مصطلح السلفية: المقاربة الاجتهادية وعلاقتها بالأحكام الشرعية
ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية الأولى التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات» يومي الأربعاء والخميس 28 – 29 صفر 1440هـ، الموافق لـ: 7 – 8 نونبر 2018م بمدينة مراكش.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد، فإن السلفية مصطلح من المصطلحات التي يدل أصل لغتها على الماضي والمتقدم، وعند ما نورد الكلمة في مجال المفهوم الاصطلاحي، فهذا ما يحير كل باحث في هذا الموضوع، تصديقا لذلك صنفها الدكتور محمد عمارة في كتابه القيم: «معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام»؛ ومما قاله في المصطلح:» (السلفية الدينية أو السلفي في الدين: هي الرجوع في الأحكام الشرعية إلى منابع الإسلام الأولى: أي الكتاب والسنة، مع إهدار ما سواهما) ؛ ومع وضوح هذا التعريف للسلفية، تعددت فصائل تيارها في تراثنا وفكرنا الإسلامي، فكل السلفيين يعودون في فهم الدين إلى الكتاب والسنة، لكن منهم فصيلا يقف في الفهم عند ظواهر النصوص، ومنهم من يُعمل العقل في الفهم».[1]
وإذا كان هذا الاضطراب في تحديد مضمون مصطلح «السلفية»، فلا شك أن ساحة تطبيقاتها ستضطرب أكثر حتى يصل إلى درجة التنافر والتكفير ثم التناحر في النهاية.
ولذلك نحن في هذه المداخلة سنقوم بعرض عدة تعريفات لها، ثم المحاولة لإيجاد المقاربة الاجتهادية من خلال نماذج من الأحكام الشرعية التي تحمل سمات اجتهادات شيوخ السلفية الجهادية.
وسنلخص هذا الموضوع في مطلبين:
- المطلب الأول: السلفية والاجتهاد والحكم الشرعي مفردات اصطلاحية.
- المطلب الثاني: السلفية والاجتهاد أية مقاربة في الأحكام الشرعية؟
المطلب الأول: السلفية والاجتهاد والحكم الشرعي مفردات اصطلاحية
إن أول ما أبدأ به هو حل عقدة رموز مصطلحات العنوان، وبيان غرائب ألفاظه، وإيضاح مقاصد رجال فنه، ولذلك قسمت هذا المطلب إلى أربعة فروع:
- الفرع الأول: السلفية لغة واصطلاحا وتاريخا.
- الفرع الثاني: الاجتهاد لغة واصطلاحا.
- الفرع الثالث: الحكم الشرعي لغة واصطلاحا.
- الفرع الرابع: مفهوم المقاربة الاجتهادية.
الفرع الأول: السلفية لغة واصطلاحا وتاريخا
أولا: السلفية لغة
السلفية نسبة إلى لفظ السلف، وله معان كثيرة، والأصل فيها يدل على تَقَدُّمٍ وسَبْقٍ، من ذلك السلف: الذين مضوا والقوم السلاف: المتقدمون،[2] وفي مختار الصحاح: سلف يسلف بالضم سلفا بفتحتين أي: مضى، القوم السلاف المتقدمون، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسُلاف[3]؛ ولكن صاحب المصباح المنير يرى: أن ) سلف سلوفا من باب قعد مضى وانقضى فهو سالف، والجمع سَلَف وسُلّاف مثل خَدَم وخُدَّام، جمع الخادم، ثم جمع السلف على أسلاف مثل سبب وأسباب. [4]
وهذه النقول اللغوية تدل على أن لفظ السَّلَف بفتحتين من حيث اللغة: إما أنه مفرد وجمعه أسلاف وسُلاف، وعلى هذا الاعتبار اعتمد الذين يقولون في مؤلفاتهم «السلف الصالح»، وإما أنه جمع السالف، وهو سَلَف وسلاف مثل خادم وجمعه خدم وخُدام بضم الأول، وقد استعمل ذلك كثير من المؤلفين مثل الإمام الطبري حيث قال: (وقال به السلف الصالحون من الصحابة والتابعين)[5]؛ وفي الموافقات (ومما كان عليه السلف الصالحون)، [6] وابن بطال: (وبذلك عمل السلف الصالحون)؛[7] ويدل معنى السلف أيضا في اللغة على من سبقك وتقدم ومضى سواء كان من النسب أو الدين أو البلد ودراستنا ستنحصر بالسلف في الدين.
