتد بعيدا ليكون له أثر كبير في الحضارة الإنسانية بصفة عامة والحضارة الأوروبية على وجه الخصوص، حيث كان إسهام الجامعات الإسلامية في نشأة الجامعات الأوروبية وبعث إرهاصات النهضة العلمية لأوروبا قويا، وقد أخذ الاعتراف بذلك يتزايد بين المؤرخين والمهتمين الغربيين بتاريخ العلوم، بيد أنه لا يزال ضئيلا ويتعرض أحيانا لجحود وتنكر غير المنصفين.

يعتبر جامع القرويين الذي يرجع بناؤه إلى عهد أول دولة إسلامية أسست بالمغرب، وهي مملكة الأدارسة التي اتخذت مدينة فاس عاصمة لها.

ويذكر المؤرخون أن هذه المدينة التاريخية قد عرفت في ذلك العهد نزوح وهجرة بضعة آلاف من عرب القيروان، حيث عمل أميرها على إسكانهم بالضفة الشرقية من وادي فاس، وسماها عدوة القيروانيين، ولكثرة الاستعمال خُففت فأصبحت القرويين، لكن الحاجة سرعان ما دفعت إلى ضرورة بناء مسجد كبير يقيم فيه سكان الحي الناشئ صلواتهم، فقيض الله لذلك امرأة من نساء القيروانيين المهاجرين هي السيدة فاطمة الفهرية(أم البنين)، حيث وهبت كل ما ورثته من أموال في بناء المسجد الذي تم الشروع فيه عام 245 هـ، وكان كلما كثر عدد سكان عدوة القرويين سارع المحسنون من أتقياء القوم إلى توسيع المسجد والإنفاق في سبيل إصلاحه وترميمه. وبعد نحو قرن من تأسيسه أصبح جامع القرويين في حاجة إلىتوسعة كبرى، فأضاف الأمراء الزناتيون بإسهام من الأمويين الأندلسيين نحوًا من ثلاثة آلاف متر مربع إلى المسجد القديم، ثم زاد المرابطون فيما بعد مساحة أخرى، فأصبح بذلك يتسع للآلاف من المصلين[1]. واستمرت الأنشطة الدينية تقام بجامع القرويين منذ نشأته، وكلما تطورت مدينة فاس عمرانيا انصبت جهود المؤمنين والمحسنين فيها على الاهتمام بالمسجد الجامع توسعة وصيانة وحفظا. فصار عبر التاريخ المغربي قطبًا ومنارةً لمساجد الدولة المغربية، نظرًاً لإشعاعه الروحي المتواصل وتوجيهه للحياة الدينية والعلمية عبر أرجاء المغرب.

وتعتبر الصومعة المربعة الواسعة التي لا تزال قائمة إلى اليوم من بناء أحد الأمراء الزناتيين الذي كان عاملا لعبد الرحمن الناصر الأموي الأندلسي على بلاد العدوة، وهي تعد بحق أقدم منارة مربعة ثبتت في الغرب الإسلامي.

وفي عهد المرابطين أضيفت زيادات معمارية وعمرانية أخرى مع الاحتفاظ بالخصائص العامة لما كان عليه الجامع، غير أنه إذا كان الطابع العام للجامع قبل العصر المرابطي يتسم بالبساطة في المعمار والبناء فإنه في عهد المرابطين كان هنالك إبداع كبير في صنع القباب ووضع الأقواس وكتابة الخطوط والكلمات المنقوشة من آيات قرآنية وعبارات دعائية وغير ذلك، ولعل أبرز ما خلده المرابطون من مآثر هو صنع المنبر الذي لا يزال قائما إلى اليوم، ويعد تحفة نادرة من التحف الإسلامية العريقة. وفي عهد الموحدين تم نصب الثريا الكبرى التي لا تزال إلى اليوم شاهدة على الحضارة الموحدية وروعة الفن والإبداع المغربي.

وللقرويين سبعة عشر بابا وجناحان يتقابلان في طرفي الصحن الذي يتوسط فضاء المسجد الداخلي، ويحتوي كل جناح على مكان للوضوء من المرمر، وهو تصميم معماري مأخوذ من تصميم صحن الأسد بغرناطة.

