العلاقات والروابط الروحية بين المملكة المغربية وبلدان غرب إفريقيا

العلاقات والروابط الروحية بين المملكة المغربية وبلدان غرب إفريقيا

السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

ألقيت هذه المداخلة خلال الدورة الثالثة والأربعين لأكاديمية المملكة المغربية يوم 10 دجنبر 2015

أيها االسادة، أيتها السيدات

سأسوق، في هذا العرض المقتضب، شواهد على أن علاقات المملكة المغربية بعدد من البلدان في غربي إفريقيا تتميز:

  • بأنها مبنية على ثوابت دينية وثقافية مشتركة؛
  • بأنها علاقات تبادل وتفاعل في الاتجاهين؛
  • بأنها من العمق والحيوية بحيث تقدم حلولا لعدد من المشاكل في الوقت الحاضر.

واسمحوا لي، في البداية، بأن أذكر حدثا بسيطا، لكنه بليغ في بيان طبيعة هذه العلاقات، وهو كما يلي: عندما نفى الاستعمار محمدا الخامس رحمه الله إلى مدغشقر عام 1953، لم يزره في منفاه سوى شخصيات قليلة، كان من بينها الشيخ السنغالي إبراهيم نياس، هذا الشيخ الذي أخذ الطريقة التجانية عام 1937 بفاس، وجدد نشرها في السنغال وغينيا ونيجيريا.

إنها من الوقائع الدالة على أن هذه العلائق تتميز ببعد شعبي، ومن ثمة لم يضعفها لا الاستعمار، ولا قيام الدول ذات الحدود، ولا التوجهات الإيديولوجية في العقود السبعة الأخيرة، ولا مخططات عزل المغرب عن العمق الإفريقي منذ القرن السادس عشر ، إلى يومنا هذا.

لقد ظل المغرب يرعى هذه العلاقات، بحسب الانتظارات، وفي سياق هذا الصمود والانتظار تأسست رابطة علماء المغرب والسنغال عام 1985، وألقى الشيخ علي جالو من مالي درسا حسنيا انتهى فيه إلى ضرورة تجديد ما كان للمغرب بتلك البلدان من علائق، وعلى إثره أمر جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله بتأسيس “معهد الدراسات الإفريقية” بجامعة محمد الخامس.

وفي عهد جلالة الملك محمد السادس، دخلت هذه العلائق في وثيرة نمو غير مسبوقة، وذلك من خلال المشاركة الإفريقية المتميزة في الدروس الحسنية، وانعقاد لقاءات جديدة للتجانيين، وبناء مساجد في البلدان الإفريقية، ثم الاستجابة لطلبات تكوين أئمة من بلدان إفريقية، والترحيب الإفريقي بإحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.

إن المغرب، كما هو معلوم، يستقبل كل عام، منذ أزيد من نصف قرن، آلاف الشباب، من البلدان الإفريقية، للتكوين في مختلف التخصصات العلمية والتقنية، ولم يكن أحد قبل أزمة الهوية الدينية القائمة اليوم وتهديد الإرهاب، يفكر في التكوين في مجال الإمامة. بيد أن عددا من الأطر العليا في المجال الديني  حاليا في الدول الإفريقية، يحملون شهادات عليا من جامعات بلدان تلتزم بعقائد ومذاهب أخرى، ولكن غالبية هؤلاء ظلت ملتزمة بثوابت بلدانها، وهذا الأمر جعلها تنتظر بل وتستبطئ مزيدا من التعاون في المجال الديني مع المغرب الذي تنتهي أسانيد أجدادها العلمية والروحية إلى شيوخه.

لقد شرفني صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني طيب الله تراه بتعييني في نهاية عام 1989 أول مدير لمعهد الدراسات الإفريقية، وكان من نشاط المعهد تنظيم محاضرات في موضوع التراث المشترك مع البلاد الإفريقية، وكان المحاضر الثاني في هذا البرنامج الأستاذ جون هانويك من جامعة نورث ويسترن بالولايات المتحدة، وهو بالإجماع أكبر متخصص في هذا التراث، ويمكن إجمال استنتاجاته في الخلاصات الخمس الآتية:

