كلمة الأستاذ أمال جلال رئيس جامعة القرويين بفاس
ألقيت هذه الكلمة خلال الجلسة الافتتاحية للندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.
كلمة رئيس جامعة القرويين السيد أمال جلال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين؛
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي المصطفى الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الهادين المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
السيد الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى
السيد الأمين العام لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
السادة رؤساء المجالس العلمية بالمملكة
السيدات والسادة أعضاء المجلس العلمي الأعلى
السيدات والسادة رؤساء وأعضاء فروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.
السادة العمداء والأساتذة
الحضور الكرام
إنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن أحضر معكم اليوم في هذا الجمع المبارك الذي انتظم إيذانا بانطلاق الندوة العلمية الدولية التي ينظمها موقع الثوابت الدينية المغربية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية» بمدينة فاس مقر هذه المؤسسة، ومقر جامعة القرويين.
وغير خاف أن الوضع المتميز لمدينة فاس كعاصمة علمية وروحية للمملكة هو نتيجة لماض علمي وثقافي عريق، غني برموزه، تشكل جامعة القرويين إحدى تجلياته باعتبارها أقدم جامعة في العالم بقيت مفتوحة لاستقبال العلماء والمتعلمين من مختلف الآفاق، وظلت تسلم الشهادات للمتخرجين منذ تأسيسها إلى يوم الناس هذا من غير توقف ولا انقطاع.
وذلك يعني فيما يعنيه: استقرار مجموعة من الأعراف الأكاديمية عبر القرون المتطاولة. ومن تلك الأعراف الشريفة اتصال السند العلمي لدى علماء القرويين وخريجيها، واستقرار قول علمائها في مختلف المواضيع التي كانوا يعيدون تناولها في الإلقاء والتلقي. وهي أقوال ومقولات، تشكلت وتطورت، عبر آلاف مؤلفة من المذاكرات والمناظرات، كتابة وشفاها. بحيث لا يمكن لأحد أن يتخيل فترة لم تُثَر فيها مشكلات علمية يتم التصدي لها، ويُبدأ القول فيها ويُعاد.
وأهم تلك الصروح التي تأسست بفضل تلك الجهود ما نطلق عليه اليوم اختصارا عبارة «الثوابت الدينية المغربية». ولم يكن ذلك نتاج بحوث علمية وكفى، بل ظلت معطياتٍ دينيةً تمثَّلتها الأمة المغربية، وأفادت منها عبر تاريخها، كما استفادت منها أمم متتابعة من المسلمين في مختلف الأقطار، عبر سياق تاريخي طويل، خصوصا في العمق الإستراتيجي الإفريقي.
ولعل محاولة اختزال ذلك السياق التاريخي الطويل في هذه الكلمة مما يعد في غاية الإخلال، لما فيه من التجنِّي على أعمال الأعلام من علماء الإسلام، الذين أفنوا أعمارهم في تناول المفاهيم، والمسائل، والقضايا التي واجهوها، والتي أورثنا عملهم العلمي في موضوعها ما نسميه اليوم بالثوابت الدينية المغربية.
وقد جاءت أعمال أولئك العلماء الأعلام مختلفة نوعيا بحسب الغاية التي كان يقصدها كل واحد منهم، والتي اندرجت إسهاماتهم ضمنها. وأبرز تلك التنوعات التي ينبغي أن ننوه بالفرق بينها اثنان:
النوع الأول: التشكُّل: ويتمثَّل في جهود طائفة من العلماء عظيمة العدد، متصلة السند، في تشكيل تلكم الثوابت الدينية، حتى صارت على ما هي عليه من وضوح الرؤية، وقوة الدلالة، ودقة التحرير.
النوع الثاني: التمثُّل: وهو جهود العلماء من تلك الطائفة، أو ممن عداهم مِـمَّن تلقَّى عنهم، واتَّصل بسندهم، واقتدى بدليلهم، في نشر وتثبيت القناعات التي انفضَّ عنها النزاع، وكَشَفَتْ عنها الحُجَّة، واجتمعت عليها الكلمة. وهذا النشر والتثبيت هو الذي تولَّد عنه تمثل الكافة، من الخاصة والعامة، لما نسميه اليوم بالثوابت الدينية المغربية.
وتستدعي المعرفة الصحيحة بكل واحد من هذين النوعين الاطلاعَ على أحمالٍ من الأسفار، لاستحضار ما فات في سبيله من الأعمار، والكشف عما طَوَتْهُ الأيام فيها من الأقوال، والأعمال، والأحوال. فليس ذلك من باب التأريخ لجامعة القرويين فقط، بل إنه مما يهم التأريخ للذاكرة الإسلامية عموما، التي تتعرض لعملية تزييف منهجي بكل الوسائل المتاحة.
ولذلك فإنه لا يسعني كرئيس لجامعة القرويين إلا أن أشد على يد القائمين على هذه الندوة التي تسهم في معالجة أقوال العلماء في تلكم الثوابت المتينة الراسخة. مع العلم بأنها ستعالج من هذه الغاية بعضا وتَبقى منه أبعاض كثيرة تعالجها جهود اللاحقين. فإن الوفاء بهذا الموضوع مما يلزم له أن نجرُد مدونات كل واحد من أعلام هذه الجامعة عبر التاريخ، ونستحضر محاضراتهم ومذاكراتهم ومناظراتهم ودروسهم مما شغل حياة كل أولئك الأعلام.
