الأشعرية في موريتانيا – الشيخ محمد اليدالي نموذجا
جامعة شنقيط العصرية
الأشعرية في موريتانيا – الشيخ محمد اليدالي نموذجا
تمهيد: دخول الأشعرية إلى الغرب الإسلامي
قد يستغرب المرء هذا الانتشار المكثف للعقيدة الأشعرية في بلاد شنقيط وما جاورها من بلاد السودان. ولا غرابة في ذلك، فالدولة المركزية الأولى في هذه البلاد –وهي دولة المرابطين- تأسست على يد تلامذة أبي عمران الفاسي الأشعري (تـ 430هـ) الذي أخذ الأشعرية عن القابسي، من أمثال وجاج بن زلو اللمطي وعنه عبد الله بن ياسين. وكان من فقهاء هذه الدولة الإمام أبو بكر المرادي الحضرمي (تـ 489هـ)، الذي ولد بالقيروان وارتحل إلى الأندلس، ثم انتقل بعد ذلك إلى أغمات حيث أُلحِقَ بحاشية أمير المرابطين أبي بكر بن عمر اللمتوني التي كانت تضم فقهاء وعلماء، «وكان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى»، وله مؤلف مطبوع، يعتبر أول مؤلف كامل عن العقيدة الأشعرية ألف في عهد الأمير المرابطي أبي بكر بن عمر اللمتوني (تـ 480هـ)، ومن شأن هذا المؤلف أن يفتح أمام المختصين بابا واسعا لمراجعة الكثير من الأحكام والمواقف في خصوص تاريخ دخول المذهب الأشعري إلى المغرب، وتتبع مسار تطوره، وعن سلفية المرابطين التي يدافع عنها بعض من الباحثين . «وبالنظر إلى التطور الذي عرفه المذهب الأشعري مضمونا ومنهجا يتبدى أن (عقيدة المرادي) توافق كثيرا المعطيات المتوفرة عن طبيعة القضايا وطريقة الاستدلال ومنهج البحث في الفكر الأشعري خلال النصف الثاني من القرن الرابع والنصف الأول من الخامس في الغرب الإسلامي وفي إفريقية والأندلس»، وهذه هي الفترة التي ساد فيها منهج الجويني في المشرق والمغرب[1].
ومن شعره قصيدة أفتى بها ابن صمادح الأندلسي فيالخلاف في كلام الباري تعالىهل هو حالّ في الأصوات والحروف أم لا؟
لـ در در سخافة *** شنعاء جاء بها وليد
كـفر تكاد لها الجبا *** لـ على ثقالتها تميد
ماهذه البدع التي *** جاءت تعج بها الوفود
أكلام ربك أحرف *** منطوقة حمر وسود
أو رنة أو نغمة *** في السر أو صوت مديد
إن كان هذا قولكم *** والحرف تحويه الحدود
فاعبد ثلاثة أحرف *** من قبله ألف مزيد
واسجد له فإذا انتفت *** بطل التعبد والسجود
وكان المرادي شيخا لأبي الحجاج يوسف بن موسى الملقب بالضرير (تـ 520هـ)، «وكان هذا الأخير من المشتغلين بعلم الكلام على مذهب الأشعرية ونظَّارِ أهل السنة ،تتلمذ على أبي بكر المرادي الحضرمي، وكان مختصا به». يقول عنه القاضي عياض تلميذه: «قرأت عليه أرجوزته الصغرى التي ألف في الاعتقادات، وحدثني بالكبرى، وبكتاب التجريد لأبي بكر المرادي، وأجازني في أرجوزته الكبرى، وجميع تواليفه ،ورواياته، منها تآليف الفقيه أبي بكر المرادي، شيخه، وعنه كان أكثر أخذه». وقد خلَف الضريرُ أبا بكر المرادي في علوم الاعتقادات بعد وفاته، وله منظومة بعنوان «التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد»، «وهذه مختصرة من كتاب الإرشاد لأبي المعالي (الجويني)»، وهو دليل قاطع على أن منهج الضرير هو منهج «كتاب الإرشاد» للجويني.
فإذا كان الإمام الحضرمي أول من أدخل المذهب الأشعري إلى المغرب الأقصى ،فهل يمكن أن لا يترك أثرا من عقيدته في سكان الصحراء من المرابطين؟ وإذا كان أبو عمران الفاضي المعلم الأول في أصول الدين بالمغرب عموما، فهل يجوز أن لا يؤثر في حركة المرابطين والتي كان شيخ شيخ ملهمها الأول؟ وهل كان ابن ياسين يختلففي عقيدته عن شيخه وجاج بن زلو اللمطي وعن شيخ شيخه أبي عمران الفاسي؟ أسئلة طرحها أستاذنا الدكتور محمد المختار بن اباه بحق.
وأجاب أستاذنا الدكتور محمد المختار بن اباه عن هذه الاستشكالات بقوله: «ولعل موت الكثير من علماء حركة المرابطين في المعارك الطاحنة، والهجرة إلى الشمال مع يوسف بن تاشفين، وإهمال المؤرخين للشطر الجنوبي من حركة المرابطين بعد عودة أبي بكر بن عمر إلى الصحراء، من العوامل الفعالة التي لم تترك للمرابطين في المنطقة تركة علمية مؤثرة في القرون التالية لحركتهم. لذلك تعذر الربط بين العلم والعلماء في عهد المرابطين، والعلم والعلماء في بداية الحركة العلمية النشطة التي بدأت في بلاد التكرور عموما وفي شنقيط خصوصا منذ القرن التاسع الهجري»[2].
أما عن دخول الأشعرية إلى الغرب الإسلامي عموما فهناك خلاف بين الباحثين حول من كان أول من أدخل الأشعرية إلى الغرب الإسلامي، إلا أنهم مع ذلك يكادون يجمعون على أن هذا الدخول كان في ق .4هـ ويبرز في هذا الصدد اسم علم من أعلام تونس هو إبراهيم بن عبد الله الزيدي أو الزيري الشهير بالقلانسي (تـ 359هـ)، إلا أن تقدير دوره في نقل الأشعرية من المشرق ونشرها في الغرب الإسلامي يلفه الغموض لنقص الوثائق والنصوص التاريخية في هذا المجال، كل ما نستطيع تأكيده أنه كان على صلة بالفكر الأشعري، كما يبرز ضمن أسماء أخرى دراس بن إسماعيل أبو ميمونة الفاسي (تـ 357هـ) الذي رحل إلى المشرق واحتك بأشاعرته وألف رسالة في الدفاع عنهم[3].
والمؤكد عند معظم الباحثين أن الأشعرية دخلت إلى الغرب الإسلامي في أواخر ق .4هـ على يد أبي الحسن القابسي (تـ 403هـ) الذي خرج من الأندلس سنة 353هـ إلى المشرق طلبا للعلم، والتقى هناك بالأشاعرة وتأثربهم ودافع عن أبي الحسنالأشعري، كما يحدثنا ابن عساكر في (تبيين كذب المفتري)[4]. وقد انهمك القابسي في نشر الأشعرية والدعوة إليها بمجرد عودته إلى الأندلس سنة 357هـ. وقد أخذ تلامذته من بعده في نشر المذهب وعلى رأسهم أبو عمران الفاسي (تـ 430هـ)، كما أن الباقلاني المؤسس الثاني للأشعرية عمل على نشرها في أقطار العالم الإسلامي، فبعث بتلاميذه من أجل ذلك إلى خراسان والعراق والمغرب، ومن بين من وصل إلى الغرب الإسلامي شخصان نزلا بالقيروان وأقاما بها مدة حياتهما وهما: أبو عبد الله الأزدي ،وأبو طاهر البغدادي[5]. وفي هذه الفترة ظهر أعلام قاموا بنشر المذهب منهم: أبو عمر الطلمنكي (ت429هـ) وأبو عمران الفاسي (ت430هـ) وأبو الوليد الباجي (ت474هـ). وقد كانت فترة هؤلاء الرواد فترة انتقالية في المغرب الإسلامي شهدت صراعا محتدما بين أهل التسليم والتفويض أهل الدار والأشاعرة الوافدين، وسيتبلور هذا الصراع أكثر في كنف الدولة المرابطية، فقد كان المعتقد الرسمي والسائد زمن المرابطين هو مذهب أهل التسليم والتفويض وكان له أقطاب يرعونه ويدافعون عنه، ومع ذلك كان الفكر الأشعري ينمو ويتراكم ويجد ممثلين له في ذات الوقت .