والجدير بالتحرير هو إضافة الياء المشددة والتاء المربوطة إلى لفظ السلف فأصبح السلفية، وهل لهذه الإضافة تأثير في تغيير معنى السلف أم لا؟
الجواب نعم: له تأثير كبير جدا في تغيير معنى الكلمة ؛ لأنها بهذه الإضافة يصبح لفظ السلفية مصدرا صناعيا، والمصدر الصناعي – كما قال علماء فقه اللغة – يطلق على لفظ جامد أو مشتق، اسم أو غير اسم، زيد في آخره حرفان هما: ياء مشددة بعدها تاء تأنيث مربوطة؛ ليصير بعد زيادة الحرفين اسما دالا على معنى مجرد لم يكن يدل عليه قبل الزيادة، وهذا المعنى المجرد الجديد هو مجموعة الصفات الخاصة بذلك اللفظ مثل كلمة (إنسان)، فإنها اسم معناه الأصلي (الحيوان الناطق)، فإذا زيد في آخره الياء المشددة وبعدها تاء التأنيث المربوطة صارت الكلمة (إنسانية) وتغيرت دلالتها تغيرا كبيرا، إذ يراد منها في وضعها الجديد معنى يشمل مجموعة الصفات المختلفة التي يختص بها الإنسان كالشفقة والحلم والرحمة والمعاونة والعمل النافع… ولا يراد الاقتصار على معناه الأول وحده؛ [8] وهذا الكلام من أهل الفن يفيد أن مصطلح (السلفية) مصدر صناعي له معنى جديد غير المعنى الذي سلف في نقول لسان العرب، وأضحى المعنى الجديد للسلف والسلفية بعد الإضافة هو كل من كان قبلنا من عهد الصحابة إلى كل من سار على نهجهم من بعدهم، وما كان من أعمالهم في الشأن الديني من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والتعامل الحسن مع المخالفين… وموضوع الندوة تركز على الظاهرة السلفية دلالاتها وتداعياتها ونحن الآن أمام مصطلح السلفية من حيث دلالاتها في فقه اللغة.
ثانيا: السلفية اصطلاحا
السلفية في الاصطلاح: قد يصعب علينا اختيار تعريف اصطلاحي واحد، ونقول: هذا هو تعريف السلفية في الاصطلاح الصحيح؛ لأن المصطلح ليس مصطلحا من المصطلحات الفقهية أي مصطلحات الفقهاء في فن الفقه، وكذلك ليس مصطلحا من مصطلحات فن علوم الحديث، بل هو مجرد مصطلح فكري تستعمله كل الاتجاهات الإسلامية ويشرحه وفق مذهبه العقدي والفقهي والسلوكي، وما يبدو في الوهلة الأولى من جملة هذه التعريفات الاصطلاحية للسلفية بأنها تعريفات متقاربة، ولكن إذا أظهرنا مضامين تعريفات مختلفة نجدها متباعدة في دلالاتها، ودونكم نماذج من التعريفات:
- السلفية اتباع منهج النبي ﷺ وأصحابه؛ لأنهم الذين سلفونا وتقدموا علينا فإتباعهم هو السلفية.
- السلفية إتباع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وكل من اتبع الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة فهو سلفي.
- السلفية هي الدعوة إلى ما كان عليه الرسول ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، مع جهاد نفسه على العمل بما يدعو إليه.[9]
- السلفية توجه فكري، أو مدرسة فكرية عقدية ترى الالتزام بما كان عليه السلف من عدم التأويل في الصفات والوقوف مع نصوص القرآن والسنة مع الاحتراز والابتعاد عن البدع.[10]
- السلفية اسم جامع لكل ما كان عليه السلف الصالح في العقيدة والعبادة والخلق.[11]
- السلفية هم أهل السنة والجماعة من الأمة المحمدية الإسلامية بدءا من الصحابة ومن بعدهم، وقد درج العلماء على نعتهم بالسلف الصالح وأنهم كانوا في القرون الثلاثة الأولى، التي قال فيها النبي ﷺ «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، وأن من جاء من بعدهم وساروا على نهجهم هم الخلف الصالح.[12]
إن هذه التعريفات بصيغها المختلفة منقولة عن كبار العلماء في المشرق والمغرب، ظاهرها لها دلالات واضحة وتجليات متنوعة، ناهيك عن أبعاد هذا المصطلح عند كل فئة أو جماعة، وكذلك تداعياته عند كل فقيه أو متفقه؛ ولذلك اختلفت مضامين التعريفات السالفة للسلفية، وتنوعت تعليقات العلماء عليها، وتولدت منها اتجاهات السلفية المعاصرة، وكل اتجاه يدعي أن جوهر السلفية يقوم على التزام منهج السلف الصالح في فهم النصوص الشرعية، ما يعني أن ثمة اتفاقا على مرجع جامع يجتمع عليه السلفيون، فإن كانت القضية بهذا الوضوح فكيف يمكن تفسير استفحال الاختلافات بين جماعات السلفية العصرية وهم أتباع منهج واحد، إلى حد التراشق بالتضليل والتبديع وربما التكفير، وبات كل واحد يزعم أنه الحافظ على منهج الصحابة والممثل له بحق، وكل من خالف اختياراته أضحى مذموما خارجا عن منهج السلف الصالح، وقد علق الدكتور محمد عمارة على تعريف السلفية قائلا: « ومع وضوح هذا التعريف للسلفية تعدد فصائل تيارها في تراثنا وفكرنا الإسلامي، فكل السلفيين يعودون في فهم الدين إلى الكتاب والسنة؛ لكن منهم فصيلا يقف في الفهم عند ظواهر النصوص، ومنهم من يُعمل العقل في الفهم، ومن الذين يُعملون العقل: مسرف في التأويل، أو متوسط، أو مقتصد، ومن السلفيين: أهل جمود وتقليد، ومنهم أهل التجديد الذين يعودون إلى المنابع لاستلهامها في الاجتهاد لواقعهم الجديد»،[13]
وفي بعض شروح التعريفات نجد أن بعض الشراح يخرجون الأشاعرة من السلفية، وبعض الجماعات السلفية يكفرون المسلمين دولة وسلطة، مع أن ترك التكفير من منهج السلف الصالح.[14]
ثالثا: السلفية في التاريخ
ظل الإسلام واحدا بلا مذهب في العهد النبوي ومعظم العهد الراشدي، وفي عهد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنهم حدث الانقسام السياسي بين المسلمين إلى أهل سنة وشيعة وخوارج، ثم ظهرت المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها في القرون الهجرية الأربعة الأولى، وكانت ملتزمة بأصول الإسلام وجوهره، وفي أواخر القرن الأول ومطلع القرن الثاني ظهرت فكرة الاعتزال بزعامة واصل بن عطاء) 80-131( ه؛ وظهر مذهب السلفيين في القرن الرابع الهجري وهم من الحنابلة، ثم تجدد ظهورهم على يد العلامة ابن تيمية في القرن السابع الهجري، ثم تبناها الوهابيون على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري،[15] ثم نشطت الدعوة السلفية بأيدي علمائها ومبعوثيها إلى الدول الإفريقية، وانتشرت في أغلب الدول العصرية في مشارق الأرض ومغاربها بتسميات مختلفة، بعضها منسوب إلى أرضها مثل السلفية السعودية والسلفية المغربية والسلفية المصرية؛ أو السلفية الشامية والسلفية الخليجية، وبعضها قد ينسب إلى مبدأ من مبادئها، مثل السلفية العلمية أو المدرسة السلفية الحركية، والسلفية الجهادية؛ ولا تستغرب إذا وجدت أحدهم يزعم أن لا أقسام ولا أنواع للسلفية.
