من مظاهر وسطية العقيدة الأشعرية
![من مظاهر وسطية العقيدة الأشعرية /ذ. حسن عزوزي رئيس المجلس العلمي الجهوي لجهة فاس-مكناس](https://www.fm6oa.org/wp-content/uploads/2025/01/JRAA3568.jpg)
[نسخة المداخلة الأصلية PDF]
لا يشك الباحث المنصف في أن الفكر الأشعري يعتبر امتدادا لمدرسة أهل السنة والجماعة القائمة على مبدأ التوسط والاعتدال في الفهم والتأويل والتطبيق، وقد اختار المغاربة مذهب الأشاعرة نظرا لما رأوا فيه من حفاظ على جوهر العقيدة وحرص على درء التشبيه والتعطيل، ولما لمسوا فيه من وسطية تتجاوز القراءة الحرفية للنصوص، كما تتجاوز التأويل البعيد الذي يصادر دلالة النص.
ويرجع اهتمام العلماء بالعقيدة الأشعرية وعنايتهم بمباحثها ومسائلها الكلامية والعقدية منذ نشأتها إلى اليوم إلى ما تختزنه من قوة في استمرار صلاحيتها وفاعليتها منعت الوقوع فيما وقعت فيه المذاهب الأخرى، وقد تلقت الأمة المذهب الأشعري بالقبول التام لما اعتبروه فيه من خصائص مميزة ومعتبرة، ولما لمسوه فيه من حسن الاعتقاد، مستوصف المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد»[1].
لقد عرف المغاربة والأفارقة والمشارقة قدر الإمام الأشعري ومكانته وأمانته في الحفاظ على عقائد أهل السنة فأقبلوا على دراسة عقيدته وتدريسها وتفننوا في شرحها ونظمها، فكانت هذه العقيدة السنية ولا تزال حاضرة بقوة في عقل الأمة ووجدانها وضميرها.
يقول عنه القاضي عياض الذي أسهب في ذكر فضائله وخصائص مذهبه «فكذلك أبو الحسن، فأهل المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى مناهجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واحد منهم وأثنوا على مذهبه وطريقته، وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقدم كلامه وقدرته وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة…».[2]
ومن الواضح أن الإمام الأشعري بعد أن مر بمرحلة الاعتزال ثم رجع عنها إلى مذهب السلف، انتقل من هذا الأخير إلى تبني موقف وسط استقر عليه ونشأ عنه ما يسمى بالمذهب الأشعري، فيكون بذلك الإمام الأشعري قد استنبط منهجا وسطا من الناحية الفكرية في تحرير المباحث العقدية، والناظر في أقواله في المسائل الكلامية يجد أنها في مجملها أقوال وسط بين موقف السلف وموقف المذاهب الأخرى المخالفة، يقول الشيخ محمد عبده مبرزا وسطية المذهب « لقد سلك الأشعري مسلكه الوسطي المعروف بين موقف السلف وموقف المتطرفين المخالفين لهم، وأخذ يقرر العقائد على أصول النظر، وارتاب في أمره الأولون وطعن كثير منهم في عقيدته، وكفره الحنابلة واستباحوا دمه، ونصره جماعة من أكبر العلماء كإمام الحرمين الجويني وأبي بكر الباقلاني والإسفراينيي وغيرهم، وسموا رأيه بأهل السنة والجماعة».[3]
إن من مظاهر اعتدال مذهب الإمام الأشعري في الاعتقاد واختياره لمواقف وآراء تتسم بالتوسط في منهج الاستنباط والاستدلال اعتماده طريقا وسطا بين مختلف المذاهب الكلامية التي ترنحت بين المغالاة في استعمال العقل والمبالغة في اعتماد ظاهر النقل، ولعل من أبرز هذه المظاهر ما يلي:
أولا: اعتماد منهج التوفيق بين العقل والنقل
وهذه قضية منهجية أساسية تناولها المتكلمون قديما عندما قابلوا بين العقل والنقل، واختلفوا في مسألة تقديم النقل على العقل أو العكس، فخاضوا بذلك في مسألة بيان حدود المعرفة العقلية ونطاقها المسموح به.