وأول عقيدة أشعرية من تأليف أهل الغرب الإسلامي ظهرت في تونس على يد أبي الطيب سعيد بن أحمد بن سعيد السفاقصي (تـ 501هـ) وعرفت باسمه، كما عرفت باسم العقيدة السنية[6]. وقد أدى الصدام بين العقيدتين التسليمية والأشعرية بالخليفة المرابطي أبي الحسن علي بن يوسف ابن تاشفين أن يطلب من ابن رشد الجد (تـ 520هـ) فتوى في شأن هذا المذهب الجديد وأعلامه كالأشعري والإسفراييني والباقلاني، ومع أن ابن رشد الجد لم يكن أشعريا فإن إجابته كانت انتصارا لأقطاب المذهب الأشعري واعتبرهم أئمة خير وهدى وممن يجب بهم الاقتداء لأنهم قاموا بنصرة الشريعة وأبطلوا شبه الزيغ والضلالة[7]. إلا أنه رفض تعليم العامة من الناس المعتقد الأشعري الذي يرى أن النظر العقلي شرط أساسي في الإيمان؛ لأنه فرض عين على كل مسلم عالما كان أو جاهلا قادرا على الفهم والإدراك أم لا.
وسيأتي ترسيم المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي مع مجيء الدولة الموحدية حيث كان يعني نشره القضاء على الخصوم السياسيين وعلى أيديولوجيتهم. وأول ما بدأ به ابن تومرت (تـ 524هـ) في هذا المجال هو إطلاق اسم الموحدين على أتباعه.
ثم برز بعد متقدمي الأشعرية من أمثال المرادي وتلميذه الضرير وابن تومرت واليابري والسلالجي وغيرهم، الإمام المجدد محمد بن يوسف السنوسي التلمساني ،وبرزت بعد برهانية السلالجي أم براهين السنوسي التي يشبه دورها في أصول الدين دور مقدمة ابن آجروم في النحو. ومع قصرها فقد نالت من العناية والاهتمام ما لم ينله نص قبلها أو بعدها، حيث صارت هي المقرر الرسمي المعتمد في المغرب الإسلامي.
وقد عرفت بلاد شنقيط مبكرا بعض مصنفات علم الكلام الأشعري مثل عقائد السنوسي، والجزائرية، وإضاءة الدجنة التي وصلت إلى هذه البلاد بعد تأليفها بأقل من نصف قرن على يد عبد الله بن أحمد بن عيسى الحسني الذي كان حيا سنة 1077هـ[8]. وللشناقطة اهتمام بالتأليف في هذا المجال، فكان منهم من شرح عقائد السنوسي مثل أحمد بن العاقل، ومنهم من نظم السبعة المطالب مثل محمد بن المبارك بن سيدي الفال الديماني، وأبي عبد الله اليزكئذي[9]، ومنهم من شرح الإضاءة كابن الأعمش العلوي (1037 – 1107هـ)ـ الذي أهدى له عبد الله الحسني نسخة منها[10] (الفقه والمجتمع والسلطة، ص: 43).
وفي إطار الاهتمام المبكر بعلم الكلام على المذهب الأشعري يندرج اهتمام محمد بن سعيد اليدالي به من خلال تآليفه في الاعتقاد وخاصة كتاب «القواعد في العقائد »الذي شرحه بكتاب «فرائد الفوائد.»
وسنحاول في هذا المقال أن نعرف بـ الشيخ محمد اليدالي ومصنفاته في العقيدةالأشعرية، وخاصة موسوعته الضخمة المسماة «فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد »وسنلحق بالمقال نص العقيدة المختصرة.
التعريف بـ الشيخ محمد اليدالي
اسمه ونسبه
هو محمد بن المختار بن محمد سعيد بن المختار بن عمر بن علي بن يحيى بن يدال اليدالي نسبة إلى يداج أو يدال واسم يداج أبو علي رابع الخمسة المشهورين «بتشمشَ»، وإليه تنسب قبيلة اليداليين «إدوداي»، وأمه: امبيكله، واسمها فاطمة بنت سيد الأمين بن بارك الله الديمانية.
مولده
ولد الشيخ محمد اليدالي سنة 1096هـ عند بئر تندكسم الواقعة على بعد 20 كلم جنوب معلم الكلم 70 على الطريق الرابط بين نواكشوط عاصمة موريتانيا ومدينة النعمة ،وهو الطريق المسمى طريق الأمل .
أسرته
نشأ في بيت علم وصلاح واستقامة فوالده كان من أهل الصلاح والاستقامة، وأمه كانت كذلك وهي التي يعنيها العلامة المختار بن جنكي بقوله:
أم محمد اليدالي الأمين *** فاطمة وأبها سيدي الأمين
ويعين محل قبرها ويذكر أنه مزار مشهور، حيث يقول:
وأمه امبيكلة بنت العلم *** سيدي الأمين زر لدى بئر القدم
ولليدالي ولدان وتسع بنات.
طلبه العلم وشيوخه
بدأ الشيخ محمد اليدالي طلبه للعلم ف يالمدرسة العائلية ليتعلم فيها ويحفظ كتابالله ومبادئ العلوم اللغوية والفقهية، ثم بدأ يعمق على الشيوخ والأساتذة من أهل زمانه، ولا تسعف المصادر بأخذ اليدالي عن أحد عدا خمسة، هم:
– العلامة ألفغ عبد الله بن عمر الأبهمي الديماني، أخذ عنه علوم القرآن، ونقل عنه في تآليفه، فهو يقول في نظمه للحذف في القرآن الكريم:
بل نقتفي ترجيح عبد الله *** العالم العلامة الأواه
- ابن عمه العلامة أحمد بن الفقيه المختار باب اليدالي، أخذ عنه الفقه وذكر في كتابه «الأنوار المتوقدة في الرد على الجيم المنعقدة» أنه قرأ عليه قول خليل:«وكالنجش يزيد ليغر[11]».
- العلامة ألفغ ميننحن بن مود مالك، كان محمد اليدالي يعتز به ويلقبه بالشيخ الوالد، وأثنى عليه كثيرا في رسالة اللفعة قائلا: «لم أذق حلاوة الوالدية بعد والدي إلا منه، رحمهما الله تعالى وجعل الجنة مثواهما». وكان يثني عليه ويجله كثيرا، ومن وصفه له: «كان أقضى القضاة وسيد الهداة وسيد الحكام، خاتمة الأعلام، يرجع إليه عند التباس الأوهام بالأفهام، بركة الزمان، محيي الإيمان..» إلى أن يقول: «فقد نلت والحمد لله في الدنيا من بركته وعلمه وأخلاقه، وأنا أرجو في الأخرى شفاعته»[12].
- القاضي المختار بن ألفغ موسى اليعقوبي المتوفى سنة 1139هـ، ذكره في كتابه «أمر الولي ناصر الدين»، وحلاه بـ: «شيخنا» بقوله: «أخبرني محمد بن المختار بن موسى قال عن أبيه شيخنا المذكور».
- العلامة محمد الكريم بن الكوري بن سيد الفالي، المتوفى سنة 1144هـ.