الفرع الثاني: الاجتهاد لغة واصطلاحا
أولا: الاجتهاد لغة
الاجتهاد والتجاهد هو بذل الوسع،[16] وفي المصباح: اجتهد في الأمر بذل وسعه وطاقته في طلبه،[17] والاجتهاد في معناه اللغوي بذل الإنسان وسعه وطاقته في طلب الأمر.
ثانيا: الاجتهاد اصطلاحا
قد سلك الأصوليون في تعريف الاجتهاد مسلكين:
الأول: من حيث تكييف الاجتهاد، ويعنون به هل الاجتهاد هو فعل المجتهد أم هو صفة قائمة بالمجتهد، والجواب قولان: قيل إنه فعل المجتهد وقيل صفة قائمة بالمجتهد.
والثاني: من حيث نوع الحكم الثابت بالاجتهاد، ويقصد به هل الحكم الثابت به هو حكم قطعي أم ظني؟ ولذلك قد تجد تعريفا بما يفيد العلم العام، وأحيانا لا يكون مقيدا بالقطع أو الظن، والبعض الآخر يقيده بالظن،[18] ومن تعريفات الاجتهاد أنه: ) استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي( [19]؛ ولكن الدكتور محمد المرعشلي قال في التعريف الاصطلاحي: وأفضل التعريفات للاجتهاد تعريف الكمال بن الهمام في كتابه (التحرير) بأنه: (بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي، عقليا كان أو نقليا، قطعيا كان أو ظنيا، وهو صفة للأصولي والفقيه والمفتي)، [20] إذن فالمجتهد هو الأصولي أو الفقيه أو المفتي الذي يبذل وسعه وطاقته لتحصيل حكم شرعي في مسألة من المسائل، والحكم الحاصل عليه بعد الاجتهاد هو الحكم الاجتهادي، وهو الحَكم الذي يحتمل صوابا أو خطأ، بدليل حَديث النبي ﷺَ «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ»،[21] والمجتهد نفسه لا يدري بعد إصدار الحكم الاجتهادي الشرعي هل هو أصاب في حكمه أم هو أخطأ فيما اجتهد.
الفرع الثالث: الحكم الشرعي لغة اصطلاحا
أولا: الحكم الشرعي لغة
أ – الحكم لغة
الحكم هو القضاء، وقد حكم بينهم يَحْكُم بالضم حكما، والحكم أيضا الحكمة من العلم، والحكيم العالم وصاحب الحكمة، والحكيم أيضا المتقن للأمور، [22] وقيل: الحكم القضاء وأصله المنع، يقال حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك. [23]
ب – الشرعي نسبة إلى الشرع
في المصباح: الشرعة بالكسر الدين والشرع والشريعة مثله مأخوذ من الشريعة وهي مورد الناس للاستقاء، سميت بذلك لوضوحها وظهورها وجمعها شرائع، وشرع الله لنا كذا يشرعه أظهره وأوضحه[24].
ثانيا: الحكم الشرعي في الاصطلاح
والشرع يقصد به الشريعة الإسلامية، فالحكم هنا جمعه الأحكام التي استنبطت من مصادر الشريعة الإسلامية.
