إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي
أكد المؤتمرون في إعلان مراكش، الذي تلاه السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يوم الأربعاء 16 ربيع الآخر 1437 (27 يناير 2016) على ضرورة تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة ونشر الوعي بحقوقها، وتهييئ التربة الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية الحاضنة لهذا التيار، وعدم توظيف الدين في تبرير أي نيل من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية.
ودعا الإعلان – الذي اعتبر “صحيفة المدينة” الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقـليات الدينية في العالم الإسلامي – دعا المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية للقيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي لأخلاق الثقافة المأزومة، التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن. وفيما يلي نص هذا الإعلان التاريخي:
إعلان مراكش
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
اعتبارا للأوضاع المتردية التي تعيشها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب اللجوء إلى العنف والسلاح لحسم الخلافات وفرض الآراء والاختيارات.
ولكون هذه الأوضاع أدت إلى ضعف أو تلاشي السلطة المركزية في بعض المناطق وشكلت فرصة سانحة لاستقواء مجموعات إجرامية ليست لها أي شرعية علمية ولا سياسية؛ أعطت لنفسها حق إصدار أحكام تنسبها إلى الإسلام، وتطبيق مفاهيم أخرجتها عن سياقاتها ومقاصدها، وتوسلت بها إلى ممارسات اكتوت بنارها مختلف شرائح المجتمع.
واعتبارا لما تعانيه الأقليات الدينية بسبب هذه الأوضاع من تقتيل واستعباد وتهجير وترويع وامتهان للكرامة مع أنها عاشت في كنف المسلمين وذمتهم قرونا، في جو من التسامح والتعارف والتآخي، سجل التاريخ تفاصيله وأقر به المنصفون من مؤرخي الأمم والحضارات.
ولكون هذه الجرائم ترتكب باسم الإسلام وشريعته؛ افتراء على الباري جل وعلا، وعلى رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، وافتياتا على أكثر من مليار من البشر؛ تعرض دينهم وسمعتهم للوصم والتشويه، وأصبحوا عرضة لسهام الاشمئزاز والنفور والكراهية؛ مع أنهم لم ينجوا من هذه الجرائم ولم يسلموا من ويلاتها.
ونهوضا بواجب البيان الذي طوق الله به أعناق العلماء وخاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية: إحياء للنفوس المعصومة وحفظا للأعراض المصونة، وحرصا على تحقيق السلم بين بني الإنسان، ومطالبة للنفس بأداء الحقوق، واسترجاعا للصورة الحقيقية لديننا الحنيف، ونصحا وتحذيرا لعموم الأمة من انعكاسات هذه الجرائم المتدثرة بلباس الدين على وحدتها واستقرارها ومصالحها الكبرى في المدى القريب والبعيد.
وفي ذكرى مرور ما يزيد على ألف وأربعمائة (1400) سنة على صدور “صحيفة المدينة”.
وفي مدينة مراكش بالمملكة المغربية الشريفة، وتحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس ملك المغرب؛ هذا البلد الذي كان -ولا يزال-، قيادة وشعبا، نموذجا ملهما في رعاية حقوق الأقليات الدينية وراعيا لرصيد تاريخي غني بالتسامح والتعايش والتمازج بين المسلمين وغيرهم ممن اشتركوا معهم في الانتماء إلى الوطن أو ممن لجأوا إليهم خوفا من اضطهاد ديني أو جور اجتماعي،
وبتنظيم مشترك بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (الإمارات العربية المتحدة) أيام.14 إلى 16 ربيع الثاني 1437 هـ/ 25 إلى 27 يناير 2016م..
اجتمع حوالي ثلاثمائة (300) شخصية من علماء المسلمين ومفكريهم ووزرائهم ومفتيهم على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم من أكثر من مائة وعشرين (120) بلدا بحضور إخوانهم من ممثلي الأديان المعنية بالموضوع وغيرها، داخل العالم الإسلامي وخارجه، وممثلي الهيآت والمنظمات الإسلامية والدولية؛ إيمانا منهم جميعا بنبل المسعى وخطورة القضية.
وبعد تداول الرأي ومناقشة الرؤى والأفكار فإن العلماء والمفكرين المسلمين المشاركين في هذا المؤتمر يعلنون -مؤازرين بإخوانهم من بقية الأديان-ما يلي:
“إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي”
أولا: في التذكير بالمبادئ الكلية والقيم الجامعة التي جاء بها الإسلام
1- إن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام: (ولقد كرمنا بني آدم – الإسراء: 70).
2- أن تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية الاختيار: (لا إكراه في الدين- البقرة: 256)، (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا؛ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟! – يونس 99)
3- إن البشر -بغض النظر عن كل الفوارق الطبيعية والاجتماعية والفكرية بينهم- إخوة في الإنسانية: (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا- الحجرات: 13).
4- إن الله عز وجل أقام السماوات والأرض على العدل، وجعله معيار التعامل بين البشر جميعا منعا للكراهية والحقد، ورغّب في الإحسان جلبا للمحبة والمودة (إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى-النحل:90)
5- إن السلم عنوان دين الإسلام، وأعلى مقصد من مقاصد الشريعة في الاجتماع البشري: (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة-البقرة:208)، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله- الأنفال-61)
6- إن الله عز وجل أرسل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين- سورة الأنبياء:107)
7- إن الإسلام يدعو إلى البِرّ بالآخرين وإيثارهم على النفس دون تفريق بين الموافق والمخالف في المعتقد (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين- الممتحنة:08).
