جهود أمير المؤمنين -أعزه الله- في التعاون المغربي الإفريقي
رئيس المجلس العلمي المحلي لطرفاية
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد موحد الناس أجمعين، وهاديهم إلى أقوم سبيل، وعلى آله وأصحابه حملة راية الفتح المبين، ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى محشر الناس ليوم الدين.
إن حافز أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله لمتابعة سنة سلفه الأكرمين عليهم رضوان الله ورحماته، والاقتداء والتأسي بخير الأعمال محبة وإخلاصا لتطلع الشعب المغربي وللشعوب الإفريقية بل والأمة الإسلامية ما يرد وما يعرض من قضايا تهم راهن الأمة، خاصة في هذه العقود التي أصبحت فيها الحقائق الشرعية والمواقف المنبثقة عنها بحاجة إلى جهد جهيد من العلماء کشفا وتصحيحا وتأصيلا، وإشاعة وعي بين الناس خاصة من ضللهم الإعلام المغرض أو التأويل المبطل أو مجرد الحقد الأعمى والحسد على النعمة والتوفيق.
وبهذا الصدد، اخترت موضوعا قديما جديدا؛ قديما لأنه واکب نور النبوة وإقبال هذه الربوع الطيبة على الإسلام، وجديدا لأنه بفعل حدب جلالة الملك محمد السادس على حل مشاكل القارة وسعة أفق جلالته في تناول قضايا المغرب وإفريقيا على مختلف أصعدتها وتشكلاتها.
وسأتناول فيه المحاور التالية:
المحور الأول: وقفة مع تفسير الآية 13 في سياق سورة الحجرات وأسباب النزول.
المحور الثاني: كيف فهم سلف الأمة هذه الآية ومدى تأثيرها في الأحداث.
المحور الثالث: تفعيل المغرب عبر تاريخه لمقاصد الآية.
المحور الرابع: جهود أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله في القارة الإفريقية.
وقفة مع تفسير الآية 13 في سياق سورة الحجرات وأسباب النزول
انطلقت من قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾[1] ؛ لأسلط الضوء على تفسير الآية في سياقاتها المباشرة من هذه السورة، وأنفذ منها إلى موضوعنا بالوقوف عند حرفية النص وظاهره. ولذلك قال علماؤنا الأصوليون إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومنها أن كلام الله معجز، بمعنى بقاء النص القرآني مصدرا لاستنباط العلماء حسب حاجتهم وتطوراتهم إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
وربط آيات سورة الحجرات بما اعتاد الكثير من المفسرين الوقوف عنده من معانيها البسيطة المرتبطة غالبا بأسباب نزولها -على صحة ذلك ومصداقيته- تحجيم للنص القرآني عن التفعيل والتنزيل إذا توفرت للمفعل والمنزل أدوات ذلك، ومنها شهادة كل من سيدنا عمر وسيدنا علي وسیدنا ابن عباس رضي الله تعالی عنهم أن القرآن حمال أوجه. وليس مرادهم إغراب في التأويل أو تكلف ما لا يحتمله النص تبعا للأهواء والإيديولوجيات، وإنما قصدهم وقصد من سلك هذا المسلك من العلماء والمستنبطين تثوير معاني القرآن لتستجيب للحاجيات والمستجدات.
وكل اجتهادات الأصوليين في مسالك العلة خاصة تنبني على ذلك، وقد استنبط إمامنا مالك رحمه الله جواز إدراك الصبح على المسلم الصائم جنبا من قوله تعالى:
“وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. “وإذا وضعنا في الاعتبار كون سورة الحجرات المدنية -بالاتفاق- من أواخر السور نزولا، أدركنا أن ما فيها من تشريعات تتجاوز حدود ما كان خلفها من أسباب النزول إلى تخطيط حياة المسلمين عامة أفرادا وجماعات، أنظمة ودولا على مدى الدهور، ودليلنا على كونها من أواخر ما نزل وأنها واكبت إقبال القبائل لتنضوي تحت لواء الدين الحنيف في عام الوفود؛ وهو السنة التاسعة من الهجرة، ذكر أسماء أعلام ورد في تراجم الصحابة إسلامهم آنذاك مثل: الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وهما من المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهما الرسول صلى الله عليه وسلم من غنائم هوازن بعد الفتح ما أغاظ العباس بن مرداس وهو من أمثالهما فقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ** بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ** فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها ** عديد قوائمه الأربع
فقال عليه السلام: (اقطعوا عني لسانه)، فأكملوا له المئة.
