المرأة الإفريقية وحضورها في الشأن الديني والواجب التربوي
باحثة من جمهورية موريتانيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإن رسالة الإسلام الخاتمة للرسالات السماوية اشتملت على كل معاني المساواة بين المكلفين؛ لذلك اتسم الخطاب الشرعي بالعموم، في تقعيد القواعد وتوضيح المقاصد وتبيين الأحكام العامة، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأمُِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[1]. فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين كما صرحت به النصوص، وقد أعياهم الإتيان بمثل ما جاء به من الذكر الحكيم، يقول الله سبحانه جل من قائل: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[2]، وهذا الإعجاز حجة عليهم ودال على عظيم قدر الفرقان وبديع أسلوبه؛ لأنه تنزيل الحكيم الحميد، وفيه أيضا بيان عموم توجه الخطاب القرآني إلى بني الإنسان ذكرهم وأنثاهم، وقد صرح بذلك في مواضع كثيرة؛ أذكر منها عَلى سبيل المثال: قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الَْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾[3]، يقول صاحب التحرير والتنوير: “ووجه قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى﴾ قَصْدُ التعميم والرد على من يحرم المرأة حظوظا كثيرة من الخير من أهل الجاهلية”…[4].
ومنع المرأة من حق المساهمة في تنوير المجتمع إنما يندرج تحت التصورات الجاهلية واستحضار نمط تحجر العقل والشعور في أزمنة غابرة كان مصير المرأة الوأد حية أو الإقصاء والتهميش في أحسن الأحوال؛ فيقضى الأمر في غيبتها، ولا تستأذن وهي شاهدة، ولا حظ لها في عظام الأمور فما بالك بغير ذلك من الأحوال التي تتولاها بنفسها عادة نحو التنشئة والتربية والإرشاد والتوجيه، ولم تكن لها مكانة ولا شأن يذكر ولا يقبل منها صرف ولا عدل في عرف المجتمع الجاهلي؛ وهوَ ما أبطله الإسلام، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[5]، فقوله تعالى: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى﴾: « تبيين للعموم الذي دلت عليه (من) الموصولة، وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء، ما عدا ما خصصه الدين بأحد الصنفين، وأكد هذا الوعد كما أكد المبين به »[6].
وقالَ سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾[7] ؛ يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: «﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك[8]»، وقال ابن جزي في تفسيرها: «النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات»[9].
ولا يجد المتتبع كثير عناء في الملاحظة؛ أن نصوص الوحي تتسم بشمولية التعاليم، وما يرد في الإسلام من الأوامر والنواهي تُفصِح عن تناول شرع الله لكل أوجه حياة الإنسان: السلوكية والتربوية بصفة خاصة والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل أعم، ودون تمييز بين جنس وآخر إلا ما كان من الأحكام الجزئية المتعلقة بخصوصية كل واحد منهما وفقا لطبيعته الخلقية، ومحافظة على وظيفته الأصلية من تعمير الأرض والسعي في إصلاحها طبقا للمنهج الرباني القويم، ومع ذلك لا يسد باب التعاون على البر والتقوى أمام أحد من أفراد المجتمع المسلم، بل وجه القرآن الكريم إليه وأمر به، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[10]. فالتعاون على كل بر وتقوى مطلوب ولا تقتصر مهمة التبليغ على الرجال دون النساء.
وقد كان من المنح الإلهية والمنن الربانية إرسال نبي الرحمة إلى كل الناس بالخير والهدى والنور والرفق بالإنسان والجان والحيواَن والجماد، وقصة حنين الجذع خير شاهد؛ فعنْ أنَسِ بْنِ مَالكٍ- رضي الله عنه- “أنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ إِلَى لَزَق جِذْعٍ وَاتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَرًاً فَخَطَبَ عَلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ فَنَزَلَ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ فَمَسَّهُ فَسَكَنَ”[11].
وقد أرسل رسوله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وجَاءت رسالته بمبادئ العدل والرحمة لكل العالم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[12]، يقول ابن جزي في تفسير الآية: «والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة»[13]، ويقول القرطبي في تفسير الآية: «قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق»[14]، ويقول الألوسي مبينا حال كون الرحمة هنا عامة: «استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك. أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو رحماً لهم ببيان ما أرسلت به»[15]، ومن بديع وصفه صلى الله عليه وسلم بالرحمة: وقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله [16]، ويستدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإنما بعثني رحمة للعالمين}[17]، والتعريف في (العالمين) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم عالم. والمرأة ليست استثناء من العالم[18]، وإذا علم عقلا توجه رسالة الإسلام إليها؛ فُهِم ضرورة مشاركتها في التبليغ تحقيقا لصون مقاصد العقلاء عن العبث في الاستنباط.
