المزاوجة بين ثابتي: العقيدة الأشعرية والمذهب في التأليف الفقهي المالكي
يؤكد علماء الشريعة عموما، وفقهاء المالكية على الخصوص، أن المذهب المالكي الذي ينسب للإمام مالك بن أنس الأصبحي المدني (تـ 179هـ) والعقيدة الأشعرية التي تنسب لمؤسسها علي بن إسماعيل أبي الحسن الأشعري البصري (تـ 324هـ)، جاءا معا بمبادئ نموذجية، وأصول اعتقادية وفقهية تشريعية، تميزت بالوسطية والاعتدال والمرونة والانفتاح، الشأن فيها أن تساهم في التأليف بين ساكنة المجتمع الواحد، وتنفتح على المخالف.
إن الاعتقاد بعدم جواز تكفير المسلم، والالتزام بهذا الاعتقاد في الأحكام الفقهية، واحترام الآخر المخالف في الدين والاعتقاد، كما تقرره العقيدة الأشعرية ويقره الفقه المالكي.
كما أن توقير الخلفاء والصحابة وتقديرهم، واحترام ولاة أمورنا، والسمع والطاعة لهم، والدعاء لهم، وعدم الخروج عليهم، كما جاء التنصيص عليه في مباحث الأشاعرة، ومباحث السياسة الشرعية بفقه المالكية. والابتعاد عن الجدال والمراء في الدين، وغيرها مما جاء مبثوثا في أغلب كتب فقهاء المالكية، لمما يساعد في الحفاظ على الأمن العام، ويحافظ على الاستقرار، والتعايش مع الذات والآخر.
إن تلكم، وهي نماذج فقط، بعض مجموع المبادئ الأساسية التي جاءت بها العقيدة الأشعرية، وأقرها وتدين بها السادة فقهاء المالكية، ووثقوها، بأن زاوجوا بينها والفقه في مؤلفاتهم، وتم تفعيلها عمليا في دوائر مدارس فقهاء المالكية، عبر تاريخهم، وساهمت في صناعة الشخصية المسلمة الأفريقية المواطنة النموذجية التي تمكنت من مواجهة التيارات الأجنبية، وحصنت المجتمعات من الداخل، باعتمادها هذه المقاربة التي زاوجت بين عقيدة وفقه وسطي ومعتدل، وهو الذي نسعى اليوم توضيحه، والتنبيه إليه، وتفهمه وتفهيمه، وبثه ونشره بين فئات علمائنا الشباب، حتى يصير قدوتهم ومنهجهم، ومسلك طريقيهم في الفقه والاعتقاد.
واعتبارا لأهمية وقيمة مبادئ المرجعين – الفقه والعقيدة -، اختار علماؤنا –رحمهم الله- في بلداننا الإفريقية منذ القديم، هذا المذهب العقدي، إلى جانب المذهب الفقهي المالكي واعتبرا من الثوابت والخصوصية الدينية المرعية.
كما تؤكد الدراسات التاريخية انتشار هذا في كثير من دول جنوب غرب أفريقيا، حتى غدا قاسما مشتركا بين بلداننا الأفريقية منذ دخلها الإسلام، وعلى الخصوص البلدان الغرب إفريقية، التي تروم البساطة والوسطية في الفقه والاعتقاد، وتحتكم إلى الأعراف والتقاليد والعادات التي تتميز بها تشريعاتها، وهو مما أقره الفقه المالكي بشروط.
وإن هذا النموذج العقدي الأشعري، الموصوف بالسنية والوسطية والاعتدال، ليتميز أيضا بالدعوة إلى السلم الاجتماعي والأمان، والتمسك بالوحدة الوطنية، والتعايش، ونبذ التشتت والتفرقة بين المسلمين، ورفض التكفير والتشدد والتعصب والاستبداد بالرأي، ونبذ الآخر، والدعوة إلى جمع الشمل، وتوحيد الصف واحترام الغير، والتعاون على البر والتقوى، والسمع والطاعة لولي الأمر، وحسن النصح له، وإخلاص الدعاء له، والذب عنه، وامتثال أمره، لورود الأمر بذلك في كتاب الله وسنة نبيه[1]، وقد أفردت هذه المبادئ العقدية بالتأليف في مؤلفات خاصة، وهي كثيرة، منها مؤلفات مؤسس هذا المذهب، الإمام أبو الحسن الأشعري الذي يقول في بعضها: “ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، ونَدين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة”[2].