وكل من عيينة والأقرع معني بنداء رسول الله: يا محمد اخرج إلينا، ونزول قوله تعالى: ﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون﴾[2]، كما ورد ذكر عتاب بن أسيد وهو من الطلقاء وقد استغرب أن يعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال ثم إلى أبي محذورة بعد ذلك بمهمة الأذان ورفعه على ظهر الكعبة بعد الفتح، ونزول قوله تعالى:(إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) وما فيه من إقرار التفاضل بالتقوى لا بالآباء والأنساب.
هذا كل ما قيل بصدد الأسباب والمعاني المباشرة حول تسمية السورة بسورة الأخلاق والآداب كما سماها المفسرون وهم محقون، وأحب أن أطلق عليها سورة التمدن والحضارة؛ ذلك أن مدلول التمدن والحضارة فهمه علماؤنا أدق فهم حتى قالوا: من باد جفا، وهم يعلنون أن الحضارة إحساس بالغير وبدل الجهد لراحته وإعانته على مطالبه، بل وإيثاره على النفس، ونصوصنا كثيرة في هذا المجال.
فهم سلف الأمة لهذه الآية ومدى تأثيرها في الأحداث
وأول ما تستهل به السورة حسب هذا التوجه هو محاكمة كل الأفعال إلى شرع الله ورسوله، فما وافق ذلك بورك وما خالفه تُرك، ولسنا نرى فيها لا حذفا ولا زيادة، لا حذف “تقدموا” بدليل قراءة الإمام يعقوب “لا تقدموا” ولا زيادة اسم الجلالة قبل رسوله، إذ شرع الله واحد والسنة والكتاب متظافران.
وثنت بقاعدة متمة لسابقتها عبرت عنها برفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل المقصود تجاوز تعاليمه وشرائعه، والجهر كناية عن تمادي العبد في المخالفة وتعدي الحدود. وقد استنبط الأئمة من هذا الجزء من الآية علو مقام النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وتعاليمه وعلو قدر ذاته حيا وميتا، بل وعدوا الإجلال والتقدير إلى خلفائه من ولاة الأمر الذين يستمدون مهابتهم وإجلالهم واستحواذهم على قلوب رعيتهم من وحي النبوة الساري في خططهم حتى لقد صح فيهم قول القائل:
جعلوا لأبناء الرسول علامة ** إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم ** يغني الشريف عن الطراز الأخضر
وانتقلت السورة إلى قاعدة ذهبية حبذا لو صرفت كل جهودنا في عالم اليوم إلى غرس قيمها في كل أفراد المجتمع، وهذه القاعدة ممثلة في قوله تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾[3]، وفي قراءة “فتثبتوا”؛ ذلك أننا أصبحنا في زمن اخترقت فيه حدود البيوت والأسماع، وما تكرر على الأسماع كان أدعى إلى أن يتقرر. والحرب الإعلامية بلغت أوجها بترویج كل ما يشكك غير المحصن في مسلماته ومقدساته سواء الدينية أو الوطنية. وهذا ما يزيد من مسؤولياتنا في مجالسنا العلمية ومؤسساتنا التربوية وكذا الإعلامية، في مواجهة كل ذلك بأسلوب الحكمة، الذي هو البيان والشرح والتأصيل، وتحديد المخاطر والمزالق بعيدا عن التصريح وأسلوب المواجهة والتجريح.
ولجلالة الملك محمد السادس نصره الله كبير الفضل في هذا المجال بدعم القنوات المتخصصة سواء الوطنية أو الجهوية كقناة محمد السادس للقرآن الكريم أو السادسة أو الإذاعات والقنوات الجهوية التي نرى أن تبث الندوات العلمية التي يقوم بها العلماء بشكل تفصيلي؛ فالجهود المبذولة فيها كبيرة وحرص جلالته على وصول مضامينها في الباب إلى كل رعاياه، يدعو إلى التعميم وعدم الاقتصار على فئة المستفيدين المباشرين.