إن المرأة في الإسلام لها مكانتها السامقة تجسدت في مساواتها مع أخيها الرجل في عموم التكاليف الشرعية وخص كلا منهما بأحكام تفصيلية مراعاة للقدرة الجبلية. وفي الحقوق والواجبات لهن مثل الذي عليهن، وقد فرض لهن الشارع من الحقوق المعنوية والمالية ما يزيد على الذكور رفعا لقدرها وصيانة لها عن التعرض لمشقة الكسب؛ فجعلها محمولة النفقة في كل الأحوال فلا تجب عليها النفقة بل تجب لها ولو كانت غنية، كما خفف عليها الأحكام الشرعية في أوقات الضعف الإنساني؛ الحيض، النفاس..
وقد أعطى الشرع الحنيف للمرأة من الحقوق، ما يرفع قدرها، ويحفظ لها كرامتها الإنسانية، وأناط بر الوالدين بحسن صحبتها، فلها ثلاثة أرباع البر تقديرا لقيمة الأمومة، واعتبارا لما تعانيه الأم من ثقل الحمل، وفقد طاقة الجسم تغذية للجنين من دمها وعظمها، وآلام المخاض، ومعاناة وبذل جهد في فترة الرضاع، والصبر على التربية، وتوفير الحنان والرحمة بالصغار، والسهر على المداواة، وتقديم الرعاية والحضانة، يقول الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: {أُمُّكَ{، قال: ثم من، قال: {أُمُّكَ}، قال: ثم من، قال:
{أُمُّكَ}، قال: ثم من، قال: {أَبُوكَ}[19].
إن قيم الإسلام السمحة اللابسة رداء العدل وثياب المساواة وخلعة الإنصاف ولباس التقوى والمتدثرة بدثار الحياء والعفة؛ انطلقت من مهبط الوحي إلى أصقاع العالم مع المهاجرين الأول، ولعل من لطائف منعطفات التاريخ الإسلامي؛ أن تكون أول هجرة في الإسلام إلى قارة إفريقيا الفتية المتسمة بتنوع الأعراق والثقافات، إلى الحبشة حيث العدل وملك لا يظلم عنده أحد كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم[20] ؛ فكان عدل ملك الحبشة باعثا إلى الخروج إليه رغم بعد الشقة وتحمل المشقة إظهارا لقيمة العدل مع اختلاف الملة..
ويلاحظ في رحلة الهجرة إلى الحبشة الحضور الفاعل للمرأة المسلمة المهاجرة بدينها جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل، وسيتضح ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى عند الحديث عن التطور التاريخي لحضور المرأة الإفريقية في الشأن الديني.
وتأسيسا على ما سبق سأحاول في هذا العرض تسليط الضوء على موضوع: “المرأة الإفريقية وحضورها في الشأن الديني والواجب التربوي” وفق نقاط آتية؛ تبدأ بإزالة إبهام التراكيب اللغوية والاصطلاحية وتنتهي بالتوقف عند نماذج مضيئة من النساء الفقيهات.
أولا: شرح مفردات العنوان لغة واصطلاحا
قبل الحديث بشيء من التفصيل عن الموضوع لا بد من التعرض لحقيقة مفردات العنوان وتفكيكها؛ للتمكن من التعرف على ماهيتها، والمرور عبر قانون اللغة نحو الاصطلاح لتحديد نطاق المقال.
- – المرأة: أصلها في اللغة من “مرأ”؛ يقول: «هذه مرأةٌ صالحةٌ ومَرَةٌ أيضا بترك الهمزة وبتحريك الراء بحركتها[21]». ويقال: «والأنثى: امرأة بهمزة وصل، وفيها لغات أخرى: مرأةٌ، وزان: تمرة ويجوز نقل حركة هذه الهمزة إلى الراء، فتحذف وتبقى مَرةٌ، وزان: سنة، وربما قيل فيها: امرَأٌ بغير هاء اعتمادا على قرينة تدل على المسمى، قال الكسائي: سمعت امْرَأَةً من فصحاء العرب تقول: أنا امْرَأٌ أريد الخير، بغير هاء، وجمعها: نِسَاءٌ وَنِسْوَةٌ من غير لفظها»[22].
- – الإفريقية: نسبة إلى حيز جغرافي من أقدم قارات المعمورة وأكثرها ثراء بالموارد الطبيعية والبشرية، ويكتب اللفظ إفريقيا أو إفريقية[23]، وهي ثاني أكبر القارات من حيث المساحة وعدد السكان، وتتميز القارة الإفريقية بتعدد الثقافات وتنوع الأعراق وتباين أنماط العيش.
- – الحضور: «الحضور: نقيض الغيبة[24]. ومنه «حضرت مجلس القاضي حضورا من باب قعد شهدته، وحضر الغائب حضورا قدم من غيبته»[25].
- – الشأن: في اللغة: «الأمر والحال»[26].