ولقد كان إلى جانب المساهمات العلمية الكثيرة التي أفردت بالتأليف- خاصة – في العقيدة الأشعرية، أن تميزت طبقة من المؤلفين الفقهاء المالكية، بأن ميزوا مقدمات كتبهم الفقهية، بمباحث خاصة بالعقيدة، وذلكم لما أدركوا بثاقب ذهنهم، أهمية ربط أو مزاوجة الفقه بالمذهب العقدي الأشعري في التأليف، وأنه المنهج الأليق في توجيه وتكوين الشخصية المسلمة النموذجية الوسطية المعتدلة، انطلاقا من أن العقيدة هي الأصل، وهي تتعلق بالقلب، كما وأنها متبوعة، والفقه تابع، وهذا الأخير يتعلق بالجوارح، واستقامة الجوارح وانضباطها، مرهون باستقامة وسلامة المعتقد القلبي.
وقد كان السادة فقهاء المالكية – على الخصوص -، يرون أن: تحصين الفقه، مرتبط بتحصين العقيدة، فصدروا –كما أشرت – بعض مؤلفاتهم بمباحث، تسلط أضواءها على العقيدة من خلال فقرات ومباحث مركزة. وإن نماذج هذه المؤلفات وأمثلة فقرات مباحثها كثيرة، ويمكن أن أذكر منها:
المختصر الفقهي، المعروف بـ:”الرسالة الفقهية “التي لقبت بـ: “باكورة السعد”، وكذا “زبدة المذهب “للإمام الشيخ أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، الملقب بمالك الصغير (تـ 386 هـ) التي ألفها خصيصا لتكون بين أيدي أطفال المسلمين، سهلة الحفظ والاستظهار، ومعتمدهم في الفقه والعقيدة السنية، وهي تعكس إرادته القوية في تحصين الجيل الناشئ من الأهواء والبدع التي سادت في عصره، وهو الذي صرح به المؤلف نفسه، حيث قال: “فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن… -إلى أن يقول – لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان… “[3]. وهو أول من سن هذا النهج في التأليف، تبعه بعد ذلك واقتدى به، مجموعة من العلماء والسلاطين، الذين ألفوا في الفقه، ثقة بأشعريته الثابتة بشهادة الثقاة.
فقد ذهب مجموعة من العلماء إلى القول بأشعرية ابن أبي زيد القيرواني وتأكيدها وتوثيقها، وأنه يعتبر من الطبقة الثانية من الأشاعرة، ذكره الإمام السبكي في طبقاته[4]. وقال القاضي عياض في المدارك: “وذكره أبو بكر بن الطيب الباقلاني المالكي في كتابه، فعظم قدره، وشيخه، واستجازه ابن مجاهد وغيره من أصحابه البغداديين”[5].
وصرح الإمام الباجي في المنتقى، “بأن ابن أبي زيد القيرواني والشيخ أبي الحسن القابسي على مذهب أبي بكر الباقلاني المالكي الأشعري”[6].
يقول – الإمام الباجي – في مكان آخر: “وكان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، والشيخ أبو الحسن علي بن محمد القابسي يتبعان مذهبه، وقرأ عليه القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر، وهو ممن أخذ عنه واتبعه، وعلى ذلك أدركت علماء شيوخنا بالمشرق، وأهل هذه المقالة هم الذين يشار إليهم بأنهم أهل السنة”[7].