وألحقت هذه القاعدة بأخرى دستورية لم أقف على من ذكرها أو نوه بها غير ما تعلق بتأويلها وهي قوله تعالى: ﴿واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾[4].
وأرى- والله أعلم- أن مجمل دساتير العالم تستوحي من هذه القاعدة القرآنية وتستنبط منها القاعدة الدستورية: تمتع ولي الأمر بخاصية الترجيح للكفة عند اعتدال الأصوات مثلا أو امتلاك القرار الأخير بعد إدلاء كل الهيئات التي تعمل تحت إمرته بالنظر والرأي، فهي مؤسسات استشارية في الحقيقة وآراؤها لا ينبغي أن تلزم ولي الأمر بشيء يرى مصلحة الأمة في غيره؛ والأمر منطقي ومسلم فإن من تنتهي إليه كل الخيوط، وتجتمع عنده كل الآراء، وتوضع أمامه كل المعطيات السياسية والاقتصادية وما سواهما جدير بامتلاك أوجه نظر وأسد قرار .
والآية توجه إلى هذه الحقيقة بشكل لافت للانتباه: ” لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم”، إلا أنه من المهم لفت الأنظار هنا إلى حقيقة وهي أن ولي الأمر المسلم تحكمه أنوار التنزيل وحب الإيمان وكراهية الكفر وعصيان الشرع. وعرجت السورة بعد ذلك على علاقة المسلم بأخيه وأمانته في حل النزاعات والخصومات، سواء بين الأفراد أو الجماعات، فقال سبحانه: ” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما”، ورسمت دستور حل الخلاف بالبداءة بالصلح وتقريب وجهات النظر والكلمة الطيبة تدرجا إلى الحيلولة بين المتقاتلين بأساليب الفصل والأرض الخالية من السلاح وانتهاء بحرب الباغي الظالم.
تفعيل المغرب عبر تاريخه لمقاصد الآية
تذكر الأمة المغربية بفخر واعتزاز إقدام المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله وطيب ثراه على كلمة إصلاح بين دولتين شقيقتين تقعان على نفس المسافة من قلبه الشريف؛ فكان لتلك الكلمة المؤثرة المذكرة بالله وبحرمة الشهر الفضيل وبالأخوة والجوار أكبر تأثير على الأحداث أدى إلى حل النزاع قبل وصول وسطاء الخير أو السوء.
كما أنه- رحمه الله- فعل مدلول الآية بالحضور الفعلي للقوات المسلحة المغربية، التي شهد لها العالم كله في مواطن النزاع بأفريقيا وغيرها بالفعالية والدور البارز سواء في الإغاثة أو الدعم أو الفصل بين المتنازعين أو الحيادية، ولم يسجل بصددها والحمد لله أي خروج عن هذه القاعدة الذهبية.
وأرشدت الآية الموالية لها إلى ما يستبعد الشنار والقطيعة بين جماعات المسلمين وفرقائهم من الهمز واللمز والتنابز بالألقاب والتجسس والغيبة بمعناها الواسع هنا، وهو الاستماع إلى وساوس المبطلين بتسويد صورة الجار فردا أو دولة، ونقل الأخبار الكاذبة إلى جاره بقصد بث الرعب في قلبه وتخويفه من أخيه بنية التسلح ضده أو توجيه إدراكه إلى رعب مفتعل من الأطماع والسياسات المناوئة.
فالسورة مرتبطة آياتها وفقراتها بشكل عجيب وتسلسل رباني بديع لتصل تلك التعاليم إلى آية انطلاقنا من قوله تعالى: ﴿يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾[5]؛
لقد كانت قيم هذه السورة وآية الانطلاق بصفة خاصة وراء كل الأحداث والفتوح ونشر الإسلام والعقيدة الصحيحة في ربوع الأرض ومشارقها ومغاربها.
ذلك أن التنصيص على أصل الخليقة الواحد “خلقناكم من ذكر وأنثى” ولّد التشبع بالأخوة الإنسانية الداعية إلى تعدية مشاعر التراحم إلى من سوى العرب المسلمين من الأعراق والجنسيات لينعموا بما نعم به المسلمون من نعمة توحيد الله عز وجل وتخليصهم من عبودية من سواه، ولا حصر لهذا السوى ولا نهاية.