- – الديني: «دان بالإسلام دينا، بالكسر: تعبد به، وتَدَيَّنَ به كذلك فهو دين، مثل: ساد فهو سَيِّدٌ. ودَيَّنْتُهُ، بالتثقيل: وكَلْتُهُ إلى دينه، وتَرَكْتُهُ وما يَدِينُ لم أعْتَرِضْ عليه فيما يَراه سائِغًا في اعْتِقَادِه. ودِنْتُه أدينُه: جازَيْتُه»[27].
وعرف الجرجاني الدين بأنه: «وضعٌ إلهيٌّ يدعُو أصحابَ العقولِ إلى قبولِ ما هُو عندَ الرسول صلى الله عليه وسلم»[28].
- – الواجب: «وجب الشيء، أي لزم، يجب وجوبا. وأوجبه الله، واستوجبه، أي: استحقه»[29]. «والواجب في عرف الفقهاء: عبارةٌ عمَّا ثبتَ وجوبُه بدليل فيه شبهة العدم، كخبرِ الواحدِ، وهو ما يثابُ بفعلهِ، ويستحقُّ بتركِه عقوبةً لولاَ العذرُ حتَّى يضلل جاحدُه ولا يكفُر به.. والوجوبُ الشَّرْعيُّ: هو ما يكونُ تاركهُ مستحقاً للذَّمِّ والعقَابِ»[30].
- – التربوي: «من رَبَّيْتُهُ تَرْبِيَةً وَتَرَبَّيْتُهُ، أي: غذوته، هذا لكل ما ينمي كالزرع ونحوه»[31].
ثانيا: التأصيل الشرعي لمشاركة المرأة في تدبير الشأن الديني
إن مهمة التبليغ عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تتسم بالشمول لجميع الأمة المحمدية، وإنما التفاوت في مستوى الاستيعاب والفهم السديد والقدرة على الاستنباط فرب مبلغ أوعى من سامع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر: {لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ}[32]، ويكفي المشتغل بتبليغ العلم الفوز بدعوة خير البرية عليه الصلاة والسلام: {نَضَّرَ الله امْرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُو أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ}[33]، والمراد من الحديث: «أن فتوح الله على العباد مختلفة، فهناك أناس أعطاهم الله الحفظ ولم يعطهم الفهم، ومنهم من أعطاهم الله الفهم ولم يعطهم الحفظ، ومنهم من جمع لهم بين الاثنين»[34].، قال الله تعالى:
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[35]، وفي الحديث دليل على أهمية فهم النصوص الشرعية لمن أراد سلوك سبيل العارفين من العلماء، وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ}[36].
إن واجب حفظ الدين وتبليغه للناس لا يختص به الذكور دون الإناث؛ فدرجة الوجوب واحدة ولكن التمايز يكون بحسب الطاقة والمواهب والإمكانيات والمسؤوليات ونطاَق التأثير والقدرة العلميةَ والبصيرة؛ يقول الله سبحانه وَتعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[37] ؛ أي «أدعو إلى الله ببصيرة متمكنا منها، والبصير: صاحب الحجة لأنه بها صار بصيرا بالحقيقة، وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعو إلى الإيمان بما يستطيعون»[38].
فمتى ما توفرت الاستطاعة والبصيرة كان التبليغ دون اعتبار لجنس المكلف إلا في القيام ببعض الوظائف الخاصة المبينة بالسنة النبوية المطهرة وأقوال أهل العلم نحو الإمامة للمصلين؛ فقد منعها مالك -رحمه الله ورضي عنه- كما ذكره الباجي:
«أما الأنوثة فإن المرأة لا تؤم رجالا ولا نساء»[39]، ويجوز لها إمامة بنات جنسها عند الإمام الشافعي والإمام أحمد -رحمهما الله تعالى-: «يجوز للمرأة أن تؤم النساء وتقف وسطهن»[40]. ولكل رأي دليله من السنة؛
فالأول يستدل بحديث الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعا: {يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ الله}[41]. قال عياض: «هذا الحديث حجة في أن المرأة لا تؤم؛ لأن لفظ القوم خاص بالذكور» نقله الأبي[42].
والرأي الثاني؛ يستدل بما رواه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق أن أم سلمة رضي الله عنها أمت نساء فقامت وسطهن. ورواه عبد الرزاق والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها[43]، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ويبسط الخلاف رداءه على مسائل أخرى نحو الولاية العامة والقضاء، إلا أن بعض العلماء انتصر لتولي المرأة القضاء في كل الأمور قياسا على الفتيا؛ لإجماع العلماء على جواز تولي المرأة منصب الإفتاء الديني أي التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه أمانة أعظم ومكانة أكبر ومهمة أخطر مما هو دونها من المهام والوظائف والمسؤوليات؛ لأن تحمل وظيفة الرسل والأنبياء في التبليغ عن الله لا تضاهيها مرتبة علمية ولا دينية؛ وقد أمرت بذلك أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، قال الله جل جلاله:﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾[44]، وقام بها غيرهن من الصحابيات في العهد النبوي الشريف؛ وما قامت به فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها في الإقدام على عرض الإسلام على أخيها عمر -رغم إظهاره لمقارعة الدين- دون إحجام ولا تقهقر خير شاهد على ذلك[45].