على أن هناك من ذهب إلى أن الإمام الأشعري هو مالكي المذهب، وممن ذهب إلى هذا، الإمام القاضي ابن فرحون المدني في الديباج المذهب في ترجمة الشيخ أبي الحسن الأشعري، قال: “كان من المالكية، صنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنن، وما نفاه أهل البدع ……. وكان أبو الحسن القابسي يثني عليه، وله رسالة في ذكره لمن سأله عن مذهبه فيه أثنى عليه، وأنصف. وأثنى عليه أبو محمد بن أبي زيد، وغيره من أئمة المسلمين “[8].
ويؤكد هذا، القاضي ابن رشد الجد في فتاويه، حيث جاء فيها ما نصه: “وكتب إليه الأمير أبو إسحاق[9] بن أمير المسلمين، من مدينة اشبيلية سائلا عن أئمة الأشعريين، هل هم مالكيون أم لا؟
وهل ابن أبي زيد ونظراؤه من فقهاء المغرب أشعريون أم لا؟ وهل أبو بكر الباقلاني مالكي أم لا؟
وهو السؤال نفسه الذي سيرد في جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، للإمام أبي القاسم البرزلي، وفيه: “وسئل -يعني ابن رشد- عن أئمة الأشعريين، هل مالكيون أم لا؟ وهل ابن أبي زيد ونظراؤه من فقهاء المغرب أشعرية أم لا؟ وهل الباقلاني مالكي أم لا؟[10].
فأجاب على ذلك بالتالي: “لا تختلف مذاهب أهل السنة في أصول الديانات، وما يجب أن يعتقد من الصفات، ويتأول عليه، ما جاء في القرآن والسنن والآثار من المشكلات. فلا يخرج أئمة الأشعرية ومن يتكلمهم منهم في الأصول واختصاصهم بالمعرفة بها عن مذاهب الفقهاء في الأحكام الشرعيات التي تجب معرفتها فيما تعبد الله به عباده من العبادات، وإن اختلفوا في كثير منها فتباينت في ذلك مذاهبهم، لأنها كلها على اختلافها سنية، على أصول الديانات التي يختص بمعرفتها أئمة الأشعرية، ومن عني بها بعدهم، فلا يعتقد في ابن أبي زيد وغيره من نظرائه أنه جاهل بها، وكفى من الدليل على معرفته بها، ما ذكره في صدر رسالته مما يجب اعتقاده في الدين.
وأما أبو بكر الباقلاني، فهو عارف بأصول الديانات، وأصول الفقه على مذهب مالك –رحمه الله – وسائر المذاهب. ولا أقف هل ترجح عنده مذهب مالك على سائر المذاهب أم لا؟
لأن المالكي، إنما هو من ترجح عنده مذهب مالك على سائر المذاهب، لمعرفته بأصول الترجيح، أو اعتقد أنه أصح المذاهب من غير علم، فمال إليه.
والعالم على الحقيقة، هو العالم بالأصول والفروع، لا من عني بحفظ الفروع، ولم يتحقق بمعرفة الأصول، وبالله التوفيق. “[11]
قال الإمام المازري بعد هذا معقبا: “قلت: ذكر القاضي في المدارك الشيخ أبا الحسن الأشعري والقاضي الباقلاني، وذكر عنه أنه كان يرجح مذهب مالك فيما أظن، وما ذكره عن ابن أبي زيد ذكره الباقلاني فيه، وأنه من أهل أصول الدين فيما حكى المازري عنه. “[12]
فيتبين من خلال هذه النصوص، أن ابن أبي زيد القيرواني أشعري العقيدة، وإذا كان كلام القاضي عياض غير صريح، فكلام الإمام السبكي، والإمام أبي الوليد الباجي، وابن عساكر وابن فرحون صريح، وكلام القاضي عياض قريب من الصريح.
وقد نظم أحد السادة المالكية يمدح الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، مبينا ومثبتا ومنوها بأشعريته قال:
ابن أبي زيد على طريق *** الأشعري الحبر ذي التحقيق
نص عليه تاجنا السبكي*** والحافظ المقدم الباجي
وهو الذي يؤخذ من عياض *** الحافظ البدر المنير القاضي
شيخ الشيوخ تاج أهل الأثر*** ونقل القاضي ابن فرحون السري
وهذا – في تقديري – هو الذي شجع من أتى بعده على سلك دربه والاقتداء بمنهجه في التأليف ومنهم:
- الفقيه أبو القاسم محمد بن أحمد ابن جزي الكلبي الغرناطي المالكي (693هـ) في مقدمة كتابه: “القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية”.