كما دعتهم هذه الأخوة إلى عدم احتكار العلم وقرصنة المعلومات أو تصفية أصحابها في أفق استخدامها لاستعباد الشعوب ونهب ثرواتها. فقد كان دأب جيوش الفتح وقادة الجند، إقامة مدارس العلم وزواياه إلى جنب مساجد العبادة ومقرات الخطط الشرعية، ولا أدل على هذا أن كثيرا ممن نبغوا في علوم الإسلام كانوا من غير العرب الفاتحين، والظن راجح أنه لو لم تسد هذه الروح التي عممتها الآية وسهر على تطبيقها ولاة أمر المسلمين ومن يفهم من العلماء لما كان لهؤلاء الفحول في مجالات العلم والمعرفة أن يغادروا شرنقة بيئتهم وجهتهم ولغتهم، ولما أبدعوا بلغة القرآن في آسيا وفي إفريقيا التي تطالعنا بأسماء أعلامها وفقهائها من أمثال أحمد بابا التمبكتي والايسكي والمختار الكنتي وسواهم كثير.
وقد دعتهم روح الآية إلى توسيع دائرة الحريات في الاتباع والانقياد للدين الجديد، لتكون القناعات وراء الاختيار وليس الإرغام والقسر والبطش.
وأن أبطالها من يحمل رايته إلى بقية البلاد، فهذه جيوش الفتح الإسلامي إلى الأندلس يقودها طارق بن زياد بطل مغربي من السكان الأصليين وقواته ونخبتها وبجدتها منهم.
وهذا إبراهيم بن يحيى الكدالي يسعى في رجوعه من رحلة الحج لإعادة الروح الدينية والاستقامة إلى ربوع السوس الأقصى، فلا يجد إلا مغاربة أصليين: وجاج بن زلو وعبد الله بن ياسين بإشارة من أبي عمران الفاضي نزيل القيروان ودفینها رحمهم الله أجمعين.
ثم يستنجد مسلمو الصحراء والبلدان الواقعة جنوبها بأمير المرابطين أبي بكر بن عمر رحمه الله، فيدعوه الواجب الديني إلى التخلي عن عرشه وزوجه زينب النفزاوية. ولم تكن الجيوش وحدها وفود الشمال الإفريقي إلى ما وراء صحرائه وإنما كانت هذه الجيوش حماية لكلمة الله وضمانا لحرية الإرادة والمعتقد.
لقد تمثلت قيادات هذه الأمة معنى كلمة “لتعارفوا” في الآية الكريمة، فلا يقف المعنى عند الحدود التي رسمها بعض المفسرين وهي لا تتجاوز التعارف البسيط المبين للأنساب والأعراف؛ وهو وإن كان معنى مرادا في الآية إلا أننا نرى أن السياق يقتضي أكثر من ذلك.
ف “لتعارفوا” فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد اللام وقد حذفت إحدى تاءيه تخفيفا كقول ابن مالك:
وما بتاءين ابتدي قد يقتصر ** فيه على تا كتبين العبر
ولعل التخفيف فيه مطلوب مقصود، مناسب تماما لما نراه بالكلمة من دلالات مدارها على التخفيف على الناس ببذل المعروف أو تبادل المعروف معهم؛ إذ الفعل هنا من أفعال المشاركة الناطقة بالحاجة إلى جهد وتعاون الجميع. وهكذا شاركت الشعوب والدول الإسلامية ومنها هذا البلد الغالي، استغلال الثروات وتنمية البلاد المفتوحة وإدارة الأموال المكتسبة بين أيدي أهاليها وإعانتهم على حسن استثمار ما تنعم به من خيرات.
والتاريخ يذكر أن بلاد الغرب الإفريقي وجنوب الصحراء عرفت رخاء لم يسبق له مثال ممثلا في تسيير قوافل تجار هذه البلاد بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، فطريق الملح والأثواب ماثل حتى الآن ولا تزال بأطراف بلادنا السعيدة آثار مصانع صهر الذهب الإفريقي الذي أثرى بلادا منتجة كمالي وحولها إلى مقصد عالمي للعلم بما اجتمع فيها من خزائن المخطوطات والجامعات، والمال بما عرفته من رواج تجاري منقطع النظير، مداره الذهب المستخرج بأيدي إفريقية والمسبوك بخبرات مغربية، وعمران بما عرفته تلك المناطق من قصور وقلاع ومخازن غلال لها أنظمتها الدقيقة المستمدة من الدين والأعراف وقوانين ما عرف بالألواح كألواح جزولة على سبيل المثال.