  • أن الشواهد على التمازج البشري بين سكان المغرب وسكان البلاد جنوبي الصحراء سابقة عن وصول الإسلام، ولكنه نشط في العهد الإسلامي؛
  • أن العلاقات في العهد الإسلامي كانت لها مظاهر تواصل، تمثلت في المنافع المتبادلة عبر التجارة، إذ كانت لها مسالك ومراكز على ضفتي الصحراء، ما لبثت أن تأسست حولها دول ونفقت فيها أسواق للعلم والصلاح؛
  • أن الدبلوماسية قد تغلبت في هذه العلاقات على الجانب الحربي، وأن تدخل المغرب في تنبكتو في نهاية القرن السادس عشر لا يمكن فصله عن ضغط الأوروبيين الذين وصلوا إلى خليج غينيا؛
  • أن العناصر الثقافية التي استوردتها دول الجنوب، كالخط مثلا، أخضعتها لذوقها الجمالي؛
  • أن الفاعلين في هذه العلاقات، من فقهاء وقضاة ورجال تصوف، كان منهم أعلام من الشمال، أمثال عبد الله بن ياسين في الماضي البعيد، والشيخان أحمد التجاني وأحمد بن إدريس في القرن التاسع عشر، وكان منهم من الجنوب أعلام من أمثال البلبالي والساحلي والكانمي وأحمد باب التنبكتي.

من رحم هذه العلاقات ولدت الثوابت الدينية المشتركة، وهي الأشعرية عقيدة، والمالكية مذهبا، والتصوف سلوكا روحيا.

فالأشعرية تعني من الناحية السياسية اليوم أن المسلم الذي يشهد بلسانه بوجود الله وتوحيده والإقرار برسالة نبيه، لا يجوز تكفيره بالتقصير في العمل، فإن قصر في حق من حقوق نفسه فعهدة ذلك عليه، وإن أضر بحقوق الغير أو حقوق الجماعة، فمرد ذلك إلى القضاء، وإن قصر في حق بينه وبين ربه، فلله أن يعامله بعدله إن قضى، أو بفضله إن شاء.  إن قضية العقيدة كما تعلمون لم تثر انتباه العموم إلى أن استفحل أمر التكفيريين في هذه الأيام.

أما المذهب المالكي فيتميز بأمور، منها ثلاثة لها أهمية سياسية اليوم كذلك وهي:

  • غنى منهجه في استنتاج الأحكام من النصوص، ولهذا أهمية في الاجتهاد؛
  • الأهمية التي يوليها للمصلحة العامة، ولها علاقة بمشروعية القوانين؛
  • العناية بما جرى به العمل، وهو سبيل نفي البدعة عن كثير من الممارسات الثقافية في هذه البلدان.

إن آثار استتباب الوحدة المذهبية في بلدان إفريقيا انطلاقا من المغرب جعلت الباحث هانويك المذكور يصف المالكية بأنها هبة المغرب لإفريقيا، وله الحق في ذلك لاعتبارات منها:

  • أن النظام العام يحتاج إلى مرجعية مذهبية، لأن الاختلافات بين المذاهب، وإن كانت جزئية، تستعمل في التشويش على عقول العامة الذين يضخمونها حتى تصير وكأنها الحق المطلق في مقابل الباطل؛
  • أن الوحدة المذهبية ضمانة للسكينة داخل المساجد خاصة؛
  • أن تبني الدولة للمذهب يستتبع مساندة العلماء، على أساس أن كليات الشرع تتحقق بالإصلاح؛ وهنا لابد أن نشير إلى العلاقة العضوية بين الإصلاح السياسي والدعوة الدينية، فإن قصرت السياسة في الإصلاح صعب على الدعاة إقناع الناس بالقيم التي تدفع الفتنة، وإن اختلت أمور الدعوة، أي تدبير الشأن الديني، شوشت على السياسة بالتأويلات المتطرفة التي تهدد الإصلاح.

أما الثابت الثالث المشترك مع البلدان الإفريقية فهو السلوك الروحي المعروف بالتصوف. وقد كان معظم الدعاة والتجار المغاربة في إفريقيا صوفية شاذليين منذ القرن الثالث عشر، إلى أن تجددت حركة التصوف على أيدي أتباع الشيخين أحمد بن إدريس وأحمد التجاني، هذا الشيخ الأخير الذي هاجر جده الرابع من قبيلة عبدة جنوبي الدار البيضاء إلى عين ماضي. وبقطع النظر عن أنواع المعارضة الفكرية لمذهب التصوف، فإن صيغته المغربية الإفريقية تميزت بالطابع الأخلاقي العملي، والقدرة على التعبئة الشعبية.

وحيث إن التصوف يستعمل الاستعارة والرمز والإشارة، فإنه مستهدف بعداء المتمسكين بالقراءة الحرفية للنص الديني، هذه القراءة المسئولة عن التكفير، وعن القول بالجهاد الذي يتصرف في مختلف أشكال الإرهاب.