وإذا كانت القرويين قد عرفت زيادات معمارية وعمرانية اتَسمت بطابع التوسعة في البناء خلال القرون الأولى، فإنها ابتداء من عهد المرابطين والموحدين قد طالها الاهتمام على مستوى التأثيث والزيادة في المرافق الضرورية، فازدانت عبر العصور اللاحقة بمختلف أنواع وأشكال الثريات والساعات الشمسية والرملية، وابتهج فناؤها بالخصة الحسناء[2]، واكتسبت غرفا ومرافق جديدة مثل غرفة المؤقتين[3]، ومقصورة القاضي، والمحراب الواسع، وخزانة الكتب والمصاحف، وغير ذلك. وقد زُين كل ذلك بروائع الفن المزدوج الأندلسي –المغربي الذي امتزجت فيه رقة ورشاقة الفن الأندلسي وهيبة وروعة الحِرَف المغربية.

ومهما اختلف الباحثون في بداية تاريخ التعليم في جامعة القرويين فإن طبيعة تأسيسها كجامع كانت تفرض على العلماء أن يلقنوا فيه المعرفة الإسلامية والعلوم الشرعية، ولهذا وجدوا فيه أكبر منتدى تزدهر فيه حرية التفكير والتعبير.

وبفضل الاهتمام البالغ الذي كان يحظى به جامع القرويين فإنه ما لبث أثناء عصور متتالية وعهود متتابعة أن استجمع عناصر النهضة ومقومات التطور، حيث توفرت له خصائص ومميزات الجامعة، وتحققت له شخصيتها العلمية والمعنوية، وذلك في إطار استقدام الأساتذة واستقبال الطلبة، وتقرير المواد والعلوم المدروسة، وتسليم الإجازات، وتوفير الكراسي العلمية المتخصصة، وتكوين خزانة علمية متنوعة التخصصات، كل ذلك أضفى على الجامع صفة الجامعة وأسبغ عليه طابع المؤسسة الجامعية في المفهوم الحديث.

وهكذا لم تمض فترة طويلة على إنشاء الجامع ووضع منبر خطبة الجمعة به حتى رافق ذلك بروز حلقات ومجالس علمية محدودة تلقى من خلالها دروس علمية في شتى العلوم والفنون، يلقيها نخبة من علماء مدينة فاس في الصباح والمساء وبين العشاءين[4]، الأمر الذي حول الجامع من مسجد تقام فيه الصلوات إلى مركز علمي جامعي ذي إشعاع ما فتئ يتعاظم ويكبر لينافس بذلك المراكز العلمية الذائعة الصيت بقرطبة وبغداد وغيرهما، ومع مرور الزمن وتعاقب دول المغرب أصبحت أهمية ومكانة الجامع تظهر بوضوح وأضحى الاهتمام به يقوى ويشتد، فكانت كل دولة تسعى إلى الإسهام في تشييد صروحه وترميم جوانبه وتوسيع بناياته وتوفير كل الوسائل الضرورية التي تتيح الفرصة لأكبر عدد من رواده من تلقي دروس العلم والمعرفة.

وقد عرف العهد المرابطي نزوح كثير من العلماء وطلبة العلم إلى مدينة فاس بعد أن ذاع أمر القرويين بها واشتهرت فاس كعاصمة علمية تُشَد إليها الرحلة لطلب العلم من داخل المغرب وخارجه، ويمكن القول إن القرويين قد انتقلت ابتداء من العصر المرابطي من مرحلة الجامع إلى مرحلة البداية الجامعية، لأن المرحلة الجامعية المكتملة حسب النصوص المتوفرة لم تنضج بصورة كاملة سوى في العصر المريني عندما عُزِّز جامع القرويين بمجموعة من المدارس والكراسي العلمية والخزانات، فأصبحت فاس بذلك قبلة أنظار الملوك والأمراء ومهبط السفراء والكتاب ومحط كبار العلماء والأدباء ومأوى أرباب النبوغ من أهلها ومن الآفاق.

وكانت القرويين بجامعها وعلمائها وطلبتها وخزانتها والمدارس المتفرعة عنها والتابعة لها تستفيد من الأوقاف، ويعتبر ذلك أكبر دعامة لاستمرار الجامعة وإشعاعها العلمي، فأموال الأوقاف كانت تصرف للطلبة في الإيواء والمأكل، وكانت تسلم منها رواتب الأساتذة والعلماء، وتجهز بها المدارس العلمية، وما تحتاج إليه الخزانات من الكتب والمؤلفات، وكان يسند إلى مفتي القرويين الذي كان له مقر خاص برحاب الجامعة جانب مهم من الأوقاف يصرفه باجتهاده في المشاريع الإحسانية التي تظهر له من خلال اطلاعه على أحوال الناس.