إن التماهي هو طابع العلاقة بين المغرب الأقصى على الخصوص وبين بلدان إفريقيا التي يطلق عليها في أدبيات ومصنفات علمائنا ببلاد السودان، منوهين على دخول دولة السودان الحالية ضمن هذه المجموعة التي تزيد على 15 بلدا إفريقيا؛ بدليل زاوية أحفاد الإمام زروق الفاضي بأم درمان، وكون أول رئيس سوداني من أصول مغربية على حد علمنا، وكون مقارئ دارفور محضن قراء السودان يغلب على حفاظها منهج المغاربة في الإقراء، ناهيكم عن القراءة بورش أولا ثم قالون فالدوري. هذا التماهي حير أذهان المهتمين ليجدوا فاصلا ما بين الثقافتين فلا يجدون إلا الاتحاد ولولا حفظ الأنساب لما تميزت كتابات هؤلاء الأعلام الأفارقة عن كتابات نظرائهم المغاربة.
ففي مجال المذهب تنتهج هذه الربوع كلها مذهب الإمام مالك، بل إن إسهام أحمد بابا التمبكتي في حفظ تراجم أعلام المذهب من الأفارقة وعلماء التكرور يعد واحدا من المصنفات التي يكتمل بها فقه الفقيه لما احتواه “نیل الابتهاج بتطريز الديباج” واختصاره “كفاية المحتاج”، مضافة إلى العشرات من مصنفاته من فتاوى ومواقف وآراء وإشارات تاريخية لطيفة للباحث في علاقات الأمة الإفريقية الواحدة، وكذلك الأمر يقال في “فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور” للطالب محمد الولاتي، و”الوسيط في علماء شنقيط”، الذي يضم طرائف منها على سبيل المثال المساجلات العلمية بين علماء شنقيط وآخرين من مجلس سيدي محمد العالم بن السلطان مولاي إسماعيل بتارودانت طيب الله ثرى أسلاف مولانا أمير المؤمنين جميعا.
ومن تلك المساجلات الطريفة، سؤال ابن رازكة عن سر تکرار قول الله تعالى في سورة يوسف وعاء أخيه، ومطلع السؤال كما في الوسيط:
شيوخ البيان الذائقين حلاوة ** من العلم لم تدرك لغير ذويه
ويدين جموع هذه المناطق بعقيدة أهل السنة على ما عليه الأشاعرة حاملو لواء السنة، معتمدين على مصنفات مغربية في مقدمتها: السنوسيات كلها وجوهرة اللقاني بعد عقائد الرسالة وابن عاشر، ويقرأ الجميع كتاب الله بقراءة الإمام نافع بطرقها المختلفة ورواياتها جاعلين القراءة الرسمية على رواية ورش، – بل إن أسانيد هذه الجهات تشتبك وتمر كلها على أعلام المدارس المغربية في الإقراء، مثل: الحبيب اللمطي، ومحمد بن عبد السلام الفاضي، وعبد الرحمان القاضي، والمنجرة وأبيه، وابن غازي واللائحة تطول.
ويشهد صاحب صبح الأعشى – القلقشندي – أن أهالي هذه المنطقة إنما يكتبون بكتابة المغاربة وعلى طريقتهم في رسم وضبط المصاحف كما أن قراءاتهم وعلومهم توثق بإجازاتهم المتبادلة بينهم وبين علماء المغرب، ومن ذلك ما قرأناه في الفوائد الجمة لعبد الرحمان التمنارتي من إجازة أحمد بابا له ولغيره من الشيوخ، وإجازته لابن القاضي صاحب “درة الحجال” الذي تبادل معه المشيخة والإجازة، وابن القاضي هذا هو المؤرخ وابن عم ابن القاضي المذكور في الفقرة السابقة، الذي هو من أعلام مدرسة الإقراء بالمغرب والغرب الإسلامي عامة.
