إمـارة المؤمنيـن واستتباب الأمـن في إفريقيا
مداخلة بعنوان “إمارة المؤمنين واستتباب الأمن في إفريقيا” للأستاذ أوسيني إسماعيل اوسى رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالغابون خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439ه الموافق ل 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.
توطئة
الحمد لله وحده، ولا معبود سواه، الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقامة لذكره، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وأصلي وأسلم، على خير صفوة رب العالمين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الهاشمي المضري القرشي، ما جاء السحاب بقطرةٍ، وما ناح طير في سماء، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد: فيقول المولى تبارك وتعالى: ﴿ياَدَاوُودُ إِناَّ جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرْضِ فَاحْكُمْ بيْنَ النَّاسِ باِلحَقِّ﴾[1].
فانطلاقًا من هذه الآية الكريمة وآيات أخرى كثيرة تناولت غاية ومقصد وجود الكائن البشري على وجه الأرض، وتحقيقًا لتحمُّلِ هذه الأمانة الإلهية، كان من الضروري العناية والتدبر في الاستخلاف؛ لنيل شرف تحقيقه والتمكين في الأرض.
ولما كان الإنسان بحاجة إلى ما يضمن له استقرار الحياة وأمنها، هيأ الله من عباده قوماً يقومون بإصلاح وتدبير شؤون الخلق ديناً ودنيا، كان ضروريا أن تُعْنىَ هذه الأمانة بكل ما ينظم شؤون الحياة الدينية والدنيوية التي فيها معاشه، وبالتالي تنظم له في سلك السعي والعمل طريقًا يسعى فيه إلى آخرته التي إليها مصيره، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِلىَ رَبكِّ الرُّجْعَى﴾[2].
ولقد اهتم الإسلام منذ فجره بالمجتمع في هذا المسار، ووضع في الحياة قواعد للمجتمع ليسود الأمن والاستقرار والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد وتدبير شؤون الحياة، وكل ما من شأنه أن يصل بالناس إلى بر الأمان على أسسٍ وأنظمةٍ حكيمةٍ واستقامةٍ رشيدة، ولكل مقامات البشر، حكومةً وشعبًا.
إمارة المؤمنين: مفهومها وأسسها، مقاصدها وغاياتها
إن لإمارة المؤمنين مفهومًا وأسُسًا ومقاصدَ وغاياتٍ، تكْمُن في أهميّتها الكبرى لذوي النهى والألباب من حراسة الدين إلى سياسة الدنيا به، إذ بهذه الأسس تستقيم حياة الناس، وبها يتحقّق الأمن والاستقرار في الأوطان، وحينما يتحقق ذلك؛ تؤدي تلك الأسس دورها، وتعطي أكلها وتقوم بمهامها خير قيام، وتعطي كذلك لأمير المؤمنين مسؤوليةً ودوراً في متابعة تطبيق شرع الله تعالى وأحكامه، ورعاية مصالح العباد.
فمفهومُ إمارة المؤمنين مصطلح شرعي يعني: القيام على شؤون الرعية بما يحقق لهم الصلاح والسعادة في الدارين (الدنيا والآخرة.)
وقد وضع الشارع الحكيم أسسا وقواعد عليها تبنى، وتؤدي غرضها المرجو، مستنبطًا كل ذلك من قوله تعالى:﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِے شَےْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَي اَ۬للَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِۖ ذَٰلِكَ خَيْرٞ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً﴾[3].
ومن الأسس التي تقوم عليها إمارة المؤمنين ومقتضياتها لدى الشارع هي:
البيعة: وهي الأسلوب الشرعي في تنصيب أمير المؤمنين، وهي أن يبايع أهل الحل والعقد؛ الذين يمثلون الأمة في تقديم البيعة للسلطان، ويترتب عليها عهد وميثاق في ذمة الأمة، عليها الوفاء به.
وللبيعة في الإسلام مقتضيات تحتوي على:
- السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما يأمر وينهى في غير محرم.
- لزوم الجماعة: فلا يحل لأحد من الناس منازعةُ السلطان في الحكم والرئاسة، ولا قتالُه ولا الخروجُ عليه، ومن فعل ذلك فهو مبتدعٌ مضل مبين.
- النصرة: التي تتحقق بالدعاء لأمير المؤمنين والنصيحة والتأييد له.
إن إمارة المؤمنين خلافةٌ عن الله تعالى في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وإن حفظَ الدين، وإقامةَ العدل، وحمايةَ البلاد والعباد، وتحقيقَ الوحدة التي هي سبيل التقدم والنصر، غايات كبرى لإمارة المؤمنين، تفرض على الأمة الطاعةَ ولزومَ الجماعة والنصرةَ والنصيحة.
وتقوم إمارة المؤمنين على تحقيق مقاصد تبرز في الضروريات الخمسة التي حرصت عليها كل الشرائع الإلهية السماوية، وسعت إلى تحقيقها وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس وحقن الدماء، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض (النسب.)
ومن الغايات الأساسية السامية لإمارة المؤمنين ما يأتي:
- توحيد المرجعية الدينية للأمة وحفظ خصوصيتها، وذلك بحفظ ذاكرة الأمة الدينية وخصوصيتها المذهبية، وصيانة الدين، حفاظًا على مقصد الاجتماع ،وتجنباً للفرقة والنزاع، والغلو والتطرف، ونحو ذلك تحت شعار قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بحِبْلِ اللِ جَمِيعاً وَلَا تفَرَّقُواْ﴾[4].