وقد عرف بتعريفات كثيرة، وسأكتفي بنموذجين فقط، أحدهما: (الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع) [25]، وقيل: إن هذا التعريف هو حد الحكم الشرعي الاصطلاحي لدى جمهور الأصوليين؛[26] والثاني: هو أن (الحكم الشرعي وصف لفعل مكلف بدليل شرعي.)[27]
وما يجب أن نذكره بعد هذين التعريفين هو أن الحكم الشرعي أو الأحكام الشرعية التي تصدر من المفتي أو المجتهد أوصاف لأفعال المكلفين، وكلنا نعرف عندما يصف الواصف شيئا أو فعلا فقد يصيب في وصفه وقد يخطئ في وصفه، ولذلك قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اُ۬لْكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفْتَرُواْ عَلَي اَ۬للَّهِ اِ۬لْكَذِبَۖ إِنَّ اَ۬لذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَي اَ۬للَّهِ اِ۬لْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَۖ ﴾.[28]الفرع الرابع: مفهوم الفرع الرابع: مفهوم المقاربة الاجتهادية
لما بحثنا عن معنى المقاربة قبل وصفها بالاجتهادية، وجدنا معانيها تجعلنا نتردد في هذا الوصف (الاجتهادية)، ونتساءل عن أية مقاربة بين السلفية التي يوصف بعض معتنقيها بالجمود والتقليد وإهمال العقل، ولا يتأتى للاجتهاد إلا باستعمال العقل، وقد قيل: والمقاربة والقراب نقيض المباعدة والبعاد، [29] ومن معاني المقاربة هو أن الشيئين يتقاربان وبينهما حاجز،[30] وهذا يعني أن السلفية والاجتهاد يتقاربان وبينهما حاجز، فما هو الحاجز بينهما؟ الحاجز بينهما هو التشدد عند أغلب الجماعات السلفية في الأحكام الشرعية، مع أن أجمل ما وقفنا عليه من معاني المقاربة هو الوسطية، وقد جاء في شرح غريب هذا الحديث النبوي: «قاربوا وسددوا» فقال النووي: والمقاربة القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير.[31] والهدف الإجمالي من المقاربة في هذه المداخلة هو تقريب مصطلح السلفية رغم وضوح تعاريفها واختلاف مضامينها بالاجتهاد الفقهي، ونقله من مجال ضيق عقدي إلى مجال واسع من العقيدة والفقه والأخلاق والسلوك، وهذا لا يتأتى إلا بالاجتهاد والقياس، والاستعانة بفهم السلف الصالح لإغناء فهم الخلف الصالح.
المطلب الثاني: السلفية والاجتهاد أية مقاربة في الأحكام الشرعية
كنا نرى أن السلفية منهج عقدي ومدرسة في أصول الدين؛ يعزز هذه الرؤية مسميات كتب العقائد مثل: العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية تأليف عبد الله بن يوسف الجديع، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث أو الرسالة في اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث والأئمة لأبي عثمان الصابوني، تحقيق د. الجديع، بينما كان الاجتهاد في أبواب الفروع وأصول الفقه، ولكننا في هذه المداخلة سنحاول تقريب السلفية والاجتهاد بمقاربة اجتهادية تؤصل علاقة السلفية بالاجتهاد في مجال الأحكام الشرعية؛ ولذلك سنقسم هذا المطلب إلى ثلاثة فروع:
- الفرع الأول: السلفية والاجتهاد مقاربة أم مباعدة في الأحكام الشرعية؟
- الفرع الثاني: السلفية أصلها مقاربة عقدية، وكيف مقاربتها الاجتهادية؟
- الفرع الثالث: نماذج من المقاربة الاجتهادية السلفية في مجالات الأحكام الشرعية
الفرع الأول: السلفية والاجتهاد مقاربة أم مباعدة في الأحكام الشرعية
السلفية بأوصافها التقليد والجمود، ومخاصمة العقل والتمدن، والعودة إلى عصور البداوة ومجتمعاتها، والرفض لكل الآخرين، ولجميع ما لدى الآخرين، بل البراء من الآخرين الذين يشاركون هؤلاء السلفيين في مصطلح السلفية بشهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، والولاء لحكايات التاريخ ومجرد فهم السلف الصحابة رضي الله عنهم بدون مراعاة أحوالهم وقرائن الأحوال التي أحيطت بهذه الفهوم المختلفة خطأ، والتي يجب أن نراعيها في تفسير الآيات القرآنية باسم أسباب نزول الآية، وفي السنة باسم أسباب ورود الأحاديث، مع أن أقوالهم وأعمالهم من فهومهم للقرآن والسنة، وهي من الأدلة الشرعية المختلفة فيها، فالسلفيون الموصوفون بهذه الصفات لا نجد لهم أية مقاربة، بل نرى ضدها أي المباعدة في الأحكام الشرعية، خصوصا في المستجدات الفقهية المعاصرة؛ لأنهم يحاربون الاجتهاد، وإن استعملوه فإنهم يحرفونه عن مقاصده الشرعية كما سنرى، وكذلك السلفيون مقلدون لكل التراث دونما تمييز بين الفكر وبين التجارب، ودونما تمييز في الفكر بين الثوابت والمناهج وبين المتغيرات. [32]
وأما السلفية أهل التجديد فهم الذين يعودون إلى المنابع لاستلهامها في الاجتهاد لواقعهم الجديد، ويستلهمون من ثوابت التراث مع الاسترشاد بتجارب ومتغيرات التاريخ، فهؤلاء في مصطلح السلفية لهم مقاربة اجتهادية في الأحكام الشرعية.
وبعد تلك الأوصاف المتعاكسة فإننا نتساءل هنا: مَنْ هو السلفي الصحيح؟ الجواب عند ابن تيمية حيث قال: «ومن المعلوم أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم، فليرجع في ذلك إلى الآثار المنقول عنهم، وإن كان إنما يعرف بالاستدلال المحض بأن يكون كل من رأى قولا عنده هو الصواب قال: هذا قول السلف؛ لأن السلف لا يقولون إلا الصواب، وهذا مذهب الصواب، فهذا هو الذي يُجَرِّئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم أنه على مذهب السلف، فقائل هذا قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بلا نقل عنهم بل بدعواه أن قوله هو الحق، وأما أهل الحديث فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة يذكرون مَنْ نقل مذهبهم من علماء الإسلام… فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين:
أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم ومن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة.