كما ذكر شيئا من العقيدة في مختصره الموسوم بـ: “الضروري في علم الدين “. وقبله القاضي ابن رشد الجد (تـ 520 هـ) في كتابه: المقدمات الممهدات.
- ومنهم أيضا الفقيه ابن عاشر (تـ 1040هـ) في مقدمة منظومته الفقهية والتي افتتحها بقوله:
في عقد الأشعري وفقه مالك*** وفي طريقة الجنيد السالك
فكان كل من تولى منظومته بالشرح، إلا ويبدأ بهذه المقدمة العقدية، شرحا وتوضيحا وبيانا، وتفصيلا ومن العلماء من أفردها بالشرح مستقلة عن باقي متباحث المنظومة.
- كما خص الإمام شهاب الدين القرافي (تـ 684 هـ) فصلا مطولا عن العقيدة بكتاب الجامع بديوانه الفقهي: “الذخيرة “، وغيرهم كثير.
- وكان خاتمة من اقتدى بابن أبي زيد القيرواني، سلطان المغرب العلامة
سيدي محمد بن عبد الله، في كتيبه المختصر الفقهي المسمى بـ: “مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان “. وقد ألفه للصبيان، مقتديا بمالك الصغير الشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني (تـ 386هـ).
ومراعاة لهذا الاهتمام الذي أولاه السادة فقهاء المالكية للعقيدة بمقدمات كتبهم الفقهية، والتركيز في اختيار مباحثها العقدية النموذجية، حتى تكون في متناول كل فقيه أو متفقه مبتدئ – أو غيرهم – من المتعلمين، هي من وجهة نظرهم، بمثابة المبادئ العقدية الأساس التي يمكن ترتيبها ضمن الأولويات التي يجب معرفتها والإلمام بها، واعتمادها في التأليف. وقد عنونها ابن أبي زيد في رسالته الفقهية بـ: “باب ما تنطق به الألسنة، وتعتقده الأفئدة، من واجب أمور الديانات”.
و افتتحها بقوله: “الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته….أما بعد،أعاننا الله وإياك، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن..”
وهو –رحمه الله- بين المقدمة والخاتمة، يفصل ما أراد إثباته في كتابه في خمسة وأربعين بابا، تناول فيها العقائد كما عند أهل السنة، تحت “باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من أمور الديانات”.
أما الإمام ابن جزي الكلبي القرطبي المالكي فيقول في كتابه، القوانين الفقهية: “الفاتحة: فيما يجب في الاعتقادات من أصول الديانات، ويشتمل على عشرة أبواب”.
ويقول في افتتاحية كتابه الفقهي عن مبحث العقيدة: “اعلم أني افتتحته بعقيدة سنية وجيزة، تقديما للأهم، فلا جرم أن الأصول أهم من الفروع، ومن الحق تأخير التابع وتقديم المتبوع… “[13]. وقد اشتملت العقيدة في كتاب ابن جزي على عشرة أبواب:
- خمسة في الإلهيات، وخمسة في السمعيات.
فأما الأبواب الخمسة في الإلهيات فهي: وجود الباري جل جلاله، صفات الله تعالى، أسماء الله الحسنى، توحيد الله تعالى، تنزيه الله تعالى.
والخمسة الأخرى في السمعيات، هي: الإيمان بملائكته وكتبه ورسله، والإيمان بالدار الآخرة، الإمامة، الإيمان والإسلام، الاعتصام بالسنة.
وهذا الذي ذكرناه هو نفسه – ومعه وزيادة – الذي نجده في الرسالة الفقهية لابن أبي زيد القيرواني الذي في تقديري أول من سن هذا المنهج من التأليف عند علماء المالكية، وبدأه بكتاب فقهي مختصر حتى يتيسر حفظه للأطفال المتعلمين. – كما ذكرت سابقا – وسيقتدي به من جاء بعده.
