الخمار البقالي: الأسس الشّرعيّة لبناء أنماط التّعايش الإنسَانِي
ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، يوم الخميس 17 رمضان 1445هـ الموافق لـ 28 مارس 2024م بالقصر الملكي بمدينة الدار البيضاء، الدرس الرابع من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لسنة 1445 هـ.
نص الدرس الحسني الرابع من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية الذي ألقاه بين يدي أمير المؤمنين، السيد الخمار البقالي، عضو المجلس العلمي المغربي بأوروبا، متناولا بالدرس والتحليل موضوع “الأسس الشرعية لبناء أنماط التعايش الإنساني”.
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمدٍ خاتم النبيّين والمُرسلين وخيرِ خلقِ الله أجمعين وعلى آله الطّيبين الطّاهرين ورضي الله تعالى عن خُلفائه الرّاشدين وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
سَيِّدِي ومَولاي أميرَ المُومنين أعزّكم الله،
السّلام على مقامكم العَالِي بالله ورحمة الله تعالى وبركاته،
وسلام الله على كل من تَشّرف بالحضور في مجلسكم المُوَقّر، أما بعد:
فأستأذنكم أيّدكم الله في إلقاء هذا الدرس بين يدي جلالتكم راجيا له القبول
وَهو بعنوان: الأسس الشرعيّة لبناء أنماط التّعايش الإنساني انطلاقا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾. (سورة النساء الآية:1).
وسأتناوله إن شاء الله في مدخلٍ وثلاثة مباحث وخاتمة.
وعلى سبيل الاستهلال نقول تُطرح في هذا الموضوع مجموعة من المفاهيم مثل التعارف والتواصل والتعاون والتعايش وكلها باللفظ أو بالمعنى متأصلة في أصلي ديننا الكتاب والسنة، لأنه الفطرة والدين الذي أنزله الخالق على مقاس الخلق من حيث نفعه والإحسان إليه أفرادا وجماعات ومجتمعات وجمعا إنسانيا شاملا. والتعايش الذي اقترحناه مدخلا معناه نسج العلائق بين كل فئات المجتمع بحيث تكون مبنيةً على الأنس والاحترام وَفقا لِما تَقتضيه مصالح الأفراد والجماعات في أمور الحياة، وقد اصطلح لها في هذا العصر مفهوم مناسب هو المُواطنة المشتركة وتقتضي احترام الخصوصية الثقافية والدينية والعِرقية، وذلك شرط ما هو مطلوب من السلام من جهة ومن التّعاون من جهة أخرى، بحيث يقتنع كل فرد في المجتمع بأنه شريك للآخر في الوطن والمصير، وقد أسّس الإسلام في بدايته لهذا المفهوم، ويكفي فيه التذكير بهجرة المُسلمين إلى الحبشة، والتّذكير ببعض مُقتضيات وثيقة المدينة في بداية الهجرة النبوية. ومعلوم أن الإنسان بالرغم من أنه لم يتخل كلية ومنذ كان عن التنافس والخلاف والصراع فإنه على العموم ومنذ كان وهو واع بمصلحته في مراعاة قواعد الجماعة وما يزال يرتقي بها على صعيد البلدان وعلى صعيد العالم لكي تكون مواثيق مرعية، لذلك ما فتئ عُقلاء البَشر يدعون إلى التّعايش بين الحضارات والثقافات والشعوب ويرفضون إحدى الصيغ الأخيرة لتبرير العنف وهي نظرية الصِّدام والخِصام والعداء بين الحضارات، ومع كل ما يحققه الإنسان من مدارج الحكمة فإنه لم يخل زمن من غُلاةِ مُتشدّدين لا يستوعبون مفهوم التعايش وفلسفته، وبعضهم يحتج على أساس فهم ضيق للتّعايش مختزل في طمس الهُويات والتّنازل عن الخصوصيات ومزج العقائد والمذاهب.