- الشيخ مختار بن المصطفى اليـدالي، أخذ عنه أوراد الطريقة الشاذلية الناصرية ،رثاه اليدالي ووصفه بأنه جامع للشريعة والحقيقة، وقد كان نختار بن المصطفى بن محمد سعيد اليدالي مر في طريقه إلى الحج بسيدي أحمد الحبيب السجلماسي ومكث معه سنة، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وأدخلها إلى بلاد الكبلة، وقد أخذ سيدي أحمد الحبيب السجلماسي الطريقة عن سيدي أحمد بن عبد القادر الذي أخذها عن سيدي محمد بن ناصر العلامة مسكه بن بارك الله، وكان رفيقه في الأخذ عن الشيخ مينحن، وأطلق عليه شيخنا في كتاب «الأنوار المتوقدة»: عبد الله بن محمذ بن أعمر اليدمسي.
- محمد بن موسى بن أيجل الزيدي التيشيتي المتوفى سنة 1117هـ، أخذ عنه المشابكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[13].
تلامذته
لم يشتهر الشيخ محمد اليدالي بكثرة التلاميذ، بل لم تذكر المصادر له من التلاميذ سوى ثلاثة هم:
- محمد والد بن خالنا الأبهمي المتوفى سنة 1212هـ، وهو تلميذه الوحيد الذي تخرج على يده في العلم الظاهر والباطن، وتأثر به كثيرا وقال عنه في آخر كتابه «كرامات أولياء تشمشه»: «ولا يستنكر على من ادعاه منهم فإن الله على كل شيء قدير، ويخص من يشاء بما شاء. قلت: فما ظنك بالولي السعيدي اليدالي، إذ هو نتيجة هؤلاء القوم اليداليين وثمرة بني بارك الله فيهم المذكورين آنفا، فهو ثمرة الفريقين على ما حواه هو، إذ هو ولي الله وصاحب كشف جامع بين الظاهر والباطن ،ملك بالنهار وراهب بالليل كما ترون وتعلمون نفعنا الله ببركته وبركة أمثاله، آمين يا رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الحمد لله الذي بنعمته وجلاله تتم الصالحات. »
ويروى أن الشيخ محمد اليدالي سمع ذات ليلة والدا يترنم ببيت المتنبي:
ومن الخير بطء سيبك عني *** أسرع السحب في المسير الجهام
فقال: إن ابن خالنا هذا استعجل «اطليصَ» يعني الإجازة.
- محمد العاقل الأبهمي والد العلامة أحمد بن العاقل.
- ألما العربي بن المصطفى بن محمد سعيد بن عم اليدالي، توفي بعده ورثاه، وهو المعروف بـ ألما العربي وألما الشاعر. ويروى أن اليدالي قال مرة لتلميذه ألما العربي هذا وكان معجبا به: إنه هم أن ينزع له عمامة الشعر غير أنه تذكر بيتين من قصيدة اليدالي الميمية المشهورة:
حسـن بدئي واختتامي *** بك يا محيي العظام
والبيتان هما:
فدم الفجارِ جار *** ونجيع الهامِ هامِ
كامل الأوصاف صافٍ *** وافر الأقسامِ سامِ
وسئل العلامة سيدي عبد الله ابن رازكه رحمه الله، وكان صديق اليدالي، وقد حصلت بينهما مشاعرة وممادحة ذكرها ابن الأمين في كتابه الوسيط، سئل رحمه الله عن أشعر زوايا القبلة، فقال: لا أدرى إلا أن القائل:
آيات طه ليست تباهى *** ولا تناهى على الدوام
لا يباهى هو أيضا ولا قيل مثله في القبلة .
ومن أشهر قصائده قصيدته في مدح القرآن وحبه وخدمته أثبتها في تفسيره ومطلعها:
إِنَّ هَمِّي كِتَابُكَ الْمُسْتَبِينُ *** يَا إِلَهِي يَا مَنْ بِهِ نَسْتَعِينُ
أَنَا مِنْ خَادِمِيهِ وَالْمُسْتَحِقُّ *** الدَّ هْرَ لِلخِدْمَةِ الْكِتَابُ الْمُبِينُ
حُبُّهُ فِي قَلْبِي وَخِدْمَتُهُ مَا *** عِشْتُ دَأْبِي وَدَيْدَنٌ لِي وَدِينُ
ويقول فيها سائلا من الله الإعانة له ولابن أخته وابنعمه العلامة الصالح سعيد ابن بباه بن الفقيه المختار باب اليدالي رحمه الله (تـ 1230هـ)، الذي ذكر أنه كان يعينه في تأليف الذهب الإبريز:
وأعني يـا ذا الجلال عـليه *** وأعن مـن يعينني يا معين
وقصيدة «صلاة ربي» التي يقول عنها: «هذه القصيدة لها فضل عظيم وبركة، ولا يستنكر ذلك في جنب بركته صلى الله عليه وسلم، وقد وجدت لها بركة في مواطن كثيرة؛ منها أني ركبت في بعض سفن النصارى قاصدا أكادير دوم لأطلع على بعض عجائبه، فسرنا حتى أقبل الليل، فهاجت ريح شديدة كادت تكسر السفينة حتى كادوا أن يوقنوا بالهلاك، فصاروا يستغيثون من شدة ما نزل بهم، وأنا وحدي في جانب من السفينة لا يعبأ بي ولا يعرفني أحد منهم ولا أعرفه حتى جعل واحد منهم يردد هذا البيت:
صلاة ربي مع السلام *** على حبيبي خير الأنام
فقلت له: أتعرف قائل هذا البيت؟ قال: قائله زاو من أهل القبلة لا أعرفه. فقلت له: أنا قائله. وأنشدته بعض القصيدة فأقبل علي أهل السفينة كلهم فجعلوا يسألونني عن نفسي وعن شأني، فأخبرتهم ثم جعلوني في موضع من السفينة لا ينالني فيه شر، فمن حينئذ نالتني بركة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سكنت الريح وهدأت والحمد لله وبتنا سائرين إلى أكادير دوم، فحملوني على أعناقهم إلى البر ولم يبتل مني ولا من لباسي شيء، فدخلت القصر وأقبل علي أهله بالإضافة الحسنة والإكرام والتعظيم وأنواع التحف والهدايا والكاغد الشاطبي مما لم أحتسب ولم يخطر لي ببال، وذلك كله ببركة ممدوح القصيدة صلى الله عليه وسلم، وأطلعني النصارى على بعض عجائب أكادير دوم، ودعوت رئيس النصارى للإسلام فلم يسلم ولم يبعد منه، رزقنا الله الإيمان ودوامه إلى الممات، ويسر الله لي من حملني ومتاعي على جمل إلى أهلي .»
توفي الشيخ محمد اليدالي سنة (1166هـ) بعد أن عاش سبعين سنة، ودفن بـ«انتَوْفّكْتْ»، ومعناها: ذات الشمس. قال الشاعر امحمد بن أحمد يوره رحمه الله عند كلامه عن انتوفكت: وبها المقبرة التي فيها سيدنا وقدوتنا وشيخ أشياخنا سيدي محمد بن سعيد اليدالي مؤلف «الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز.»ويقول أحمد بن اجمد اليدالي رحمه الله مؤرخا لميلاد الشيخ اليدالي ووفاته:
قَدْ وُلِدَ الْيدالِي عَامَ وضْـشِ *** وبَعْدَ سَبْعِينَ ضَجِيع نَعْشِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَنْهَى كِتَابَهُ الذَّهَبْ *** بِوَاوِ أَعْوَامٍ إِلَى الله ذَهَبْ
ولليدالي ولدان هما: المختار سعيد «التاه»، ومحمد السعيد «أواه.»
مكانته العلمية والاجتماعية
يعتبر الشيخ محمد اليدالي من أجل علماء البلاد علما وصلاحا وورعا، كما عرف بحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة مدحه له صلى الله عليه وسلم، وكانت له صلات ثقافية واجتماعية مع أجل معاصريه من العلماء والأمراء .