فإذا رجعنا لمباحث هذه المقدمات العقدية، أمكننا الوقوف على مواضيع كثر فيها النقاش قديما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتد إلى زماننا، وقد فصل فيها القول السادة الأشاعرة، واعتبرها الأتباع من مزايا هذه العقيدة.
وفي تقديري أن من أهم ما جاء من اعتقاد في هذه المقدمات الفقهية، لمما يعتبر من أهم وأخطر القضايا التي تعرف نقاشا واسعا وجدالا كبيرا، وحلها سهل ميسر، نذكر منها ما يلي:
- الذهاب في الاعتقاد إلى عدم تكفير مرتكب الكبيرة:
لقد ذهب السادة علماء الأشاعرة إلى أن قضية التكفير لا يملكها أحد، ولا جماعة، ولا تنظيم، وإنما هي تسمية شرعية بحثة، ولها من الضوابط وتوافر الشروط، وانتفاء الموانع، ما يحصرها في أضيق الدوائر والحدود التي تدرأ بالشبهات، ثم هي منوطة بالقضاء، وبأولي الأمر، ولا يسارع إليها إلا الجهلة من الناس، كما يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي، وهو الذي يقرر: “أن الخطأ في ترك كفر ألف كافر، أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم”[14].
كما ذهب الإمام محمد عبده، إلى أن البعد عن التكفير أصل من أصول الأحكام في الإسلام، ويقرر: أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر “[15].
يقول أبو الحسن الأشعري في الإبانة: “ونرى بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج، وزعمت أنهم كافرون “[16].
وقال أيضا في مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: “من صلى إلى قبلتنا، فهو منا ولا نكفره”[17].
وإن هذه المسألة في غاية الأهمية، وهي ترتبط بالتعايش الداخلي بين نحن أولا، كما أنها مسألة تعتبر من أخطر ما تعانيه اليوم مجتمعاتنا الإسلامية، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه، ودخل يناقشه كل حاطب ليل، معتمدين في ذلك على أدلة دون أخرى. وسبب في شقاق كبير، زاد من حدة التنافر والتباعد، بدل التقارب والتعايش والتآزر.
واعتبارا لخطورته وأهمية مدارسته، فقد تناوله فقهاؤنا المالكية بحكمة، قال ابن أبي زيد في مقدمته العقدية بمختصره الفقهي: “وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة “[18].
وهو نفسه وبحرفه الذي سيذكره السلطان سيدي محمد بن عبد الله في كتيبه الذي ألفه للصبيان وسماه: “مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان “[19]
وقد ذهب الأشاعرة إلى الرأي الوسط، وهي ميزة، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة، ليس بكافر إذا كان من أهل التوحيد والإخلاص، بل هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهو تحت مشيئة الله عز وجل، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه في النار،على ما كان منه، ثم يخرجه منها، فلا يخلد فيها. لقوله تعالى “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء “[20].
ولما رواه الشيخان عن أنس بن مالِك رضي الله عنه أَن النبي صلَّى اللَّه عليهِ وسلم، قال لمعاذ رضي الله عنه: “ما من أَحد يشهد أَن لَا إلَه إلا اللَّه، وَأن محمدا رسول اللَّه صدقًا من قلْبه إلا حرمه اللَّه على النار “[21] والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
فتبين أن أهل السنة يذهبون إلى أن مرتكب الكبيرة عاص، وليس بكافر، فإذا مات دون توبة فأمره إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه، فإن عذبه، فلا يخلد في النار، بل يخرج إلى الجنة بسبب توحيده.
فهذه هي عقيدة الأشعري، وفتوى الفقيه المالكي، وتلكم هي بعض من مجموع مزايا وأهمية وقيمة المزاوجة بين التابثين في مؤلف واحد، وعلى الخصوص في مراجع الأطفال، حتى يتغذوا، وينشأوا على الوسط والاعتدال منذ الصغر.