والثاني: إنا ذكرنا مَن نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين ومن طوائف الفقهاء الأربعة ومن أهل الحديث والتصوف وأهل الكلام كالأشعري وغيره، فصار مذهب السلف منقولا بإجماع الطوائف وبالتواتر لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا، والخطأ لمخالفنا كما يفعل أهل البدع»؛[33] وزاد الأستاذ يوسف الغفيص هذه المسألة إيضاحا عند ما قال:« أما تحصيل مذهب السلف بالفهم فذلك بأن يجتهد في نصوص الكتاب والسنة، فيرى أن المذهب الذي تحصل باجتهاده هو وحده الممكن في المسألة، ولا تدل إلا على هذا القول، والسلف لا يخرجون عن الكتاب والسنة، والتحصيل على هذا الوجه لا شك أنه غلط، ومعلوم أن القول بأنه مذهب السلف، فمعناه أن خلافه يكون بدعة، ومن فروع الوجه الثالث: وهو تحصيل مذهب السلف بطريقة الفهم، وهي طريقة غير مناسبة، كما ذكر شيخ الإسلام أن بعض الناظرين في بعض مسائل فقه الشريعة إذا رجح عندهم قول بما استعملوه من الأدلة النبوية المفصلة، قالوا: إن هذا من هدي السلف، فجعلوا تلك المسألة من المسائل التي يحصل بها تمييز للسلفي من غيره «؛[34] وسيأتي تمثيله في الفرع القادم مما يدل على تقريب مصطلح السلفية بالاجتهاد الفقهي وعلاقته بالأحكام الشرعية.
الفرع الثاني: السلفية أصلها مقاربة عقدية، وكيف مقاربتها الاجتهادية
كما سبق في قولنا: إن مصطلح السلفية قد اشتهر في أوساط أصول الدين أكثر من استعماله الفقهاء في الفقه؛ مما أدى إلى اعتباره مصطلحا عقديا أو لاصقا بالاتجاهات العقدية، ولذلك يقول الدكتور وهبة الزحيلي: «أما السلفية فتكلموا في التوحيد ومدى صلته بالأضرحة، وفي آيات التأويل والتشبيه، ورأيهم – كما قرر ابن تيمية – هو إثبات كل ما جاء في القرآن والسنة من صفات وأسماء، وأخبار وأحوال كالمحبة والغضب، والسخط والرضا والنداء، والكلام والنزول إلى الناس في ظلل من الغمام، ويثبتون الاستقرار على العرش والوجه واليد من غير تأويل ولا تفسير بغير الظاهر، ومن غير تشبيه بالحوادث ويعتقدون أن ذلك هو مذهب السلف الصالح، ويرى ابن تيمية رحمه الله أن مذهب السلف بين ترك التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه، ولا ينفون ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ، فالأسلم التفويض في معرفة الحقيقة إلى الله تعالى؛ لكن نفى ابن الجوزي الحنبلي أن يكون ذلك مذهب السلف أو رأي الإمام أحمد، كما ناقشهم علماء السنة في القرن الرابع الهجري، ومنهم الإمام الغزالي». [35]
وتلك المقاربة التي عرضها الدكتور الزحيلي هي مقاربة عقدية واضحة للسلفية، ولكن كيف لها المقاربة الاجتهادية التي غالبا ما تكون في فروع الأحكام الشرعية.
وما قلنا إن أصل السلفية مقاربة عقدية هذا صحيح؛ لأن شيوخ الجماعات السلفية لما دخلوا في مجال المقاربة الاجتهادية في الأحكام الشرعية كانت نتائجها عند أكثر الخبراء وبالا على الأمة الإسلامية وسنأتي بنماذج من اجتهاداتهم وفتاواهم في العبادات والمعاملات والأسرة والجنايات والجهاد، وكنا نجهل في اجتهادات السلف الصالح من أئمة المذاهب الفقهية من هو المصيب ومن المخطئ!! وأما اجتهاداتهم فالأخطاء فيها واضحة وقد أدى ذلك إلى انقسام الجماعات السلفية على أنفسها، وبدأت كل جماعة تزعم بأنها هي التي على الحق، وأن غيرها على الباطل، ثم إن أكثر هذه الجماعات التي تسمت باسم السلفية قد دخلت في السلفية من باب التمسك ببعض السنن الظاهرة، لكنها خرجت من السلفية من عدة أبواب.[36]
وهذا من سوء استعمال الاجتهاد من طرف الذين لم يتوفر فيهم شروط الاجتهاد مع ملكته، والاجتهاد مهم عند جميع العلماء السلف كالخلف، وقد جاء في كتاب أحدهم السلفيون والأئمة الأربعة: «المسلمون يحتاجون في كل يوم، بل في كل ساعة إلى اجتهاد فقهي جديد، اجتهاد في الإفتاء واجتهاد في القضاء واجتهاد لتنفيذ الأحكام الشرعية وتطبيق الشريعة وفق مقتضيات الحال وتغير المشكلات»[37].