والحقيقة أن التعايش الذي يدعو إليه العقلاء هو الذي ينطلق من الإرادة المشتركة في التّعاون على القيم الإسلامية المشتركة التي تنفع البشرية جمعاء، ومع مرور الإنسان بتجارب التاريخ الخاص أو المشترك يدرك أن المصلحة العامة ظاهرة في التعايش، ولكن المصالح الخاصة هي التي تتسبب في التنكر له أو عدم الانصياع له لأن ذلك الانصياع يدخل في العدل، ولأن عدم قبول العدل ينتج إما عن الجهل وإما عن الطغيان، ومهمة الشخص الذي يشرح تأصيل هذه القيم لاسيما في الدين الإسلامي، شرح هذه القيم للجار المُساكن معهم ثم شرحها للرأي العام في البلد المستقبل للهجرة، ولكن الشرح القولي يحتاج إلى برهان عملي، لذلك اعتبرنا دائما في المجلس العلمي المغربي لأوروبا أن واجبنا الأول هو تفهيم قواعد التساكن في الإسلام لأهلنا من المسلمين وحثهم على التمسك بها والسلوك بمقتضاها وبذلك تسهل مهمتنا في إقناع غير المسلمين من أهل ذلك البلد على اختلاف مستوياتهم ومواقعهم، ذلك لأن ادعاء قيم لا يمثلها أهل دينها ادعاء لا برهان عليه ولا يتوقع أن يتم الإنصات إليه. هذا في ما يتعلق بالجهل الذي يتوقف على البيان، أما الطغيان ومنه رفض الحق والإعراض عنه فيدخل في السياسة الكبرى التي ما يزال الإنسان يتحير في سبل كسب التوازن الضروري لها، وحيث إن الناس في هذا العصر يعملون على إرساء قواعد كونية للحقوق فمن المفيد لهذا المسعى أن يعرف كل أهل دين ما عند أهل الدين الآخر بهذا الصدد، وقد مضى على الإنسان لاسيما في أوروبا قرنان وهو يعمل على إبعاد الدين من مرجعيات العدل وبالتالي من مرجعيات التساكن، ولم يفلح كما يظن في تعويض هذه المرجعية فلاحا واضحا مقنعا، ومن حسن الحظ أن بعضَ النداءات المثقفة عادت لتربط الفشل في نمط التعايش بإبعاد الدين من المرجعيات. على أننا عندما نتكلم عن الدين إنما نقصد القيم المثلى المشتركة، وهي من قبيل ما قصده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء﴾ لأن أي دين إذا لم ينطلق من هذه القيم المشتركة يتعرض لأن يستعمل في ما يكون من قبيل الإقصاء لا من قبيل الإدماج ومن سلوك العداء بدل أن يدفع إلى الوئام والمحبة، ولا تختلف مقتضيات هذه القيم في سياقٍ دون آخر، لأنها أسس ثابتة وقواعد كلية مع اختلاف في التّنزيل حسب السياق والزمان والمكان.
فالاختلاف يمكن أن ينظر إليه إيجابيا من باب التنوع، والتنوع يمكن أن يؤخذ إيجابيا على أنه حامل للثراء، ومهما تكن الاختلافات بين المتساكنين في العالم أو البلدان فالمتعين هو تدبيرها من خلال المشتركات في كل المجالات وهي كثيرة وتراعي الاقتناعات المقبولة في دائرة الحرية التي هي مقدسة في كل الأديان، ولذلك نهى الإسلام عن الإكراه وشرع الجدال بالتي هي أحسن أي بالأسلوب المناسب في الظرف المناسب ومع المخاطب المناسب.
يتضح هذا الأمر يا مولاي من خلال الإشارة المجملة للأسس الشرعية لبناء أنماط التعايش وهي سبعة:
- الإخاء والتّعارف والتّواصل والتوقير المتبادل والتسامح والبر والعدل.
وكلّها أسس قام عليها الدّليل من الكتاب والسّنّة وأقوال الأئمّة وكانت مُرتَكزًا للتّعايش والحِوار في عهد النُّبوّة وظلت مرجعا عبر تاريخ المسلمين، وهي في الحَقيقة أسس فطريّة ضروريّة لابدّ مِنها لإيجاد أرضيّةٍ مُشتركةٍ للتّقَارُبِ والتّعاون.