قال عنه الشيخ أحمد بن الأمين العلوي في الوسيط: «أحد العلماء الأعلام ،والغطارفة الكرام، وتقدم أنه أحد الأربعة الذين لم يبلغ مبلغهم أحد في العلم في ذلك القطر. كان مشهورا بالفهم والحفظ والصلاح، وله التآليف المشهورة»[14].
وقال أبو عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي في فتح الشكور في ذكر اليدالي: «كان رحمه الله شاعرا ناثرا، ألف تأليفا مفيدا في مجلدين في تفسير كتاب الله العزيز سماه الذهب الإبريز على كتاب الله العزيز[15]، وله قصيدة ميمية عجيبة من أحسن القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة وأربعين بيتا خارجة عن بحور الخليل بن أحمدالخمسة عشر وعنالمتدارك والخبب مطلعها:
صلاة ربي مع السلام *** على حبيبي خير الأنام
بادي الشفوف داني القطوف *** بر عطوف ليث همام
صلى الله عليه وسلم، تلقاها الناس بالقبول، وكذا غيرها من تواليفه الحسان ،وشرحها شرحا عجيبا مفيدا، ولها بركة عظيمة وفضائل»[16].
آثاره ومؤلفاته
يعتبر الشيخ محمد اليدالي غزير التأليف صاحب قلم سيال رغم طابع البداوة والترحال الدائم والأسفار المضنية في طلب الكتب والكاغد وتحصيل الغنية من المال ورعاية العيال ،لم يكن شيء من ذلك ليمنعه من الكتابة والتصنيف حتى بلغت مصنفاته زهاء الخمسين بل ربما تجاوزت الخمسين، فقد قال النابغة: «وقد وقفت على جملة منها تدل على سعة علمه وكثرة نقله وتبحره في سائر العلوم المعقولة والمنقولة[17].
ونذكر من هذه المصنفات ما يلي:
- خاتمة التصوف وشرحها، طبع الجزء الأول منه بمطبعة دار القلم بالرباط.
- الوسيلة الكبرى في إصلاح الدين والدنيا والأخرى.
- أمر الولي ناصر الدين .
- المربي على صلاة ربي، وهو شرح على مديحيته الميمية المعروفة بـ «صلاة ربي.»
- الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز، وهو أقدم تفسير شنقيطي معروف ،طبع ونشر في مركز نجيبويه.
- مورد الظمآن في المحذوف من القرآن .
- كتاب الجيم، نصرفيه الجيم المتفشية على المنعقدة السودانية.
- الفرق بين الجمع واسم الجمع، واسم الجنس وعلم الجنس.
- تقريب المعاني في علوم البديع والبيان والمعاني.
- الحلة السيراء في أنساب العرب وسيرة خير الورى.
- واضح المذاهب في سيرة المختار خير واهب.
- شيم الزوايا .
- رسالة النصيحة.
- رسالة اللفعة .
- ديوان شعر يبلغ زهاء 1600 بيت، حقق وطبع ونشر.
- فتاوى[18].
أما علم التوحيد فهو مجال يتصدر اهتمام الشيخ محمد اليدالي، واعتبر أنه يجب أن يكون في كل قطر من يشتغل به لرد الشبه الواردات ونفي الشكوك ودعاوى المبتدعة والزائغين عن الحق، واعتبر نفسه قائما بهذا الفرض الكفائي من خلال تأليفه للعقائد وشرحها. ومن أهم مصنفاته في هذا المجال: «نظم المطالب السبعة»، وهو نظم لمباحث سبعة في إثبات حدوث العالم، وإليها الإشارة بقول صاحب الإضاءة:
ولا يـتـم المبتغى للطـالب *** إلا بعلم السبعة المطالب
ولأهمية هذه المطالب الكلامية العقدية كثر ناظموها من أهل شنقيط (موريتانيا حاليا) ومن غيرهم؛ فممن نظمها من غير أهل شنقيط المقري صاحب «الإضاءة .»ومن أهل شنقيط خلق منهم: محمد المبارك بن حبيب الله، وابن أخيه المبارك، والمختار بن محمد بن عبد الله الملقب متالي، ومحمد والد بن محمد الأمين بن الفاضل، وألفغ عبد الله، وغيرهم[19].
ونظمها الشيخ محمد اليدالي نظما في خمسين بيتا، يقول في أوله:
الحمد لله المزيل الجالي *** شبه زيغ أهل الاعتزال
ثم الصلاة والسلام أبدأ *** على إمام المرسلين أحمدا
وبعد فالمقصود أن نبينا *** سبع مطالب أتت في نظمنا.
وذاك أن خصمنا قد اعترض *** سبع اعتراضات علينا في العرض
وما أجبناهم به من واجب *** عقلا يسمى السبعة المطالب
وصنف الشيخ محمد اليدالي شرحا لأسماء الله الحسنى، يقول في أوله: هذه دعوات على أسماء الله الحسنى وبعض خواصها وبعض معانيها، وكيفية العمل بمقتضاها الذي هو من معاني الإحصاء الموعود عليه بالجنة، وكيفية التعلق بها والتخلق لأن الدعاء مشروط بالعلم والمراقبة. ويضيف أنه نقلها عن ابن عباد النفزي ومكي بن أبي طالب وغيرهما[20].
كما صنف الشيخ محمد اليدالي عقيدة مختصرة مركزة سماها «قواعد العقائد»، جعلها خلاصة لأمهات العقائد في حق الله تعالى وحق رسله وملائكته والبعث والنشر على طريقة متأخري المتكلمين من الأشاعرة في الاستدلال، وقد حظيت هذه القواعد بقبول واسع فنظمت ورددت واعتمدت في المحاظر منهجا في علم الكلام. ثم شرحها شرحا موسوعيا وافرا شاملا سماه صاحبه «فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد »في مجلد ضخم جدا ما زال مخطوطا ويحقق الآن من قبل الزاوية اليدالية[21].
كتاب «فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد»
ستكون وقفتنا مع هذا الكتاب بيت القصيد في هذا المقال؛ لأن كتاب «الفرائد »يعطي صورة مكتملة وواضحة عن عقيدة اليدالي، وعن طريقته في البرهانوالاستدلال، كما يعطي صورة وافية عن مدى عمق الفكر اليدالي ومدى استيعابه للعلوم العقلية، وقدرته على التلخيص والجمع بين الآراء المختلفة، وسعة اطلاعه ،وجودة سبكه وصياغته وجده ومثابرته.
نسبة كتاب «فرائد الفوائد»
هذا الكتاب لا نشك في نسبته لصاحبه لأسباب عديدة من أهمها:
- تصديره باسمه في كافة النسخ الموجودة منه والتي يعود تاريخ خط بعضها إلى عام 1222هـ؛ أي بعد وفاة المؤلف بأقل من 60 سنة، وبعضها من نسخ أحفاده وبني عمومته وغيرهم من أهل العلم.
- ذكر جماعة من العلماء هذا الكتاب ونسبوه له، ومنهم النابغة الغلاوي رحمه الله وهو من أعرف الناس به وأكثرهم صلة به لأخذه عن الآخذين عنه مباشرة، فقد قال في كتابه «النجم الثاقب» في معرض الحديث عن تآليفه: «فمن ذلك فرائد الفوائد في شرحه لتأليفه في العقائد»[22].
ويقول ابنه أواه رحمه الله في نظمه لمؤلفات والده:
والذهب الإبريز والفرائد *** وكل ما فيه من الفوائد
- كونه يحمل بصمته في التآليف، وطابعه المميز، وأسلوبه الفريد في الاسترسال والاستطراد والاستكمال، شأن الكتاب في ذلك شأن سائر كتبه المعروفة كالذهب والخاتمة وغيرهما.
- ثم إن اختصار حفيده محمذن فال بن المختار سعيد رحمه الله له وما ذكره في مقدمته دليل آخر على صحة تلك النسبة. وهذا الاختصار توجد منه نسخة في مكتبة زاوية محمد اليدالي.
