مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

مقتطف من الدرس الحسني الذي ألقاه معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق بين يدي أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في موضوع: “ثمرات الإيمان في حياة الإنسان”.

الأستاذ أحمد التوفيق
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه الأكرمين

مولاي أمير المؤمنين

إن وجاهة طرح موضوع “الحياة الطيبة” بمفهوم القرآن الكريم، ترتبط بمقام جنابِكم الشريف في الجمع بين رعاية شئون الدين من منطلق الكلية الشرعية الأولى، وهي التزامُكم بحفظ الدين بمعناه الخاص المتمثلِ في العبادات والأحكام والتبليغ، وبين مسئوليتكم في حفظ الدينِ بمعناه العام المتمثلِ في الكلياتِ الشرعية الأربع الأخرى، وهي الأمن والنظام العام، والاقتصاد، وكرامة الناس.

مولاي أمير المؤمنين

منذ القرون الغابرة والإنسان يتمنى ويسعى إلى أن يكون بأحسن حال في الحياة، سَمَّى تلك الحالَ المرجوةَ بأسماء منها “السعادة”، وهي حال يتحدث عنها الفلاسفةُ ويتخيلها الشعراءُ، ويَعد بها السياسيون، أما الحالُ الأسمى التي وعد الله تعالى بها في القرآن الكريم فسماها “حياة طيبة”، ووضع شرطين للتحقق بها هما الإيمانُ والعمل الصالح، وهو وعد مستفادٌ من الآية السابعة والتسعين من سورة النحل، وهي قوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون[النحل 97].

وسنقتصر في هذا الدرس، يا مولاي، على ذكر الشرطِ الأول وهو الإيمان وأثرُه في إثمار هذه الحياة الطيبة، لأنه ركنُها الأول الذي إذا وقع به الإقرارُ والتحقق سهل على الإنسان إتيانُ كلِّ أنواع الشرط الثاني وهو العمل الصالح.

ويتوقف بسط الحديث في الموضوع على إلقاء ثلاثةِ أسئلة يكون الجواب عنها بمثابة محاور هذا الدرس.

  • السؤال الأول: هل سبق للمسلمين أن نَعِموا بنمط الحياة الطيبة المذكورة في القرآن الكريم، وما مضمونُها وما الذي أهلهم لها؟؛
  • السؤال الثاني: ما موقع المسلمين اليوم من هذا النمط القرآني النبوي وقد غدوا طرفا من نمط العيش الكاسح في العالم؟؛
  • السؤال الثالث: ما هي إمكانات التأهيل لهذه الحياة في سياقات وقتنا الحاضر، ومن هم الفاعلون المنتظرة أدوارهم في هذا التأهيل؟.

هل سبق للمسلمين أن نَعِموا بنمط الحياة الطيبة المذكورة في القرآن الكريم، وما مضمونُها وما الذي أهلهم لها؟

يقتضي الجواب عن سؤال البداية الوقوفَ عند شرح الآية مرجعِ الدرس، فقد تناولها المفسرون، فقال الطبري: “الحياة الطيبة السعادة، وأولى الأقوال بالصواب فيها أنها حياة القناعة. وقال الثعالبي: “هي حلاوة الطاعة”، وقال البغوي: “هي الرزق الحلال”، وقال الدمشقي: “الحياة الطيبة تجمع وجوه الراحة من أي جهة كانت”، وقال ابن عاشور: “هذا وعد يتساوى فيه الذكور والنساء، وهو وعد بخيرات الدنيا وأعظمها الرضا بما قُسم لهم وحسن أملهم بالعافية وعزةُ الإسلام في نفوسهم”.

يتبين من تفسير الآية أن التوجه الغالب هو اعتبار الجانب النفسي رئيسا في نوعية الشعور والتلقي، وهي الحال التي يترجمها الشكر كما ورد في القرآن الكريم.

والذي هو محقق أن الله تعالى لم يخلق الحياة عبثا، بل خلقها جميلة وجعل فيها الإنسان وكرمَّه وجعله فيها خليفة، وبعث في الناس أنبياءه، ولكنه سبحانه حذر الإنسان من إغراء هذه الحياة الدنيا ومن إيثارها على الحياة الأخرى.