الأساس الأول: الإخاء
وهو الشّعور بالاشتراك في الإنسانيّة لأن النّاس صِنفان، إما أخ في الدين أو أخ في الطّين أي في الآدمية، ولأن النّاس مهما اختلفوا في الدّين والفكر والمُعتقد والجِنس والنّسب واللّون واللّغة والانتماء، فإنهم في نهاية الأمر مخلوقون من نفس واحدة هي نفس آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُتَّقُواْ رَبَّكُمُ اُلذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء﴾.
وكما رُوي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب).
الأساس الثاني التّعارف
وهو الشعور بالاشتراك في الإنسانية، قال تعالى في سورة الحُجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾.
والتّعارف يُقابل التّناكر، فالتّعارف يؤدّي إلى التّآلف والائتلاف، والتّناكر يؤدي إلى التّخالف والاختلاف، والتّعارف يؤدي إلى التّعاون على الفِعل الحضاري الموصوفِ في القرآن الكريم بالبرّ والتّقوى قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى اَلِاثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ﴾
الأساس الثالث التّواصل
وهو في لغة العرب ضدّ التّقاطع والتدابر، والوصل ضد الهجران والقطيعة، وقد جعل القرآن الكريم وصل الآخرين ولاسيما ذوي الارحام من أصول التّديّن الصّحيح ومن أسباب دُخول الجنة قال تعالى: ﴿وَالذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِۦٓ أَنْ يُّوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ﴾ الآيات من سورة الرّعد.
وليس ذلك خاصا بأولي الأرحام مع ما لهم من المزيّة، وإنما هو عام في كل العلاقات الإنسانيّة التي ترجع جميعُها إلى وشيجةٍ واحدةٍ منها تفرعت جميعُ الوشائجِ الأخرى وهي المُشار إليها في قوله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُتَّقُواْ رَبَّكُمُ اُلذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَٰحِدَة﴾ وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾
وعن أسماءَ بنتِ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهما قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ، إذْ عَاهَدُهم رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَفْتَيتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقلَتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وهي رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قالَ: نَعَمْ صِلِي أُمّك.
الأساس الرابع الاحترام المتبادل
لأن الآخر مهما كان فهو إنسانٌ مُكَرّمٌ محترم بِغضّ النّظر عن دِينه وفكره وجنسه ونسبه ولونه ولغته إلخ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، فالإنسان مكرم محترم من حيث هو إنسان يَحرُمُ دمُه ومالُه وعِرضُه.
الأساس الخامس التّسامح
والتّسامح هو المُعاملة بالتي هي أحسن، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ وقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ وقال تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.والتّسامح يقتضي أن يعمل الناس على بناء جسور التّواصل مع الآخرين بدلا من بناء الأسوار والسّدود ووضع الجدران والقيود.
الأساس السادس البرّ
- والبرّ هو أن يُعامِل النّاسُ بعضَهم بَعضًا بالبرّ والإحسان، وقد أمر الله تعالى المسلمين أن يُعامِلوا غيرهم بالبرّ في قوله تعالى: ﴿لَّا يَنْهيٰكُمُ اُللَّهُ عَنِ اِلذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي اِلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيٰرِكُمُۥ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمُۥۖ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اُلْمُقْسِطِينَ﴾.
الأساس السابع والأخير في هذه العُجالة هو العدل
والعدل من أعظم القِيم والأسس التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية وبه قامت السماوات والارض، ولا صلاحَ للبشرية ِدون عدل يجري بينهم، ولا سلامَ ولا وئامَ ولا استقرارَ بدون إقامةِ العدلِ الشّاملِ بين النّاس كلِ الناس، دون تمييز بين المسلم وغير المسلم، والقريب والبعيد، والصديق والعدو، والغني والفقير، قال تعالى ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبيٰ﴾ وقال سبحانه: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاَقْرَبِين﴾ وقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَانُ قَوْمٍ علي أَلَّا تَعْدِلُواْ اُعْدِلُواْ هُوَ اَقْرَبُ للتقوي﴾.