لهذا ولغيره نجزم بصدق نسبته إليه، بل نقطع بأنه عمله أصالة فهذا الشبلمن ذاك الأسد. فهو يحمل خصائص كتابته التي ألفناها في سائر كتبه، من الجزالة في اللفظ، والسهولة والوضوح في الفكرة، وإن كان لا يحتاج إلى إعمال دليل القافة حتى يلحق هذا الكتاب بصاحبه، فقد نسبه لنفسه ونسبه غيره له ولم يدع أحد نسبته لغيره.
ويوجد هذا الكتاب مخطوطا في العديد من المكتبات، وتوجد لدينا منه نسختان؛ إحداهما بخط قديم يعود إلى أواسط القرن الثالث عشر، والأخرى حديثة نسبيا وهي بخط أحد حفدته واسمه أحمد سالم بن أبي بكر بن الإمام اليدالي، ويعود تاريخ خطها إلى التاسع من جمادى الأولى سنة 1356هـ، وهي بخط جيد ومقروء في 546 صفحة. ولدى زاوية الشيخ محمد اليدالي عدة نسخ أخرى، وقد شرعت بل أنهت التحقيق ولديها النية في نشر هذا الكتاب، بلغهم الله مأمولهم ومبتغاهم في ذلك، وفي ذلك المضمار قام الطالب سعدنا ولد حمينا بتحقيق مقدمة الكتاب لنيل شهادة الدراسات المعمقة من جامعة محمد الأول بوجده بالمغرب.
أهمية الكتاب
هذا الكتاب موسوعة كلامية في قواعد العقائد الأشعرية، سماها مؤلفها «فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد»، وهي كاسمها فرائد وفوائد قد استودعها المؤلف مباحث عقدية فريدة، تدل على علو كعبه.
ولعل أبرز ما يميز هذه الموسوعة اليدالية أنها ظهرت في وقت مبكر ضمن لصاحبها الريادة والتقدم، وقد استفتحها بالثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم معتمدا لطيف براعة الاستهلال، محددا موضوع تأليفه ومبرزا مكانة العلم وفضله العظيم، ليتحدث عما أصاب الناس من تكاثر للهموم وبلادة في الفهوم، يقول: «الحمد لله المنفرد بصفات الكمال، وكمال التصرف في الأجرام والأعراض، المنزه في الأحكام والأفعال عن وجوب مراعاة الصلاح والأصلح والعلل والأغراض، الميسر التطلاب لمن رفع راية الإيمان ونشرها بآيات الحق الباهرة، المذلل الصعاب لمن أحيا كلمة التوحيد ونشرها بسيوف البراهين الباترة، المعطي الوهابلمن ذب عنها وأظهرها أسنى مراتب الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بعموم الفضائل، الذي قامت على تفضيله الدلائل.
وبعد، فاعلم أن العلم نور مشكاته قلوب أهل الإخلاص، ولألاؤه تتجلى به مرآة أفئدة الخواص، ليس إلا به النجاح، وعين الهداية والأمن من الضلال والغواية ،وفضله أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يذكر، وفي ما سبق من الأيام وخلا من الأعوام كانت الهمم إليه مصروفة، والرغبات عليه موقوفة، يتوفر عليه طلاب المراتب في الدنيا، الراغبون في الدرجات الأخروية العليا، واليوم داخل الهمم القصور، وغلب على البواعث الفتور، حتى صار وبلها طلا، وآضت قناطيرها رطلا ،فتلاشت العلوم، وعفت رسوم الشريعة حتى صارت كالرسوم، وخلط الحق بغيره خلطا، واقتربت الساعة حتى كاد أن يستوي ما بين السبابة والوسطى، واتسع على الراقع الخرق، وجل على الرتق الفتق، وانقرض العلم وخبت ناره، وطمس الحق وقلت أنصاره، فصار الجهل أمرا مشهورا، والعلم كأن لم يكن شيئا مذكورا، فإنا لله وإنا إليه راجعون». ثم يضيف متحدثا عن علم أصول الدين: «ثم لما كان علم أصل الدين المسمى علم الكلام المتعلق بتوحيد الله وما له من صفات الجلال والإكرام هو أفضل العلوم وأعلاها، وأقومها حجة وأجلاها، وأرفعها مكانا وأعظمها شأنا ،وكان مما أهمله الناس في هذا الزمان الذي تصدأت فيه مرآة الأذهان، وزهدوا فيه رغبة عنه، مع أنه مما لا بد منه، إذ هو رأس مال المرء، وإكسير النجاة، وكيمياء السعادة، ولا يكون إلا لمن اتصف به في آخر حياته الحسنى والزيادة، وضعت عقيدة تشتمل على فصول وقواعد من التوحيد، وأصول جمعت غرر قواعده، ونظمت درر فرائده .»(فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد لـ الشيخ محمد اليدالي، مخطوط بحوزتنا).
ولا تخفى أهمية هذا الكتاب فهو جامع بين التوحيد والإخلاص، والإيمان والإحسان والشريعة والحقيقة، وقد تلقاه الناس بالقبول شرقا ومغربا واستحسنوه واستنسخوه. قال فيه النابغة القلاوي رحمه الله: «بلغ من المنى أقصاها ولم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلاأحصاها»[23].
وقال فيه العلامة باب ابن أحمد بيبه العلوي رحمه الله عندما حصل عليه ونظر فيه:
هذا كتاب لـم أكـن لأعيـره *** أحدا ولـو طلب الإعارة والدي
وتعود بعض أسباب أهميته إلى أنه أول تأليف جامع في العقائد في منطقة القبلة (منطقة اترارزة حاليا) وأنه موسوعة للفوائد والشوارد والطرائف، فضلا عن كونه كتابا عقليا جدليا منهجيا.
وقد ذكر صاحبه أنه لخصه أو لفقه من زهاء الأربعين من مصنفات التوحيد مع الترتيب والتلفيق؛ ككتب الآمدي تـ 631هـ، والجويني تـ 478هـ، والرازي تـ 606هـ، والبيضاوي تـ 685هـ، والإيجي تـ 756هـ، وابن عرفة الورغمي تـ 803هـ ،والجرجاني تـ 816هـ، وتقي الدين المقترح تـ 612هـ، والقرافي، وابن زكري التلمساني تـ 900هـ، والتفتزاني تـ 791هـ، والغزالي تـ 505هـ، والإدريسي، وابن راشد القفصي ،والشهرستاني، والماتريدي، وغيرهم. فضلا عن كثير من الكتب الأخرى في سائر فنون المعرفة المختلفة، كتفاسير الكتاب العزيز، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه ،والتصوف، والسير، والتاريخ، والأدب، واللغة، والطب، والهيئة، وغير ذلك. وأنه اعتمد على تواليف سيدي محمد السنوسي وجعل شرحه هذا تكملة لشروح السنوسي على العقائد.
ويعتبر كتاب «الفرائد» من أوائل مؤلفاته، فهو يذكر ذلك في كتبه، وذكر أنه فرغ من تبييضه وتأليفه منتصف شعبان من الثانية والثلاثين بعد المائة والألف (آخر مخطوط الفرائد). فيكون عمر المؤلف يوم فراغه من تأليف الكتاب ستا وثلاثين سنة.
