نشأة المذاهب الفقهية
يقصد بالمذاهب الفقهية، ذلك الاتجاه الذي صار عليه كل إمام من أئمة الاجتهاد، في استنباطهم للأحكام، من حيث اعتمادهم على الرأي، أو على النصوص، أو عليهما معا. ولم يكن المذهب بالمفهوم الذي استقر عليه فيما بعد، معروفا بين المسلمين في عهد الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية ، فمالك وغيره من أئمة الاجتهاد، لم يكونوا يعرفون معنى المذهب، وإنما كانوا ينشرون علم السنة، وفقه الصحابة والتابعين. ولذا قيل: إن نسبة المذهب إلى صاحبه لا يخلو من تسامح، فما كان مالك ولا غيره من أئمة المذاهب، يدعون أحدا إلى التمسك بمنهجهم في الاجتهاد، ولا كان عندهم منهاج محدد في اجتهادهم، وإنما كانوا يتبعون في ذلك منهج من سبقهم من علماء التابعين وهؤلاء من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يحدث هذا إلا في القرن الرابع الهجري عندما دعت الظروف إلى هذا النوع من الالتزام بمنهاج معين في الفقه والتشريع، ولم تكن المذاهب الفقهية قد استقرت على رأس المائة الثالثة، رغم ما قيل من أنه في هذا التاريخ، كان قد بطل نحو من خمسمائة مذهب؛ وإن كانت بذرة المذاهب قد بدأت قبل هذا العصر بزمان، إذ كان أهل المدينة يعتمدون على فتاوى ابن عمر، وأهل الكوفة على فتاوى ابن مسعود، وأهل مكة على فتاوى ابن عباس، فكان هذا أول غرس لأصل التمذهب بالمذاهب. فمالك رضي الله عنه كان يوصي طلابه ومستفتيه، بأن ينظروا في كلامه، فما وافق الكتاب والسنة، أخذوا به، كما كان يقول: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن الشافعي أنه كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي عرض الحائط. وكان أحمد بن حتبل يقول: ليس لأحد مع الله ورسوله كلام، وقال يوما لرجل: لا تقلدني، ولا تقلدن مالكا ولا الأوزاعي، ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا.
ثم إن المذاهب ليس شيئا منصوص عليه في الدين، ولا هو من قواعده الواجبة على المسلمين، وإنما الذي يجب أن يتبع هو كتاب الله وسنة رسوله. وأئمة المذاهب لم يأتوا بشيء جديد من عندهم، وإنما هم مفسرون لما ورد في الأصلين، ومستنبطين منهما الأحكام، تسهيلا للناس على ما لم يستطيعوا فهمه منهما. فالذي يقلد مالكا، إنما يقلد في الحقيقة ما فهمه مالك من النصوص الواردة في الكتاب والسنة، فهو إن أعطى رأيه في المسألة يأتي بالدليل، وإن حكم حكما أعطى الحجة عليه وعلله، وهو الشأن نفسه بالنسبة لغيره من الأئمة.
ومن الفقهاء الذين قلدهم الأصحاب والأتباع، ودونت المؤلفات في جمع أقوالهم وآرائهم، وسار الناس عليها، أبو حنيفة النعمان، المتوفى عام 151 هـ، وأبو عمرو الأوزاعي المتوفى عام 157 هـ، وسفيان الثوري المتوفى عام 161 هـ، ومالك بن أنس المتوفى عام 179 هـ، والليث بن سعد المتوفى عام 175 هـ، وسفيان بن عيينة المتوفى عام 198 هـ، وأبو عبد الله بن ادريس الشافعي المتوفى عام 204 هـ، وأحمد بن حنبل المتوفى علم 241 هـ، وداود الظاهري المتوفى عام 270 هـ، وابن جرير الطبري المتوفى عام 310 هـ، واسحاق بن راهوية، وأبو ثور…وكان لكل مذهب من هذه المذاهب آراء وطرق في الاجتهاد، ولكل أتباع متفرقون في الأمصار.
ولكن حدث أن بعض هذه المذاهب، انقرض لعدم الأتباع الذين ينصرونه وينشرونه، ويدافعون عنه؛ فمذهب الأوزاعي كان غالبا على الشام وبلاد الأندلس قبل أن ينتشر بها المذهب المالكي، أواخر المائة الثانية (170 هـ)، فانقطع منها. ومذهب الثوري لم يطل أمده، ولا كثر أتباعه، وانقطع بعد مدة يسيرة من قيامه؛ كما لم يكثر أصحاب الطبري، وأبي ثور، ولا طالت مدتهما، فانقطع مذهب أبي ثور بعد المائة الثالثة، والطبري بعد المائة الرابعة. أما داود الظاهري، فقد كثر أتباعه، وانتشر ببغداد وبلاد فارس، ووجد له أتباعا قليلين في افريقيا والأندلس، وانتهى أمره في القرن 6 هـ. وقل مثل ذلك في بقية المذاهب الأخرى إلا مذاهب أربعة، قلدها جمهور المسلمين: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، تعلق الناس بها، وقصدوها يجمعون أقوالهم وفتاويهم يبثونها في الناس بواسطة مؤلفات التزموا فيها أقوال من قلدوه. وانقسم الفقه بعد ذلك إلى مدرستين: مدرسة الرأي في العراق، ومدرسة الحديث في الحجاز، وزعيم المدرستين هما أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس؛ ترأس الأول مدرسة الرأي، وتزعم الثاني مدرسة الأثر.
*من كتاب التشريع الإسلامي: أصوله ومقاصده للدكتور عمر الجيدي