نأتي إلى النقطة المفصلية في هذا العرض، وهي إمكانيات التعاون الروحي في الحاضر والمستقبل على أساس هذا المشترك، ونمهد لها بالإقرار بأن المغرب يوجد فيه ثابت ديني آخر لا يوجد في غيره، وهو إمارة المؤمنين التي في مقدمة التزاماتها بكليات الشرع حماية الملة والدين، وهذا ما جعل المغرب يتمتع بمقومات مؤسساتية لتحصين ثوابته، وإذا قارنا وضعه بوضع الدول الإفريقية بخصوص هذا الجانب، وجدنا تلك الدول قد تبنت في دساتيرها، بعد الاستعمار، الحياد السياسي إزاء الدين، أي التوجه العلماني، هذا بالرغم من أن عدد المسلمين في بعض البلدان يتعدى نسبة تسعين بالمائة، لكن هذا الحياد سلبي لما يترتب عنه من عدم تحمل نفقات مطلب اجتماعي يتمثل في الخدمات الدينية، غير أن بعض الحكومات صارت في السنوات الأخيرة تضم منصب وزير للشئون الدينية أو من يقوم مقامه، وصار بعض الدول يتخذ مجلسا للشئون الإسلامية، لكن هذا التوجه العلماني يوازيه ما هو مكرس قانونا، وهو قيام جمعيات، بما فيها جمعيات يتركز نشاطها على الدين، من تدبير للمساجد وقيام بأعمال الإحسان، وغير ذلك، وعن طريق هذه الجمعيات يأتي التمويل الخارجي الذي قد يكون مشروطا بتوجهات مخالفة لتلك الثوابت، ومن حسن حظ بلدان غربي إفريقيا وجود الطرق الصوفية، ككيانات عريقة سبقت الاستعمار وحاربته وصمدت أمام كل العواصف الفكرية التي هبت بعد الاستقلال، صمدت كنسيج شعبي منظم متشبث لا بالتوجه الصوفي وحسب، بل بالثابتين الآخرين في مجال العقيدة والمذهب.

غير أن الدور الإيجابي المحافظ للطرق الصوفية لا يعفي المتتبع من إبداء ملاحظات ثلاث أساسية:

أولاها أن هذه الطرق، وهي مبنية على الولاء الروحي، تحتاج إلى تجديد وإصلاح مستمرين لكي تصون صورتها المثالية أمام المجتمع، وهذا ليس بالأمر اليسير؛ ومن التباشير في أفق تجديد عمل الطرق في إفريقيا النموذج الذي نجده في السنغال في شبيبة التجانيين من أسرة سي، هذه الشبيبة التي تحمل اسم “دائرة المقتفين للآباء والأجداد”؛

ثانية الملاحظات: أن معظم الخدمات الدينية للعموم لا يتم في زوايا الطرق الصوفية، وإنما يتم في المساجد، والمساجد يؤطرها الأئمة، وليس من المفروض أنهم جميعا من المتحمسين لفكرة التصوف؛

ثالثتها: أن الحرب الفكرية القائمة اليوم، في هامش الإسلام، تدور على الفتوى، والمرجع في الفتوى هم العلماء. ونشير إلى أن إشكال التوازي بين شيوخ التصوف من جهة، والعلماء من جهة أخرى، إشكال قديم قائم، والشاهد عليه في البلدان الإفريقية كتاب أحمد بابا التنبكتي في القرن السادس عشر، وعنوانه “تحفة الفضلاء ببعض فضائل العلماء”، وقد نشره المعهد عام 1992، مع ترجمة إلى اللغة الفرنسية.

إن الأطماع السياسية في الماضي، كما في الحاضر، تمارس حرب تأويل النصوص  لتخريب الثوابت الدينية للبلدان قصد النيل من استقرارها، مع أن المسلمين درجوا في تاريخهم على احترام خريطة توزيع المذاهب، ومن الأمثلة على هذه الأطماع في التاريخ:

أن الخوارج حاولوا التحكم في الطرق التجارية بين المغرب وبلاد السودان، وأن المذهب الشيعي حاول الاستتباب في هذه البلاد فتصدى له علماء المالكية؛ وفي كل مرة تشتغل الإيديولوجية التي تضخم الجزئيات في أذهان العامة. فمن ذلك أن الدولة التي قضت على المرابطين المساندين من فقهاء المالكية سموا أنفسهم “موحدين”، كما لو أن الآخرين مشركون يجوز قتالهم من أجل ذلك