ومن صفات المؤمنين والمؤمنات في كتاب الله تعالى التعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة أركان الدين من الصلاة والزكاة وكل أنواع الطاعات، ويتساوون في الثواب على الأعمال الصالحة، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[46] ؛ يقول السمرقندي في تفسره: «بعضهم معين لبعض في الطاعة»[47].
والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر رباني ومنهج قرآني لا يفرق بين رجل وامرأة من المكلفين بشرط أن يكون صالحا له ويعلم كيف يرتب الأمْر وكيف يباشر[48]؛ قال الله سبحانه وتعاُلى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[49]، يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾: أي: «منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير»[50].
وقوله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُ فِي الدِّينِ}[51]. ولا تستثنى المرأة من عداد الأمة المأمورة بنشر الخير أو التفقه في الدين، وليست نشازا في توجيه النصح لكل مسلم؛ عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدِّينُ النَّصِيحَة}، قلنا: لمن، قال: {لله وَلرَسُوله وَلأَئِمَةِ المسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ}[52].
ثم إن النساء يعدلن نصف المجتمع أو أكثر خصوصا مع تزايد الهجرات وتعدد أسباب تراجع أعداد الرجال، فكيف لا تتصدر إحداهن لعملية تبصيرهن، والقيام بالتفقه في أمور الدين لبنات جنسها، وخاصة إذا علم بديهة أن للمرأة من الأمور الجبلية والعوارض الحياتية ما لا تفقهه إلا أختها تحس إحساسها وتتقن تصور أحوالها وتفهم واقع تصرفاتها في حاضر وقتها..
ثالثا: التطور التاريخي لحضور المرأة الإفريقية في الشأن الديني
إن قارة إفريقيا تمثل إحدى قارات العالم القديم؛ حيث امتزجت فيها الثقافات والأعراق والحضارات وانتشرت فيها ديانات متعددة، وبعد دخول الرسالات السماوية إلى القارة السمراء اعتنقت الشعوب الإفريقية في غالب أمرها المسيحية والإسلام في بواكير الانطلاق، وتعايشت في سلام وتسامح وانصهرت في بوتقة واحدة قائمة على الانتماء للأرض وتبادل المنافع، وتشكلت فيها تجمعات بشرية تباينت طرق العيش فيها، نتج عنها ظهور إمبراطوريات وممالك عديدة تميزت بأنظمة اجتماعية متنوعة وذات موروث ثقافي غني إلا أن غلبة منطق القوة؛ غمط المرأة حقها في تصدر صناعة الشأن العام في مختلف المجالات؛ الدينية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي لم يكن للنساء تلك المكانة المرجوة بسبب انتشار بعض المعتقدات السائدة التي تكرس نظرة غير منصفة للمرأة.
ولقد نالت إفريقيا شرف السبق باعتبارها أول قارة هاجر إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تعاظم خطر مضايقة دعوة الإسلام، وبدأ الأذى يشتد على الزمرة المؤمنة دون الرد بالمثل أو الدفع عن النفس، بل أمروا بالصبر والاحتساب والإعراض عن أهل الشرك.
ولما رأى نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام ما يصيب أصحابه رجالا ونساء من التنكيل والفتنة عن الدين، بعد أن اشتد أذى مشركي قريش على المسلمين في مكة أشار عليهم بالهجرة حماية لأنفسهم ومحافظة على الدعوة من الوأد في المهد، وكانت في شهر رجب في السنة الخامسة للبعثة النبوية، وبلغ عدد المهاجرين في الهجرة الأولى عشرة رجال وخمس نسوة، وفي الهجرة الثانية كانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة [53].
ويبرز الحضور الفاعل للمرأة المسلمة المهاجرة بدينها جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل في نصرة الحق والذب عنه وحمل أمانة نشر الإسلام، في ظل مجتمع لا يعطي المرأة دورا ولا حقا حتى في إبداء الرأي، فكيف بالخروج والهجرة؟ إنه الإنصاف والعدل والرحمة والسماحة.
ومن المهاجرات رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه[54]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما: {إِنَّهُمَا لأَوَّلُ مَنْ هَاجَر بَعْدَ لُوطٍ{.، وأم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها، وأسماء بنت عميس بن النعمان رضي الله عنها زوج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وفاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث رضي الله عنها، وسودة بنت زمعة بن قيس رضي الله عنها[55]، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها[56]، وفاطمة بنت المجلل بن عبد الله بن أبي قيس رضي الله عنها، وأم حرملة بنت عبد الأسود بن جذيمة رضي الله عنها[57]، وسهلة بنت سهيل رضي الله عنها زوج أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة رضي الله عنه[58]، وغيرهن..