كما نجد في أدب الرحلات -ومعظمها لا يزال مخطوطا- سجلا ضخما لتنقلات العلماء من وإلى بلاد المغرب، واستقرار بعض العلماء في إفريقيا للعطاء العلمي والقضاء والفتوى، أو التجارة والعمران حتى صدق قول السعدي في “تاريخ السودان”: “ولم تأته العمارة إلا من المغرب، لا في الديانات ولا في المعاملات”[6] ؛وهذه شهادة على أن ما يحمله المغاربة إلى هذه الربوع هو البناء والحضارة، ومن تلك الرحلات رحلة إبراهيم بن عبد الجبار الودغيري الفجيجي، ورحلة الشيخ القصري الفاضي، ورحلة المشترائي.
كما أن من صور التماهي وحدة الأمهات المعتمدة في التعليم من هذه الأقطار، وانتشار طرق التصوف السنية التي يعتز المغرب بصدور أقطابها أو مرقدهم على ثراه الطيب؛ ثرى الصالحين ورجال الله مما يكسب هذه البلاد قداسة خاصة ويجعلها محجا سنويا لمريدي هذه المناهج الربانية في السلوك.
جهود أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله في القارة الإفريقية
إن الجهود التي يبذلها مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله، والطاقات الكبيرة التي يستثمرها في إفريقيا لهي نتيجة وعي ديني تشبع به کما تشبع به سلفه تجاه قارة هي امتداد تاريخي وسياسي وثقافي للمملكة المغربية، لا يسع غير التناغم مع مقتضياته، خاصة وأن الدول اليوم لم تعد قابلة للعيش ضمن حدود مغلقة، بل لم تعد للدولة العصرية حدود إذا لم تؤمن مصالحها المتشعبة بعرى التعاون والتكامل مع دول أخرى، تشاركها القناعات فالمصالح فالاستمرار في الوجود.
وقد أدرك جلالة الملك محمد الخامس تغمده الله بواسع رحمته هذه الحقيقة فكان رحمه الله من زعماء تحرير القارة الإفريقية وقادتها إلى الاستقلال. كما كان لوريث سره المنعم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه الدور نفسه في إكمال مسيرة استقلالها وإنشاء منظماتها القارية والإقليمية وبناء صرح الاستقلال بالعمارة والمؤسسات والمنشآت.
وكم نشعر بسعادة غامرة ونحن نجد ذلك الولاء الدائم لشخص جد ووالد أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، کما نجده لشخصه الكريم؛ لا أقول عند الزعامات الدينية والثقافية التي نجتمع بها، بل عند بسطاء الشعب وعامته؛ إذ يعبرون بقولهم ملكنا محمد الخامس أو الحسن الثاني أو ملكنا محمد السادس، وهي مشاعر ولّدها ذلك التماهي الذي تحدثنا عنه رغم محاولات البعض محو تلك الصورة الجميلة من الأذهان وأنى لهم ذلك.
ومما يبشر بنجاح مساعي مولانا أمير المؤمنين محمد السادس أيده الله بعد توكله على الله، أنها تضع اليد على مكامن الخلل في القارة فيرأب صدعه ويصف الدواء للأدواء التي تعصف بالقارة كالأمراض المزمنة والمخدرات والفقر والهشاشة، مضافة إلى دواعي الهجرة والإرهاب. فتعاطي جلالته مع هذه المشاكل يتجاوز المقاربات الأمنية قصيرة الأمد، إلى المقاربات الجذرية المتمثلة في اقتلاع جذور المشاكل لا معالجة أعراضها.
ففي المجال الديني تأسى مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس بسلف الأمة الصالح؛ حيث جعل المساجد وعمارتها أولى خطوات التقارب لما تختص به دور العبادة في شعوب إفريقيا من تأثير بالغ، لاسيما زوايا التصوف السني المحرك الحقيقي والفعال لا للمشاعر فقط، بل لاتخاذ المواقف ضد الأخطار والانحرافات.
ومما يجدر التنويه به في هذا الصدد ملء الفراغ في مساجد دول جنوب صحرائنا من المصاحف بإمدادها بملايين النسخ من المصحف المحمدي المبارك. وغير خاف على الجميع ما لهذه الخطوة من أهمية، ذلك أن المصحف المغربي الذي افتقدته القارة لعقود، عنوان وحدة شاملة في المقرأ والمنهج، واختيار مذهب أهل المدينة الذي احتضنته الأندلس ونقله الإمام الداني يدعم وحدة المذهب الفقهي والعقدي والسلوكي. ويترسخ في تربية الناشئة وشخصياتهم بما يمتاز به المصحف المغربي من أنظمة وأصول مؤثرة وإن كان لا يدركها إلا جهابذة المتخصصين.