وذكر أنه تجنب فيه ذكر الكثير من أقوال الفلاسفة والمعتزلة، وإن كان يلاحظ أنه لم يلتزم بذلك فقد دعته طبيعة الاستطراد إلى ذكر كثير من أقوال هؤلاء، كما ذكر أنه أعرض عن إيراد الشبه وتقريرها والأجوبة عنها خشية أن تتمكن الشبهة من النفس فيعسر انفصالها؛ ولأنه كدح في صفاء القلوب كما قال ابن حنبل للحارث ابن أسد المحاسبي. فالمؤلف وإن كان متكلما لكنه صوفي المنزع, والدليل على ذلك أنك لا تجد مبحثا من المباحث الكلامية فيه إلا ويشفعه بكلام أهل التصوف، فعند حديثه رحمه الله عن تعريف التوحيد في مستهل الكتاب يقول: اعلم أن التوحيد أمر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به، وهو أن يرى أن الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع عن الالتفات إلى الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر إلا منه، وهذا مقام شريف وهو من مقامات الصديقين. وعند الحديث عن نفي الجهة وإبطال القول بها يشرح معنى القرب والوصول إلى الله فيقول: ومعنى الوصول في كلام القوم؛ وصول القلب للعلم بجلال الله وعظمته على وجه يباشر حقيقة القلب ويجري معناه في الجوارح حتى تجري على حكمه من غير توقف ولا اختيار، وإن لم يكن الوصول ما ذكر فليس إلا النسب والمسافات والعلل والإضافات وهي من صفات الخلق. وكذلك عند كلامه على المعجزة والكرامة في آخر الكتاب فقد أفاض في إثبات الكرامة، ونقل عن المشايخ أقوالهم في أن منكرها مآله إلى إنكار المعجزة ومآل ذلك إلى الكفر. وهذه مجرد أمثلة. وهذا شأن علماء الآخرة، فهم يرون أن الأدلة إنما نصبت لمن يطلب الحق لا لمن يشهده كما قال ابن زكري رحمه الله:
لِمُبْتغي الحقَ الدّليلَ قد نُصِبْ *** لا اللذي يشْهَدُهُ كما يجِبْ
للعارفِ الشهودُ أوصافَ المجيدْ*** كفى به على الخلائقِ شهيدْ
قال ابن عطاء الله رحمه الله: واعلم أن الأدلة إنما نصبت لمن يطلب الحق لا من يشهده، فإن الشاهد غني بوضوح الشهود عن أن يحتاج إلى دليل، فتكون المعرفة باعتبار توصيل الوسائل إليها كسبية، ثم تعود إلى نهايتها ضرورية، وإذا كان من الكائنات ما هو غني بوضوحه عن إقامة دليل فالمكون أغنى بغناه عن الدليل .ثم قال: ومن أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إليه، فليت شعري هل لها وجود معه حتى توصل إليه؟ أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له؟ اهـ. ومصداق ذلك قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). فصدر الآية محمول على الاستدلال بالأثر وهي طريقة العوام وبها وقع التكليف، وطرفها الأخير محمول على الاستدلال بالمؤثر على الأثر وهي طريقة الخواص[24].
هذا فضلا عن أنه ختم كتابه في العقائد بخاتمة التصوف وشرحها شرحا وافيا (طبع منه الجزء الأول، والثاني تحت الطبع).
وقد بين المؤلف مصادره وأشار إليها باختصارات بينها في المقدمة فقال إنه يشير بـ (س) للسنوسي وعليه جل اعتماده، بيد أنه جعل هذا الشرح تكملة لشروحه، وبـ (ج) للمنجور الفاسي في شرحه لمحصل المقاصد لابن زكري التلمساني وفي حاشيته على شرح كبرى السنوسي، وليس من المبالغة القول: إن المؤلف التزم نص ابن زكري «محصل المقاصد مما به تعتبر العقائد»، فلا يكاد يخلو مبحث من مباحث الكتاب إلا وتجده يستطرد أبياتا من هذا النظم لتقرير ما يذكره. ويشير بـ (ق) للقاني في شرح القصيد ولأبيه في شرح الجوهرة، وبـ (ر) للرعيني شارح عقيدة السلالجي، وبـ (عج) لعلي الأجهوري في شرحه لعقيدته، وبـ (د) للحسن الدرعي وجعله مكملا لكتب السنوسي، والملاحظ هنا أن الشيخ محمد اليدالي لم يعتمد الإضاءة للمقري مصدرا أساسيا كما صنع بمحصل المقاصد ومؤلفات السنوسي وإن كان قد استشهد في مواضع عديدة بأبيات منها ولم يسمها، كقوله:
وَمُسنِدُ الأَحكامِ لِلصِّفَاتِ **** فَقَط إِلَى المَجَازِ ذو التِفَاتِ
وَالحقُّ أن تُنسَبَ لِلذَّاتِ التي *** قَد وُصِفَت بذي الصِّفَاتِ جَلَّتِ
هذَا الّذِى نَصّ عَلَيهِ المُقتَرَح *** وَغَيرُهُ والصَّدرُ مِن ذَاكَ انشَرَح
وذكر في موضع آخر أن المقري نظم السبعة المطالب ولم يذكر الأبيات ربما مفضلا عليها نظم متالي بن محمد بن بل لها، وأورد أبيات متالي محليا إياه بأجمل الحلا وأحسن النعوت.
ويرى الباحثون أن «الإضاءة» وصلت مدينة شنقيط في حدود سنة 1077هـ، ولعلها وصلت لحينها إلى هذه الناحية الجنوبية الغربية، وليس لدينا ما يثبت اتصال سند اليدالي بابن الأعمش في هذا المجال، ولا نستبعد أن تكون حلقة الوصل بينهما العلامة سيدي عبد الله بن رازكة الذي تتلمذ على الأول لا شك وحصل بينه واليدالي لقي ومعاصرة بل مشاعرة وممادحة، ولعل شيخه في علم الكلام إما مينحن أو اليزكئذي الذي ذكر أنه ممن نظم السبعة المطالب، وقد رأينا أن سيدي محمد المختار بن الأعمش المتوفى سنة 1107هـ قبل تأليف هذا الكتاب بسبع وعشرين سنة شرحها ونشرها من بعده تلامذته المعاصرون لليدالي، واليدالي نفسه يذكر الشيخ ابن الأعمش ويحليه بأنه المتفنن الأصولي المحقق أبو عبد الله محمد بن المختار بن الأعمش رحمه الله تعالى ونفعنا به وذكر له لغزا في علم الكلام حول اتصاف الجوهر الفرد بالأعراض في أول وجوده إذ يقول[25]:
أمدعيا معقول علم فهل ترى *** لـجـرم من الأحـوال حـالا تقررا
فـلا مـتـحـرك ولا هـو ساكن *** وذاك لعمري في العيان قـد أنكرا
وقد يكون مصدره في ذلك شرح ابن الأعمش على الإضاءة.