لقد اعتبر الوقف المصدر التمويلي الرئيس في دعم المشاريع التعليمية والثقافية لجامعة القرويين حيث كان له دور ريادي في تمويل الجامعة والمدارس ودعم طلبة العلم ورواتب العلماء، وقد أسهم السلاطين وخاصة سلاطين بني مرين وملوك الدولة العلوية الشريفة في تطوير ودعم النهضة العلمية بالقرويين نتيجة اهتمامهم بتخصيص أوقاف خاصة تكون موردا لها. [5]

وظلت جامعة القرويين تقوم بواجبها أحسن قيام وبشكل تلقائي واستمر إشعاعها مشعا على العالم الإسلامي لمدة قرون من الزمن، وكوَنت بذلك أجيالا من العلماء الفطاحل الذين طبقت شهرتهم الآفاق ولا يزال عطاؤهم وإنتاجهم العلمي والفكري قائما ينهل منه الباحثون جيلا بعد جيل.

لقد حملت القرويين الرسالة التي وكلت إليها منذ إنشائها كجامع إلى أن أصبحت جامعة، فقامت بحمل عبء الرسالة لعصور متتالية ومتعاقبة، وهذه الرسالة ترتبط في أسسها بالعقيدة الإسلامية واللغة العربية والمعارف العربية الإسلامية المتوارثة، أو ما يسمى بالتراث العربي الإسلامي، وهو ما يسمح بالقول إن جامعة القرويين كان لها دور مهم في الحفاظ على الشخصية العربية الإسلامية عبر العصور.  فقد كانت المؤسسة العلمية الكبرى التي رسخت أسس المذهب المالكي، فصهرت بذلك المجتمع المغربي في بوتقة الوحدة المذهبية والعقدية التي عمل علماء القرويين على ترسيخها بقوة من خلال الالتزام بتدريس وتعليم ما يستهدف تحقيق تلك الوحدة.  وفضلاً عن ذلك سهر علماء القرويين على القيام برسالة الحفاظ على اللغة العربية بمختلف آلياتها النحوية والبلاغية تحقيقا للوحدة اللغوية.

وبذلك تكون القرويين قد حملت مقومات الثقافة الإسلامية الصحيحة إلى المجتمعات العربية عن طريق علمائها وفقهائها ومفكريها الذين كانوا الحافظين في صدورهم لأصول ذلكم التراث وكانوا المدافعين بقوة المنطق والتفكير عن أسسه وقيمه والملقنين بألسنتهم وكتبهم لهذا التراث للأجيال اللاحقة، فلا غرابة أن يدرِّس أبو عمران الفاسي (تـ 430هـ) الذي بلغ درجة الاجتهاد في المذهب المالكي في رحاب القيروان التونسية والأزهر المصرية، وأن يملي أبو علي القالي أدبه في قرطبة، وأن ينشد سابق المطماطي قصائده في بلاط دمشق، وأن يتتلمذ دفين مدينة فاس القاضي أبو بكر بن العربي ( تـ 543 هـ) على يد أبي حامد الغزالي بالمشرق ثم يؤلف كتبه بالمغرب والأندلس، أما ابن آجروم النحوي ( تـ 723هـ) فقد دون كتابه الشهير في النحو بفاس وشُرح بالقاهرة وبغداد وتُرجم وطبع بأوروبا. [6] وبذلك ساهم هؤلاء وغيرهم في الحفاظ على الشخصية العلمية الإسلامية، خاصة وأن معظم فروع المعرفة التي كانت تدرس فيها لها صلة بالدين، مما اعتبر عاملا قويا في صيانة التراث الإسلامي العربي من جهة وحماية الشخصية الإسلامية من جهة أخرى.