بدءاً بالإمامة الكبرى ومعطياتها السياسية، والرُّؤى الشرعيةِ في موضوعها، وما استقرَّ عليه القول فيها، واجتمعت عليه الكلمة منها، حتى صار – بفضل من الله ومِنَّة – جوهرُ دستور البلاد ونقطةُ دائرته هو مؤسسة إمارة المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
وذلك باعتبار إمارة المؤمنين هي الركنَ الركين، والضامن الأمين، لغيرها من الثوابت: بما تُجَنِّدُهُ من الجهود للقيام بمصالح الدين والدنيا، مع كل ما من شأنه حفظُ الاستقرارِ الروحي، والتعايشِ الاجتماعي،والتوازنِ الفكري، والإنصافِ عند الخلاف.
وتثنيةً بالعقيدة السنية الأشعرية، وأطوارها وتطوراتها، وأصولها وتفرُّعاتها، وحوارها الطويل لما وُجد بموازاتها، أو في مواجهتها، أو نازعها، أو تعايش معها، من الأقوال في كل مفهوم وقضية، من مفاهيم وقضايا الاعتقاد، في جليل الكلام ودقيقه. بحيث لم يثبت أن صدر من أعلام الأشاعرة مصنَّفٌ، إلا وتناوله علماء القرويين بالنظر والتمحيص، والزيادة والتنقيص، بل والنظم في أحيان عديدة، ثم شرحه وتحشيته.
وتثليثاً بالمدرسة المالكية المغربية، التي ترعرعت في زمن التأسيس بجهود العلماء المغاربة من الفقهاء الأوائل الذين تلقوا علمهم في مدرسة المدينة المنورة، مقرِّ الخلفاء الراشدين، ومعظم صحابة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم،ثم تابعيهم.فانتسبوا لمدرسة المدينة المنورة التي جُمع علمُها، وضُبطتْ أصولها في عهد تابعي التابعين على يد الإمام مالك وصدور أصحابه.
وهي المدرسة التي وثَّقت المعطيات الفقهية في الأمهات: الأسدية والمدونة والواضحة والعتبية والموازية، ثم نَخَلتها على يد أصحاب الوجوه والاختيارات أمثال اللخمي، وابن رشد الجد والمازري، والقاضي عياض. وخرَّجت ما لم يَرِدْفيه قولٌ على نفس الأصول التي بُني عليها ما سلف منها.
وهي المدرسة التي تغلغلت في أعماق الأعراف والثقافة المغربية والإفريقية وخصوصياتها المجتمعية، والتحمت بأحداثها ووقائعها ونوازلها ومنازعاتها بشكل مبهر فعلا على مستوى التأصيل، والتقعيد، والضبط، والتفريع، حتى لقد ضُرب المثل بالنقد الذي سطره علماؤها على ما سبقهم، وما وَرَد عليهم.
وقد كانت القرويين على مر هذه القرون وفي جميع هذه الشؤون معقل المذهب المالكي وحاملة رايته. وذلك منذ قاضي مولانا إدريس الأزهر عامر بن محمد بن سعيد القيسي، إلى أساتذة القرويين المؤسسين لسمعتها الفقهية الأولى من أمثال أبي هارون البصري، ودراس بن إسماعيل، وأبي جيدة الفاسي، وأبي عمران الفاسي وهلم جرا. إلى متون وشروح وحواشي وإبداعات فقهائها المتأخرين الذين حرروا مواضع الخلاف، وحسموا محلات النزاع، مع مراعاة اختلاف الأعراف، وتجديد الأحكام بتجدد الأوضاع.
وتربيعاً بالتصوف السني السلوكي العرفاني الذي ابتدأ منذ عهد الفتح الأول، وظل أثره المادي شاهدا قائما في رباط شاكر صاحب عقبة بن نافع الفهري إلى اليوم، وامتد أثره في شخص دولة المرابطين مما لا تزال شواهده قائمة في غرب إفريقيا وفي شخوص المرابطين بها إلى اليوم. ومما امتد أثره وانتشر في الرباطات القائمة على امتداد الشواطئ المغربية إلى اليوم، والتي تشاهد آثارها في قبابهم ومزاراتهم التي توارثوا بها حراسة الثغور. ثم ناهيك بمشاهد وآثار وضرائح الأولياء المنتشرة في كل مدينة وقرية ومدشر في كل ناحية من نواحي المغرب وجباله وسهوله. والذين تركوا لنا من التراث المكتوب والشفهي الشيء الكثير. وهو التصوف الذي رعته جامعة القرويين من خلال دروسها ومشايخها وطلابها أمثال أبي الحسن الشاذلي، وأبي مدين الغوث، وأبي الحسن علي ابن حرزهم، وسيدي مَحمد ابن عباد الرندي، وأبي عبد الله سيدي مَحمد بن سليمان الجزولي، وأبي العباس سيدي أحمد زروق، وأبي العباس سيد أحمد التيجاني.
ولا يسعني ختاما إلا أن أجدد الترحيب بالسيدات العالمات والسادة العلماء الوافدين، وتمنياتي بالتوفيق لهذا الملتقى العلمي الأصيل على خطى العلماء الراسخين.
والسلام عليكم في البدء والختام.