وذكر المؤلف أنه ألف كتابه هذا في تيرس في حال حل وترحال وأن جمعه كان أغلبه بالليل إذ النهار مستغرق بالترحال،
وتطرق في مقدمته لبواعث تأليفه والعلة الغائية منه ورد على من ينكرون التصنيف في ذلك الزمان، وذكر أن مرد ذلك إلى حسد الأقران، ثم أخذ في الشرح بادئا بتعريف علم التوحيد رسما ومعنى تسميته علم أصول الدين، وواضعه وموضوعه وفضله، وفائدته وما نقل عن السلف في ذمه وتوجيه ذلك، وحكم الاشتغال به وأنه فرض كفاية ولبه وكونه المراد بالنصيحة الواردة في الحديث النبوي الشريف الصحيح «الدين النصيحة»، ومسائله وهي القضايا التي بينت فيه، ومقاصده التي تثبت فيه بالبراهين العقلية كحدوث الجواهر والأعراض وإثبات الصانع والصفات أو بالدلائل السمعية كالبعث والجنة والنار وغير ذلك، وقد تكون مسائله مبادئ لمسائل أخر كما قال ابن زكري في محصل المقاصد[26]:
فـكل ما بين من عقائد *** مسائـل الكلام والمقاصد
وهي مباد لمسائل أخر *** والدور ينفي العكس في ذا المعتبر
ونلاحظ هنا أن المؤلف التزم المنهج المتبع في التأليف على حد قول القائل:
مَــن رامَ فــنـًّا فــلْيــُقـــــدّمَ أولا *** علماً بحده وموضوعٍ تلا
وواضـــعٍ ونِسْـبة وما اســتمدّْ *** منه وفضلِه وحكمٍ يُعتمـدْ
واســـمٍ ومــا أفـــادَ والـمسائل *** فتلك عشرٌ للـمُـنى وسائلْ
ونبه الشيخ محمد اليدالي في مستهل كتابه إلى عقيدته الأشعرية الصرفة بقوله في مفتتح المقدمة: الحمد لله المتفرد بصفات الكمال وكمال التصرف في الأجرام والأعراض ،المنزه في الأحكام والأفعال عن وجوب مراعاة الصلاح والأصلح والعلل. وهذا الكلام صريح في نفي الصلاح والأصلح على حد قول المقري في إضاءته:
ولا صلاح واجـب أو أصـلحا *** هذا الـذي دان به من أفلحا
وبالتالي فهو بهذه البراعة التي استهل بها ينأى عن المعتزلة القائلين بوجوب الصلاح والأصلح على الله، وقصة الشيخ مع أبي علي الجبائي معروفة، والقدرية وغيرهم من المذاهب الكلامية الأخرى، تاركا التعرض لنقل هوس الفلاسفة وأصحاب الأهواء، إذ قلما يفلح من أولع بها؛ لأن كثرة النظر في الباطل تكدر نور الحق وهو من أكبر العيوب كما قال أبو العباس بن البناء رحمه الله.
ثم تكلم على ما يجب على المكلف شرعا النظرأو القصد إليه من معرفة صفات الله العشرين الواجبة وأضدادها المستحيلة، والجائزة، وما يجب وما يستحيل وما يجوز في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام بالدليل الجملي عينا وبالتفصيلي كفاية ،وأفاض في هذا الموضوع متحدثا عن إيمان المقلد والخلاف فيه على حد قول المقري:
وفي المقلد خلاف مستطر *** لأنه إيمانه على خطر
ثم شرع في الصفات الواجبة وبدأها بالصفة النفسية، وهي الوجود، متكلما عليها من حيث الوجود والخلاف في ذلك وهل هي صفة زائدة على الذات؟ وبرهان حدوث العالم، ثم السلبيات الخمس التي هي القدم والبقاء ومخالفة الحوادث وتحدث في هذه عن المجسمة والمعطلة، ثم القيام بالنفس والوحدانية في الذات والصفات والأفعال، وبرهان ذلك من لزوم الدور أو التسلسل وعدم العالم أو حوادث لا أول لها.
ثم تناول بالحديث صفات المعاني السبع؛ التي هي القدرة والإرادة فهو تعالى قادر ومريد بالاختيار ليست ذاته علة لوجود العالم ولا موجدة له بالطبع، وكذلك العلم والحياة بغير روح، وهي شرط الكل فإذا انتفت هذه الأربع لم يوجد حادث. وأفاض في الحديث هنا عن المطالب السبعة ومن نظمها من أهل شنقيط كما سبق أن بينا وغيرهم، ثم السمع والبصر والكلام بلا جارحة ولا أصوات ولا حروف ولوازمها لاستلزامها الحدوث، فكلامه تعالى قديم ويسمع بكل جارحة ومن كل جهة ولا يختلف ولا يتغير، فموسى لما سمعه أزال عنه الله المانع ثم رده لا أنه كلمه ثم سكت.
واللفظ المنزل المعجز المتعبد به حادث، وإضافته إليه إضافة ملك وخلق مختلف باختلاف اللغات كالعبرانية والسريانية والعربية، دال على كلامه تعالى وليس عينه.
وما ذكره الشيخ محمد اليدالي هنا نظمه بعضهم فقال:
حقيقة الإنزال فهم الملك *** جبريل في العلو كلام الملك
ثم يؤديه في الأرض للرسول *** فيفهم الرسول كل ما يقول
أما العبارة فقيل للرسول *** وقيل للملك وقيل للجليل
أوجد في محفوظة الأشكالا *** فهي من اختصاصه تعالى
وليس في الأقوال من ترجيح *** إذ كلها في الذكر ذو تصريح
ودليل الصفات الثلاث التي هي السمع والبصر والكلام العقل؛ لأن أضدادها نقص وهو منزه عن النقص بل محال عليه تعالى ودليلها كذلك النقل وهو أولى ،ودليل الوحدانية العقل، ودليل سائر المغيبات النقل مثلها في ذلك مثل الشرعيات فلا تدرك بتحسين من العقل ولا تقبيح، وهذا موقف أشعري صريح في مخالفة المعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن، يقول صاحب الإضاءة:
ومـا لـعـقل وحــده تــوصل *** إلى قبيح أو إلــى مــا يجمل
ثم أفاض في الحديث عن التعلق عرفه بأنه «اقتضاء الصفة أمرا زائدا على قيامها بالحق، وهو كون المعاني غير الحياة ينسب لها أمر مثل التخيير والتخصيص، وذكر أقسامه على حد قول ابن زكري:
فـــصل وللــصفات فـــي الـــتــعلق *** ونفــــيه قــــسمان فــــي التــــحقق
مــــا لا تعـلـــق لـــه الــــحــــياة *** ومــــا ســــواها حــــكمه الإثــــبات
والمتعلق يـــعم كــــــل مــــــا *** يــــصــــح فــــي ذلك أن يعــــمــــما
تعـــلـــق العـــلم مــــــع الكـلام *** قــــد عــــم فــــي الثـلاثة الأقسام
الــــــــواجب المـمكن والممتنع *** رســــومــــها تقــــدمت لا تـــــمنع
وذكر المؤلف رحمه الله أن هذا التعلق إما تنجيزي إن كان المنسوب إليه موجودا ،وإما صلاحي إن كان المنسوب إليه غير موجود، وهو- أي التعلق- إما قديم إذا كان صفة للمعاني، أو حادث إذا كان إضافة، أو اعتبارا ذهنيا متجردا أو هو موقف عقل.
ثم خلص من المعاني وقيامها بالذات إلى حال تنكشف زائدة هي المعنوية السبع الملازمة لها؛ وهي كونه سبحانه قادرا مريدا عالما حيا سميعا بصيرا متكلما. وتحدث عن الخلاف فيها، وهل يقال إنها عين الذات أو غير الذات؟
فهذه هي العشرون الواجبة، ويستحيل عليه كل ما ينافيها، وكل ما يؤدي إلى إمكان ما ينافيها أو حدوثه أو نقص فيه أو قصور في صفاته، ومن هذا جاء صرف بعض ظواهر الكتاب والسنة عن ظواهرها مما يوهم الجارحة والاستواء والنزول والضحك والنور والعجب وغير ذلك.
ثم تكلم عن الجائز في حقه تعالى؛ وهو فعل الممكنات على سبيل البدلية وذلك لأن فعلها في آن واحد كلها يترتب عليه اجتماع الأضداد والنقائض ووجود مالا نهاية له.
فلو وجب عليه تعالى فعل أو استحال عقلا، لانقلبت حقيقته فيكون واجبا أو مستحيلا، ولتعسر عليه الفعل أو الترك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولكان الفعل في حقه كمالا وقد فات في الأزل وفوته نقص تعالى الله عما يقول الظالمون.
ثم تحدث عن نظرية الكسب عند الأشاعرة التي قال البعض إنها من أغمض المسائل حتى صارت مثلا في الغموض يقال أغمض من كسب الأشاعرة. وقال: إن الكسب هو متعلق التكليف وأمارة الثواب والعقاب عليه. والكسب هو تعلق القدرة والإرادة الحادثتين عند العبد بالمقدور في محلهما بحيث يحسن بهما تيسر الفعل عليه من غير تأثير فيه البتة إذ هما أعراض، فهو على هذا مجبور في قالب الاختيار.