وحاجة الأمة إلى الاجتهاد حاجة صحيحة وملحة، ولكن يجب أن يصدر ممن لهم أهلية الاجتهاد التي وضعها جهابذة علماء فن أصول الفقه منذ عهد السلف الصالح.
الفرع الثالث: نماذج من المقاربة الاجتهادية السلفية في مجالات الأحكام الشرعية
إن أبرز التداعيات للظاهرة السلفية في هذا العصر هو الاجتهادات القاصرة، التي لا تتوفر في مجتهديها شروط الاجتهاد؛ إذ الأصل في الاجتهاد هو استفراغ الوسع في طلب الحكم الشرعي بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب، وهذا ليس في الاجتهاد القاصر، وإذا قلنا إن من تداعيات الظاهرة السلفية الفتاوى الشاذة والاجتهادات الغريبة؛ فإن هذا لا يعني أن فتاوى المجتهدين السلفيين تجري على نمطية واحدة، لا بل تختلف باختلاف اجتهاداتهم، واستخدام أدوات الاجتهاد في خدمة اتجاهاتهم الفكرية السلفية، كالسلفية الجهادية التي تستخدم جميع المقاربات الاجتهادية في كل وسائل الجهاد كما سنرى في هذه النماذج، وإليكموها:
أولا: تحصيل مذهب السلف بالفهم وترجيح بالسلفية
مثال ذلك أن يجتهد في نصوص الكتاب والسنة، فيرى أن المذهب الذي تحصل باجتهاده وفهمه هو مذهب السلف، وهو وحده الممكن في المسألة، وإذا رجح عنده قول بما استعمله من الأدلة النبوية المفصلة، قال: «إن هذا من هدي السلف»، فجعل تلك المسألة من المسائل التي يحصل بها تمييز للسلفي من غيره، كمسألة وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع، فيجتهد بعض أهل العلم من السلفيين فيجعلون السنة في وضعها، فلا شك أن كلا الاجتهادين صحيح، ومن الأقوال الفقهية الممكنة المعروفة عند الفقهاء؛ لكن الإشكال أن تجعل السلفية اللازمة هي أحد الوجهين، فمعناه أن من ترك وضعهما يكون عند طائفة مخالف لهدي السلف، ومن وضعهما يكون عند الأخرى مخالف لهدي السلف، ولا شك أن هذا منهج غلط؛ لأنه يلزم على ذلك أن كل من اجتهد في مسألة فقهية فرجح قولا، هو الظاهر عنده من دلائل الكتاب والسنة أن يجعله هو مذهب السلف، ولا تجد إماما واحدا من أئمة السلف في مسائل النزاع التي كانوا يتنازعون فيها يَطرد هذه الطريقة، أن يجعل ما خالف قوله يكون بدعة؛ لأنك إن قلت: إن هذا القول قول السلف أو هو المذهب السلفي لزم أن يكون خلافه بدعة؛ فلن تجد أن الإمام أحمد كان يعد من خالفه من الفقهاء على بدعة ولا الشافعي ولا مالك ولا أبا حنيفة ولا غيره، وأما مسائل الفقه المفصلة التي تنازع فيها المتقدمون من السلف فلا يصح لواحد إذا اختار قولا من أقوالهم أن يجعله مذهبا للسلف، وهو يعلم أن بعض أئمة السلف يخالفونه في هذا، وإنما يقول: «هو أحد قولي السلف، بل لكون مسائل الفقه المختلف فيها بعيدة عن هذه الإضافة السلفية».[38]
ثانيا: التكفير مسائل مركبة بجرائم حدية
يقول الدكتور عبد الله أحمد اليوسف: «لكن مصيبة ومشكلة التكفيريين أنهم يخرجونك أولا من الإسلام، ثم يحكمون عليك بالكفر والارتداد، ثم يطبقون عليك أحكام الردة من إهدار دمك ومالك وعرضك، فيستبيحون قتل النفس المحرمة تحت دعاوى باطلة، واعتقادات فاسدة… فإن التكفير ستتبعه عدم محقونية الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وهو ما يؤدي – كما حدث ويحدث فعلا – إلى قتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال… إن قتل الأبرياء لأسباب واهية أو للاختلاف في الدين أو المذهب أو الفكر يعد جريمة نكراء، لا يقبلها عقل أو منطق أو دين».[39] والتكفير هو اتهام المسلم بالردة والإرداء، والاتهام – في الاصطلاحات القانونية – إسناد جريمة أو عمل مخالف للقانون إلى شخص طبيعي أو معنوي بغية إلقاء القبض عليه وإحالته إلى المحكمة، وهو مضمونة خلاصة التحقيقات والإجراءات التي قام بها المحقق، واتضح له من خلالها حال المتهم.[40]
ومن أسند إلى هؤلاء التكفيريين إصدار قرار الاتهام؟ والردة من جرائم الحدود السبعة التي من أعمال القضاة والمحاكم، وهل هؤلاء التكفيريون من القضاة؟ بل نقول لهم: كونوا دعاة لا قضاة.
ثم ينفذون حكمهم الاجتهادي بقتل الأبرياء، أو النساء والأطفال بأنه أسرى؛ وهذا اجتهاد خاطئ، بل هو بيع الحرة المحرمة شرعا، ومنهي عنه في هذا الحديث الصحيح: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: « قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمَُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَىَ بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أجْرَهُ ».[41]
إذن مسألة التكفير تتضمن مقاربات اجتهادية في أبواب الفروع المختلفة بعد اتهام المسلم في عقيدته، وهذه جريمة في الأسرة والعرض وهي أخذ زوجته باسم الأسرى، وجريمة المعاملات المالية كأخذ أموال المسلم، وهو سرقة باسم الغنيمة، وكلها جنايات مختلفة.