وقد انبرى الخطاب الأشعري لمناقشة المسألة وإبراز الموقف الوسطي الذي اعتمده من خلال سلوك منهج واضح يقرب إشكالية التوفيق بين السمع والعقل انطلاقا من الاستناد إلى الإطار المنهجي المسدد الذي يميز هذا الخطاب عن غيره من الخطابات التي وصفت بالتطرف أو الغلو وقلة المبالاة بالنصوص الدينية.[4]
وهذا ما أكده الإمام الشهرستاني في قوله: «إن الواجبات عند أبي الحسن الأشعري كلها سمعية والعقل لا يوجب شيئا ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا، فمعرفة الله تعالى بالعقل تحصل وبالسمع تجب، قال تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّيٰ نَبْعَثَ رَسُولاٗ﴾ [الإسراء 15] وكذلك شكر النعم وإثابة المطيع وعقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل ولا يجب على الله تعالى شيء لها بالعقل».[5]
ولما كان الإمام الأشعري قد مر بمرحلة الاعتزال فإنه استفاد – بدون شك- من تجارب بعض المذاهب الكلامية التي غالى أصحابها في توظيف العقل والاستناد إلى سلطانه في كل المباحث والقضايا العقدية المثارة ولو تعلق الأمر بفهم وإدراك مسائل الاعتقاد ذات الصبغة السمعية المحضة، وهكذا قرر أن الواجبات الإيمانية وجميع ما كان مصدره إطلاقات الشرع ومحدداته وفي مقدمة ذلك معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته إنما تؤخذ وتفهم حسب الإذن الشرعي، وهي معروضة في صيغة إجماعات تقرر تلك العقائد في صورة سنية جماعية، وهذا المنهج عند الإمام الأشعري له تطبيقات ونماذج عديدة أبرز بعضا منها خلال مناظراته لرؤوس الاعتزال في عصره.
ومن ذلك مناظراته للجبائي في مسألة إطلاق اسم العاقل على الله تعالى، حيث منع الجبائي ذلك مستندا إلى كون العقل مشتقا من العقال الذي هو المنع، والمنع في حق الله تعالى محال، فقال له الأشعري: فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع والمنع على الله محال لزمك أن تمنع إطلاق حكيم عليه سبحانه وتعالى.
قال: فلم يجد جوابا إلا أنه قال: فلم منعت أنت أن يسمى الله سبحانه عاقلا، وأجزت أن يسمى حكيما؟
قال (أي الأشعري): فقلت له: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت «حكيما» لأن الشرع أطلقه، ومنعت «عاقلا» لأن الشرع منعه، ولو أطلقه لأطلقته»[6].
إنه من خلال هذه المناظرة يتبين كيف أن الإمام أبا الحسن الأشعري يؤسس لمذهبه في عرض عقائد أهل السنة انطلاقا من حجج وبراهين عقلية تستمد قوتها ومرجعيتها من موقع الالتزام بمنطق الشرع وإطلاقاته التي لا يمكن تجاوزها.
وبذلك يظهر أن المذهب الأشعري في الاعتقاد يقف موقفا وسطا في مسألة التوفيق بين العقل والنقل، وأن المعرفة الدينية المستندة إلى العقل الذي يبقى الإقرار بأهميته ودوره في الفهم والإدراك قائما، لكن مع استحضار كون هذه المعرفة إنما تنتهي حيث انتهى النص، وهو موقف يؤكد سلوك المذهب الأشعري لنهج التوسط والاعتدال في خطابه.
فالأشعرية منهج وسط بين دعاة العقل المطلق وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره، وبالرغم من أنهم قدموا النص على العقل إلا أنهم جعلوا للعقل مدخلا في فهم النص كما جعلوا الاستدلال بالأدلة النقلية والعقلية إنما يتم على وجه من التعاضد لا التناقض، كما أن تركيز الخطاب على الأدلة العقلية ليس لإثبات العقيدة وإنما لحمايتها من الانحراف والتأويل الباطل والرد على الفرق المنحرفة.