- توقير الخلفاء الأربعة، وسائر الصحابة:
فيسجل لمنهج السادة علماء الأشاعرة في حق الصحابة، أنه عدل ووسط؛ فلم يعتقدوا العصمةَ لأحد منهم، ولم يكفروا أحدا منهم، ولم يتبرؤوا منهم، بل أنزلوهم منازلَهم التي يستحقونها؛ فأحبوهم، ووالوهم ودعوا لهم، وترضوا عنهم، ولم يقعوا في عرض أحد منهم أو ينتقصوه، ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام –
وإن هذا المعتقد الأشعري في الصحابة، يلعب دورا مهما في استقرار وتعايش المجتمعات المتنوعة المذاهب العقدية.
ولذلك ركز عليه السادة المالكية في مقدماتهم العقدية المختصرة بالكتب الفقهية، اقتداء بأبي الحسن الأشعري قال ابن أبي زيد: “وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهد يون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ويجب أن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب “21. وهذا نفسه، هو الذي سيتردد في مقدمات كتب فقهية مالكية أخرى.
- منع الخروج على الإمام والدعاء له، والإقرار بإمامته:
وهذا المبدأ، هو اعتراف بإمارة المؤمنين، وضرورة الالتزام بالبيعة، وفيه تعزيز للمواطنة وتربية على التعايش الداخلي، وتمتين روابط الاتصال والعلاقة بين الراعي والرعية، للحفاظ على الاستقرار والأمن الداخلي.
يقول مؤسس المذهب الأشعري الإمام أبو الحسن: “ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة “[22]
و هو الذي نبه عليه ابن أبي زيد في الرسالة، قال: “والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم…. والاستغفار لهم “[23].
وكذا قال ابن جزي الغرناطي الأندلسي في مقدمته العقدية. وكذا السلطان سيدي محمد بن عبد الله في مواهب المنان [24]
وإن من إحسان الرعية لإمامها، أن تخصه بالدعاء الصالح على كل حال، عادلا كان الإمام أم جائرا، وذلك في خاص الأدعية وعامها، كخطب الجمع والأعياد ونحوها، فإن نفع ذلك سابغ، وفضله عميم على الراعي والرعية على السواء، لما يكون له من أثر طيب على الوطن، من ترسيخ لوحدته، وتقوية لصفه، ورص لجبهته الداخلية، وتعايشه، حتى يصير كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا.
قال الفضيل بن عياض: “لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام، أمن البلاد والعباد “[25].
وقد كان الدعاء للإمام دأب سلف هذه الأمة. قال ابن تيمية: “كان السلف كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: “لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان “[26]
- ترك المراء والجدال في الدين:
فترك المراء والجدال في الدين من مزايا العقيدة الأشعرية، وهي أمان من نشوب فوضى الاختلاف، ذلكم لأن من نتائج الوقوع في ذلك، حدوث الشقاق والفرقة بين أفراد المجتمع الواحد، وانتشار تكفير بعضهم لبعض، وتسفيه بعضهم لبعض، فتتشتت كلمتهم، ويحدث الشقاق والفرقة والاقتتال.
وقد ختم به السلطان سيدي محمد بن عبد الله مقدمته العقدية بكتيبه الذي ألفه مبينا فيه منهج تربية الأطفال الصغار، وسماه: “مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان “. قال: “وترك المراء والجدال في الدين، وترك كل ما أحدثه المحدثون”[27]
وهذا العمل يترجم لنا بالملموس، مدى اهتمام ولي الأمر بتربية وتكوين النشء، رجال الدولة والمستقبل، واهتمامه وعنايته بما يليق بهم ويصلح أحوالهم، وينفع في تكوينهم، وتوجيه عقيدتهم لتحصينهم منذ الصغر من الانحرافات الممكنة الوقوع. كما أنه يترجم مدى عناية الراعي بالرعية.