8- إن الشريعة الإسلامية حريصة على الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق التي تضمن السلم والتعايش بين بني البشر (ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود- المائدة: 01) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم-النحل:91). “…أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”(أخرجه الإمام مسلم في صحيحه).
ثانيا: في اعتبار “صحيفة المدينة ” الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي
9- إن “صحيفة المدينة” التي أقرها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتكون دستورا لمجتمع متعدد الأعراق والديانات كانت تجسيدا للكليات القرآنية والقيم الإسلامية الكبرى.
10- إن هذه الوثيقة ثابتة عند أئمة الأمة الأعلام.
11- إن تفرد “صحيفة المدينة” عما قبلها وما بعدها في تاريخ الإسلام والتاريخ الإنساني نابع من:
أ- نظرتها الكونية للإنسان باعتباره كائنا مكرما؛ فهي لا تتحدث عن أقلية وأكثرية بل تشير إلى مكونات مختلفة لأمة واحدة (أي عن مواطنين).
ب- كونها لم تترتب عن حروب وصراعات؛ بل هي نتيجة عقد بين جماعات متساكنة ومتسالمة ابتداء.
12- إن هذه الوثيقة لا تخالف نصا شرعيا وليست منسوخة؛ لأن مضامينها تجسيد للمقاصد العليا للشريعة والقيم الكبرى للدين؛ فكل بند منها إما رحمة أو حكمة أو عدل أو مصلحة للجميع.
13- إن السياق الحضاري المعاصر يرشح ” وثيقة المدينة” لتقدم للمسلمين الأساس المرجعي المبدئي للمواطنة؛ إنها صيغة مواطنة تعاقدية ودستور عادل لمجتمع تعددي أعراقا وديانة ولغة، متضامن، يتمتع أفراده بنفس الحقوق، ويتحملون نفس الواجبات، وينتمون -برغم اختلافهم- إلى أمة واحدة.
14- إن مرجعية هذه الوثيقة لعصرنا وزماننا لا تعني أن أنظمة أخرى كانت غير عادلة في سياقاتها الزمنية.
15- إن “صحيفة المدينة” تضمنت بنودها كثيرا من مبادئ المواطنة التعاقدية كحرية التدين وحرية التنقل والتملك ومبدإ التكافل العام ومبدإ الدفاع المشترك، ومبدإ العدالة والمساواة أمام القانون ( …وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم؛ فإنه لا يوتغ [يهلك] إلا نفسه وأهل بيته…)، (وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم.)
16- إن مقاصد “صحيفة المدينة” هي إطار مناسب للدساتير الوطنية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وينسجم معها ميثاق الأمم المتحدة ولواحقه كإعلان حقوق الإنسان مع مراعاة النظام العام.
ثالثا: في تصحيح المفاهيم وبيان الأسس المنهجية للموقف الشرعي من حقوق الأقليات
17- إن الموقف الشرعي من هذا الموضوع -كما في غيره- مرده إلى مجموعة من الأسس المنهجية التي يسبب جهلها أو تجاهلها الخلط والالتباس وتشويه الحقائق، ومنها:
أ- اعتبار كليات الشريعة كالحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، وتحكيم النظر الكلي الذي يربط النصوص الشرعية بعضها ببعض ولا يغفل النصوص الجزئية التي يتشكل الكلي من مجموعها.
ب- اعتبار الجهات المخولة بالاجتهاد للسياق الذي نزلت فيه الأحكام الشرعية الجزئية، وللسياقات المعاصرة، وملاحظة ما بينهما من تماثل وتغاير من أجل تكييف تنزيل الأحكام، ووضع كل منها في موضعه اللائق به، بحيث لا تنقلب المفاهيم إلى ضدها، ولا تختل مقاصدها.
ج-اعتبار الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع: أي النظر إلى الأحكام التكليفية موصولة بالبيئة المادية والإنسانية لممارسة التكاليف. ولذلك أصل فقهاء الإسلام قاعدة ” لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”.
د- اعتبار الارتباط بين الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد: لأنه ما من أمر ولا نهي في الشريعة إلا وهو قاصد إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة.
18- إن من الاجتهادات الفقهية في العلاقة مع الأقليات الدينية ما كان متأثرا بممارسات تاريخية في سياق واقع مختلف عن الواقع الراهن الذي سمته البارزة غلبة ثقافة الصراعات والحروب.
19- إننا ” كلما تأملنا مختلف الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعا بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته. وهو التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد. غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل؛ بل يقتضي قبل كل شيء التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء”
وبناء على ما سبق؛ فإن المؤتمرين يدعون:
أ- علماء ومفكري المسلمين أن ينظروا لتأصيل مبدإ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتمـاءات، بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم.
ب- المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية إلى القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي لأخلال الثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن، وتمزق وحدة المجتمعات.
ج- الساسة وصناع القرار إلى اتخاذ التدابير السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق المواطنة التعاقدية، وإلى دعم الصيغ والمبادرات الهادفة إلى توطيد أواصر التفاهم والتعايش بين الطوائف الدينية في الديار الإسلامية.
د- المثقفين والمبدعين وهيآت المجتمع المدني إلى تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة ونشر الوعي بحقوقها، وتهييئ التربة الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية الحاضنة لهذا التيار.
هـ- مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج وطني واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية متبادلة، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيدا عن الجور والإقصاء والعنف.
و- ممثلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية.
وختاما يؤكد المؤتمرون:
” لا يجوز توظيف الدين في تبرير أي نيل من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية”
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
وحرر بمدينة مراكش بالمملكة المغربية يوم 16 ربيع الثاني 1437 هـ الموافق ل27 يناير 2016م