واختار لهم الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام أرض الحبشة؛ لأن فيها ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه لأصحابه: {إِنَّ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ مَلِكًا لا يُظْلَمُ أحدٌ عِندَه- وَهي أَرْض صِدْق[59] -؛ فالحَقوا ببِلادِه حتى يَجعَلَ اللهُ لكم فَرَجًا ومَخرجًا}[60].
وبعد أن باءت محاولات قريش في استرداد المهاجرين بالفشل، حاول وفد قريش التنقيص من شأن المرأة، والاستهزاء بالدين الإسلامي الذي يمنح من لا تبري الرمح ولا تحمل السيف ولا تأتي بالسلب ولا تقوم بالتكسب –حسب زعمهم- الحق في إبداء الرأي والإرث والمشاركة في بناء كيان الأمة والتعاون على التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعدد عليه جعفر رضي الله عنه أمور الإسلام[61].
ونجحت سفارة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، واستمع النجاشي والقساوسة لآيات من سورة مريم، ولم يتسن لهم مقاومة أثر كلام الله تعالى المعجز الذي وقع قويا على قلوبهم وبصائرهم، فما تمالكوا أن انهمَرت دموعهم غزيرة فياضة، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)﴾[62].
وقد أسلم النجاشي رضي الله عنه، ولما مات قال النبي صلى الله عليه وسلم:
{استَغفِروا لأخِيكُم}[63]، ونزل فيه قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[64].
ومنذ ذلك الحين بدأ التاريخ يسطر وقائع وصول دين الرحمة والسماحة والسلام إلى ربوع إفريقيا، وبالرغم من وصول دعوة الإسلام باكرا مع طلائع المهاجرين الأول، إلا أن الانتشار تأخر نسبيا، إلى أن دخل الدين إلى بلاد الغرب الإسلامي، وبدأت الشعوب الإفريقية تتلقاه بالقبول، وكانت المرأة الإفريقية كالرجل تبذل الجهد في تلقي العلوم الشرعية مقتدية في ذلك بالعالمات في صدر الإسلام.
وعلى مر الأزمنة المتعاقبة لم تذكر التراجم حضورا بارزا للمرأة الإفريقية العالمة، وإن كان يلمس أثره في الخلف من الفقيهات، ويعد الشح في تناول سير العالمات سببا في ندرة المصادر والمراجع العلمية التي تناولت هذا الموضوع.
وبعد تشكل الدول الإفريقية في فترة ما بعد الاستقلال وظهور أفكار تقدمية؛ ظل بقاء الأمر على سابق عهده، ولم تنل المرأة الإفريقية العالمة المكانة اللائقة بها في تدبير الشأن الديني، وبقي حضورها ضعيفا على المستوى الرسمي، إلا أن تجربتها في بعض الدول القليلة كانت رائدة، كما حصل في المملكة المغربية حيث تمثل النساء العالمات في المجالس العلمية المحلية والمجلس العلمي الأعلى، وتوجت تلك التجربة الرائدة باستحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تمثل فيها النساء العالمات[65] تمثيلا معتبرا ومتميزا.
رابعا: نماذج من حضور النساء العالمات في الشأن الديني منذ العهد النبوي
لا يمكن الحديث عن حضور النساء العالمات المسهمات في صناعة الفقه والفكر، دون الإشارة إلى التغييب المثير للتساؤل من إغفال كتب التراجم لذكر العنصر النسائي من عالمات عاملات، وإن ذكرن كان الاختصار حظهن من الذكر، وأما كتب طبقات المذاهب فغياب سيرتهن هو البارز للمتتبع دون عناء، ويمكن رد ذلك إلى قلة التدوين في هذا الجانب، ولإزالة لبس الاستفهام، حاولت الترجمة لعالمات بارزات؛ كن أمثلة حية على الحضور الفعلي للمرأة في تدبير الشأن الديني.
- – أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
تجلى حضور النساء الفقيهات النوعي بين ممارسي الإفتاء في الدور الريادي للعالمة المحدثة الفقيهة الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما التي عدها أهل العلم ضمن الصحابة المكثرين من رواية الحديث والتصدر للفتوى والتعليم، وكانت رضي الله عنها أفقه نساء الأمة على الإطلاق لأخذها عن أفضل الخلق وحبيب الحق ومعلم البشرية النبي المعصوم سيدنا محمد عليه صلوات الله وسلامه، وقد جمعت من أنواع العلوم الجمة في تسع سنين هي مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم ما لا يتعلمه غيرها في الأزمان المتطاولة[66]، نقل عنها الاستقلال بالفتوى وكثرة ما يعرض عليها من المسائل، ولها مناقب يصعب حصرها ذكر ابن سعد بعضا منها[67].