ثانيا: إثبات الصفات
لا شك أن مجال العقيدة الأشعرية الممتد بين طرفي الإفراط والتفريط يسع الجميع ممن أعمل العقل ومن أهمله، ولعل من أبرز مباحث الألوهية مبحث الصفات وهو ذو أهمية كبيرة باعتبار أنه يظهر وجهة نظر أهل السنة الأشاعرة القائلين بالتأويل في الألفاظ التي يوهم ظاهرها التشبيه وبين مذهب من يرفضه، هذا على الرغم من كون الأشاعرة لا يقولون بالتأويل إلا في حالتين:
الأول: توهم التشبيه وخاصة لدى المتمسكين بحرفيته.
الثاني: إعمال التأويل عند الضرورة وتركه عند ارتفاعها.
وتعتبر العلاقة بين الذات والصفات إحدى المشكلات الكلامية العويصة التي شغلت مفكري الإسلام منذ المراحل الأولى لعلم الكلام، فقد اختارت بعض التيارات الكلامية التعطيل مذهبا لها كالجهمية والمعتزلة والروافض الذين نادوا بنفي الصفات القديمة، وقدمت بعض التيارات الحشوية والمجسمة الذات الإلهية المقدسة في صورة مادية بحتة، وهو الأمر الذي أنكره الإمام أبو الحسن الأشعري بشدة فسلك طريقا وسطا بين هذين الاتجاهين فأثبت صفات قديمة فقال: «إن لله علما لا كالعلوم وقدرة لا كالقُدَر وسمعا لا كالأسماع وبصرا لا كالأبصار على أساس أنها صفات أزلية ونعوت أبدية».
ويرى أبو الحسن الأشعري أن الله تعالى لا يشبه المخلوقات، لأنه لو أشبهها لكان حكمه في الحدث حكمها، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها، فإن أشبهها من جميع الجهات كان محدثا مثلها من جميع الجهات، وإن أشبهها من بعضها كان محدثا من حيث أشبهها ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديما، وقد قال تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَےْءٞ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُ﴾ [الشورى9] وقال تعالى ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ كُفُؤاً اَحَدٞ﴾ [الإخلاص4][7]
وهكذا فإن أهل السنة وسط في باب الصفات بين أهل مقالتين باطلتين: مقالة من شبه صفات الله تعالى بصفات المخلوقين، ومقالة من عطل الصفات، فيبقى التعطيل باطلا لأن القائلين به ينفون ما أثبته الله تعالى لنفسه من صفات الكمال، كما أن موقف المشبهة باطل كذلك لأنه تمثيل لله بالمخلوقات، أما المذهب الأشعري فقد اتخذ موقفا وسطا فمضى في سواء السبيل بعيدا عن الموقفين المتطرفين، فليس هناك نفي لصفات الله تعالى، كما أنه ليس هناك تشبيه لله بالمخلوقات، فالأمر يتعلق إذن بمنهج وسط قائم على إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل على حد قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَےْءٞ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُ﴾. [الشورى 9]
فقصد الأشاعرة إذا أولوا بعض الصفات عدم النفي حتى لا يقعوا في التعطيل، وعدم حملها على ظاهرها حتى لا يقعوا في التجسيم، تنزيها لله عما لا يليق به، لكنهم لم يخرجوا عن مدلول اللغة، حيث أثبتوا الصفات البرهانية كلها، وسموا الصفات الأخرى صفات سمعية أو خبرية وهي الصفات التي فيها وصف الذات الإلهية كما ورد بها القرآن والحديث. وجوزوا التأويل فيها حتى لا يقع الناس في التشبيه مصداقا لقوله تعالـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَےْءٞ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُ﴾ [الشورى9] وهذا يتناول كل الصفات الخبرية مثل قوله تعالى ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاٗ صَفّاٗ﴾[الفجر24] وقوله عز وجل ﴿وَيَبْق۪يٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اُ۬لْجَلَٰلِ وَالِاكْرَامِ﴾[الرحمن25] فهذه ونحوها يتم تأويلها على مقتضى كلام العرب فرارا من التشبيه المخِل بما يلزم من تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه آخذين بمنهج الإمام الأشعري القائل بالتأويل عند الضرورة.
