الـصيغة الـتاريخية لممارسة الدولة المغربية لـوظيفـتها الـدينية
لما كانت رعاية الشأن الديني وظيفة مركزية وعملا أساسيا من أعمال الدولة توجبه طبيعة الدولة ذات المرجعية الإسلامية ويفرضه ميثاق البيعة الذي يقع التعاقد فيه على حماية الدين، فقد كان ضروريا أن تختار المجموعات السياسية في الأمة لنفسها صيغة السلوك التديني الذي تتبناه من بين جميع الاختيارات التي جعل الله للناس فيها سعة وإمكانا للاختيار. وتتشكل تلك الاختيارات في مدارس فقهية اجتهد علماؤها في خدمتها ومراكمة البحث في قضايا الفقه وتأصيل ذلك البحث عبر أزمنة متطاولة حتى صارت مذاهب قائمة توافر لها من توالي الجهود العلمية ما جعلها أدنى إلى الصواب من الآراء الفردية التي لا تسلم من الخطأ، كما لا يسلم الرأي الفردي الذي يقابل الرأي الجماعي.
وفي الحالة المغربية، فقد قبل المغاربة الإسلام لما أدركوا حقيقته واستتبع ذلك تاريخيا أن تيارات فكرية ومذاهب فقهية عديدة تسربت إلى الساحة المغربية وتمددت فيها وتواجهت مواجهة أضرت بالوحدة الفكرية وبالاستقرار السياسي، لكن المغرب لجأ إلى التخلص من ذلك الارتباك بأن اختار الفقه المالكي مذهبا فقهيا والمذهب الأشعري توجها عقديا.
ولقد عرف المغرب الفقه المالكي ابتداء من اتصال أمثال يحيى بن يحيى بالإمام مالك، لكنه عرف المذهب المالكي في تكامله بعد أن عاد به علماء منهم أبو هارون عمران بن عبد الله العمري، وأحمد بن حذافة العمري، وبشار بن بركانة، ودراس بن إسماعيل.
وأما المذهب الأشعري فقد تعرف عليه أهل المغرب عن طريق رجال اتصلوا بالمشرق، منهم دراس بن إسماعيل احتمالا، وأبو الحسن القابسي تحقيقا، ثم أبو بكر الباقلاني.
وبغض النظر عما قيل من اعتبارات اختيار المغاربة للمذهبين المالكي والأشعري، فإن الأكيد أن المغرب عرف صراعات مذهبية، إذ انتشر فيه المذهب الصفري والإباضي الخارجيان ومذهب التشيع والإرجاء والاعتزال، وقد كان عبد الحميد الأوربي الذي استقبل المولى إدريس معتزليا، كما انتشر في المغرب فقه الحنفية وفقه الإمام الأوزاعي وفقه الشيعة، ومثل هذه الأوضاع تدعو إلى البحث عن مذهب يحقق الاستقرار وينأى عن الاختلاف والتمزق.
وميزة المذهب الأشعري والمالكي على اختلاف موضوعيهما واهتماماتهما أنهما يرتبطان بخيط ناظم ويشتركان في ميزة أساسية هي وسطيتهما واعتدالهما وجمعهما بين كل ما كان الأخذ به سبب انفصال المذاهب الأخرى، وافتراقها.
فقد برز المذهب الأشعري على يد مؤسسه أبي الحسن الأشعري في القرن الرابع والناس منقسمون بين حشوية مشبهة مجسمة، على مذهب مضر بن محمد بن خالد وأبي محمد الضبي الأسدي وأحمد بن عطاء الجهيمي، وبين مؤولة معطلة للصفات الإلهية؛ وكانوا على طرفي نقيض في قضايا عقدية متعددة، منها قدم كلام الله، فقال البعض إنه قديم حتى في أصواته ورسومه، وقالت المعتزلة بأنه مخلوق، لكن الأشعري توسط إذ ميز بين الكلام النفسي الذي رآه قديما دون غيره، واختلفوا في حرية العبد، فقالت الجبرية بانتفاء قدرة العبد، وجعلت نسبة الفعل إليه مجازية، وقالت المعتزلة بنقيض ذلك فأثبتت للعبد قدرة، لكن الأشعرية قالت بنظرية الكسب الجامعة بين موقفي إثبات القدرة ونفيها، وقالت المشبهة برؤية الله بالإبصار في الآخرة ونفت المعتزلة الرؤية، لكن الأشاعرة قالت بالرؤية من غير تحديد ولا تجسيم.
أما المذهب المالكي فإنه قد اكتسب المرونة من كثرة أصوله الاستنباطية التي أربى بها على كل مذهب إذ بلغت ستة عشر أو سبعة عشر أصلا، وهذه الوفرة في الأصول هي التي جعلت بعض العلماء يعتبرها ميزة المذهب التي أقدرته على ممارسة الاجتهاد وتحقيق اليسر.