وقد اشتهرت رضي الله عنها بفتاوى استقلت بها وآراء فقهية انفردت بها؛ ومنها قولها بجواز سفر المرأة من دون محرم مطلقا إذا أمنت على نفسها، ولها رأي في رد بعض الأخبار للتعارض مع الكتاب العزيز؛ « ولا تزر وازرة وزر أخرى » ؛ وبها نزعت رضي الله عنها في الرد على من قال: « إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه »، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يقع إذا كان البكاء من سنة الميت وتسببه، كما كانت العرب تفعل[68]، مخالفة بذلك رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إِنَّ المْيَتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ}[69]، ولها استدراكات على فتاوى كبار الصحابة؛ جمعها العلامة الزركشي[70].
- – خديجة بنت الإمام سحنون
هي خديجة بنت الإمام عبد السلام سحنون بن سعيد التنوخي (صاحب المدونة) في الفقه المالكي، حامل لواء مذهب مالك بالمغرب، نشأت في بيت علم وفضل، اشتهر والدها بـ “الإمام سحنون”، أخذت عن أبيها العلم والفقه والأخلاق والورع والزهد، والخشوع وغزارة الدمعة والتواضع، كانت عاقلة عالمة كرست حياتها للتعليم والتعلم والإفتاء في أمور نساء زمانها ولم تتزوج حتى ماتت بكرا في حدود 270هـ [71].
ت – فاطمة بنتعبد الفتاح:
وهي من أشهر العالمات الخطاطات (تـ 1300هـ) في عصرها، وتعد شاعرة حسب بعض الوثائق؛ مدرسة ومؤلفة، من أجمل نساء الشناقطة خطا، درست على والدها أهم معارفها وأخذت الطريقة الصوفية القادرية على قطب زمانه[72] العلامة الشيخ سيديا، لها عدة مؤلفات في التوحيد والتوسل والسيرة النبوية، ومن بين الكتب التي نسخت كتاب الأخضري لصاحبه عبد الرحمن الأخضري، وقد كان متداولا في أوساط الشباب والناشئين، لما له من أهمية في تبسيط العبادات[73].
خامسا: الواجب التربوي للمرأة
إن ما أودعه الله من الرحمة والحنان في قلب الأم أهلها لوظيفتي التربية والحضانة للأبناء؛ فتتحمل ثقل الحمل رغم ضعفها بكل طيب نفس وانتظار للفرح بالمولود، قال الله سبَحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾[74]، يقول الزمخشري: «والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا»[75].
ومن لطائف الإشارَات القرآنية في معاني الرَحمةَ الجبلية للأم؛ قوله تعالى:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾[76]، يقول صاحب التحرير والتنوير: «وجملة يرضعن خبر يراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن »[77]، فعبر بفعل المضارع دون الأمر تنبيها على الحنان الخَلقي للأم، وفي حق الوالد عبر بفعل الأمر دلالة على الوجوب؛ يقول القرطبي في تفسيره: «وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد»[78]، وإذا علم أن الواجبات الأسرية في الشرع الحنيف وزعت بعدالة وتكامل، وأن الأوامر لا تتعارض؛ فإن الواجب التربوي يناط بالأم، والقيام بالنفقة والرعاية يناط بالأب.
إن الواجب التربوي يجعل المرأة تتولى أشرف الأعمال وأنبلها؛ ألا وهي بناء شخصية الطفل والعناية بسلامة فطرته، وغرس القيم والأخلاق الفاضلة في النفس، ولها الدور الأبرز في صيانة تماسك الأمة وصلاح الأجيال الناشئة، والحماية من الانزلاق نحو الهاوية أو التردي في مزالق الرذائل..
إن المرأة المسلمة لا تقل عن الرجل المسلم في التكليف وإنما يختلفان في المهام، ولا يتفاوتان في المكانة وإنما يتمايزان في اختلاف أعباء تكوين النواة الأولية للمجتمع، هذا من حيث الأصل.
إن وظيفة المرأة الأساسية هي إعداد أبنائها إعدادا ملائما، وهذا من أبرز واجباتها، بل إن أول ما يتبادر إلى الذهن من واجبات المرأة الأسرية، هو العناية بالأبناء، فالأم:
هي المدرسة الأولى للطفل[79].