- تحقيق الإجماع حول مفهومٍ موحدٍ للمصلحة والمفسدة الشرعية، حيث نهى الإسلام عن مبايعة خليفتين في زمان واحد لجماعة واحدة.
- ضمان الحقوق والحريات لجميع الأفراد الذين تحت إمرة أمير المؤمنين من المسلمين وغيرهم.
- تنظيم وتأطير المجال الديني، والإشراف على التفكير والاجتهاد، لقوله تعالى : ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي اَ۬لرَّسُولِ وَإِلَيٰٓ أُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اُ۬لذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۖ﴾[5].
- حماية البلاد والعباد من كل عدوان داخلي أو خارجي يهدد وحدتها وأمنها واستقرارها.
تعريف الأمن وأهميته وحاجة البشرية إليه
إن الأمنَ حاجةٌ بشرية، بل هو حاجة المخلوقات جميعًا من إنسٍ وجنٍّ وحيوان، وهو مطلب مُلِحٌّ لا يكون بدونه استقرارٌ ولا سعادة، بل يكون الخوف والفزع والرعب والقلق، وإذا كان للإنسان حاجات لابد من تلبيتها، فإن حاجة الإنسان إلى الأمن هي من أرقى حاجاته التي يحرص عليها، التربية الأمنية في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويعمل على توفيرها، فلا مذاق لطعام ولا شراب إلا مع توفر الأمن والطمأنينة.
ومن هنا ندرك أهمية الأمن في حياة الإنسان بصفة خاصة، ونستشعر الرعاية الإلهية من خلال التوجيهات القرآنية المعجزة التي تدفع باتجاه تربية أمنية واعية.
فالأمن في اللغة: ضدّ الخوفِ وهو يعني الأمانَ والطمأنينةَ والسكون والثقة.
وفي الشرع هو: «شعور الإنسان بالسكينة والطمأنينة على حاجاته الدنيوية والأخروية وبدون تكلفة منه عند توفرِ أسبابهِ».
وللملكة المغربية الشريفة دور كبير في تحقيق الأمن، فقد فرضت نفسها بقيادتها الحكيمة رقمًا صعبًا في الملفات الهامة على الصعيد الإقليمي والدولي الأمنيين، مما جعلتها شريكاً يحظى بالاحترام بفضل القيادة المتبصرة للعاهل المغربي جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.
وأخيرًاً وليس آخرًا؛ أسرد بعضاً من الإنجازات التاريخية التي تحسب لإمارة المؤمنين بالمغرب في تحقيق الأمن الداخلي والإقليمي وذلك منذ اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس -نصره الله وأيده- عرش أسلافه الميامين.
تقول الكاتبة وفاء صندي: «إن احتفال المغاربة بهذه المناسبة له خصوصيته حيث تتجدد في كل سنة طقوس البيعة بكل ما لها من دلالة شرعية وما تشكله من خصائص الهوية الوطنية المغربية» [6].
مضيفةً أن «إمارة المؤمنين ساهمتْ دائمًا في الحفاظ على أمن المغرب واستقراره، وشكلت حصنًا منيعًا ضد تفتيت المغرب، وجدارا عصيا أمام كل التحديات التي عرفها العالم …حيث ظل المغرب، في ظلِّ التشبُثِ بثوابته الدينيةِ والروحيةِ، في منأى عن كل المخاطر والتهديدات الظرفيةِ»[7].
وأشارت الكاتبة إلى أن 16 سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس -نصره الله وأيده – كانت حافلة بالإنجازات والعطاء، مستعرضة جزءاً من هذه الإنجازات خاصة تلك المرتبطة بالهوية المغربية والتعددية اللغوية والمجتمعية، وكذا ما جاء به دستور 2011 [8].
ومن القضايا التي أسهمت في انتخاب المغرب في مجلس الأمن والسلم الإفريقي ،نذكر الدور الذي لعبه في استقرار الأمن في عدد من المناطق في أفريقيا، ومنها منطقة الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء التي استمرت منذ عقود من الزمن دون أن تنفلت في هذه القضايا كلها نتيجة حسن تدبير أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، فضلا عن إسهام المغرب الهام في تقريب وجهات النظر في اتفاق الصخيرات بين الأطراف الليبية، وسعيه وحرصه على إتمام التوافقات السياسية وحفظ الأمن بالدولة الليبية، وكذا جهود المغرب المتنوعة في محاربة الإرهاب والتطرف، وتواجد القوات المغربية في أفريقيا الوسطى ،وليست زيارة الملك محمد السادس -نصره الله وأيده- لجنوب السودان إلا نموذجاً أثر إيجابا على المشهد السياسي.
هذا إلى جانب ما يرتبط به المغرب مع الدول الإفريقية من غربها وشرقها ووسطها وجنوبها؛ من علاقات تنموية واقتصادية وأمنية، كلها تصب في دائرة استتباب الأمن والمشي قُدُمًا نحو مستقبلٍ أفضل.
الهوامش
[1] سورة ص، الآية: 26.
[2] سورة العلق، الآية: 8.
[3] سورة النساء 59.
[4] سورة آل عمران 103.
[5] سورة النساء 83.
[6] ذكرى عيد العرش..16 سنة من العطاء، لوفاء صندي، صحيفة الأهرام المصرية، القاهرة ،1 غشت 2015.
[7] المرجع نفسه.
[8] المرجع نفسه.