ويومه، مثل أمس، يعبر المغرب عن وعيه بضرورة مواصلة التعاون وتجديده لصالح الأهم وهو الدين والاستقرار السياسي والنماء الاقتصادي، ويتأتى هذا التجديد من خلال وضع المغرب نموذجه في تدبير الشأن الديني رهن إشارة هذه البلدان، لاسيما من خلال الميادين الأربعة الآتية:

  • تكوين الأئمة، وهو أمر انطلق بالأفواج الموجودة الآن في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدات، وسيتقوى بأفواج لاحقة؛ ومهمة الإمام في توجه هذا المعهد تتعدى حماية الثوابت إلى الإسهام في التأطير النفسي والأخلاقي الناجع اجتماعيا؛
  • الإفادة في كيفية إحداث مؤسسة للعلماء على مستوى كل بلد (ولا نقصد فروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة) بل نعني مؤسسة وطنية تعمل من أجل التبليغ السليم؛ ووضع مرجعية مؤسساتية للفتوى في الشأن العام، وتأطير الوعاظ والأئمة.
  • الإفادة في كيفية تنظيم التعليم الديني لتحصينه من الاستغلال والمتاجرة؛
  • الإفادة في كيفية تيسير الخدمات الدينية تنظيما وإنفاقا، والإنفاق ينبغي أن يتوفر إما من ميزانية الدولة أو من الإحسان العمومي المقنن المنظم، أو من صندوق للوقف تسهم في إنشائه بلدان خارج إفريقيا، لها نفس الثوابت والأهداف، ولها إمكانات مالية، دون أن تكون لها أطماع سياسية أو عقدية في هذه البلدان.

إن الاستثمار في البني والخدمات الدينية ينبغي أن يكون مبحثا من مباحث التحليل الاقتصادي التوقعي الجديد، لا على أساس الوقاية من العدوان على الحياة فحسب، بل على أساس تصور تنموي جديد، فيه رعاية الحق في الإيمان بالمعنى الذي يعطيه الدين للحياة، والحق في الإيمان بما توفره قيمه من تجويد الحياة والتقليل من تكاليفها، في أفق ما يجري التداول فيه عالميا اليوم من زاوية واحدة هي زاوية المناخ.

إن الصورة التي وصفناها، بخصوص علاقة حماية الثوابت بالأمن العام، مستنبطة من حالة المغرب الذي تشتغل فيه إمارة المؤمنين، كما قلنا، على أساس البيعة الملتزم فيها بكليات الشرع، أما في البلدان الإفريقية فيمكن أن تحل مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة باجتهاد يضفي الشرعية على الأنظمة الملتزمة بالإصلاح، المختارة من الأغلبية بالانتخاب، باعتبار أن اجتماع الغالبية النسبية أو المطلقة لا تكون على ضلال؛ كما يمكن حل مشكلة شرعية القوانين على أساس ما يوليه الشرع من أهمية للمصلحة العامة. وبهذين الاجتهادين يسلم الضمير الإسلامي في هذه البلدان من وهم التشوف إلى خلافة تقوم على الإكراه، ومن شعار انتظار “تطبيق الشريعة”، وهو شعار يفرض التحجر في أمور قابلة للاجتهاد، ولا يربط بين حرية المتدين وبين تربيته على المسئولية إزاء نفسه وإزاء غيره وإزاء العالم.

والذي لا يقل أهمية عن جملة ما ذكر، ضرورة التوافق بين الفاعلين السياسيين، في كل بلد، على حياد الشأن الديني بالنسبة لتداول السلطة حول برامج سياسية تظل جزئية، باعتبار أن الدين يدخل في الكليات والثوابت، لا في المتغيرات.

في كل هذه القضايا، وما في حكمها، يمكن للمغرب أن يحاور إخوانه في العمق الإفريقي ويتعاون معهم، بالرغم من التشويش المذهبي وأنواع المنافسة الرديئة المغرضة التي اعتاد عليها وتحمل تكاليفها عبر القرون. ولكي نكون أكثر دقة في الموضوعية نختم بالملاحظتين الآتيتين:

أولاهما أن علاقات المغرب ببلدان إفريقيا في المجال الروحي ستظل فعالة بفضل عمقها الشعبي الذي لا يقوم على الأطماع ولا يتأثر بالتالي بالتدخلات الخارجية متعددة المصادر؛

ثانيتها أن الأخطار التي كان المغرب في تاريخه يحمي منها هذه البلدان يخشى اليوم أن تمتد إليه من الجنوب.

للاطلاع على التسجيل الكامل للمداخلة، المرجو الضغط هنا.