يقول في كتابه: “… … حملني ذلك لما انطوى عليه الفؤاد من حب النصح للمسلمين أن أجمع لهم مسائل مهمات عن علم أمور الدين، قريبة المقاصد، شهيرة الموارد، مقتصرا فيه على الضروري، ليسهل حفظه على الصبيان، وهي أيضا نافعة لمن اقتصر عليها في دينه من الشيوخ والكهول والشبان…. إلى أن يقول: …. فإذا حفظ ذلك فليعلمه عقيدة الشيخ ابن أبي زيد، حتى يحفظها وترسخ في ذهنه، فهي الأصل الأصيل. “[28]
وإن حبل الاتصال في شأن عملية إصلاح الشأن الديني، ومنه العقدي والمذهبي ممدود من الأجداد إلى الأحفاد، من عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله –مؤلف الكتيب المذكور – إلى أمير المؤمنين، صاحب الجلالة، الملك محمد السادس، نصره الله، وهو الذي يسعى منذ اعتلاءه عرش أسلافه المنعمين، متابعة إصلاح الشأن الديني في إطار الحفاظ على الثوابت الدينية، والتي منها العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي ودعم جلالته لطلبة إخوانه الأفارقة أيضا، يتجلى ذلك في مظاهر شتى، منها:
- تأسيسه لمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات. الذي يتلقى فيه التكوين مجموعة من أبنائنا المغاربة وأبناء بلداننا الإفريقية.
- تأسيسه لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وإحداثه لمجموعة من فروعها بأكثر من ثمانية وأربعين (48) بلدا إفريقيا، وجعل من مهام هذه الفروع، السعي إلى الحفاظ على الثوابت الدينية المشتركة، والتي منها المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني.
وعلى العموم، فقد اعتبر فقهاؤنا المالكية، أن ما ذكرناه، هو من جملة ما يجب الالتزام به، وذهبوا إلى معالجة العقيدة السليمة كما رسمها سلفنا الصالح من علمائنا، وأثبتوها في مقدمة كتبهم الفقهية، تمهيدا لما سيأتي بعد، مما يمكن اعتباره من عقيدة المذهب المالكي، وجاءت واضحة المضمون، تتسم بروح الوسطية والاعتدال والتوازن، لا غلو فيها ولا تطرف، فكان لابد من مزاوجتها بالفقه العملي، والتأليف بينهما.
ويمكن القول في قيد ختام هذه المقالة، أن مما لا شك فيه، أن تصدير كتاب فقهي بمقدمة عقدية أشعرية مختصرة، مركزة المواضيع، لهو منهج تربوي سديد، يحاول الربط والمزاوجة بين ثابتين أساسيين: أحدهما عقدي متبوع، وآخر عملي تابع، للتنبيه على:
– أن لا فصل بين الفقه، وهو الذي ينظم علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه، وعلاقة الإنسان بما يعتقده في خالقه، ومخلوقاته، والعالم الغيبي، وأن هذا الأخير – أي المعتقد-، هو أساس الثاني – أي الفقه -، فإذا صلح واستقام الأول، استقام الثاني، وإذا انحرف واعوج، اعوج الثاني – أي الفقه.
– وإن هذا لمما يجب الاعتناء به في عصرنا، في تربية النشء على الخصوص، وأنه من الدروس المستفادة من هذا المنهج الأصيل.
أولا: التنبيه على أن الفقيه أو المتفقه، لا يمكنه أن يستجمع الشروط الضرورية التي تؤهله لهذه المهمة، مهمة التحريم والتحليل، حتى يلم بأصول الدين والعقيدة السنية، ومنها العقيدة الأشعرية.
ثانيا: كما يفهم من هذا، أن الفرد لا يمكن أن تستقيم أعمال جوارحه التي يجسدها فقه العبادات والمعاملات، في تنظيم علاقته مع العبد وربه، حتى يهذب اعتقاده، وفق المنهج السني الأشعري.
ثالثا: أن فقه الحلال والحرام، لا يمكن أن يدرس بمعزل عن العقيدة التي هي أصل، إلى جانب السلوك والأخلاق بقسم الجامع، وأن هذه التخصصات الثلاثة المجتمعة في مؤلف واحد، هي ثوابت، وهي التي تشكل ثلاثية الاستقرار، والأمن والتعايش بين نحن أولا، والآخر ثانيا.