لقد أسهمت جامعة القرويين في بناء الشخصية الإسلامية من خلال حملها لواء الأصالة والتجديد في وقت واحد ومحافظتها على القيم الدينية السائدة فضلا عن حمايتها للثقافة الإسلامية التي طبعتها الجامعة بالطابع المغربي الأصيل. ولا شك أن عوامل الجغرافيا قد جعلت من المغرب ساحة للتلاقي الحضاري بين الشمال والجنوب وبين أوروبا وإفريقيا، وهذا العامل الجغرافي جعل من المغرب ممثلا في جامعة القرويين القلعة الإسلامية الأولى التي تحمي الحضارة الإسلامية من أخطار الغزو الصليبي والمد التبشيري وتعطي للشخصية الإسلامية قوتها وحيويتها مغذية بذلك الثقافة الإسلامية بصفة عامة بالقيم والمبادئ والمثل الأصيلة.

وإذا كانت الهوية الثقافية الإسلامية هي ذلك القدر الثابت والجوهري المشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية الإسلامية طابعا تتميز به عن الشخصيات الحضارية الأخرى، فإن جامعة القرويين من خلال ما أنتجه علماؤها من تراث وفكر حضاري إسلامي متميز قد سعت إلى الحفاظ على ذاتية وأصالة وشخصية الأمة الإسلامية وذلك انطلاقا من الأركان الثلاثة الرئيسة: العقيدة واللغة والتراث الثقافي.

إن أبرز ما قدمته القرويين للمجتمع المغربي أولا وللمجتمعات العربية والإسلامية ثانيا هو تكوين شخصية إسلامية وبناء هوية دينية ورسم ذاكرة اجتماعية، وقد تمكنت من ذلك بفضل مناهجها العلمية الجامعة بين علوم الدين والدنيا وبفضل كفاءة علمائها الذين تولوا التدريس برحابها حيث تعدى إشعاعهم حدود المغرب العربي إلى إفريقيا والأندلس ومنها إلى مختلف الدول الأوروبية.

لقد كان دور جامعة القرويين في نشر مختلف العلوم والفنون يمثل رسالة حضارية حافظت على معالم الشخصية الإسلامية وأسهمت في صياغتها من خلال الحفاظ والدفاع عن أصالة اللغة العربية وفرضها لغة العلم والمعرفة، وقد ساعد على ذلك تكريس سلاطين وملوك الدولة المغربية لسياسة التعريب الشاملة في مجال التعليم، فكان أبناء المغرب والوافدون عليه من الخارج يلتقون جميعا على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم على اللسان العربي.

وإذا كان للقرويين الدور الفاعل في الإسهام الموفور في تشخيص الحضارة الإسلامية وتعميق أسسها الثقافية، فإن المغرب حين التحق بهذه الحضارة وسار في ركابها ظل حريصا من خلال جامع القرويين على التعبير عن ذاتيته وتحقيق خصوصيته الحضارية انطلاقا من تراثه الفكري والثقافي ومنظومة القيم والتقاليد ومناهج النظر العلمي والمعرفي فضلا عن خصوصية أشكال الفنون المعمارية الفاسية مما تم اقتباسه فيما بعد من طرف دول إسلامية كثيرة [7]. فكان كل ذلك إسهاما متميزا في تغذية الشخصية الإسلامية بالإبداع والعطاء المغربي.

الهوامش

[1] – ابن أبي زرع: الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس- الرباط 1973م. ص 43.

[2] – الخصة في الاصطلاح المغربي تعني مجموع شيئين اثنين: الأنبوب الذي يخرج منه الماء نحو الأعلى (النافورة) والحوض الذي يتجمع فيه الماء.

[3] – نسبة إلى علم التوقيت.

[4] – د عبد الهادي التازي : جامع القرويين، الطبعة الأولى ببيروت 1973م، (2 /154).

[5] – محمد العابد الفاسي: الخزانة العلمية بالمغرب، ص : 71.

[6] – هذه نماذج معدودة لبعض مشاهير علماء القرويين، وهناك عدد كبير من علماء مدينة فاس الذين رحلوا الى المشرق وورد ذكرهم في مختلف الكتب التي ترجمت لأعلام مدينة فاس مثل: روض القرطاس لابن أبي زرع، وجذوة الاقتباس لابن القاضي، وسلوة الأنفاس للكتاني.

[7] – من المعلوم أن كثيرا من فنون النقش على الجبص والخشب المعروفة في بعض البلدان المشرقية لها أصول فاسية وأندلسية.

تحميل المقال بصيغة PDF