ثالثا: فتاوى السلفية في التدريب على الجهاد
شرط خروج الشاب إلى الجهاد
ما لا يتكلم فيه الفقيه السلفي الجهادي لا في الفتاوى ولا في الإرشادات هو وجود الوالدين، أو أحدهما في قيد الحياة يمنع الخروج إلى الجهاد، هذا نص حديثي تجاهله شيوخ الجهاد في فقه الجهاد، مع أنه من سننه، ومن أعمال السلف الصالح، ولا نجد أحدا من مجتهديهم يظهر شرط إذن الوالدين أو أحدهما للشباب الذين ينخرطون في صفوف الجماعات السلفية الجهادية، مع أن أغلب المنخرطين في صفوفهم يتراوح أعمارهم ما بين ست عشر وعشرين سنة، وتسعون في المائة من هؤلاء المجاهدين آباؤهم لا يرضون على خروجهم، وهم يسمعون فقط أن أبناءهم قد وصلوا إلى العراق أو سوريا أو اليمن أو في دولة كذا، وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه بابا هو (باب الجهاد بإذن الأبوين)، وفيه عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضيَ اللََّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: «أحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»، وفي الفتح، قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية فإذا تعين فلا إذن؛ [42] ومثله في شرح الزرقاني على الموطأ،[43] والحديث عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا»؛ وعلق عليه الصنعاني: «وظاهره سواء كان الجهاد فرض عين أو فرض كفاية، وسواء تضرر الأبوان بخروجه أو لا»[44]، ولعل هذا الشرط أن يكون الوالدان مسلمين جعل الجماعات السلفية الجهادية يركزون في دعوتهم للشباب إلى الجهاد على الأوروبيين والمسلمين الجدد الذين مازال آباؤهم على نصرانيتهم، وهذا شيء من المقاربة الاجتهادية لدى الجماعات السلفية الجهادية في فقه الجهاد، ويدخل في جهاد الوالدين أو أحدهما جميع أصناف الجهاد المدني كالجهاد الاجتماعي والاقتصادي والصحي.[45]
الخاتمة
في الخاتمة نقول: إن للفظ السلفية دلالة لغوية ودلالة اصطلاحية، والأولى هي الأصل في معناها، ويدل على الماضي والمتقدم والسابق والسالف، والثانية هي تطوير الأصل من دلالة اللغة العربية العامة إلى الدلالة العربية الفنية الخاصة، وهي أجيال من الأشخاص الذين سبقونا في الإسلام بالإيمان وفقه الدين، وأجمل ما في السلفية أن مفهومها الاصطلاحي لم يبتعد عن مدلولها اللغوي، كلاهما في الماضي سواء كانت السلفية مرحلة زمنية في عصور الإسلام الغابرة وهذا قد يكون فجر الإسلام أو ضحى الإسلام أو ظهر الإسلام، أو كانت السلفية مذهبا لأشخاص حملوا راية الإسلام -عقيدة وفقها وسلوكا- في القرون المفضلة؛ والذي لم يختلف فيه كل من عرف مصطلح (السلفية) هو أن السلف يراد به أو بهم:
- أولا: الصحابة رضوان الله عليهم.
- ثانيا: التابعون لهم بإحسان رحمهم الله تعالي.
- ثالثا: تابعو التابعين، وإذا نظرنا إلى هذا المراد بالسلف فإننا سنجد أن السلفية مذهب عام في الحياة يشمل الاعتقاد والعبادة والتشريع والأخلاق، خصوصا بتقلبات لغوبة نيطت بهذا المصطلح من السلف إلى السلف الصالح ثم السلفية، فوصف الكلمة بالصالح لها دلالة تمييزية، ثم نقلها إلى مصدر صناعي يعطيها وضعا جديدا، ومعنى يشمل مجموع الصفات المختلفة التي يختص بها هؤلاء السلف في القرون المفضلة من العلم بالدين وفقه الشريعة، والاقتداء بالصحابة ومن بعدهم، وطاعة أئمة المسلمين من الأمراء والعلماء، وترك المراء والجدال في الدين، وترك المحدثات في الدين، وترك التكفير، وترك الفتنة، وعدم استحلال الدماء بالفتاوى الشاذة والاجتهادات القاصرة، والسعي إلى الجمع والوحدة، والتوسط والاعتدال[46].
والاجتهاد والمقاربة الاجتهادية قد يتنافى مع بعض الصفات لبعض السلفيين كالجمود والتقليد المطلق وتعطيل العقل؛ لأن المقاربات الاجتهادية ليست سوى استعمال العقل في ورشة النصوص والنقول والفهوم ليصل الباحث بعد السبر والتقسيم والتحقيق والتنقيح إلى حكم شرعي، حصل عليه الفقيه المجتهد المفتي بعد استخدام عقله، وما اصطلح على هذا العمل بالاجتهاد إلا لما فيه من بذل جهد ومشقة، ولا يطلق على العمل السهل إذ لا يقال: اجتهدت على حمل النواة؛ ولكن قد يقال: اجتهدت في بحث هذا الحكم الشرعي.