وقال تعالى في أجمع آية في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالِاحْسَٰنِ وَإِيتَاءِي ذِي اِلْقُرْبيٰ وَيَنْهيٰ عَنِ اِلْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ﴾.
هذه بعض الأسس الشرعية والقيم المرعية لأنماط التعايش باختصار.
وأنتقل أعزكم الله إلى المبحث الثّاني وهو مجالات التّعايش، وأقتصر فيها على العناوين اختصارًا للوقت.
المجال الأول: العلاقات الدولية
والأصل فيها السِّلم والمعاملة الحسنة قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
المجال الثاني: العلاقات العامة
وتتمثل في عيادة المرضى وعلاجهم والإخدام والاستخدام فيما ليس بحرام، ولقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بنَ أريقط ليكون دليلَه في طريق الهجرة وهو على دين قومه، وتبادلِ التعازي عند وقوع المصائب، والتهنئةِ عند وقوع الأفراح والتهادي، كما روى البخاري في الأدب المفرد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (تَهَادَوْا تَحَابُّوا).
المجال الثالث: العلاقات التّجارية بين الأفراد والدّول والشعوب
ويكفي في إثبات ذلك ما روته ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي.
المجال الرابع: العلاقات العائلية
قال تعالى: ﴿أَنُ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اُللَّهَ اَلذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِۦ وَالَارْحَامَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا﴾.المجال الخامس: علاقات المصاهرة
أَسَّسَ الإسلامُ لعلاقاتٍ دائمةٍ ومتصلةٍ من خلالِ فتح أبوابِ المُصاهرة مع أهل الكتاب على وجه الخصوص قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اُلطَّيِّبَٰتُ وَطَعَامُ اُلذِينَ أُوتُواْ اُلْكِتَٰبَ حِلّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ اَلْمُومِنَٰتِ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ اَلذِينَ أُوتُواْ اُلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمُۥ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَان﴾.
والمجالات في هذا الموضوعِ كثيرةٌ لا يحتمل المقامُ إيرادَها جميعا.
وخلاصة القول: أن مجالات وفضاءات التّلاقي والتّعاون مع المُخالفين أوسعُ بكثير مما يظنّه من لم يستقرئ نصوص الشّريعة السّمحة ولم يطّلع على مَقاصِدِهَا وغاياتِهَا، ووقَفَ عند جُزئياتٍ مبتورةٍ عن أصولها وكُلّيّاتها، فظن أنّها تمنع كُلَّ تَلاقٍ مع الآخرين، فكانت النّتيجةُ ما نشاهده اليومَ من انحراف فكري وسلوكي خطير عاد على الأمة بِشرٍّ مستطير.
المبحث الثالث: ضوابط التّعايش
إذا كان التعايش مطلوبا وله هذه المجالات الواسعة فإن له بالنّسبة للمسلم ضوابطَ لابدّ من الحِرصِ عليها.فالإسلام لا يُقِرُّ التّعايشَ فقط بل يُؤسِّسُهُ ويدعو إليه وحتى لا يصير عبثا وانحلالا ويُصبح ميوعة واختلالا، وضع له ضوابط لابد من مراعاتها، وهذه جملة من الضّوابط أذكرها باختصار
- أولًا: ألّا يُؤدِي التّعايش إلى الإخلال بأصل من أصول الاعتقاد القطعية مثلَ احتقار نبي من الأنبياء أو رفضِ معلوم من الدّين بالضرورة.
- ثانيًا: ألّا يُؤدِي إلى الاخلال بعبادة من العبادات المفروضة بأدلة قطعية لا تحتمل التأويل.
- ثالثًا: ألّا يؤدي إلى استحلال الوقوع في المحرمات المشهورة كتعاطي الفواحش والمحرمات التي ثبت تحريمُها بالأدلّة القاطعة والنّصوص الصّريحة السّاطعة.
- رابعًا: ألّا يؤدي التعايشُ إلى مخالفةِ النّصوصِ الشّرعية الصّريحة والإجماعات القاطعة التي وقف عندها المسلمون في جميع الأعصار والأمصار.