وهكذا يكون الأشاعرة قد وقفوا موقفا وسطا وعدلا في تنزيه الذات الإلهية وصفاتها، فلا هم تطرفوا في تأويل الصفات الخبرية كما هو صنيع المعتزلة، ولا هم رفضوا التأويل جملة وتفصيلا كما هو صنيع الحشوية. وهذا هو الطريق الذي لا عوج فيه وهو طريق بين طريقين: لا تجسيم ولا تعطيل.[8]
ثالثا: في الجمع بين الجبر والاختيار في الأفعال
في هذه المسألة نجد الإمام أبا الحسن الأشعري قد أثبت أن الله هو فاعل كل شيء بما في ذلك عمل الإنسان، بدليل قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات 96] ثم ذكر دليلا عقليا من القياس على أن الله تعالى خلق أعمال العباد، مفاده أنه لا بد للكُفر من محدِث أحدثه باطلا وقبيحا، ولا يمكن أن يكون المحدث له هو الكافر الذي يريد أن يكون الكفر حسنا صوابا حقا، فيكون على خلاف ذلك، وكذلك لا يمكن أن يكون المحدِث للإيمان هو المؤمن الذي لو حاول أن يكون الإيمان غير مؤلم وغير متعب ما استطاع ذلك، فبطل أن يكون المحدِث للإيمان على حقيقته المؤمن، وبطل أن يكون المحدث للكفر على حقيقته الكافر، ووجب أن يكون محدِث ذلك هو الله»[9]
وإذا كان أهل السنة والجماعة قد أقروا ما للإنسان من حرية الاختيار، ويجعلونه مسؤولا عن عمله، مثابا ومعاقبا على ذلك، مأمورا بالعمل وفقا لأحكام الشريعة وعبادة الله كما أمر فإن الأشاعرة ابتكروا ما يعرف بنظرية الكسب التي تجعل للإنسان حرية خاصة لا تتعارض مع الإرادة الإلهية ولا تتناقض معها.
ومبنى هذه النظرية كما يقول الدكتور إدريس خليفة عضو المجلس العلمي الأعلى بالرباط أن الإنسان خلق مزودا باستعدادات للخير والشر، وله إرادة توجهه لأحد الأمرين وله أن يختار منهما، كما تدل على هذا نصوص قرآنية وحديثية كقوله تعالى ﴿وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّيٰهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَيٰهَ(8)﴾ [الشمس 7-8] وقوله عز وجل: ﴿قَدَ اَفْلَحَ مَن زَكَّيٰهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّيٰهَا﴾ [الشمس 9-10]. وأن الإنسان مزود بالعقل وهو ميزان يعرف به الحق من الباطل، ويعرف منه الخير والشر، وأن الإنسان يشعر بأن عليه أن يتصرف وفق العقل الذي أودع فيه، وهو مأمور من الشرع بإعمال العقل، والشرع يوجهه حتى لا يضل عقله، ولهذا كان الإنسان مسؤولا، ولا مسؤولية إلا مع الحرية والاختيار.
فالإنسان حسب نصوص الشريعة ليس مجبرا على فعل ولا قول ولا فكر وإنما هو مختار، والإرادة الإلهية تتدخل وفق مراد الله لأنه لا يكون إلا ما يريده تعالى وهو معنى قوله سبحانه ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [10].