رابعا: أن هذا النوع من التأليف، لمما يجب اعتماده في برامج التربية والتكوين للمتعلمين الصبيان والمرشدين والمتفقهين.
الهوامش
[1] وردت آيات كثيرة في طاعة ولاة الأمر، كما وردت فيها أحاديث كثيرة، وقد ساق الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة جملة صالحة منها.
[2] الإبانة عن أصول الديانة: ص: 11.
[3] مقـدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني الفقهية.
[4] انظر طبقات ابن السبكي: 3/368
[5] انظره في المدارك: 6/216-217
[6] انظره في المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي 7/204 باب النهي عن القـول بالقـدر.
[7] انظره المصدر السابق
[8] انظره في الديباج صفحة: 293 ترجمة رقم: 382.
[9] أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الأمير اللمتوني، قاد المرابطين المسلمين في معركة قتندة ضد الإفرنج سنة 514هـ /1120م، وهو أحـد أدباء المرابطـين والذي ألف الفتح باسمه قلائد العقيان، وكان يحكم الأندلس من قبل يوسف بن تاشفين. انظر المغرب في حلى المغرب: 1/397 ونفح الطيب للمقري: 7/47-48
[10] انظره في جامع مسائل الأحكام للبرزلي: 6/210.
[11] انظره في فتاوى ابن رشـد: 2/1060
[12] انظره في جامع مسائل الأحكام للإمام البرزلي: 2/210.
[13] انظره في القوانين الفقهية صفحة: 54
[14] انظره في الاقتصاد فر الاعتقاد: 135.
[15] انظر الأعمال الكاملة لمحمد عبده:3/302
[16] انظره في كتاب الإبانة: 10
[17] انظره في: 86
[18] انظره في الرسالة الفقهية صفحة: 21
[19] انظره في الصفحة: 50
[20] سورة النساء: الآية 115.
[21] رواه الإمام البخاري في الجامع الصحيح حـديث رقم: (128).
ورواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، رقم:32. ج1/61.
[22] انظره في الإبانـة صفحة: 12
[23] انظره في الرسـالة صفحة: 21
[24] انظره في الصفحة 51
[25] انظره في وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 261 الترجمة رقم 531 الفضيل بن عياض.
[26] انظره في فتاوى ابن تيمية: 28/391./
[27] انظره في الصفحة 34
[28] انظره في الصفحة: 29-30
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم رواية ورش.
- موطأ الإمام مالك رواية يحيى بن يحيى الأندلسي.
- الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري.
- الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده.
- جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام لأبي القاسم بن أحمد البلوي التونسي المعروف بالبرزلي تقديم وتحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة طبع دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان 2002م
- ترتيب المدارك للقاضي عياض تحقيق سعيد أعراب، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية1981م
- الرسالة الفقهية لابن أبي زيد القيرواني
- صحيح الإمام البخاري.
- صحيح الإمام مسلم.
- الضروري في علم الدين لابن جزي الكلبي القرطبي.
- طبقات السبكي تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي تحقيق محمود محمد الطناحي والدكتور عبد الفتاح لحلو طبع هجر للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثانية 1413هـ.
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرجون دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1996م.
- الذخيرة في الفقه المالكي لشهاب الدين القرافي طبع دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان.
- فتاوى ابن رشد الجد تحقيق وتقديم الدكتور المختار بن الطاهر التليلي طبع دار الغرب الإسلامي 1987طبعة أولى بيروت لبنان
- فتاوى للشيخ أحمد ابن تيمية طبع المكتب السعودي بالمملكة المغربية بالرباط.
- القوانين الفقهية لابن زجي الكلبي القرطبي.
- المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي. طبع دار السعادة بالقاهرة.
- مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان للسلطان سيدي محمد بن عبد الله.
- وفيات الأعيان لابن خلكان.