عمل أهل المدينة في المذهب المالكي
امتاز المذهب المالكي بأصول تشريعية انفرد بها دون غيره من المذاهب، ومن هذه الأصول إجماع أهل المدينة الذي قال فيه ابن خلدون: “وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى واختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة، لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي الآخذين ذلك عنه، وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية”.
وعمل أهل المدينة من أمهات المسائل عند الإمام مالك وهو حجة عنده قوية يقدمه على الحديث الآحاد، لأنه عنده في حكم المتواتر.
وعمل أهل المدينة عند المالكية نوعان:
النوع الأول
شرع منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم إما قولا أو فعلا كالصاع، والمد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ به منهم الصدقة وزكاة الفطر، وكالأذان، والإقامة، وترك الجهر بالبسملة في الصلاة، والأحباس… فنقل أهل المدينة لهذه الأمور من قوله أو فعله كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره، ومدينته، وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره، وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا، أو نقل إقراره أو تركه لأحكام لم يلزمهم بها كترك أخذه الزكاة من الخضروات.
فهذا النوع من إجماع أهل المدينة حجة قطعية عند المالكية يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، فإن هذا النوع نقل محقق معلوم موجب للعلم القطعي فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون، وإلى هذا رجع أبو يوسف لما ناظر مالكا في الصاع، وهو الذي قصده مالك من عمل أهل المدينة.
وهذا النوع من النقل بلغ درجة التواتر في نظر المالكية لأنه نقله الآلاف عن الآلاف من دون نكير عليهم، لذلك قدمه الإمام مالك على الأحاديث الأحادية ولو كانت صحيحة عنده لذلك نرى مالكا نفسه يخالف أحاديث يرويها في الموطأ.
النوع الثاني
وهو إجماع أهل المدينة المبني على الاجتهاد والاستدلال، وهذا النوع اختلف فيه المالكية أنفسهم، فذهب معظمهم إلى أنه ليس بحجة ولا فيه ترجيح، وهو قول كبراء البغداديين كابن بكير وابن القصار والأبهري وغيرهم، قالوا: إن أهل المدينة بعض الأمة ومن شرط الإجماع أن يتفق جميع الأمة، وقال هؤلاء إن مالكا لم يقصد بعمل أهل المدينة هذا النوع.وذهب بعض المالكية يرجح هذا النوع من عمل أهل المدينة على اجتهاد غيرهم.وذهب آخرون إلى أن هذا النوع مثل النوع الأول فهو حجة يقدم على خبر الآحاد، وهذا الرأي للقاضي عبد الوهاب وابن المعذل وجماعة من المغاربة.
الدليل على مشروعية عمل أهل المدينة عند المالكية
استدل أئمة المالكية على حجية عمل أهل المدينة بعدة أدلة منها:
- أولا: الحديث الذي أخرجه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا”، أي أنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها كذلك الإيمان انتشر في المدينة، قال القرطبي: “فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع وأن عملهم حجة كما رواه مالك”.
- ثانيا: الحديث المروي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: “إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ” فقال المالكية تعليقا على هذا الحديث: على هذا لا يمكن نسبة الخطأ لإجماع أهل المدينة لأن الخطأ خبث يجب نفيه عنهم.
- ثالثا: إن المدينة هي دار الهجرة، وبها نزل القرآن الكريم وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقام صحابته، وأهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل وبما كان من بيان النبي صلى الله عليه وسلم للوحي، وهذه مميزات ليست لغيرهم، وعلى هذا فمذهبهم مرجح على مذهب غيرهم وعملهم حجة وفي هذا قال مالك في كتابه إلى الليث بن سعد: “إن الناس تبع لأهل المدينة، التي إليها كانت الهجرة، وبها تنزل القرآن”.