وهذه الواسطة بين الجبر والتفويض قد استعملها جماعة من أهل السلف جريا على استعمال القرآن له حيث ذكر منسوبا إلى الانسان في غير ما آية منه، كما في قوله تعالى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اَ۪كْتَسَبَتْ﴾ [البقرة 285] وفي قوله عز وجل: ﴿بِمَا كَسَبَتَ اَيْدِے اِ۬لنَّاسِ﴾ [الروم 40] وعليه يكون القول بالكسب قول جميع الفرق المثبتة للقدرة خلافا للجبرية، نظرا لتظافر الآيات البينات عليه. وانما اشتهر بالخصوص عن الإمام الأشعري لغرابة رأيه فيه، وتفسيره الكسب بما لا يتبادر منه لغة، حيث قال: «إنه وجود القدرة في المحل وتعلقها بالفعل من غير تأثير كتعلق العلم بمعلومه».[11]
هذه إذن خلاصة نظرية الكسب كما أنضجها الأشاعرة الذين توسطوا بين مذهبين: الجبرية الذين قالوا بأن المؤثر في فعل العبد قدرة الله تعالى ولا قدرة للعبد أصلا. والمعتزلة الذين قالوا بأن أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها بالاستقلال والاختيار، ولذلك جاء المذهب الأشعري بمنهج التوسط القاضي بالعمل على التوفيق بين الشرع والعقل إجراء للنصوص على مقتضاها من عموم القدرة والإرادة وتعلقها بكل موجود وبكل عمل وحدث في الكون، وبين شعور العقل بوجود قدرة للإنسان وحرية في الاختيار يدعمها النص. يقول الدكتور سامي النشار رحمه الله منوها بهذا التوسط في مذهب الأشاعرة: «إنهم يوفقون في مذهب متماسك بين الجبر والاختيار، فيضعون مذهب الكسب يحلون به المشكلة العتيدة»[12]
فهي إذن نظرية تحمل طابع الوسطية ما دامت تجعل للعبد قدرة في نطاق مشيئة الله وتجعل التأثير للقدرة الربانية والخلق لله والكسب من العبد.
رابعا: في عدم تكفير المخالف
يعلن المذهب الأشعري في صورة إجماع عقدي واضح بعدم تكفير أي أحد من أهل القبلة من المسلمين، وهي العقيدة التي مات عليها الإمام أبو الحسن الأشعري، فقد حكى ابن عساكر الدمشقي أنه لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري رحمه الله دعا أبا علي السرخسي فقال له: اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا كله اختلاف العبارات»[13]
وبذلك يتبين أنه شق على أئمة العقيدة الأشعرية المطبوعة بوسطيتها في جميع المباحث الكلامية والاعتقادية إطلاق لفظ الكفر على المسلمين لأنه محرم شرعا حسب ما تنطق به النصوص الواضحة، فمن ذلك حديث: «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»[14]
ويعلن الإمام الأشعري عن موقفه من قضية التكفير بصراحة قائلا: «…وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلا لها غير معتقد تحريمها كان كافرا»[15].
ويقول القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في شرحه لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني عند قول الإمام (ولا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة): «وهذا كمال الإيمان، فالمذنبون من أهل الملة مؤمنون مذنبون، ولا يخرجون بذنوبهم عن الإسلام ولا عن الإيمان، ولا يحبط ذنوبهم إيمانهم، هذا قول السلف وسلف الأمة»[16]
لقد اعتبرت طائفة الخوارج من مات على كبيرته من غير أن يكون قد تاب منها كافرا يحكم عليه بالخلود في النار، إذ لا واسطة بين الإيمان والكفر، بينما اعتبرته طائفة المعتزلة ليس مؤمنا مطلقا وليس كافرا مطلقا بل هو في منزلة بين المنزلتين، إذ هو ليس بمؤمن ولا كافر، فلم يستطيعوا الترجيح بين المسألتين وقالوا: هو في الآخرة مخلد في النار إذ ليس في الآخرة إلا فريقان ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[17] وأما المرجئة فقالوا: لا كبيرة مع الإيمان، فما دام العبد متصفا بالإيمان فلا تضره معصية كما لا تنفعه مع الكفر طاعة، أما الأشاعرة، فكما بينا توسطوا بين ذلك كله واعتبروا مرتكب الكبيرة ليس بكافر، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويبقى تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه في النار على ما كان منه ثم يخرجه منها فلا يخلد فيها لقوله ﷺ كما جاء في الصحيحين : «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار».[18]