وقد تنافست الدول في هذا على ما يبدو للناظر البسيط من عدم خطورة
الموضوع، فلقد لاحظنا أنه في العقود التي تخلفت أو تراجعت فيها المدرسة المغربية في الإقراء وافتُقِدت فيها مصاحف المغرب، شغل الفراغ بتوجيه آخر، وإن كنا لانفتاحنا عبر القرون لا نعارضه، إلا أن مقتضيات الوحدة والاستمرار تدعو إلى التمسك بالموروث وحماية مناطق الإشعاع والنفوذ، وقد انعكس ذلك الفراغ على أداء شباب هذه المناطق وحفاظها سواء في الطبوع التي غابت عنها الأصول، أو الكتابة التي كانت عبر القرون -کما شهد بذلك المؤرخون- على الطريقة المغربية التي يرسخها المصحف الشريف إلى طبوع أو تقلید طبوع، أو خطوط هي أبعد ما تكون عن ضوابط المغاربة المنسجمة مع بقية العلوم والأصول. أما مع إعادة نشر المصحف المحمدي الشريف فإن الأمور بدأت في العودة إلى المعين.
فعلى صعيد طبوع أداء القرآن التي كانت تحت مقام أعلى واحد من بلاد السودان الحالية إلى المحيط الأطلسي؛ وهو مقام الحنين وشوق الصوفيين، إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ممثلا في الخليفية السودانية أو العاصمية في ليبيا وتونس والجزائر، أو الحسانية في صحرائنا الغالية، أو الطبوع الأخرى في المغرب كالفيلالية والجبلية والحوزية والسوسية.
ولم تقف هذه الجهود المباركة عند هذا الحد، بل تطلع شباب هذه الدول ومسؤولوها إلى الاستفادة من تجربة البلاد في تدبير الشأن الديني، بتطوير مفهوم العاملين فيه وتحصينهم ضد ما يهدم تشبثهم بقيمه واعتداله وسماحته؛ فأذن مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس – حفظه الله – لهم بالالتحاق بالمؤسسات الناجمة عندنا من تعليم عتيق ومعهد تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، الذي أصبح بفضل جهود عشر سنوات من عطاء إداراته المتعاقبة وأساتذته السابقين والحاليين متنورين بتوجيهاته السديدة منارة مرموقة وقبلة مقصودة. وقد دعم جلالته مؤسسات أخرى أقامها والده المنعم بأخرى ترعى توجهه وتترجمه إلى حركية وعطاء ممثلة في مؤسسة علماء المغرب وأفريقيا.
أما في الجانب الاقتصادي، الذي هو ضمان تواصل عطاءات الفكر والثقافة وربط الشعوب بمصالح سريعة ملموسة؛ فقد انبنى في سياسة مولانا أمير المؤمنين على منقبة عظيمة وهي الانتفاع المشترك بين المغرب وهذه البلاد بخيرات الطرفين انتفاعا يقضي على الفقر والانضواء تحت ألوية الجماعات المصنوعة، وذلك لعمري الدواء الناجع للأدواء والحل الأمثل للمشاكل، والترقب المتفائل للمستقبل الذي نسأل الله أن لا يخيب ظن جلالته فيه وأن يكتب أجره وثوابه في صحيفته وأن يبقيه ذكرا حسنا في الصالحين، كما نسأله سبحانه أن يقر عينه بولي عهده وأن يشد أزره بشقيقه وأن يحقق له ما يتمنى لشعبه الأبي المتعلق بالعرش العلوي المجيد ولشعوب القارة الإفريقية بمستقبل أفضل إنه سميع مجيب.
الهوامش
[1] -سورة الحجرات، الآية:13.
[2] -سورة الحجرات، الآية:4.
[3] -سورة الحجرات، الآية:6.
[4] -سورة الحجرات، الآية:7.
[5] -سورة الحجرات، الآية:13.
[6] -تاريخ السودان، عبد الرحمن السعدي (تـ 1066هـ/1656م)، تحرير وتعليق وتقديم: حماه الله ولد السالم، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط:1، 2012م، ص:129.