الخلاصة
وخلاصة ما سبق: أن حضور المرأة الإفريقية في الشأن الديني، مر بمراحل عديدة تميزت بالصعود تارة مع بدايات دعوة الإسلام، وبزوغ نور فجره الحامل للعدل والإنصاف، وما جاءت به النصوص الشرعية من تأكيد على دور المرأة في نشر الخير والعلم، معضدة ذلك بحضورها في جميع أحداث السيرة والتاريخ الإسلاميين، وتارة يهبط حضورها نتيجة لعوامل تتعلق بأساليب تفكير المجتمع، واستحضار عقليات تسلبها حق المشاركة في صناعة الوعي بأبعاده التنويرية التي جاء بها نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لعله خير أن تظهر بعض المبادرات الرائدة تحاول الصعود بدور المرأة العالمة من جديد مثل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وتؤسس لإطار علمي يحقق الأهداف المرجوة، ويقدم للمرأة الإفريقية نماذج قادرة على الإسهام الفاعل في تدبير الشأن الديني.
والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على الحبيب الشفيع سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش
[1] -سورة الأعراف، الآية:158.
[2] -سورة الإسراء، الآية:88.
[3] -سورة النساء، الآية:124.
[4] -ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تفسير سورة النساء.
[5] -سورة النحل، الآية:97.
[6] – ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تفسير سورة النحل.
[7] -سورة آل عمران، الآية:195.
[8] -القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة آل عمران.
[9] -ابن جزي، تفسير ابن جزي، تفسير سورة آل عمران.
[10] -سورة المائدة، الآية:2.
[11] -سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إني دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول.
[12] -القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية:107.
[13] -ابن جزي، تفسير ابن جزي، تفسير سورة الأنبياء.
[14] -القرطبي، تفسير القرطبي، تفسير سورة الأنبياء.
[15] -الألوسي، تفسير الألوسي، تفسير سورة الأنبياء.
[16] -ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير
[17] -سنن أبي داوود، كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
[18] -ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير.
[19] -صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
[20] -سير أعلام النبلاء، (1/208).
[21] -الجوهري، الصحاح، (حرف الميم، مرأ).
[22] -الفيومي، المصباح المنير، (كتاب الميم، الميم مع الراء وما يثلثهما، م ر أ).
[23] -مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة، 2020م.
[24] -الجوهري، الصحاح، (حرف الحاء، حضر).
[25] -الفيومي، المصباح المنير، (كتاب الحاء، الحاء مع الضاد وما يثلثهما، ح ض ر).
[26] -الجوهري، الصحاح، (حرف الحاء، شأن).
[27] -الفيومي، المصباح المنير، (حرف الدال، الدال مع الياء وما يثلثهما، د ي ن).
[28] -الجرجاني، التعريفات، (باب الدال، فصل الياء، الدين).
[29] -الجوهري، الصحاح، (حرف الواو، وجب).
[30] -الجرجاني، التعريفات، (باب الواو، فصل الألف والجيم، الواجب، الواجب الشرعي).
[31] -الجوهري، الصحاح، (حرف الراء، ربا).
[32] -صحيح البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: {رب مبلغ أوعى من سامع.}
[33] -سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على السماع.
[34] -الشنقيطي، شرح زاد المستنقع، (31 /244).
[35] -سورة الجمعة، الآية:4.
[36] -صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
[37] -سورة يوسف، الآية:108.
[38] -ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير.
[39] -الباجي، المنتقى، (1 /235).
[40] -الشربيني، مغني المحتاج، (1 /247)، وابن قدامة، المغني، (2 /202).
[41] -صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة.
[42] -الأبي، إكمال الإكمال، (2 /333).
[43] -ابن حجر، تلخيص الحبير، (2 /42).
[44] -سورة الأحزاب، الآية:34.
[45] -ابن هشام، السيرة النبوية، قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (1 /253 – 254).
[46] -سورة التوبة، الآية:71.
[47] -السمرقندي، تفسير السمرقندي، تفسير سورة التوبة.
[48] -الزمخشري، الكشاف.
[49] -سورة آل عمران، الآية:104.
[50] -ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تفسير سورة آل عمران.
[51] – صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، سنن الترمذي، كتاب العلم، باب إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين.
[52] -صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة.
[53] -الخضري، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، (47 – 51).
[54] -ابن سعد، الطبقات الكبرى، (8/ 29 – 30).
[55] -ابن هشام، السيرة النبوية، (1/ 238 – 239).
[56] -ابن سعد، الطبقات الكبرى، (8 /77).
[57] -ابن هشام، السيرة النبوية، (1 /240 – 242}.
[58] -الخضري، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، (47).
[59] -ابن هشام، السيرة النبوية، ذكر الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، (1 /238).
[60] -الذهبي، سير أعلام النبلاء، (1 /208).
[61] -الإمام أحمد، المسند، (3 /180).
[62] -سورة المائدة، الآيات 83 – 84 – 85.
[63] -الطبراني، المعجم الأوسط، (3 /120).
[64] -سورة آل عمران، الآية:199.
[65] -تقديم مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، منشورات المؤسسة، (32).
[66] -عبدات، نزهة الأبرار على منتقى الأخبار (حاشية على منتقى الأخبار في شرح قرة الأبصار)، (116).