ولذلك نقول في هذه الخاتمة: إن السلفية في المغرب أصيلة ونقية وعريقة في تاريخ الإسلام المغربي، ورثوها وتوارثوها كما قال تعالى:﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَ۬لْكِتَٰبَ اَ۬لذِينَ اَ۪صْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَاۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٞ لِّنَفْسِهِۦ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٞ وَمِنْهُمْ سَابِقُۢ بِالْخَيْرَٰتِ بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ هُوَ اَ۬لْفَضْلُ اُ۬لْكَبِيرُۖ﴾ [فاطر: 32]، إن هؤلاء الفرقاء الثلاثة كما قال المفسرون بالمأثور ناجون؛ فأي مصطلح للسلفية لا يستوعب هؤلاء الأصناف الثلاثة أو يكفر ظالما لنفسه أو مقتصدا، وناهيك عن سابق بالخيرات فهي سلفية وافدة، وهي سلفية مستوردة من الخارج؛ ومما يحمد الله عليه في المغرب أنه سبحانه وتعالى قد حمى الإسلام المغربي بثوابته الدينية – العقدي الأشعري، والفقه المالكي، والتصوف السني وإمارة المؤمنين – من السلفية الوافدة المستوردة .
وفي الأخير نقول: إن مصطلح السلفية بمفهومها الجديد الذي يشمل عقيدة أهل السنة والجماعة بطوائفها الثلاثة – الأشعرية والماتريدية وأهل الحديث – وفقه المذاهب السنية – كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي -، والتصوف السني كالجنيدي يسهل علينا المقاربة الاجتهادية فيما يجوز فيه الاجتهاد، ومن خلاله ندرك أن السلفية لها علاقة حكمية وصلة فقهية بالأحكام الشرعية؛ ولكن حذار حذار من مقاربات اجتهادية تعسفية، وفتاوى شاذة، وأحكام شرعية غريبة من بعض شيوخ السلفية الجهادية، فتاوى لا تجد لها أمثالا في كتب الأشباه والنظائر في مجموع فتاوى ونوازل السلف الصالح، وحتى إن وجدت فإننا في هذا العصر نستأنس بمنهجهم الإفتائي، ونجتهد لعصرنا كما اجتهدوا لعصرهم.
وفي الختام أسأل الله التوفيق وهو ولي التوفيق آمين.
الهوامش
[1] معركة المصطلحات ص207
[2] معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 3/ 95 مادة سلف
[3] للرازي ص 270
[4] المصباح المنير، للفيومي ص108 مادة سلف
[5] تهذيب الآثار للطبري 1/ 85
[6] الموافقات للشاطبي 2/94
[7] شرح صحيح البخاري، لابن بطال 2/ 290
[8] النحو الوافي، عباس حسن 3/ 186 – 187
[9] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/ 242
[10] فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
[11] مجلة البيان، العدد 195 ص24
[12] السلفية تحقيق المفهوم وبيان المضمون مداخلة د / للروكي ص 39
[13] معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، تأليف محمد عمارة ص207-208
[14] السلفية تحقيق المفهوم وبيان المضمون ص41
[15] قضايا الفقه والفكر المعاصر د/ وهبة الزحيلي 2/ 472
[16] مختار الصحاح للرازي ص103
[17] المصباح المنير للفيومي ص44 جهد
[18] دراسات في الاجتهاد وفهم النض د/ عبد المجيد محمد السوسوه ص1512
[19] مختصر ابن الحاجب
[20] اختلاف الاجتهاد وتغيره وأثر ذلك في الفتيا، د/ المرعشلي ص58
[21] صحيح البخاري رقمه 7352
[22] مختار الصحاح للرازي ص132 حكم
[23] المصباح المنير للفيومي ص56 حكم
[24] المصباح المنير، للفيومي ص118 شرع
[25] حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 75
[26] شرح مختصر الروضة، للطوفي 1/ 254
[27] حكم الحكم، تأليف الدكتور: الأمين بامباص256
[28] سورة النحل، الآية 116
[29] شمس العلوم ودواء كلام من الكلوم، للحميري 8/ 5464
[30] الفروق في اللغة للعسكري ص306
[31] رياض الصالحين ص86
[32] السلف والسلفية تأليف د / محمد عمارة ص7و12
[33] مجموع الفتاوى 4/ 152
[34] شرح الطحاوية، للشيخ يوسف بن محمد الغفيص درس صوتي 31
[35] قضايا الفقه والفكر المعاصر 2/ 478 – 479
[36] مجلة البيان، العدد 194 ص24
[37] السلفيون والأئمة الأربعة، عبد الرحمن اليوسف ص9
[38] شرح الطحاوية، للشيخ يوسف بن محمد الغفيص درس صوتي 31
[39] التكفير والتكفيريون ص49
[40] المسوعة الجنائية الإسلامية 1/ 20 – 21
[41] صحيح البخاري رقمه 2227
[42] فتح الباري 6/ 40 وما بعدها
[43] شرح الزرقاني 3/ 23
[44] سبل السلام 2/ 461
[45] نسف ألغام الشبهات من حقول الجهاد الملغمات، إعداد د/الأمين بامبا ص87 و92
[46] من كتاب السلفية تحقيق المفهوم وبيان المضمون ص39-42