وإلى جانب المرونة فقد اكتسب الفقه المالكي السماحة من أصول اختص بها جعلته يتقارب مع المذاهب الأخرى فيأخذ بلازم أدلتها في التوسعة على الناس ومن ذلك قوله بأصل مراعاة الخلاف الذي استعمله المذهب المالكي في حالات يقع الناس فيها في ما يخالف المذهب، لكن الفقه المالكي يتدارك الموقف درءا للحرج فيعود إلى لازم قول مذهب آخر فيعمله.
لقد وعى الفقيه المغربي خصوصية السعة والمرونة التي يتميز بها المذهب المالكي وتمثلها تمثلا جيدا، ونسج على منوالها فقها مالكيا يراعي الخصوصية المحلية، فنشأت عن ذلك مدرسة مالكية مغربية تضاهي المدرسة المصرية أو البغدادية.
وقد أضاف الفقه المالكي في الغرب الإسلامي اعتبار ما جرى به العمل بشروطه في نطاق الترجيح بين الأقوال المتعددة داخل المذهب، وقد كان هذا أصلا يعدل به عن القول المشهور إلى القول الضعيف إذا سانده جريان العمل به.
ولعل أبا الوليد الباجي أن يكون أول من اعتبر من المالكية ما جرى به العمل في كتابه مناهج الأحكام، وقد تضخم الفقه المؤسس على جريان العمل فأصبح يعرف بفقه العمليات في مقابل الفقه الأصلي، وأصبحت له مؤلفاته المستقلة وعم الكثير من الأبواب الفقهية، وقد ألف فيه علماء منهم الشيخ الزقاقالتجيبي وأحمد بن القاضي والعربي الفاسي وعبد الرحمن الفاسي وأبو القاسم السجلماسي، وألف علماء المغرب فيما جرى به العمل في مناطق معينة كسوس وغمارة وفاس، وتحدث عبد الرحمن الفاسي عن ثلاث مائة مسألة جرى بها العمل بفاس.
لقد كانت الدولة في الغرب الإسلامي مدركة لضرورة توحيد الناس على مذهب فقهي واحد لينتظم إجراء الأحكام الفقهية والقضائية ويتحقق الاستقرار الاجتماعي، فاختارت المذهب المالكي، وقام هذا الاختيار على مراعاة ملحظ دقيق هو عدم انخراط فقهاء المالكية في أي اتجاه عقدي غير اتجاه أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن من المالكية معتزلة ولا خوارج ولا شيعة.
لقد اختار هشام بن عبد الرحمن بالأندلس هذا الاختيار فقال في رسالته التي نقلها القاضي عياض:”قد نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهبا غيره أسلم منه، فإن فيها الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة، إلا مذهب مالك رحمه الله، فإنا ما سمعنا أحدا ممن تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع فالاستمساك به نجاة”.
ويرجع هذا ولا شك إلى النهج العقدي الذي أصله مالك رحمه الله، فأخذ الناس عنه العقيدة في جملة ما أخذوا، وقد سجل القرافي في كتاب الجامع من”الذخيرة” ما كان عليه مالك من حرص على صفاء العقيدة وسلامتها, وقد درس الناس ضمن مصادر الفقه المالكي المتداولة عقيدة أهل السنة، كما هو الحال في عقيدة ابن أبي زيد القيرواني.
وحرصا على الائتلاف على المذهب المالكي، فقد كان الأئمة يشترطون على من يولونه خطة القضاء أو الفتوى أن يفتي ويقضي في نطاق المذهب المالكي، ذكر المقري أن الفقيه منذر بن سعيد البلوطي كان يؤثر المذهب الظاهري ويجمع كتبه ويأخذ به نفسه وذويه، لكنه إذا جلس للقضاء فإنه يقضي بمذهب مالك وأصحابه بالذي استقر عليه العمل في بلدهم، وقد عزل الحافظ محمد بن قاسم القوري ومحمد بن محمد السراج لما قضيا بخلاف ما جرى به العمل في المغرب.
وهذا الموقف الذي اتخذه الأئمة حسم الخلاف في قضية إلزام القضاء، فقد كانت قضية إلزام القاضي أو المفتي بمذهب معين موضع اختلاف ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية، وذهب إلى عدم إلزامية ذلك، إلا أن أهل المغرب اتجهوا إلى الإلزام، وسندهم أن عدم الإلزام يتعين في حق كبار المجتهدين، وإلا فإن سحنون قد ولى رجلا القضاء فشرط عليه ألا يقضي إلا بقول أهل المدينة.