[67] -ابن سعد، الطبقات الكبرى، (46/8).
[68] -ابن عطية، المحرر الوجيز، تفسير سورة الإسراء.
[69] -صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ المْيَتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ.
[70] -الزركشي، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، (5).
[71] -يوسف، فقيهات عالمات، (40).
[72] -بن الهيبَ، ديوان الشيخ سيدي بن المختار بن الهيبَ، (12).
[73] -أسنيد، الشعر النسائي الشنقيطي القديم، (298 – 299).
[74] -سورة لقمان، الآية:14.
[75] -الزمخشري، الكشاف، تفسير سورة لقمان.
[76] -سورة البقرة، الآية:233.
[77] -ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تفسير سورة البقرة.
[78] -القرطبي، تفسير القرطبي، تفسير سورة البقرة.
[79] -خولة درويش، مجالات المرأة الدعوية، (66).
قائمة المصادر والمراجع
- تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984م.
- فقيهات عالمات، محمد خير يوسف، الطبعة الأولى، دار طويق، الرياض، 1993م.
- مجالات المرأة الدعوية، خولة عبد القادر درويش، الطبعة الأولى، دار المحمدي للنشر والتوزيع، جدة، 1422هـ- 2001م.
- السيرة النبوية، أبو عبد الملك بن هشام، قراءة وضبط وشرح: محمد نبيل طريفي، الطبعة الثانية، دار صادر، بيروت، 1426هـ – 2005م.
- الجامع لأحكام القرآن المسمى تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: مجدي محمد سرور سعد باسلوم، الطبعة الأولى، دار البيان العربي، القاهرة، توزيع شركة القدس للتصدير، القاهرة، 2008م.
- مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، دار الحديث، القاهرة، 1429هـ – 2008م.
- المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقري، دار الحديث، القاهرة، 1429هـ- 2008م.
- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، بدر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، نشر مكتبة نور، طبعة الخانجي، 2009م
- الصحاح، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، راجعه واعتنى به: محمد محمد تامر- أنس محمد الشامي- زكريا جابر أحمد، دار الحديث، القاهرة، 1430هـ – 2009م.
- نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد الخضري، خرج أحاديثه وعلق عليه: عرفان العشا حسونة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،1432 – 1433هـ – 2011م.
- التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، ضبط نصوصها وعلق عليها: محمد علي أبو العباس، الطبعة الأولى، دار الطلائع للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013م.
- نزهة الأبرار على منتقى الأخبار (حاشية على منتقى الأخبار في شرح قرة الأبصار)، عبد الله ولد إبراهيم ولد عبدات، الطبعة الأولى، مكتبة الإصلاح، الأندلس الجديدة، القاهرة، 1437هـ- 2016م.
- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري المعروف بابن سعد، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1438هـ- 2017م.
- مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، الندوة العلمية الدولية الأولى، ملخص المشاركات العلمية حول موضوع: “الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات، “منشورات المؤسسة، 2017م.
- الشعر النسائي الشنقيطي القديم، السالكة بنت أسنيد، الطبعة الأولى، المكتبة الوطنية، نواكشوط، 2017م.
- تقديم مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، منشورات المؤسسة، فاس، 2017م.
- السمعاني، تفسير السمعاني، الباحث القرآني.
- ابن جزي، تفسير ابن جزي، الباحث القرآني.
- الألوسي، تفسير الألوسي، الباحث القرآني.
- المحرر الوجيز، ابن عطية، الباحث القرآني.
- المسند، الإمام أحمد بن حنبل، الموسوعة الحديثية.
- ديوان الشيخ سيدي بن المختار بن الهيبَ، الشيخ سيديا بن المختار الهيبَ، جمع وتحقيق: عبد الله بن إسماعيل بن أبي مدين، تقديم الأستاذ: محمد فال بن عبد اللطيف، دون تاريخ ومكان نشر.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، بحاشية علي بن محمد علي زين الدين أبي الحسن الحسيني الجرجاني، وكتاب الإنصاف “الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد ابن المنير الإسكندري المالكي”، وقد وضع بأعلى الصحائف القرآن الكريم برسم وضبط الدوري عن أبي عمرو البصري”، وبآخر الكتاب: “ثالثا تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات” للعالم المدقق محب الدين أفندي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، دون تاريخ نشر.
- إكمال الإكمال، محمد بن خلفة الأبي، دار الكتب العلمية، دون تاريخ نشر.
- تلخيص الحبير (تخريج أحاديث الرافعي)، الحافظ بن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، المدينة المنورة، دون تاريخ نشر.
- المنتقى شرح الموطأ، أبو الوليد الباجي، دون تاريخ ومكان نشر.
- مغني المحتاج، الشيخ محمد الشربيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دون تاريخ.
- المغني، الموفق بن قدامة، مكتبة الرياض الحديثة، دون تاريخ.