ومن مظاهر الوسطية في المذهب الأشعري والتي لها صلة بمسألة التكفير عدم الحكم بكفر التارك لمعلوم من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة وغيرهما، وعدم كفر المتأول أو منكر لما لم يتواتر من الأحاديث، وهذا ما أكده الإمام أبو الحسن الأشعري بقوله: «لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف في العبارات».[19]
من جهة أخرى فإن العقيدة الأشعرية في مبادئها وقواعدها تؤمن بالاختلاف وتعدد الفهم والتفسير، وبذلك فهي لا تكفر المخالفين الذين يفترض أن يتعايشوا في مجتمع واحد، مجسدين بذلك سنة الله في خلقه المتمثلة في الاختلاف دون إقصاء لطرف أو تضييق على طرف آخر، ويكفي التأمل في تاريخ الفرق الكلامية ومواقف شيوخها وأتباعها لكي تتبين ميزة المذهب الأشعري وما يتسم به من مرونة ويسر واعتدال، حيث إنه لم يضق ذرعا من المخالفين، ولم يتوسل بالتكفير سلاحا يواجه به الخصوم، وبذلك يمكن القول بأن موقف العقيدة الأشعرية من موضوع التكفير والقاضي بعدم تكفير أحد من أهل القبلة يعتبر المنطلق الأساس والمبدأ الرئيس الذي ينطلق منه الأشاعرة ليشكلوا جزءا وسطا بينهم وبين بقية المدارس العقدية الإسلامية المستقلة، وهو المبدأ الذي ينبني عليه مبدأ النصرة لكلمة التوحيد وجمع صفوف المسلمين ونبذ العنف والتطرف المؤسس على المناظرات الكلامية الإقصائية، مما جعل لهذا المذهب قبولا واسعا لم تجد معه الأشعرية إشكالا في التواصل مع ما جاء في الاختيارات المذهبية الأخرى في الفقه والسلوك على وجه الخصوص، كما أن المنهج الأشعري في الاعتقاد يعتبر أكثر المذاهب الإسلامية تعايشا مع المخالفين وذلك بفضل نهجه منهج التوسط في الفهم والتنزيل لمختلف قضايا الاعتقاد، وهو ما كان له انعكاس واضح على تدين الأشاعرة المتسم بالانفتاح والبعد عن التطرف والغلو ونبذ تكفير وتضليل الآخرين، وهذا ما أسهم في تعزيز الاستقرار الفكري والمذهبي في المغرب والبلدان الإفريقية وتحقيق الأمن والسلام والتسامح داخل المجتمعات الإفريقية.
الهوامش
[1] تبين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري ص 152.
[2] ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط 5/24
[3] رسالة التوحيد، تحقيق طاهر الطناحي، القاهرة 1963 ص 36.
[4] عبد القادر بطار، أساسيات المذهب الأشعري، منشورات المجلس العلمي لوجدة 2011 ص 38.
[5] الملل والنحل 1/101.
[6] مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي، طبع دار العلم للملايين بيروت 1983 1/500.
[7] رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص 134.
[8] شرح مرشدة محمد بن تومرت لأبي عبد الله محمد بن خليل السكوني الاشبيلي. تح د يوسف احنانة. طبع الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط. ط1/ 1442 ص 55
[9] اللمع لأبي الحسن الأشعري، تح د جودة غرابة ص 73.
[10] د إدريس خليفة، العقيدة الأشعرية، مطبعة الخليج العربي بتطوان 2010 ص 152.
[11] التاج السبكي: طبقات الشافعية الكبرى: 3/385
[12] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1/ 372
[13] تبين كذب المفتري بما ينسب إلى الإمام الأشعري لابن عساكر ص 149.
[14] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم 111.
[15] الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري ص 27
[16] شرح عقيدة ابن أبي زيد القيرواني للقاضي عبد الوهاب ص 347.
[17] الشورى 5.
[18] صحيح البخاري، حديث رقم 128.
[19] تبين كذب المفتري لابن عساكر ص 149.
[نسخة المداخلة الأصلية PDF]