وحيث إن إغراء الدنيا قوي على الإنسان، وهو على هو ما عليه من الضعف، فقد ورد في القرآن ما يحذر منها، لا ذمًّا لها، ولكن شفقة على الإنسان مما هو ميَّال إليه من قلة الاعتدال.

وأصول الإيمان في القرآن والسنة هي: الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وفيها اجتهادات بين الفرق الكلامية، فالأشعرية يرون أن الإيمان التصديق بالله قولا، وتأتي الأعمال لتكميله. بينما ترى فرق أخرى أن الإيمان هو العمل.

على أنه لا خلاف في أن الإيمان إنما يكتسب قيمته الحقيقية في إطار الحرية بمقتضى قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[الكهف 29]، والمذاهب متفقة على أن الإيمان يضمن النجاة.

وثمرة الإيمان: التوحيد، وهو إفراد الله بالعبودية استجابة لقوله تعالى: (قل هو الله أحد[الإخلاص 1]، أي إثبات الوحدانية لله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله. وقد حرص الصوفية على أن يسموا أنفسهم أهل التوحيد الخاص وهو التوحيد الذي لا يقف عند القول، بل يكون به الاتصاف والتحلي مؤيدا ببرهان العمل، ولابن خلدون كلام واضح في هذا المقام حيث يقول:

“إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي، فإن ذلك من حديث النفس، وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس… والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف، وشرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها، ويقول بذلك ويعترف به، وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرَّ عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة والعطف والحنو والصدقة، فهذا إنما حصل له العلم من رحمة اليتيم ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف” انتهى كلام ابن خلدون.

إن ما يهمنا في هذا الدرس هو أن نستشرف كيف بدأ أمر الحياة الطيبة في الإسلام.

بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بقوله: “يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”. ثم نزل الوحي مبينا مهمات الرسول بقوله تعالى:(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[الجمعة 2].

وهكذا فمهمات الرسول الأربع هي:

  • أولا: تبليغ البيان الذي وردت به الآيات؛
  • ثانيا: تغيير حال المستجيبين بداية بتربية روحية سماها القرآن “التزكية”؛
  • ثالثا: تعليم المستجيبين ما في الكتاب من الأحكام والأوامر والنواهي؛
  • رابعا: تعليمهم الحكمة، وهي ما في الكتاب من الأخلاق العملية والمدارك الروحانية.

يذهب معظم المفسرين إلى أن “التزكية” تعني التطهير من الشرك، بحيث لا يشرك المؤمن بربه أحدا في العبادة، ويفهم من معظم المفسرين أن الأمر يتعلق بنبذ عبادة الأصنام التي كانت في محيط الكعبة بمكة قبل تحطيمها عند الفتح.

إن هذا التفسير الحرفي الضيق قد حرم طائفة كبيرة من الأمة من توجيه قرآني وصنيع نبوي هو من أنفس التوجيهات التربوية في الإسلام ألا وهو الحرص، كما ينبغي، على اتقاء الصنم الذي يحمله كل إنسان في جنبه، يوشك أن يدين له بأنواع العبادة والاتباع، ألا وهو صنم النفس، هذه الطاقة التي إذا هي لم تُربَّ على الخير غَذَّت الهوى والشح والطغيان.

فالتزكية في اللغة العربية هي التنمية، وبالتزكية كما أثمرتها التربية الروحية النبوية أمكن للمؤمنين أن يخرجوا من الجاهلية بأحوالهم الباطنية وأن يكتسبوا القوة الروحية التي يعبر عنها مفهوم الوازع، وهو الطاقة المحركة التي تردع النفس عن الشر، وتدفعها إلى الخير، وتؤهل الإنسان إلى مقام الحكمة، فمفهوم النفس هو مفهوم محوري في الهداية القرآنية، فقد ذكر القرآن النفس في أحوالها الثلاث، الأمارة بالسوء واللوامة والمطمئنة، وقد فصل في أحوالها بعض العلماء الصلحاء فأفردوا لها كتبا في الرقائق والورع مثل كتاب أدب النفس للحكيم الترمذي، وقد ركزت هذه الكتب على أن ثمرة التزكية هي المحبة، محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين، إذ أن تعليم الكتاب ليس للعلم وحسب، بل القصد منه العمل، وقد تنبه العلماء إلى مركزية اقتران العلم بالعمل فألفوا كتبا في اقتضاء العلم العمل. ولكي نفهم في عصرنا جوهر هذا الموضوع نستحضر المصطلح الشائع في حياتنا وهو مصطلح “الأنانية”، إن التحلي بالتزكية على أساس التوحيد يعمل في المؤمن تغييرا داخليا تتبدل به طبيعته إلى طبيعة خيرة، يغادر فيها الأنانية إلى الغيرية، فالتزكية تربية تحرر من الأنانية، علما بأن الحياة الطيبة تتوقف على هذا التحرر، وتتميز الحياة الطيبة بأنها جماعية بقدر ما هي فردية.