- خامسًا: ألّا يؤدي التعايش إلى إلحاق الضرّر بالمسلمين، لأنّ إلحاق الضرر بجميع النّاس منهي عنه، فكيف بإلحاق الضّرر بالمسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ ). وهذا الحديث يعتبر كُليّةً من كُلِّيّاتِ الشريعة وقاعدةً من قواعد الفقه الإسلامي التي تَنْبَنِي عليها أحكام شرعية كثيرة وفروع فقهية عديدة.
هذه يا مولاي بعض الضوابط التي ينبغي أن يُراعيها المسلم في أي زمان وأي مكان عاملا على نشر الأمن وزرع الخير.
ونحن يا مولاي في المجلس العلمي المغربي لأوروبا الذي أتشرف بعضويته نعمل على أن يكون المغاربة القاطنون في البلدان الأوروبية سواء كانوا متجنسين أو مجرد مقيمين مثالا لقِيَم دينهم وثوابت بلدهم بما يتوافق مع القيم والقوانين الجاري بها العمل في البلد الذي ينبغي أن تكون له كل الروابط القانونية والثقافية والعاطفية التي للمواطن الأصلي. نعمل على زرع هذا الوعي العملي الواقعي من خلال التوعية بالقيم الإنسانية المشتركة ونجتهد وُسْعَنَا تمثيل ذلك وتمثُّلَه في عدة جوانبَ منها: التأطير الديني للجالية بمحاولة نشر الفهم السليم لدين الله، فنعمل مع كل الفئات العمرية من شيوخ وكهول وشباب سواء كانوا من الرجال أو النساء، وذلك مع مراعاة الفئات العُمرية والمستويات الثقافية، وقد حقق المجلس في هذا المجال نجاحا ملموسا، وخصوصا مع جيل الشباب الذين يقبلون على حفظ القرآن الكريم وربما تخصص بعضهم في العلوم الشرعية وكلهم يُظهرون الحرص على معرفة أحكام الشرع ويغمرهم الاعتزاز إذ تعلموا أن قيم دينهم مبنية على العدل وعلى الحرية وعلى نفع الناس.
وهكذا فمساجد المغاربة في أوروبا لا يقتصر دورها على إقامة الصلوات أو على فئة عمرية محدودة، بل نحاول أن يكون للمسجد المشاركة الفعالة في التعليم والتربية والتوجيه للسلوك الحسن الذي نحتاجه في كل مكان.
أما خارجَ المساجد فنعمل على تأطير شباب من الذكور والإناث لنستعين بهم في الوصول إلى كل التجمعات والهيئات، ومما تجدر إليه الإشارة أن علاقاتنا مع السلطات في تلك الديار علاقة يميزها التعاون على الصالح العام والاحترام المتبادل، مما سهل لنا الحصول على كثير من المنافع التي نحتاجها دينا ودنيا.
وإذا اعترضت بعض المصاعب سبيلَ هذه العلاقة مع السلطات في مختلف المستويات فإننا لا نلبث أن نعالجها بالحوار والتواصل من طرف الحكماء من أفراد الجالية، وهم كثيرون والحمد لله.
ونحن سيدي أعزكم الله في تأطيرنا للجالية المغربية وإن كنا نعمل على ترسيخ نموذج التدين المغربي بثوابته الأصيلة، لا نُهمل علاقات التعاون مع الجاليات الإسلامية الأخرى، وقد حققنا بتوفيق الله تعالى تلاحما وتعاونا في كل ما يمكن التعاون فيه، مع الاحترام في غيره من الخصوصيات المعتبرة.
وبحكم وجودنا في مجتمع متعدد الثقافات نعمل على التواصل والتعاون مع ممثلي الديانات الأخرى من خلال لقاءات فكرية وحوارات تواصلية يطبعها الاحترام المتبادل والتعاون على ما يمكن التعاون فيه، وقد شاركت باسم المجلس العلمي المغربي لأوروبا في لقاءات في عواصم مختلفة بعنوان: دور الديانات في التغيير والترشيد.