وكمل فصل الجائز بالحديث عن الصلاح والأصلح، وأن مذهب الأشاعرة نفي وجوب الصلاح والأصلح على الله تعالى، وقد أسلفنا أنه استهل كتابه بما يفيد براءته من مذهب الاعتزال في هذا المجال، مستعرضا المناظرة التي حصلت بين أبي الحسن الأشعري والجبائي المشهورة.
ثم في الباب الأخير تحدث عن الرسل عليهم الصلاة والسلام وما يجب لهم عقلا من الصدق؛ لأن الله صدقهم بالمعجزة، وذلك مثل قوله: صدق عبدي هذا عني فيما أخبر به عني. وتصديق الكاذب كذب واتصافه به تعالى محال. وكلامه تعالى على وفق علمه وعلمه لا يحتمل النقيض لوجوب الكمال له. ويجب لهم تبليغ الرسالة والعصمة ظاهرا وباطنا من الوقوع في المحرم إجماعا إذ لو كتموا أو فعلوا محرما لصار ذلك طاعة، كما قال ابن عاشر:
لـو انتفى التبليغ أو خانوا ختم *** أن يقلب المنهي طاعة لهم
لأننا مأمورون باتباعهم، والله لا يأمر بالفحشاء بل ﴿وينهى عن الفحشاء والمنكر.﴾ولا يجوز في حقهم كل ما يخل بالرسالة وقبولها كالعيوب المنفرة حالة الإرسال ،والفظاظة والغلظة والحرف الدنية، وما يخل بالمروءة أو ما يخل بأداء الرسالة حال الإرسال؛ كالإقعاد والصمم والإغماء الطويل، ونسيان أمر بلاغي لم يبلغ، والسهو في الأخبار، والرق إجماعا، والأنوثة على المشهور.
ويجوز أن ينزل بظواهرهم تشريفا لهم وتسلية لنا عن الدنيا وتعظيما لأجرهم ورفقا بالضعفاء كل عرض بشري غير مؤد لنقص، مثل المرض، والجوع والعطش ،والإعياء والضجر.
وختم بأن الملائكة عباد مكرمون معصومون عن المخالفة، منزهون عن صفات الذكورية والأنوثية، ويخاطبون بخطاب الذكور.
وأن القيامة حق، وأن العبد يأخذ صحيفته، وأن البعث للبدن والجنس كذلك ،وأن الإيمان واجب بالصراط والميزان، وبسائر الأنبياء وكتبهم وأخبارهم؛ كفتنة القبر ونعيمه، والحوض والشفاعة، وتأبيد عذاب الكفار والنار، وأن نعيم الجنة لا ينقطع.
هذا ملخص ما شرحه الشيخ محمد اليدالي في كتابه «فوائد الفوائد»، لكن شرحه كان بإسهاب واسترسال علىعادته في الكتاب، فأنت تراه عندما يتحدث عن الحال يحشد الأنقال الكثيرة ذات الصلة بالموضوع ويتوسع فيه حتى يتكلم في الأصول والفروع، ناهيك طبعا عن علم الكلام.
وهو كذلك عند حديثه عن النبوات يتحدث عن المعجزة وما تتميز به عن غيرها من خوارق العادات، ويسترسل حتى تكاد تنسى الموضوع في الحديث عن الأولياء وكراماتهم وعواقب معاداتهم وذكر نبذ كثيرة من أحوالهم وكراماتهم ليعود ثانية إلى الموضوع، وهكذا ديدنه في سائر مباحث الكتاب فهو موسوعة كلامية لغوية أصولية بيانية طبية …
وهو غالبا في نهاية استطراداته يقول: ولنرجع إلى ما كنا بصدده من شرح الأصل مع أنه طال بنا الكلام حتى طاش سهم القول مما اعترض عن الغرض وآل ذلك إلى بعد المناسبة بينه وبين ما كنا بصدده، والحديث ذو شجون يجر بعض إلى بعض .
ويذكر أن داعيه إلى ذلك هو استغنام الفوائد لتقرع أسماع من يريد الله توفيقه.
ويمكن أن نلاحظ التشابه في النمط والمنهج بين اليدالي والسنوسي، فكلاهما يرى أن العقل وإن كان مناط التكليف وأن النظر على من مكن من النظر واجب، لكنهما يريان أنه لا بد من القلب والروح للإيمان، وبعبارة أخرى لابد من السلوك والرياضة على طريق القوم، لذلك أردف كل منهما التوحيد بالتصوف، فالسنوسي في شرحه للعقيدة الصغرى ختم بفصل عن معنى لا إله إلا الله[27]، وكذلك فعل الشيخ محمد اليدالي؛ إذ ختم الفرائد بخاتمة في التصوف. وقد اختصر المؤلف الشرح على عادته في اختصار كتبه.
الهوامش
[1] – عقيدة أبي بكر المرادي، تحقيق وتقديم د. جمال علال البختي، ص 148 فما بعدها، ط.1، مركز أبي الحسن الأشعري التابع للرابطة المحمدية للعلماء.
[2] علم أصول الدين في شنقيط نشأته ورجاله، مقال منشور في حولية جامعة شنقيط العصرية، عدد 13.
[3] تطورالمذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، ليوسف احنانة، ص: 52.
[4] – تبيين كذب المفتري، لابن عساكر، ص: 123. دار الفكر– دمشق ،(1399هـ).
[5] – تبيين كذب المفتري، ص: 121. مرجع سابق.
[6] تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، ص: 69. مرجع سابق.
[7] تطورالمذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، ص: 71 – 72. مرجع سابق.
[8] – فتح الشكور، ص:160.
[9] مخطوط بحوزتنا.
[10] فرائدالفوائد، ص: 119.
[11] – الأنوار المتوقدة، مخطوط بالزاوية اليدالية بنواكشوط- موريتانيا، ص3 و4.
[12] – رسالة اللفعة، محققة، ص 40 وص 64.
[13] – مقدمة الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز، ص40، ط أولى.
[14] – الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ص 223.
[15] فتح الشكورفي معرفةأعيان علماء التكرور، ص 123.
[16] – القصيدة شرحها المؤلف شرحا وافيا مطبوعا.
[17] السند العاليفي مناقب اليدالي، للنابغةالغلاوي، ص 15.
[18] كل هذه الآثارموجودةمخطوطة لدىالزاوية اليدالية بنواكشوط.
[19] – – محمد اليدالي ووسطه الاجتماعي؛ ومقدمة تفسير الذهب، ص 59.
[20] – مقدمة مخطوط الزاوية اليدالية، ص1.
[21] لدى الباحثمنه نسخة، ويجري العملعلى تحقيقه في سبيل طبعه ونشره.
[22] النجم الثاقب، ص15.
[23] – النجم الثاقب، ص15.
[24] لطائف المنن، لابن عطاء الله، ص 32 و33؛ وشرح المنجور لمحصل المقاصد، ج1 ص454.
[25] فرائد الفوائد، مخطوط بحوزتنا.
[26] شرح محصل المقاصد للمنجور، المسمى «مختصر نظم الفرائد ومبدي الفوائد»، ج1 ص 531، ط 1، دار ابن حزم.
[27] – شرح الصغرى للسنوسي، ص220.
المراجع
- إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة، مخطوط ومطبوع للمقري في مكتبتنا.
- شرح إرشاد الجويني لابن ميمون، ط الأنكلو مصرية ،1987م.
- شرح الصغرى للسنوسي، الجزائر ،2011م.
- فتح الشكور في تراجم علماء التكرور.
- فرائد الفوائد في شرح قواعد العقائد لليدالي، مخطوط في مكتبتنا.
- الفقه والمجتمع والسلطة، د يحيى البراء، ط .المعهد الموريتاني للبحث العلمي ،1994م.
- النجم الثاقب فيما لليدالي من المناقب للنابغة الغلاوي، ط. دار الرضوان ،2005م.