يرى العارفون أن هذا التغيير الجذري في الصحابة هو أعظم معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبسببه رماه الكفار من قومه بأنه ساحر حيث لم يعرفوا أثر المحبة ولم يملكوا سوى أن يفسروا التغيير في النفوس على أساس ما كان لهم من الاعتقاد في فعل السحر وأهله. يبين لنا القرآن الكريم هذا الموضوع بتحذير الذين يتبعون الهوى بقوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه[الجاثية 22]. كما يوضح القرآن الكريم للمؤمن التمرين الذي ينبغي اتباعه للتحقق والتحلي بالتزكية حيث يتعلق الأمر بالاقتناع من أجل التخلي عن كل أنواع البخل والشح حتى يتم الإقبال لوجه الله على أنواع الإنفاق على كل من يستحقه، فالإنفاق هو برهان الإيمان الذي تتحقق به الحياة الطيبة. وقد وصف القرآن بوصف الطيب حاجات العيش ومنها القول والكلمة والتحية، والبلاد والمساكن، والرزق والكسب والطعام، والذرية والأزواج، وقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا[المؤمنون 51] وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لِله إن كنتم إياه تعبدون[البقرة 171]. والقرآن الكريم لم يستعمل كلمة “النجاح” الرائجة عند الكلام عن جودة الحياة في عصرنا هذا، وإنما استعمل مقابله مصطلحا أشمل منه هو مصطلح ” الفلاح”. ولكي نتقدم في توضيح ما نحن بصدده نتوقف عند شرح قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون[الحشر 9].

وحاصل قول المفسرين فيه أن البخل هو ألا تعطي ما عندك، والشح: البخل بالفضل من المال (والفضل عند الحكماء ما زاد عن الحاجة)،  ويرى بعض الحكماء أن الشح في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق، وأنه هوى النفس الذي قد يدفع إلى سفك الدماء وارتكاب المحارز.

قال الرازي: نزلت هذه الآية بسبب إيثار المهاجرين، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثار.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا”.

على أساس هذا الإقرار بالإيمان وعلى أساس التوجيه النبوي الذي أُعطي لمضمونه من خلال التزكية تتحدد ما يمكن أن نسميها سمات “الإنسان المسلم” المتأهل للحياة الطيبة على أساس ثمرات الإيمان، والتي يمكن استقراؤها كالآتي:

  • الالتزام بعبادة الله في وحدانيته، التزاما يعطي لحياة المؤمن معناها؛
  • تحقيق الحرية إزاء الأغيار البشرية والمادية؛
  • اكتساب المناعة ضد البخل والشح؛
  • اكتساب قوة باطنية تجعل المؤمن يحاسب نفسه على الدوام؛
  • اكتساب اليقين بأن لا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى؛
  • اكتساب طبيعة الحذر من أي نوع من أنواع الفساد؛
  • الالتزام بتوقير كل المخلوقات الحية والجامدة باعتبارها مخلوقة لله تعالى.

إن هذه التربية النبوية التي عنصرها التزكية، قد أثمرت نخبة ما تزال مرجع المسلمين في الحياة وهم الصحابة، ومن الوقائع الإنسانية الكبرى البارزة في تاريخ هذه النخبة مواساة الأنصار المهاجرين بأموالهم، ونصرة الفريقين النبي في دعوته بالأنفس والأموال والشعور بحلاوة الاتباع. والحرص على الأخذ بالعدل؛ وبهذه الصفات كانوا مثالا في الزهد وفي إكرام الفقراء والتحلي بأخلاق الحلم والحياء والتواضع والجود والصبر والشكر والذكر والورع والتوكل والرضا والتقوى والوقار.

تحميل المقال بصيغة PDF