أما المجتمع المدني الذي كان أغلب أفراده لا يعرفون عن الإسلام والمسلمين إلا بعض المظاهر السلبية، فقد أصبح معظم الناس فيه يحترمون المسلمين بل يدافعون عن قضاياهم، إلا النادر الذي لا حكم له، وذلك بفضل فتح الأبواب وانفتاح كل مؤسساتنا وجمعياتنا على المجتمع بكل مكوناته.
وأما علاقتنا مع الإعلام فقد حرص المجلس منذ تأسيسه على أن يكون له حضور إعلامي لافت، سواء من خلال ما ينشره على موقعه الإلكتروني وصفحات التواصل الاجتماعي التابعة له، أو من خلال التواصل مع مختلف وسائل الإعلام الأوروبية المحلية والمغربية.
وبموازاة مع كل ما ذكر فلنا علاقات مع المثقفين والجامعيين ومنهم من اقتنعوا بالإسهام في التكوين العلمي المطلوب للأئمة وطلبة العلم، ونظرا لما يقتضيه التأهيل الفكري للشباب في إطار الثوابت الدينية المغربية فالمجلس منفتح على مختلف الجامعيين والمثقفين من ذوي التخصصات مغاربة وأوروبيين.
ومن أبرز الإيجابيات التي ميزت عمل المجلس أنه بفضل الله تعالى استطاع تحقيقَ حضورٍ لافت على المستوى الأوروبي، وخاصة في أوساط المساجد والمؤسسات المغربية في مختلف الدول الأوروبية، ومن الشواهد على ذلك إقبال الأئمة والمرشدين على حضور أنشطته المخصصة لتكوينهم وتأهيلهم، ومن مظاهر سعي المجلس إلى المزيد شعورُهُ بضرورة تكثيف أنشطته الإعلامية، واستغلالِ أفضلَ لوسائل التواصل بمختلف اللغات الأوروبية، حتى يرقى إلى مستوى التطلعات لمغاربة ومسلمي أوروبا في مجال التأطير مما يلبي حاجاتهم الدينية، ويبقى دور المؤطرين الدينيين المغاربة في زرع قيم التساكن والتحصين من الفكر المتطرف دورا له أهميته القصوى، سواء كان هؤلاء المؤطرون مقيمين أو زائرين لأنهم أعرف بالمغاربة من غيرهم مما يساعد على البلاغ المبين. أما عن أصحاب الشأن في أوروبا من السياسيين والإعلاميين فقد أخذت تسيطر عليهم عواقب العمليات الإرهابية وتطغى في الأفق اقتراحات حلول أمنية أو حلول بالإقصاء تشوبها الكراهية، ولو تأتى التأمل للنموذج المغربي والإنصات لأهله والتعاون معهم لكان ذلك سبيلا أعدل لفهم الإسلام ومبادئه في التساكن.
بالإضافة إلى كُلّ ما قيل ويُقال حول مبدا التّعايش نظريًا فقد طبّقه المسلمون عبر العصور عَمليًّا وواقعيًا، بحيثُ كان غيرُ المُسلمين يعيشون مع المسلمين، تجمعهم علاقة الوقار بعيدا عن التّمييزِ بين المُواطنين على أساس ديني أو عرقي أو جهوي، وقد تشكّلت صورة التّعايش العملي بين المِلَلِ والنحل والأديان والمذاهب في كلّ البلاد الإسلامية عبر العصور وأعطى المغاربةُ أبلغ صورها في بنائهم الحضاري لا سيما بالأندلس.
وفي الختام يا مولاي، أسأل الله تعالى أن يحفظكم ويحفظ مقامكم بما حفظ به الذّكر الحكيم من كلّ مكروه حِسًّا ومعنى، وأن يحفظ بكم هذا البلد من شرّ كل ذي شر وحاسد.
كما أسأل الله تعالى أن يحفظ ولي عهدكم المحبوب الأمير مولاي الحسن وصِنوكم الرشيد مولاي رشيد وكل أسرتكم الشَّريفة بما حفظ به السبع المثاني والقرآن العظيم.
والختم لمولانا أميرَ المومنين.